أما المصيبة الكبرى التي نزلت بالشعب التركي، فكانت العثمانية
4
من ناحية وما تبعها من حب الاستمساك بالإمبراطورية من جهة أخرى؛ فإن سلاطين آل عثمان لم يعنوا يوما واحدا بالشعب التركي ولا أبهوا ساعة بمصالحه الدنيوية، حتى لقد فصلوا بين العنصر النصراني وبين المسلمين، بل لم يحاولوا يوما أن يصبغوا العناصر غير التركية من المسلمين بصبغة العنصرية التركية؛ ليضمنوا بعض الثبات في قوام الإمبراطورية» (ص24-25). «إن الصفة الجوهرية التي غلبت على الحكومة العثمانية منذ زمان محمد الفاتح حتى نهاية عهدها، كانت الجهل المطبق؛ فإن محمد الفاتح عندما فتح القسطنطينية لم ينتهز أكبر فرصة كان من الواجب أن لا يضيعها؛ فإنه احتفظ برجال الكهنوت النصراني وحماهم وأظلهم بعطفه دون رجال العلم الذين كانوا نور بيزنطة القديمة، فهاجروا إلى الغرب ونقلوا معهم ثمار العقل الإنساني. ولم يقف الأمر عند هذا، بل كون فئة من رجال اللاهوت الإسلامي مقلدا بهم رجال الكهنوت النصراني من أهل الأورثوذكسية؛ وبذلك اتجهت العقلية التركية نحو الشرق دون الغرب، فقد ورثنا ديننا وثقافتنا، بل جزءا من لغتنا، من تقاليد الشرق. وليلاحظ دائما أنه بعد سقوط القسطنطينية أخذ كل ما في العالم الغربي (أوروبا) يتغير ويتبدل، حتى لقد فازت الشعوب بحرياتها مستبدلة بها النظام الاستبدادي القديم، هذا في حين ظل حكامنا في جهلهم وعمايتهم غير عالمين بشيء من تلك الجلبة الواسعة النطاق التي كانت تفعم جو أوروبا» (ص29).
إن الأتراك لم يدركوا قيمة القسطنطينية من ناحية اقتصادية، كبيئة تجارية على أعظم جانب من الأهمية؛ فإنهم بمجرد استيلائهم على المدينة غادرها البحارة البيزنطيون والجينويون، وحتى البحارة الأتراك، هاربين بأنفسهم، فائزين بأعمارهم. أما السبب في سقوط الحكومة العثمانية فيرجع إلى أمرين؛ الأول قلة التجانس الشعوبي بين أمم الإمبراطورية، والثاني فقدان المثل القومي الأعلى في الحياة، وفي الوقت ذاته سلم الأتراك مواردهم لأصحاب الامتيازات الأوروبيين، وخصوا اليونان والأرمن بكل الميزات الداخلية للبلاد (ص34-52).
أما من حيث العلاقة بين المدنية الأوروبية والنصرانية، فإن جلال نوري بك يقرر الآتي: «إن الخطأ الكبير أن تسمى المدنية الأوروبية أو المدنية الأمريكية مدنية نصرانية، أي مدنية أقامها الدين النصراني؛ فإن الدين النصراني قد تعدل على مقتضى الحركات الاجتماعية التي قامت في أوروبا؛ وبذلك أنقذ من الجمود وحالة الثبات، حتى إنك لا تجد اليوم إلا قليلا من أوجه الشبه بين النصرانية كما وضع تعاليمها عيسى، وبين النصرانية الحديثة، بل تستطيع أن تقول بكثير من التحقيق: إن نصرانية العصر الحاضر تختلف جوهريا عن النصرانية الأولى؛ فإن الأوروبيين قد كونوا دينا جديدا صرفا خلال التسعة عشر قرنا الفارطة، رغم أنهم بدءوا الشوط بقصة عيسى. بيد أن النصرانية في أوروبا، على الرغم من معارضة أهل اللاهوت، قد هضمت ومثلت كل الفكرات التي ظهرت على دور الأيام، وعلى مر العصور؛ فإن أوروبا عندما كانت تحارب الجهالة في العصور الوسطى، كانت النصرانية أيضا في حالة تدعو إلى الإشفاق. ولكن لم يمض على ذلك أربعة قرون حتى وقع في الدين النصراني حركة تطهير عام غولي فيها بتطرف؛ فإن عددا من الأمم انفصل عن الكنيسة الكاثوليكية، وكون نظاما جديدا. ولقد