127

Why We Pray - Introduction

لماذا نصلي - المقدم

Türler

قصة إسلام الصحفي النمساوي اليهودي محمد أسد
هذه قصة أخرى طريفة، وهي قصة الصحفي النمساوي اليهودي، وهو من أشهر اليهود الذين اعتنقوا الإسلام؛ لأنه شخصية بارزة جدًا في التاريخ الإسلامي المعاصر، وهو الذي سمى نفسه بعد الإسلام محمد أسد.
هذا الصحفي النمساوي اليهودي كان إسلامه فتحًا على الدعوة الإسلامية في هذا القرن، نسج مشهد المسلمين وهم يصلون خاشعين الخيط الأول في قصة إسلامه، روى قصة إسلامه في كتاب رائع مشهور اسمه (الطريق إلى مكة)، قال في هذا الكتاب: في ذلك الخريف من سنة (١٩٢٢م) كنت أعيش في بيت داخل مدينة القدس القديمة، وكثيرًا ما كنت أجلس إلى النافذة التي كانت تطل على فناء متسع وراء البيت، وكان هذا الفناء ملكًا لرجل عربي يدعى حاجي، كان يؤجر الحمير للركوب وحمل الأثقال، وجعل من الفناء نزلًا لمبيت القوافل، وفي أثناء النهار كانت أجسام الجمال الثقيلة ترى مضطجعة على الأرض، والرجال دائمًا منهمكين بالعناية بها وبالحمير، وكان الحاجي يجمعهم عدة مرات في النهار للصلاة، وكانوا يقفون جميعًا في صف طويل واحد، وكان هو إمامهم، كانوا كالجنود في دقة حركاتهم، ذلك أنهم كانوا ينحنون معًا باتجاه مكة، ثم ينهضون ثانية ليسجدوا، وتلمس جباههم الأرض، كانوا يتبعون كلمات قائدهم الخاطفة، وكان يقف حافي القدمين على سجادته المعدة للصلاة، مضموم الذراعين فوق صدره، محركًا شفتيه دونما صوت، وشاردًا في استغراق عميق، لقد كان بإمكانك أن ترى أنه كان يصلي بروحه كلها.
والحق أنه قد أزعجني أن أرى مثل تلك الصلاة العميقة المقترنة بحركات جثمانية آلية، فسألت الحاجي ذات يوم وكان يفهم الإنجليزية قليلًا: هل تعتقد حقًا أن الله ينتظر منك أن تظهر له احترامك بتكرار الركوع والسجود؟ ألا يكون من الأفضل للمرء أن يخلو بنفسه وأن يصلي إلى الله في قلبه؟ لم حركات جسمك هذه كلها؟ يقول محمد أسد: ولم أكد أنطق بهذه الكلمات حتى شعرت بالندم وتأنيب الضمير، ذلك أنني لم أكن أنوي أن أجرح شعور الشيخ الديني، ولكن الحاجي لم تبد عليه قط أمارات الاستياء، لقد ثغر فمه عن ابتسامة، وأجاب علي بقوله: بأية طريقة أخرى إذًا يجب أن نعبد الله؟! هذا الصحفي النمساوي اليهودي كان من الصحفيين المشهورين جدًا، وبالذات أيام عبد الناصر، وكان دائمًا يتكلم بصراحة، وقد سجن مع أحد الإخوة في زنزانة واحدة، فكان هذا الأخ فاضلًا عابدًا مجتهدًا في عبادته، فكان يحافظ على الصلاة، ودائمًا يذكر قوله تعالى: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ﴾ [البقرة:٤٥].
فكان هذا الصحفي يستغرب جدًا لماذا يصلي؟ ويقول: إن الله غني عن أن نفعل له هكذا، نفس الكلام الذي قاله لـ حاجي فانظر إلى رد حاجي العامي البسيط وهو يقول له: بأية طريقة أخرى إذًا يجب أن نعبد الله؟! ألم يخلق الجسد والروح معًا؟! وإذا كان هذا كذلك، أفلا يجب أن يصلي الإنسان بجسده كما يصلي بروحه؟! اسمع سأفهمك، نحن المسلمين حين نصلي نولي وجوهنا نحو الكعبة بيت الله الحرام في مكة، مدركين أن المسلمين كلهم حيثما كانوا يتجهون نحوها في صلاتهم، وأننا كجسد واحد، وأن الله هو محور تفكيرنا جميعًا، نحن نقف أولًا مستقيمين، ونقرأ شيئًا من القرآن الكريم، ذاكرين أنه كلام الله أنزله على الإنسان، كي يكون مستقيمًا راضيًا في الحياة.
