وكان لافارينا رجلا نزيها نشيطا، مجتهدا كادحا هادئا، يقبل على العمل بكليته، وقد ظل ثلاث سنوات يكتب بيده كل المراسلات الخاصة بالجمعية التي مثلت المذهب الجديد، وقد أسس أولئك الذين ذكرت أسماؤهم الجمعية القومية غير متأثرين بنفوذ رجال السياسة والصحافة، وكان شعارهم: «الاستقلال والوحدة وطرد النمساويين والبابا معا.»
وكانت هذه أول جمعية أسسها رجال غير ثوريين، فكانوا على خلاف أنصار مازيني الذين كانوا يفضلون الجمهورية على إيطالية، وعلى خلاف البيمونتيين الأقحاح الذين يضحون في إيطالية في سبيل تورينو، وقد عاهدوا أنفسهم على أن يظلوا مخلصين لآل صافويه شريطة أن يعتنق الملك سياسة الوحدة، أما إذا تردد فقد هددوه برفع علم آخر.
وقد كتب مانين للملك يقول له: «كون إيطاليا الموحدة، فنحن رجالك، وإلا فلا.» ولما تأكدوا من تعلق الملك بقضيتهم؛ التفوا حوله ناشطين، فأصبح شعارهم الوحيد «الوحدة والاستقلال، فكتور عمانوئيل ملك إيطالية»، وكان الطليان يرغبون في الوحدة، ومن العدل والإنصاف أن ينالوها.
ولكن خصوم الوحدة كانوا يدعون بأن الاتحاد لا الوحدة هو الذي يقود الأمة إلى الانتعاش الاقتصادي والرقي الاجتماعي الحقيقي، وبه تزول الحواجز الجمركية وتتوحد العملة والموازين والمقاييس وهو يساعد على وضع قوانين عامة، وقد يؤدي إلى الأخذ بسياسة خارجية وعسكرية موحدة ويجعل العلاقات بين الدويلات أكثر نشاطا ويكون نوعا من الوحدة الأدبية، أما الوحدة فكانت بنظرهم عملا يتعذر تحقيقه.
إن توحيد الدول الملكية القديمة لا يتم إلا إذا بلغ أعضاء الاتحاد من القوة ما يستطيع بها أن يملي سياسته على جميع أعضاء الاتحاد، ولو فرضنا أن بيمونته قد استولت على إيطالية الشمالية كلها فلم يكن لها من التفوق ما يكفي للتغلب على نابولي، أضف إلى ذلك مشكلة سلطة البابا الزمنية الخاصة وكونها عقبة دون الوحدة، وفضلا عن ذلك كله للفروق الموجودة بين الشمال والجنوب محاذيرها وأثرها.
بيد أنه فات هؤلاء الاتحاديين أن تمركز القوى بيد دولة تحكم إيطالية جميعها والنخوة الوطنية التي تجمع كافة الطليان في صعيد واحد، أضف إلى ذلك اتساع نطاق العمل لدولة عظيمة تضاهي دول أوروبا الغربية، كل ذلك أمور لا شك في أنها تتفوق على رخاء شحيح في بلاد صغيرة.
وكان مانيين مقتنعا بأن الجمهوريين سوف ينضمون إلى معسكره الجديد، والواقع أنهم أخذوا ينشقون عن مازيني ويتخلون عن سياستهم الخاصة ويلتحقون بمعسكر مانين أفواجا، وظل مانين يأمل بأنه يقنع مازيني بالانضمام إليه، ولكن جل ما حصل عليه من مازيني هو وعده بأن يقف موقف الحياد، وأن يتجنب كل ما من شأنه أن يعرقل سير العمل للاستقلال والوحدة، على أن يترك شكل الحكومة القادمة إلى المجلس بعد أن تنال حريتها، وكان مازيني لا يثق بالملك إلا قليلا، ومع ذلك فقد اقتنع الآن بأنه لا يطرد النمسويين إلا الجيش البيمونتي.
وقد خيل له بأن بيمونته لن تتحرك ما لم تجبرها على ذلك حركة خارجية، فإذا ما بدأت الثورة في نابولي وفي صقلية أو في كراره اضطر فيكتور عمانوئيل وجيشه إلى التدخل لمساعدتها.
غير أن مانين وباللافيجينو عارضا هذا الموقف الحيادي خشية أن يتخذه أنصار الحكم الذاتي وأنصار موارت في نابولي ودعاة الانفصال في صقلية والقائلون بالجمهورية في جنوة ستارا، ومعنى ذلك الانشقاق الذي حدث سنة 1848 ونجاح حركة الاتحاد دون الوحدة، فضلا عن أن فكتور عمانوئيل وحكومته لن يحبذا منهجا من شأنه أن ينحيهما عن الميدان بعد انتهاء العمل.
ولكن مازيني بينما كان يميل إلى التفاهم من جهة كان يجهر من جهة أخرى بعدم ثقته بالملك وباقتناعه بأنه لا يصلح لإيطالية إلا الجمهورية، وقد اشتد الخلاف بين مانين ومازيني حتى أصبح هذا الأخير عدوا لدودا للجمعية القومية، وحين فتح باب الاكتتاب لشراء مدافع للكسندرية سارع مازيني إلى فتح اكتتاب لشراء عشرة آلاف بندقية «تخصيص لأول إيالة إيطالية تثور ضد العدو المشترك.»
Bilinmeyen sayfa