ترى أن الكنيسة الكاثوليكية الرومانية قد أخذت تنظم نفسها بنفسها، وعلى هذا ترى أن النصرانية لم تستطع أن تضطر أتباعها أن يظلوا قانعين بالصور القديمة في الدين والاجتماع. ولقد كانت الفكرات الحديثة في نهاية هذه المراحل هي التي أعطت النصرانية لونها الجديد، فإذا هبط اليوم المسيح مرة أخرى على الأرض في هذه الأيام، إذن لظل غريبا ولرأى نفسه في عزلة عن النصارى؛ ذلك لأن نصرانية العصر الحاضر، أرقى بكثير من نصرانية المسيح!» «أما في الإسلام فإننا لم نعهد مثل هذا الانقلاب التعديلي، ولا مثل هذه التطورات الكبرى. إن الإسلام دين ينطوي على أرقى المبادئ وأشرفها وأعظمها، ومع كل هذا فقد ظل جامدا لا يتغير بتأثير حكم الدين وفقهائه ؛ فلو أن نصرانيا أخذ يتبع في العصر الحاضر الشرائع التي كانت ذائعة في عصر عيسى، إذن لشعر بأنه خلف العصر بقرون، وأنه قبل الدنيا بمراحل عديدة. إن النصرانية لم تتكون إلا بنسمة بسيطة من نفحات عيسى، أما القوانين والشرائع والنظامات التي يسير بمقتضاها العالم النصراني اليوم فنتاج لجهد العقول خلال التسعة عشر قرنا التي تبعت عصر عيسى. وأنت ترى على الأخص أن النصرانية قد حررت نفسها من الحياة السياسية، ولكن السياسة كان لها حرية كافية لتنمو وتصبح ذات أثر في العالم الأوروبي، في حين أن أئمتنا وفقهاءنا لم يتبعوا يوما ذلك الطريق الذي سارت فيه النصرانية، فقد اعتقدوا بأن الشرائع لا يمكن أن تخضع يوما لتعديل أو تغيير؛ وبذلك سدوا كل باب يمكن أن يكون ولوجه سببا في إحداث تطورات جديدة وإصلاحات ارتقائية تناسب مقتضى الحال. وإني لأعتقد أن هذا المبدأ مضاد لروح الشريعة الإسلامية، ولكن على الرغم من هذا ظل الإسلام جامدا متبلورا طوال الأزمان حتى زماننا هذا؛ فإن الإمام أبا حنيفة وبقية الأئمة الثلاثة لم يتورعوا عن أن يضعوا من القواعد التشريعية التي تتطلبها حاجات الحياة، ما يضاد أوامر القرآن ونواهيه في بعض الأحيان، متخذين التأويل لإصلاح الشريعة سبيلا؛ فلو أننا اتبعنا نفس هذه السياسة في الدين، فلا يبعد أن يكون الإسلام قد وصل الآن إلى حالة توافق حاجات هذا العصر. غير أن فقهاء الإسلام لم يتبعوا هذه الطريقة، بل اتبعوا أحكام الأئمة الأربعة عماية وضلالا من غير نظر ولا تحقيق ولا مماشاة لمقتضى الحال، وقفلوا على ذلك باب الاجتهاد، فأقاموا بذلك أكبر سد من الجمود أمام الإسلام. لم يعرفوا أن شرائع الإسلام قد وضعت لتوافق مزاج العصر الذي وضعت فيه، وأنه بتغير الأزمان يجب أن تتغير بعض الشرائع بل بعض المبادئ الدينية ذاتها، وإلا فإن باب الارتقاء يوصد، وأن الأمة التي تعيش في ظل هذا الجمود لا بد من أن يستعبدها غيرها من الأمم. إن البقاء في الأصفاد والأغلال خضوعا لفتوى قديمة، إنما هو بمثابة غل يحول دون الارتقاء والتقدم، وليس لهذا من معنى، اللهم إلا معنى الاستنامة والخضوع لمقتضى الاجتماعية والاقتصادية والفكرات المدنية، والسياسة التي كانت تلائم حالات تلك الأزمان القديمة، ولا جرم أن كل ما هو ثابت لا يتحرك مقضي عليه بالرجعى والانحلال. هذا مبدأ ثابت من مبادئ الحياة.» «ومهما يكن من هذا الأمر؛ فإنه ليس من روح الإسلام في شيء. إن في الإسلام لمبدأ ارتقائيا عظيم الخطر هو مبدأ «الإجماع». أما فقهاء الشريعة والدين فقد أنكروا هذا المبدأ كل إنكار. لقد استقوت أوروبا بمبادئها الارتقائية وحرية الفكر على الكنيسة النصرانية؛ وبذلك استطاعت الأمم الغربية أن تنتفع كثيرا بما جد من الاستكشافات والاختراعات في العلوم. أما الشعوب الآسيوية فقد ظلت لابسة تقاليدها القديمة ولم تحاول خلعها يوما من الأيام، والمشكلة التي تواجهنا اليوم تنحصر في طرفين؛ الحياة أم التقاليد؟ وأيهما نتبع؟ إن الحياة أمر أولي ثابت، أما التقاليد فطلاء ظاهري، وقد ينزل بعض هذه التقاليد منزلة القداسة. غير أننا يجب أن نعتقد أن قداسة التقاليد يجب أن تكون بنسبة نفعها للحياة، فإذا ظهرت هذه التقاليد مضرة بالحياة، فمن الحمق والسفاهة أن نظل بها مستمسكين.» «هل في مستطاعنا أن نعيش وأن نرتقي وأن نقوى مع عكوفنا وجهة النظر القديمة واستمساكنا بالتقاليد؟ هل نستطيع أن نأخذ الفنون الأوروبية وننبذ أسلوب العقل الأوروبي؟ إن هذين الأمرين لا يمكن الفصل بينهما. إن لأوروبا أسلوبا علميا للدرس قائما على أساس الحرية الفكرية؛ فإن شيخا من مشايخ هذه الأيام (سنة 1926) إنما يخضع كل شيء ويحكم بين الناس بمقتضى نصوص قديمة مستمدة من كتاب قديم. وأنه فوق ذلك لمقيد بهذه النصوص القديمة مغلول اليدين بها، فإذا تنكب نصوصها حكم عليه بأنه من الخوارج، أي «كافر». وفي الممالك الإسلامية يخضع كل شيء في السياسة والحضارة والحياة والملبس حتى والمأكل إلى النصوص الدينية. خذ لذلك مثلا أن شيوخنا إذا أرادوا أن يحكموا إذا كان الماء طاهرا أو غير طاهر ليكون صالحا للوضوء أو غير صالح؛ فإنه يفتح كتابه ليرجع إليه، وحتى لو كان الماء راكدا فاسدا فإنه يحكم بصلاحيته، كلا، بل يحكم أنه مطهر من الأدران. أما الأوروبي فيرجع إلى حسه وإلى الكيمياء. أما نحن فنرجع إلى الكتب القديمة. وهذا هو المثل المضروب في السياسة وفي الشرائع الاجتماعية. إنما نحن نعيش ميتين في تراب أئمة وفقهاء وضعوا لنا أحكامنا ثم بادوا منذ مئات من السنين. ولقد كانت التقاليد الدينية والعادات القديمة أكبر حائل ضد الأمم الإسلامية عن التقدم والارتقاء، ثم بدأت الحياة الروحية والنفسية وهنا على وهن، وشيئا بعد شيء، تتبلور وتنعقد شأن السياسة والحياة الاجتماعية. ثم انحطت الأخلاق وساء السلوك وهما المقصدان الأولان في تعاليم الأديان. ولا جرم أن كل مسلم مستنير في هذا العصر إنما يحتقر وسطه ويستهزئ ببيئته، في حين أن كل نصراني مستنير يظل محافظا على احترامه للكنيسة التي هو تابع لها. وعلى هذا نجد أن فقهاءنا قد أهملوا أمر الأخلاق وأمر الروحانية العليا معا.» «خذ لذلك مثلا مشكلة تعدد الزوجات باعتبارها نظاما اجتماعيا. على أننا لا يجب أن ننسى أن اليهودية والنصرانية باعتبارهما من العادات الدينية لا يحرمان تعدد الزوجات. غير أن الكنيسة النصرانية قد حددت المبادئ القديمة بما يلائم مزاج أوروبا وحاجاتها، فاضطرت إلى النهي عن تعدد الزوجات. وعلى هذا تجد أن أوروبا بدلا من أن تتمشى مع منطوق الشرائع الدينية النصرانية، قد اضطرت الكنيسة النصرانية أن تتمشى مع ما تتطلبه فكراتها الجديدة. وكذلك تجد أن لاهوتيي النصارى قد اعترفوا بكل قدماء الأنبياء من العبرانيين، مع كل ما كان لهم من زوجات وسراري، على أنهم أنبياء صحيحة نبوتهم. ويحتوي الإنجيل على مئات من الآيات كلها تؤيد مبدأ تعدد الزوجات، أما النصارى فقد مروا على هذا مر الكرام من غير