وقد دلت البحوث الحديثة يؤيدها الإحصاء أننا نفرض التربية العلمية على عدد كبير من البنين والبنات ممن لا يستسيغونها أو يستمدون منها فائدة تذكر. وقد أدرك المعلم هذه الحقيقة بخبرته الشخصية من زمان بعيد. ولا شك أن عدم القدرة على الاستفادة من التربية العلمية يرجع - إلى حد ما - إلى عيوب طرق التدريس أو إلى عيوب المدرسين (والتعليم فن وليس بعلم، والمعروف في كل الفنون أن الفنانين المجيدين قلة مسحوقة)، وبرغم هذا فمن الواضح الذي لا يحتاج إلى بيان أن كثيرا من الشبان - وربما كانت أغلبيتهم المطلقة - لا يصلحون بحكم استعدادهم الوراثي لأن يسيغوا ما تقدمه لهم التربية العلمية. وليس أقل من ذلك وضوحا أن أكثر أولئك الذين يستطيعون أن يستفيدوا من التربية العلمية يخرجون بعد سني الدراسة ببغاوات يكررون عبارات بنصها لا يفهمونها حق الفهم - وإن فهمومها فهم إما متخصصون يعرفون كل شيء عن موضوع ما ولا يجدون لذة في غيره، أو رجال فكر يعرفون كل شيء من الناحية النظرية، ولكنهم عاجزون عجزا مطلقا في شئون الحياة العادية. وشبيه بذلك ما يحدث لتلاميذ المدارس الفنية؛ فهم يخرجون إلى العالم خبراء في فن من الفنون، ولكنهم لا يعرفون من الأمور الأخرى غير النزر اليسير ولا يدركون العلاقات المختلفة بين المعارف المتنوعة.
فهل يمكن علاج هذه العيوب في نظم التربية السائدة؟ أظن ذلك. وينبغي أن نبدأ بالاعتراف بأن الناس ينقسمون إلى أنماط مختلفة، وأن لهم استعدادات ودرجات مختلفة من الذكاء. وقد ارتقت اختبارات الذكاء في السنوات الأخيرة، غير أننا لا نفيد منها كثيرا لأنها إن بينت لنا أن «أ» من الناس أذكى من «ب» فلا يكاد يدل ذلك على شيء؛ لأننا يجب إلى جانب ذلك أن نعرف هل ينتمي «أ» و«ب» إلى نمط نفسي واحد أو يختلفان. وإذا فاختبار الذكاء أداة ناقصة، ولكنه أثبت لنا بوجه قاطع أن الناس يختلفون نباهة وذكاء، وإذا ما اقتنعنا بأن الناس ينتمون إلى أنماط مختلفة، وأن لهم مواهب مختلفة ودرجات مختلفة من الذكاء وجب علينا أن نحاول أن نقدم لكل فرد التربية التي تلائمه. وهذا ما تحاوله بعض الحكومات اليوم، ولكن بصورة غير منظمة؛ فالأطفال الذين ينجحون في الامتحانات بتفوق يمنحون مجانية في التعليم الثانوي أو الجامعات. والأطفال الذين لهم مهارة يدوية يرسلون إلى المدارس الفنية كي يتعلموا مهنة من المهن. ولكن لا يزال لهذا النظام عيوب؛ منها أن الطرق التي تستخدم في اختيار الطلاب لأنواع التعليم المختلفة ليست البتة مرضية، ومنها أن أنواع التعليم التي يتلقاها الطلبة الناجحون ليست خالية من النقائص.
أما عن نظام الامتحانات فلست أرى لزاما علي أن أتحدث فيه بشيء من التفصيل. إن معظم المربين مجمعون نظريا أن امتحانا واحدا قاطعا ليس بالاختبار الكامل. وقد تخلى بالفعل كثير من المربين عن الاختبار الواحد القاطع، واستعاضوا عنه بسلسلة من الاختبارات الدورية للمعارف والذكاء، كما أنهم يقيمون لتقارير المعلمين والمفتشين وزنا كبيرا. وإذا ما أكملنا ذلك بتقسيم المتعلمين إلى أنماط مختلفة على أساس صفاتهم النفسية والجسمية كانت هذه الطريقة الثانية في اختبار الطلاب لأنواع التعليم المختلفة طريقة صالحة موفقة كل التوفيق.
والآن فلنبحث في أنواع التربية المختلفة التي ينبغي أن يتلقاها الشبان كل وفقا لمزاجه. رأينا أن نوعي التعليم السائدين، الفني والعلمي (أو الحر) ناقصان نقصا كبيرا. والمشكلة التي نواجهها الآن هي أن نصلح هذين النوعين بحيث يصبح التعليم الفني أكثر حرية، والتعليم الحر أكثر إعدادا للحياة اليومية في المجتمع الذي نريد أن نصلحه.
التعليم الحر يدرب العقل على التفكير، ويبين للمتعلم العلاقات بين فروع المعرفة المختلفة، أو بعبارة أخرى هو طريقة لتنمية الذكاء، ومصدر لإيجاد الوحدة بين شتيت المعارف، وهذه الوحدة اليوم وحدة علمية تاريخية أكثر من أي شيء آخر، هي وحدة عمادها الحقائق الواقعة والمنطق. والحقائق التي ندرب عليها الذهن المنطقي أكثرها حقائق عن العالم المادي وعن الإنسانية كجزء من العالم المادي (والتاريخ كما يعلم في المدارس والكليات نوعان: تاريخ غير علمي وهو فرع من الدعاية القومية، وتاريخ علمي، ويكاد أن يكون فرعا من فروع علم الطبيعة. ويعالج المؤرخون العلميون الحقائق البشرية كأنها حقائق مادية ، ويكتبون عن الإنسان كأن الناس ذرات غازية يمكن أن تدرس درسا علميا بحتا).
