إن تحقيق المساواة الاقتصادية التامة بين الجميع أمر ترجح استحالته، وقد لا يكون مرغوبا فيه، ولكن شيئا من المساواة المادية يمكن - بل ولا شك ينبغي - أن يتحقق. وقد اعترفت أكثر الدول، حتى الرأسمالية منها، بمبدأ تحديد الحد الأدنى والحد الأقصى للأجور. وفي الثلاثين سنة الأخيرة أجمع رجال الاقتصاد على أن هناك حدودا لا ينبغي أن يتخطاها الدخل ورأس المال الشخصي؛ ففي فرنسا وإنجلترا والولايات المتحدة تتناقص الثروة عند كل وفاة بنسبة معينة. وبين الوفاة والوفاة يدفع صاحب المال ضريبة عن ماله تتراوح بين ربع الإيراد وثلاثة أخماسه. والآن بعدما قبل الأغنياء مبدأ تحديد الثروة لم تعد ثمة صعوبة في فرض حد أقصى لا يتجاوزه المالك.
ولكن ماذا ينبغي أن يكون الحد الأقصى لدخل الفرد. قال أحد القضاة الإنجليز في العلاقة بين الدخل والسعادة: إنه لاحظ أن زيادة الإيراد تزيد من السعادة الشخصية، إلى أن يصل الإيراد خمسة آلاف جنيه في العام. أما بعد هذا فإن السعادة تبدأ في الانحدار (ويجب أن نذكر هنا أن المرء لا يستطيع أن يتحرر من قيود العيش إذا قل دخله عن ذلك بمبلغ كبير، وأن الثروة الطائلة - كالفقر المدقع - تصرف الأذهان إلى التفكير في الماديات؛ فالفقير يكابد الجوع والحرمان، والغني يفكر في طرق الاستزادة من المال).
ويمكن النظر في مشكلة الحد الأقصى للأجور من ناحية أخرى. يمكن أن نضع السؤال في هذه الصيغة: كم يحتاج المرء - في الظروف الحاضرة - كي يعيش في أعلى مستوى مادي وعقلي يسمح به استعداده البدني والذهني؟ دل البحث على أن الفرد إذا تغذى غذاء صحيحا، وسكن في مسكن صحي، وتعلم تعليما ملائما، وتوفر له فراغ كاف، وعناية طبية كافية، وقام بالرحلات المفيدة، يحتاج إلى دخل يقدر بستمائة جنيه أو سبعمائة في العام، أو ما يقابل ذلك من الخدمات. وإذا كان الفرد عضوا في أسرة أمكن تخفيض هذا المبلغ دون أن تقل وسائل العيش. ولكن أكثر الناس في الوقت الحاضر لا يبلغ إيرادهم هذا الحد.
وليست درجة المفارقة الاقتصادية واحدة في جميع الأمم؛ فالفروق في إنجلترا أكبر منها في فرنسا، حتى بين طبقات الموظفين. إن كبار موظفي الحكومة الإنجليزية يتقاضون قدر ما يتقاضاه صغار الموظفين أربعين أو خمسين مرة. أما في فرنسا فإن رئيس العمل يتقاضى قدر ما يتقاضاه الكاتب على الآلة الكاتبة عشرين مرة فقط. ومن العجيب أن عدم المساواة الاقتصادية أكبر في الروسيا السوفيتية منه في كثير من الدول الرأسمالية؛ فبينما يتقاضى مدير شركة التعدين في أمريكا قدر ما يتقاضاه عامل المنجم أربعين مرة، يتقاضى مثل هذا المدير في الروسيا قدر ما يتقاضاه أصغر العمال ثمانين مرة.
ويصح لنا - بعد هذا - أن نتساءل: ما مقدار المفارقة الاقتصادية التي ينبغي لنا أن نسمح ببقائها في المجتمع؟ إننا لا نستطيع أن نجيب عن هذا السؤال إجابة صحيحة في الظروف الحاضرة؛ ففي المجتمعات الفقيرة التي يتقاضى فيها العمال أجورا متواضعة يكون الفرق بين الفقراء والأغنياء أكبر منه في المجتمعات التي تعلو فيها أجور العمال . ولا بد في كل مجتمع من طبقة من الناس يبلغ إيرادها حدا يمكن أفرادها من تنمية شخصياتهم إلى أقصى ما تستطيع من كمال، وإلا ما تقدم المجتمع.
ولا يختلف الناس في القدرة الاقتصادية وحدها، بل هناك من أنواع الخلاف ما هو أكبر وأشق علاجا، ومن ذلك اختلاف الناس في الاستعداد النفسي؛ فالناس تختلف في المدارك «والأبله لا يرى الشجرة عينها التي يراها الرجل الحكيم». إن دنيا زيد تختلف عن دنيا عمرو كل الاختلاف، حتى إن تساوى الرجلان في الدخل السنوي؛ ذلك أن الطبيعة والتربية والبيئة تباعد بين فرد وآخر كل التباعد. وكثيرا ما يتعسر التقريب بين الأفراد؛ فأنا مثلا لا أستطيع أن أتصور شعور الفرد ينبغ في الشطرنج، أو شعور العالم الرياضي العظيم، أو الموسيقي البارع الذي يفكر في حدود الأنغام. ومن الناس من هو حاد البصر، ومنهم من هو دقيق الشم يميز من الروائح ما لا يميزه غيره. ومنهم من هو حاد السمع يجد في الأصوات فروقا لا تدركها الأذن العادية.
وقد قام العلماء بمحاولات كثيرة لتقسيم الناس أنماطا إنسانية حسب مميزاتهم الجسمانية والسيكولوجية؛ فهناك مثلا تقسيم هبقراط
Hippocrat
على أساس الأمزجة الأربعة، وقد سيطرة هذه النظرية على الطب في أوروبا أكثر من ألفي عام. والمنجمون وقارئو الكف يقسمون الناس خمسة أقسام على أساس النجوم. وما زلنا إلى اليوم نقسم الناس إلى مرح ومكتئب وما إلى ذلك. وقد كتب أرسطو رسالة في الفراسة حاول فيها أن يقسم الأفراد على أساس الصفات المميزة للحيوانات التي يشبهونها. وهذا التقسيم الحيواني للإنسان كان يظهر في علم الفراسة من حين إلى حين خلال العصور التاريخية.
وفي العصر الحديث حاول كثيرون تقسيم الناس على أسس جديدة؛ فمثلا ستكارد
Bilinmeyen sayfa