أن يعيروه التفاتا. ثم نرى من جهة أخرى أن المسلمين لم يحتجوا يوما أو يعارضوا تعصب الفقهاء، ولم نر المسلمين في عصر من العصور قد حاولوا أن يكافئوا بين أحوالهم وحاجات العصر على مدار التاريخ الإسلامي؛ ذلك لأن التقاليد القديمة قد حجرت عقلية المسلمين، وأعدمتهم مشاعرهم جمعاء. وكانت الأمة التركية أولى الأمم الإسلامية التي استيقظت من ذلك النوم العميق» (ص58). «يجب علينا أن ننتحل أسلوب الفكر الغربي، وليس في الغرب من يهتم أقل اهتمام بشيء من النظريات المجردة المستمدة من الماضي، مهما كان مصدرها ومهما كانت منزلة القائل بها، في حين أننا في الشرق نجد أن العلم قائما على التقاليد. وبينما نجد أن العقل قد سفل وأخضع، نجد أن التقاليد قد استعلت وتسودت. والتفكير في الغرب حر غير مقيد، بينما هو في الشرق مقيد مستبد به محتكم فيه، والدليل على هذا أن الشرقي إذا بدأ يفكر على أسلوب الفكر الحر، شعر كأن سمكة خرجت من الماء، وأحيط ببيئة الموت والفناء، فارتبك عقله واضطرب أمره» (ص68). «لقد فهم الأتراك أخيرا أن الأقوام الذين يعلقون مستقبلهم بمستقبل نظام ديني لا يحتمل أن يكونوا سعداء؛ ولهذا انضم الأتراك إلى ذلك المثل الغربي الأعلى، مثل القومية، ورضوا به بديلا عن التقاليد الإسلامية القديمة؛ فإنك إذا أردت أن تكون مخلصا للماضي متمسكا به، وأن تظل في وحدة مع مستقبل 300 مليون من الناس الجامدين الذين لم يعرفوا للرقي معنى ولا ذاقوا للتقدم طعما، فليس لهذا من معنى إلا أن تثور ضد الحاضر وضد المستقبل، بل معناه الصريح أنك تفقد وجودك القومي» (ص116). «لقد مهدنا في الماضي تمهيدا كبيرا ليقظتنا الأخيرة وثورتنا العظمى، غير أن الحكومة التركية فقدت كل ميزان للمبادئ وكل تقييم للصالح العام. لقد كانوا ينتحلون القوانين الغربية من ناحية، ثم يضعون قانونا أساسه الشريعة الإسلامية من ناحية أخرى؛ ليكون أساس القوانين وأس الشرائع! ولم يكن لهذا من مثل إلا مثلك إذا أخذت تطبق طرق علاج الأمراض الأوروبي واستعمال العقاقير، ثم بقيت على عهدك القديم في تشخيص الأمراض ومبادئ علم وظائف الأعضاء!» (ص116-129). «إن النصرانية لا تتكون فقط من الأناجيل، كما أنها لا تقوم عليها، ففي خلال القرون الأولى من حياة النصرانية انتحلت المجالس الكنسية عقائد جديدة.
وعلى الرغم من هذا فإن هذه العقائد لم تظل ثابتة جامدة على مدى الأزمان، فقد استقرئت مرات عديدة واستنتج منها ثم أضيف إليها؛ وبذلك تغيرت النصرانية عن أصلها تغيرا كبيرا، حتى إن المسيح لو قام اليوم مرة ثانية لظل غريبا بين النصارى! لقد تغيرت الكنيسة النصرانية، في حين ظل الإسلام جامدا منذ عصر الأئمة الأربعة العظام، إنه لم يتغير ولم يرتق، لقد وقف حيث كان. غير أن تلك الفكرة الخاطئة فكرة أن الشرائع لا تتغير، ليست بمبدأ إسلامي؛ فإن الفقهاء قد أفسدوا الدين الإسلامي وأفقدوه المرونة المدنية اللازمة، وكان الواجب عليهم أن ينظروا في مبدأ الإجماع نظرة أوسع مجالا وأبعد مدى، أي كان من الواجب عليهم أن يتخذوا إجماع المسلمين في كل عصر من العصور قاعدة للتشريع. وفي رأيي أن جمع القرآن في صورة كتاب لم يكن مفيدا ولا نافعا، وليس في السير القديمة ما يدلنا على أن النبي قد أمر بمثل هذا الجمع ومثل هذا الترتيب. على أن مجهودات عثمان أمير المؤمنين في هذا