ثم نقول مذكرين أنفسنا: إنه ما من أحد يستحق أن يعبد إلا هو، ونركع؛ لأننا نعتبره فوق كل شيء، ونسبح بعزته ومجده، وبعد ذلك نسجد على جباهنا؛ لأننا نعلم أنه هو الذي خلقنا، وهو ربنا الأعلى، ونرفع وجوهنا عن الأرض ونبقى جالسين داعين إياه أن يغفر ذنوبنا، وأن يتغمدنا برحمته، ويهدينا الصراط المستقيم، ويهبنا العافية والرزق.
يقول: ثم نسجد ثانية على الأرض، ونلمس التراب بجباهنا تجاه عزة الواحد الأحد وعظمته، وبعد ذلك نستوي جالسين، وندعو الله أن يصلي على النبي محمد ﷺ الذي بلغنا رسالته كما صلى على الأنبياء من قبله، وأن يباركنا وجميع من يتبعون السبيل، ونسأله أن يهب لنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وفي النهاية ندير رءوسنا إلى اليمين وإلى الشمال قائلين: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبذلك نحيي كل من كانوا صالحين حيثما كانوا.
على الإنسان المسلم متى ما واتته فرصة أن يلقي البذرة في أي تربة فليلقها، ولا يضيع فرصة أبدًا، فأنت لا تكلف بهداية القلوب؛ لأن هذا ليس لأحد من الخلق، حتى الرسول ﵊ لا يملك هداية القلب، لكن يمكن هداية الناس بالبيان والتوضيح والتبليغ، فمهما كان عتو الشخص الذي أمامك فإنك لا تيئس منه، وما عليك إلا أن تلقي البذرة في التربة الخصبة، وبعد ذلك ليس من شأنك أن تنبت هذه البذرة، وإنما إنباتها على الله ﷾، فهو الذي ينبت فيها شجرة الإيمان إن شاء.
الإنسان قد يلقي كلمة عابرة يقولها أو تصرفًا عابرًا وهو لا يقصده، ثم يؤثر في نفس من يخاطبه، ويحول مجرى حياته بكلمة عابرة تصادف وقت انفتاح القلب للهداية، أو تكون سببًا في إنبات البذرة، فتنتهي بأن تثمر.
يقول محمد أسد: وبعد ذلك بسنوات عدة، أدركت أن الحاجي بتفسيره البسيط قد فتح لي أول باب للدخول في دين الإسلام.
ولكن قبل أن يخالجني بزمن طويل أي تفكير في أن الإسلام يمكن أن يصبح دينًا لي، بدأت أشعر بخضوع غير عادي كلما رأيت رجلًا يقف حافي القدمين على سجادته المخصصة للصلاة، أو على حصيرة من قش، أو على الأرض العادية، مضموم الذراعين، مستغرقًا بالكلية في ذات نفسه، ناسيًا كل ما يجري حوله، سواء كان ذلك في أحد المساجد أو على رصيف أحد الشوارع المكتضة.
ثم يقول: محمد أسد أيضًا: ولما عشت في القاهرة كان مقابل بيتي مسجد صغير ذو مئذنة دقيقة، منها كان يدعى إلى الصلاة خمس مرات في اليوم الواحد، فيظهر في أعلى المئذنة رجل متعمم بعمامة بيضاء، ويرفع يديه ويبدأ بالإنشاد: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، وكان صوته ناعمًا قويًا قادرًا أن يصل إلى مسامع الكثيرين ممن كانوا على مبعدة كبيرة، وكان باستطاعتك أن تدرك أن الغيرة والحماسة لا الفن هما اللتان كانتا تجعلانه على مثل ذلك القدر من الجمال، لقد كان ترتيل المؤذن بهذا اللحن الدائم الذي كنت أسمعه في الأيام والأمسيات التي قضيتها في القاهرة تمامًا كما كان لحن القدس القديمة الدائم، وكما كان مقدرًا لي أن أسمعه طيلة أسفاري في الأراضي الإسلامية فيما بعد، لقد كان الأذان نفسه في كل مكان، وبرغم الفروق في اللهجة والتجويد فتوجد وحدة صوتية جعلتني أدرك مقدار الوحدة الباطنية لدى جميع المسلمين من العمق، ومبلغ الخطوط الفاصلة بينهم وبين التكلف والتفاهة.
لقد كانوا واحدًا في اعتقادهم، وواحدًا في طريقة تفكيرهم وتمييزهم بين الحق والباطل، وواحدًا في فهمهم قوام الحياة الخيّرة، ولقد خيل لي أنني قد صادفت لأول مرة مجتمعًا لم تكن فيه صلة النسب بين الإنسان والإنسان مسببة عن طوارئ من مصالح اقتصادية عنصرية، بل عن شيء أعمق وأكثر استقرارًا إلى حد بعيد، صلة من الفهم المشترك للحياة، أزالت كل حواجز العزلة والانفراد بين الإنسان والإنسان.

8 / 26