والرجل الذي يتلقى تعليما علميا قد ينقلب ببغاء، يردد ما لا يفهم، وحينئذ نقول إن التربية فشلت في تحقيق الغرض منها. أو قد ينقلب إخصائيا، وحينئذ نقول إن التربية نجحت نجاحا جزئيا. أو قد يصبح من رجال الفكر فيستطيع أن يدرك العلاقات القائمة بين العناصر المختلفة التي تتألف منها مجموعة معارفه. وقد نحسب حينئذ أن التربية قد نجحت كل النجاح. وهذه العلاقات إذا عرفناها بالنسبة إلى المعارف قلنا إنها علمية أو تاريخية، وإذا عرفناها بالنسبة إلى المتعلم قلنا إنها إدراكية أو وجدانية أو إرادية.
إن المتعلم الببغاوي يكرر ما يسمع دون أن يفهم له معنى، والمتخصص في فرع واحد من العلوم يفهم موضوع تخصصه فحسب، ورجل الفكر المهذب يدرك العلاقات الكائنة بين أجزاء المعارف المختلفة من الناحية النظرية وحدها. إنه يعرف، ولكنه لا يحب أن يعمل وفقا لمعارفه، بل ولم يتعلم أن يفعل ذلك؛ ومن ثم نرى أن التعليم الحر لا يخرج لنا رجلا كاملا نرتضيه.
ونحن من ناحية أخرى لا نعلم أبناءنا في المدارس الفنية أن يدركوا الوحدة التي تربط شتيت المعارف، وإنما نكتفي بتعليمهم حرفة من الحرف. إننا نسلحهم بفن من الفنون وبقدر يسير من النظريات الكامنة وراء هذا الفن يمكنهم من إتقان فنهم؛ فهم يخرجون إلى العالم رجالا ناقصين. وأشتات المعارف في نظر الرجل الذي تعلم تعليما فنيا ليست أجزاء من كل متناسق، وإنما هي أجزاء متناثرة ليس بينها رباط؛ فهي - عنده - كالنجوم التي تسطع وسط تيه من ظلام الجهل. وإذا تكونت في ذهن مثل هذا الرجل صورة للكل المتسق المنسجم فهي صورة رجل العصر البرنزي، أو هي صورة مستعارة من فلسفة الصحف والأشرطة السينمائية؛ ومن ثم ترى أن التعليم الفني الناجح - كالتعليم العلمي الناجح - لا يخرج لنا الرجل الكامل الذي نرتضيه.
فهل لهذه المشكلة من علاج؟ لقد اقترح بعضهم أن تحرر التربية الفنية، كالتربية العلمية، وأن تصبغ بصبغة تعميم المعرفة، وبخاصة معرفة الحقائق العلمية والنظريات، وأن يتعلم الفنيون إدراك الوحدة التي تربط أشتات المعارف. غير أن هذا الاقتراح معيب لأسباب عدة؛ منها أن أكثر الذين يتلقون التعليم الفني غير قادرين - لنقص في استعدادهم الذهني - على إدراك وحدة الكائنات. وأن هذه الوحدة ليشق إدراكها حتى على أولئك الذين يتعلمون التعليم العلمي؛ فإن أكثرهم - كما ذكرنا - يخرج إما ببغاء أو إخصائيا (وعدد كبير من هؤلاء يعودون إلى المدارس معلمين، ويواصلون تدريب ببغاوات جدد وإخصائيين آخرين). قل من العقول ما يدرك العلاقات الكائنة بين الأشياء والحوادث المتباعدة في المكان والزمان، والتي تبدو كأنها متقطعة الأوصال، ليس بين متفرقاتها رباط. والتربية العلمية تحاول أن تخلق في الرجال والنساء الرغبة في إدراك الوحدة الكائنة بين المعارف المختلفة. ولكنها قلما تنجح، وقل من يتخرج فيها ولديه هذه الرغبة؛ ولذا فمن الحمق أن نحاول تدريب الناس على إدراك وحدة الوجود، ونحن على ثقة بأنهم لن يدركوها ولن يستطيعوا أن يستخدموها.
وليس هذا كل ما في الأمر؛ فقد رأينا أن رجال الفكر أنفسهم ناقصون، ولا ترضينا تربيتهم العقلية. صلتهم بالعالم صلة إدراكية فقط، ليس فيها من الوجدان أو الإرادة شيء. ثم إن الرابطة التي ينشئونها بين الأشياء مستمدة من العلوم الطبيعية والتاريخ الذي يدرس كأنه فرع من هذه العلوم. هذه طائفة من الناس لا تأبه بغير العالم المادي والإنسانية باعتبارها جزءا من هذا العالم. وينجم عن ذلك أن هؤلاء الأفراد عندما يتصلون بالحقائق الإنسانية اتصالا وجدانيا أو إراديا يساورهم قلق شديد. وهم عادة قساة القلوب يرون أن يعامل الناس كغيرهم من أجزاء العالم المادي.
Bilinmeyen sayfa