الصدد غير محمودة ولا مشكورة على كل حال؛ فلدينا في القرآن بضعة أوامر ونواه، وكانت أوامر ونواهي مستقلة كما كانت تتطلب طبيعة المركز حينذاك، ولم تكن الفكرة أن تجمع هذه الأشياء في صورة كتاب محبوك الطرفين؛ فإن النبي لم يأمر أبدا بمثل هذا الأمر، ولم يحاوله. ولقد أغفل جامعو القرآن هذه الحقيقة؛ فإن كل أمر من أوامر القرآن كان ذا علاقة بحالة من حالات ذلك العصر. أما الأحاديث فليس في مستطاع أحد أن يثبت صحتها، اللهم إلا عددا قليلا لا يتجاوز العشرة أو الخمسة عشر. أما إذا رجعنا إلى النظامات والأحكام التي وضعها الفقهاء من بعد محمد ؛ فإننا لا نستطيع أن نعلق عليها أية أهمية مطلقا، أو نعيرها أي وزن بحال من الأحوال؛ ذلك لأن القرارات والأحكام التي أصدروها وأصبحت من مبادئ الإسلام بالتقليد والتواتر، لم يكن لها إلا أهمية جزئية أو قيمة زمانية في ذلك العصر لا غير ... كذلك لم يستطع فقهاؤنا أن يعرضوا على الناس من الإسلام صورة جذابة محببة، في حين أن النصرانية على ما فيها من المتناقضات التي يعدوها الحصر والمبادئ البعيدة عن القياس المنطقي، قد نظمت عباداتها على صورة توافق أمزجة الأمم؛ فإن النصرانية بأساسها الواهن الضعيف، قد لبست ثوبا أكثر جذبا للناس من الثوب الذي لبسه الإسلام على ما فيه من قوة الأساس وقويم الدعائم؛ فإن حركة الإصلاح الذي قام به «لوثر» لعصر جديد في تاريخ الكنيسة النصرانية. وليس من البعيد أن يكون «لوثر» أكبر من خدم الكنيسة؛ فإن الإصلاح الذي قام به إذا لم يكن قد حدث بالفعل، فلا يبعد أن تكون النصرانية قد سقطت منذ زمان بعيد، وربما لم يكن لها اليوم من أثر إلا أثر الرواية التاريخية، شأن كثير من الديانات الأخرى. أما في تاريخ الإسلام فإننا لن نقع على مثل هذا الجهد الابتكاري يصرف في سبيل الإصلاح؛ فإن المسلمين لم يكن لهم مدنية ارتقائية. ولقد استكشف الأتراك هذه الحقيقة، ثم تساءلوا، لأي شيء وضع الدين أصلا؟ أليس لسعادة الإنسان ورفاهيته؟ ولكن افرض أن الدين أصبح عائقا يحول دون سعادة الأمم! أليس هذا لأن الأمم لم تفهم الدين وغايته العليا فهما صحيحا؟ إن الخطأ لم يكن في الدين، بل كان الخطأ في صدر الحكام الذين اتخذوا من الدين وسيلة يؤيدون بها استبدادهم، وهؤلاء هم طبقة الفقهاء من أهل اللاهوت؛ لهذا نبذنا هؤلاء جانبا واتبعنا وحي المدنية الغربية» (ص130). «اتباعا لشريعتنا يمكن للزوج أن يطلق زوجته في أي وقت يشاء، بعد أن تكون قد ظلت أمينة مخلصة له، وبعد أن تكون قد ولدت له أولادا، كل هذا تلقاء مؤخر صداقها ونفقة ثلاثة أشهر. وليس هذا في لغة العرب طلاقا ، بل طردا، ولا يمكن أن تستقر حياة عائلية على مثل هذا الأساس الواهن الضعيف. إن حاجتنا تدعونا إلى أن ندرس العناصر الأساسية التي تقوم عليها المدنية الغربية. وأمم الشرق يجب أن تستنير على القواعد المأخوذ بها في الحياة الغربية. إننا كثيرا ما نتفوه بكلمة «المدنية الغربية» من غير أن نعرف ماهيتها وتاريخها» (ص202).
ثم ينتقل المؤلف إلى الكلام في الحياة الاقتصادية ويمضي في نقد الحكومة العثمانية القديمة فيقول: «إن الحكومة العثمانية لم تكن حكومة اقتصادية، ولم يكن للشعب التركي تقاليد اقتصادية يتبع قواعدها.» ثم يقول: «ليس من البعيد أن تصبح أنقرة واشنطون أخرى، والقسطنطينية نيويورك ثانية» (ص219).
