فلا عجب بعدئذ أن يرى الحاكم المستبد المطلق «أن الواقع هو المعقول» وأن يعلم الناس هذه العقيدة، وإنما الذي يدعونا إلى العجب أن الملايين من غير الحكام المستبدين، بل وممن يقاسون مغبة هذا الرأي يعتنقون هذا المبدأ. ولا شك أن العقيدة بأن الكائن هو ما ينبغي أن يكون تفسد المعايير الخلقية والسياسية وتعوق التقدم والإصلاح الاجتماعي.
ولنعد الآن إلى موضوع السلطة المركزية ولنضرب للقارئ مثالا محسوسا. إن الظروف التي تسود العصر الحاضر - العاطفة القومية، والتوسع الاستعماري الاقتصادي، وشبح الحرب، وما إلى ذلك - كلها عوامل تعمل على تركيز السلطة، وينشأ عن ذلك الحد من الحرية الفردية وتجنيد الجماهير، حتى في البلدان التي تمتعت حتى الوقت الحاضر بصورة من صور الحكم الديمقراطي. والرجل المثالي يرثي لهذا الاتجاه نحو الظلم والاستعباد، ويعتقد أن نتيجته سيئة ولا محالة. وليس كذلك من يحسب الأمر الواقع خير الأمور. وكلا الرجلين قد يرميان إلى غرض واحد، ولكن الرجل الثاني يرى - بناء على عقيدته - أن الطريق الذي تعينه له الظروف لا بد أن يؤدي إلى الغرض المنشود. إنه يعتقد أن حكم الاستبداد لا بد منته بالحكم الديمقراطي، وأن الاستعباد ينتهي بتحرير الفرد، وأن تركيز النفوذ السياسي والاقتصادي ينتهي بالحكم الذاتي؛ أو بعبارة أخرى أنه لا يرى مانعا من أن يأخذ بنصيب في أي عمل شرير؛ لأنه يعتقد أن هناك عناية ربانية «واقعية» تعمل على تحقيق الغايات الطيبة بالوسائل الدنيئة.
إن من واجبنا أن نبث في العالم هذا الرأي، وهو أن «الأمر الواقع» ليس بالمقياس الصحيح، وأن ما تحملنا الظروف على عمله ليس هو الواجب الذي ينبغي أداؤه. إن ذلك لخير للناس وأبقى. إن «الأمر الواقع » في العصر الحاضر شر محض ، فإذا نحن استسلمنا له وعملنا على تعزيزه وتأييده فإننا بذلك إنما ننصر الظلام على النور.
الفصل الثامن
اللامركزية والحكم الذاتي
يقترح علينا الفوضويون إلغاء الدولة. والواقع أن الدولة تستحق الإلغاء لأنها أداة تستخدمها الطبقة الحاكمة للاحتفاظ بامتيازاتها، ولأنها وسيلة تمكن المولعين بحب السلطان من إشباع شهواتهم في التسلط والنفوذ، كما تمكنهم من تنفيذ أحلامهم الخيالية بالمجد والعظمة. غير أن الدولة في المجتمعات المعقدة، ومنها المجتمع الذي نعيش فيه، لها وظائف أخرى نافعة تؤديها؛ فمن الواضح - مثلا - أنه ينبغي أن تكون في المجتمع هيئة مسئولة عن توحيد نشاط الجماعات المختلفة التي يتألف منها المجتمع. ومن الواضح كذلك أنه ينبغي أن تكون هناك هيئة لها سلطة العمل باسم المجتمع بأسره. وإذا كانت لفظة «الدولة» مرتبطة ارتباطا كريها بفكرة الظلم الداخلي والحرب الخارجية، وبالسيادة الخالية من التبعات، وبخضوع العامة الذي لا يقل عن سيادة الحاكمين خلوا من التبعة، إذا فلنطلق على هذه الأداة الاجتماعية اسما آخر. وليس هناك في الوقت الحاضر اتفاق على ما عسى أن يكون هذا الاسم؛ ولذا فسوف أحافظ على استعمال هذه الكلمة القديمة المرذولة حتى نتفق على اسم جديد.
مما سلف ذكره في الفصول السابقة يتضح أن الإصلاح الاقتصادي - مهما يكن طيبا في حد ذاته - لا يمكن أن يؤدي إلى ترقية الفرد والجماعة إلا إذا تم في جو صالح وبوسائل صالحة، والجو الصالح للإصلاح فيما يختص بنظام الدولة هو اللامركزية والحكم الذاتي في جميع الشئون، والوسائل الصالحة لتنفيذ الإصلاح هي الوسائل الهينة اللينة.
وإذا انتقلنا من التعميم إلى التخصيص، ومن المعنوي إلى المحسوس، واجهتنا الأسئلة الآتية:
أولا:
بأي الوسائل يمكن تطبيق مبادئ الحكم الذاتي على الحياة اليومية للرجال وللنساء؟
Bilinmeyen sayfa