ثم ينتقل إلى الحركة الأدبية والجمال فيقول: «إن الحركة الارتقائية التي بدأها اليونان وتابعهم فيها الرومان، قد صدت النصرانية تيارها وأوقفته عن الانسياب ... وبدأ مجد روما في الأفول ... ولكنها احتاجت إلى ثلاثة قرون لتتم انحطاطها ... وفي النهاية قبل العقل الإنساني إنسانا عاديا على أنه ابن الله وبدأ بعبادته، وكان الجهل سائدا تحت نظام الكهنوت في القرن الخامس، بل كان شاملا كل مكان ... فإن النصرانية في ذلك العهد أنزلت الإنسان منزلة البهائم السائمة؛ فإن التفكير كان مخالفا للقانون، والتعبير عن الرأي محرم، وكانت المناقشة معتبرة من الخطيئات الكبرى، واعتبر الإنسان ككائن نجس بعيد عن الطهر، وكان المعتقد أن الله هبط على هذه الأرض في شخص عيسى وأهدر دمه فداء لخطيئة آدم وحواء، ولما كانت المرأة هي السبب في هذه الخطيئة وضع كل الناس في مستوى خطيئتها. وكان من الخطيئات الكبرى أن يعنى الإنسان بجسمه من جراء اللعنة التي نزلت به، وأنكر الناس المصالح الزمنية؛ لأن الدين لا يعنى بشيء اللهم إلا المصالح الروحية، وأهمل الجسم باعتباره شيئا غير طاهر، وجهد الناس أنفسهم أن يحصلوا على سعادة الروح، فوقعت الأجسام فريسة القذارة والفقر، وكانا من الدلائل الثابتة على الطيبة وحب الخير، وكان يخشى من الاستحمام؛ لئلا تزول عن الجسم مياه المعمودية. ولقد حظرت الكنيسة في إسبانيا غسل الجسم ومنعته بتاتا. وفي سنة 467 ميلادية هدم الكردينال «إسبينوزا» المستحمات العمومية التي كان العرب قد بنوها في إسبانيا، وإنك لتجد أثر ذلك في بلاد الحبشة حتى الآن؛ إذ يمتنع الناس عن الاستحمام؛ لئلا يتمثلوا بالمسلمين، ويعتبرون أن هذا من حاجات النصرانية. ولكن الإنسانية لحسن الحظ لم تفن من نفوس الناس تماما بما أقام القديس بولص في سبيلها من عوائق؛ ففي زماننا هذا تحررت الإنسانية تماما من استبداد النصرانية التي اعتبرها «نيتشه» السبب الأول في الانحطاط والخراب والسقوط. ولقد أخذت الإنسانية تقود الآن مرة أخرى إلى مدنية اليونان ومدنية الرومان، وأخذت العقول تستيقظ من طويل سباتها وتستفيق من غطيط القرون الوسطى، وعمدت تتطلع إلى الحرية التي كانت لها قبل أن تغشى عليها النصرانية بأغشيتها الثقيلة» (ص346-365).
ثم ينتقل المؤلف بعد ذلك إلى الكلام بإطناب في أثر الإصلاح البروتستانتي فيقول: «لقد كان الإصلاح البروتستانتي خطوة ارتقائية كبرى في المدنية، لقد ألغى الدين، وفي هذا تنحصر أهميته. وكما كانت النهضة التجديدية (الريناسنس) سببا في ترقية العقول، كان الإصلاح البروتستانتي سببا في ترقية الروح؛ فإن الاستبداد والتعصب للدين اختصت بهما الكنيسة الرومانية، قد زالا الآن من عالم الوجود، ونسيت الإنسانية تماما آثار المذاهب المدرسية، وبرزت اليونان وروما في الرقي العلمي. لقد دخل «لوثر» المعركة وبضربة واحدة أسقط كثيرا من النظامات والأحكام البابوية، ومضى متبعا طريقا استطاع بها العودة إلى مبادئ النصرانية الأولى، واجتهد في أن ينجي الناس بأن يعود إلى بعض المعتقدات العبرانية القديمة، وفي هذا وحده ينحصر الشبه بين حركة التجديد وحركة الإصلاح، فكما أن حركة التجديد حبذت العودة إلى الآداب اليونانية والرومانية، كذلك عادت حركة الإصلاح إلى مبادئ أورشليم. ولقد انتحل «لوثر» - ذلك المجدد الجرماني العظيم - حكمة الإسلام القائلة: «لا رهبانية في الإسلام.» فقال لدى تطبيقها على النصرانية: «لا رهبانية في الدين المسيحي.» وبهذا أخلى الرهاب أماكنهم للمبشرين والوعاظ. ولم يقبل «لوثر» كما هي الحال في اليهودية والإسلام، أي توسط بين الله ومخلوقاته؛ وبذلك أصبح كل إنسان «قسيس نفسه»، وأصبح له الحق في أن يقرأ العهدين القديم والجديد وأن يفهم منهما ما يشاء.» «إن الثورة البروتستانتية كانت ثورة دينية وسياسية معا، ولقد استطاع «لوثر» أن يفتح سبيل الحرية لجزء عظيم من أهل الإنسانية المعذبة المستبد بها عقولا وأجساما؛ وبذلك أصبح عن قصد حينا، ولا شعوريا حينا آخر، المثل المحتذى في الجمعية الغربية الحديثة» (ص366-395). «ومع كل هذا لا يجب علينا أن نغفل عن أن لوثر وكالفن وهما عمادا البروتستانتية، لم يكونا من المبشرين بالحرية الفكرية المدافعين عنها دفاعا مطلقا من القيود؛ فإن هذا على الرغم من قبوله مبدأ حرية البحث والمناقشة قد تقيد بقاعدة أن كل شيء لا بد من أن يكون موافقا لنص الأناجيل، وكان هذا هو السبب في أن مستكشفات كوبرنيكوس لم ترق لديهم؛ فإن النصرانية قد نصت على أن الأرض ثابتة في وسط الكون، وأن ابن الله هبط إلى الأرض ليفتدي الدنيا بدمه؛ ولذا كان كل استكشاف يدل على وجود عوالم أخرى غير هذه الدنيا معتبرا على نقيض التنزيل القدسي كما ورد في الأناجيل.» «وبعد عراك طويل وحروب حامية الوطيس، اضطر البابا أن يسلم في جزء من أوروبا لهذا المذهب، ولقد ظهر التجديد في الأمور الدينية لدى أول ما ظهر به كأنه من أخطر الأشياء على المدنية، ولكن بان بعد قليل، وبعد أن هدأت ثائرة الحركات الرجعية، أنه خير عميم كسبت فيه الإنسانية حرية ضميرها وفكرها وثبتت على أقوم القواعد في أوروبا. وعلى الرغم من أن هذه الحركات ظلت زمانا مقصورة على بقاع محدودة؛ فإن النقد الحر قد ساعد العقول على أن ترتقي ذرى التفكير العليا وأن تتفتح على عوالم جديدة لم تكن معروفة من قبل، فخلت بذلك الممالك البروتستانتية من قساوسة الكثلكة المستبدين، وتبدلت منهم برعاة الكنيسة البروتستانتية الذين وعظوا على أسس الآداب والشرائع القويمة.» «ولقد ظل المسلمون بعيدين عن سر تلك الانقلابات العظيمة التي حدثت في ذلك العصر، ومضوا عنها غرباء غير عالمين بشيء من جوهرها. وربما يعترض البعض بأننا لسنا مسيحيين؛ ولذلك لم نستطع أن نأخذ منها بضلع، وعلى الرغم من هذا فإني أعتقد أنه كان من الواجب أن نشترك في نتائجها في مختلف ميادين الفكر. وهذا ما نريد أن نقرر في صدد الإسلام في هذا الموطن.» «ولقد كانت كل الممالك الأوروبية في ذلك الحين آخذة في إصلاح أمورها الدينية، بعد أن أصبحت ديانة القرون الوسطى في حكم الأشياء المنبوذة، وكان لا بد من أن تحل محلها ديانة جديدة، فاعترف في كل مكان بحق الحرية في الدين والفكر. على هذا كانت الحالة في الغرب، بينما ظل فقهاء الدين في الشرق عاكفين بحرارة على تعاليمهم المدرسية القديمة. ومن المستحسن أن نقرر هنا أن أهل اللاهوت في الشرق لم يبلغوا من التطرف في النظر الديني مبلغ جمود قساوسة الكنيسة الرومانية في الغرب، وظلوا يأمرون الناس بأن لا يفكروا خارج دائرة التقاليد القديمة. ولقد ظلت هذه العقلية سدا حال بين الشرق وبين تهذيب القوانين أو تغيير الشرائع؛ ولهذا السبب عينه عجز العثمانيون عن أن يجددوا في الشرائع والقوانين الوضعية؛ فإن مخالب التقاليد القديمة قد قتلت الحرية في كل طرف من أطراف الحياة، وظل الناس خاضعين لتعاليم التقاليد قسرا عليهم، حتى أفقدتنا المحافظة على القديم صفة الحياة، كما قتلت أهل الصين من قبل، إنها قد جردتنا من كل قدرة على الارتقاء والخطو إلى الأمام.» «لقد ظل رجالنا على جهل كامل بحقيقة الثورة الإصلاحية في أوروبا في حين أن الإصلاح بيننا كان أيسر سبيلا وأهون طريقا. إن الإصلاح قد نشدته الديانة الإسلامية ودعت إليه. وما الإسلام في ذاته إلا حركة إصلاح قام بها نبينا منذ زمان طويل. لقد قام محمد وفي ذهنه ميل إلى وضع الدين بما يوافق دين إبراهيم وتحرير المذهب العيسوي، وبذلك يكون قد أعطى الناس دينا كاملا نهائيا. ولا يكون للدين النهائي عندي من معنى إن لم يقم على أساسي الحرية والارتقاء، فمن أجل أن يكون في دين ما صفة «الغائية» - أي أنه يكون نهائيا - يجب أن يحتفظ بالباب مفتوحا غير موصد، حتى لا يحول شيء فيه دون إيحاءات جديدة؛ ففي القرن الأول من تاريخ الإسلام ، كان التسامح الديني وحماية المناقشات الحرة في بغداد والأندلس من حسنات ذلك العصر، بل ومن مظاهره الكبرى، ولكن حالت دون هذا التسامح فيما بعد، مذاهب المدرسية التي أقامها جامدو الفقهاء، فعطلت المناقشات وقيد الفكر، ومنذ ذلك الحين نام الإسلام والمسلمون، ولم نبدأ في الاستفاقة من تلك الغفوة الطويلة، إلا منذ سنين قلائل.» «وعلى الجملة نريد أن نقول إن الشرق فقد من عمره ثلاثة قرون؛ لأنه لم يستفق بحركة الإصلاح البروتستانتي، وأن كل أمم الشرق يشتركن في هذه الخسارة الكبرى» (ص370-380).
مثال المدرسة الثالثة: الأستاذ رفيق صدقي بك «كانت الخطوة الثانية التي وجب علينا أن نخطوها بعد إعلان الجمهورية، هو أن نفصل بين مطاليب الحياة وبين منازع الدين. أما أكبر حادثة وقعت في تركيا بعد إعلان الجمهورية فكانت إلغاء الخلافة. إن الإسلام في جوهره قد دعا وألحف في الحض على ضرورة الفصل بين الحياة وبين الدين. ولقد ذكر في العريضة التي قدمت إلى المجلس الوطني الكبير أن وجود الخلافة في تركيا قد جعل تركيا بمثابة مسخ مزدوج الرأس في كل الأعمال الداخلية والعلاقات الخارجية، وأن تركيا أصبحت عاجزة عن أن تتحمل عبء هذه الثنائية الغريبة التكوين، وأصبح المعتقد أن الاحتفاظ بأسرة عثمان على رأس الخلافة في تركيا مجلبة للشرور والمخاطر، تصيب في أول ما تصيبه الحياة القومية؛ ففي مدارج الإسلام الأولى كانت الخلافة نظاما موضوعا ليمثل الحكومة؛ ولهذا لم تصبح مع قيام حكومة وطنية قوية أي ضرورة لقيام الخلافة بجانبها، ولقد عبر كثير من رجال المجمع الوطني الكبير عن رأيهم في هذا الأمر، فقال سيد بك: «إن العدل من صفات الله، وإن حكومة تنفذ العدل في تركيا يمكن كذلك أن تمثل الله فوق الأرض. إن الحكومة قد تقوم ممثلة بالجمهورية وبحكومة عادلة، وما دام الأمر كذلك فإني لا أعتبر قيام الخلافة إلا تجديفا ووثنية.» وقال آخر: «قال الله لداود: لقد جعلتك خليفة في الأرض فاحكم بالعدل بين الناس.» وهذا يدل على أن أساس الخلافة هو الحرص على العدل وتنفيذه؛ وبذلك تصبح الخلافة حكومة «عادلة لا أقل ولا أكثر»، ولقد خطب وزير الحقانية خطبة طويلة قال فيها: «لا يوجد في الحديث الإسلامي كله حديث واحد يؤيد وجود الخلافة.» وهذا يدل على أن الخلافة ليست شيئا جوهريا في الإسلام، إنها شيء سياسي يخضع للتغايرات التي تقتضيها طبيعة الزمان، وبجانب هذا لدينا الحديث المعروف القائل بأن الخلافة تكون بعد النبي ثلاثين سنة، فإذا زادت عن ذلك أصبحت استبدادا وفسادا، وعلى هذه الصورة الأخيرة كان الخلفاء؛ فقد أمرنا الله باتخاذ الشورى أساسا للحكومة، فإذا أردنا أن نثبت هذا النظام اليوم فإنما نحن نرجع إلى أوامر الله. إننا لا نريد أن نحتفظ بخليفة يحلق من فوق رءوسنا كشبح مخيف أو كابوس مضن، إن الإسلام يرفض بطبعه أن يكون فيه فئات كهنوتية كالنصرانية، وليس في الإسلام نظام ديني ولا نظام إداري. والإسلام فوق هذا لا يقدس من شيء إلا «الحق»، والدليل على هذا أن الله يدعى «الحق» في دين الإسلام، والإسلام لا ينافي روح الارتقاء، فالإسلام لم يكن يوما من الأيام حائلا بين تركيا وبين الارتقاء، بل كان نظام الخلافة هو عدو الارتقاء والتقدم وعدم العلم والمدنية ... لقد ملئ الإسلام حتى عصرنا هذا بتقاليد غير صحيحة. إن الإسلام الصحيح ضد كل الفكرات الخاطئة البعيدة عن الحق، وكان من أخص الصلوات التي يوجهها النبي لله قوله ما معناه: «أرشدنا يا رب إلى معرفة الحق كما هو»» (ص195).
Bilinmeyen sayfa