أولا:
يمكن لبعض الدول التي تتقارب في وجهة النظر أن تنظم مشروعات للتعاون بين بعضها وبعض، وقد حدث ذلك فعلا بين الدول التي تتعامل بالإسترليني، وهي تشمل بلدانا رأى حكامها من الحكمة أن يوحدوا بين الخطط القومية المنفصلة حتى لا تقف إحداها في سبيل الأخرى، وربما رأت بعض الحكومات الأخرى في المستقبل القريب أن من مصلحتها أن تنضم في اتحاد كهذا. ولكننا لا نحب أن نكون شديدي التفاؤل من هذه الناحية. إن الزمن قد يبين للدول مزايا التعاون الدولي، ولكن الزمن كذلك يكسب المصالح المكتسبة التي أوجدتها الخطط القومية المختلفة قوة ومنعة. إن الاشتراك في مشروع تعاون دولي قد يكون في مصلحة الأمة عامة، ولكنه قطعا ليس في مصلحة بعض الطوائف المعينة داخل تلك الأمة. وإذا كانت هذه الطوائف قوية من الناحية السياسية فإن فائدة الأمة كثيرا ما يضحى بها في سبيل فائدة تلك الطوائف.
ثانيا:
يمكن لكل دولة أن تستقل عن غيرها من الدول من الناحية الاقتصادية؛ بذلك يخف أثر الفوضى الاقتصادية الدولية، وتصل أسباب الاحتكاك السياسي إلى الحد الأدنى. ولما كان اتصال الدول بعضها ببعض - في ظل الروح القومية السائدة - غالبا ما ينتهي بالصراع الدولي، فإن التخفيف من أسباب الاتصال بين الأمم يؤدي - على الأرجح - إلى إبعاد شبح الحرب.
إن مثل هذا الاقتراح يبدو في أعين القائلين بحرية التجارة خطأ كبيرا، بل إجراما شديدا. إنهم يرون - وهم على حق - أن حقائق الجغرافيا والجيولوجيا لا مفر منها؛ فالأمم تختلف في إنتاجها بحكم طبيعة أرضها ومناخها، والشعوب تختلف في استعدادها بحكم الإقليم والبيئة؛ ولذا فمن أصالة الرأي أن يتقسم العمل بين الأمم، وأن تستبدل كل دولة بالسلع التي يسهل عليها إنتاجها تلك التي تتعسر عليها، وتتيسر في بقعة أخرى من الأرض.
هذا ما يرى أنصار حرية التجارة، وحجتهم في ظاهرها معقولة مقبولة. ولكنك إن أنعمت فيها النظر من ناحية عملية تبين لك ما فيها من شطط؛ ذلك أن أكثر الدول اليوم ترمي إلى توسيع نفوذها السياسي، وتخشى الحرب وما يترتب عليها من نتائج؛ لذلك تراها تبذل كل جهدها في إنتاج كل ما تستطيع من سلع داخل بلادها، مهما كلفها ذلك، ومهما كانت العقبات الطبيعية، وذلك رغبة منها في الاستغناء عن الدول الأخرى إن دعا إلى ذلك داع. وقد ساعد تقدم العلوم والفنون هذه الدول كثيرا على تنفيذ هذه السياسة الاستقلالية واتباعها في كثير من الأمور. أجل إن فكرة الاستقلال الاقتصادي والاكتفاء بالإنتاج المحلي سخيفة جدا في نظر أنصار حرية التجارة، ولكنها ممكنة التحقيق إلى حد كبير نظرا لتقدم فنون الصناعة. إن العلم لا وطن له؛ ولذا فإنه إن تقدم في بلد من البلدان انتقل إلى البلدان الأخرى وانتفع به قوم آخرون. ويترتب على ذلك أنه إذا نجحت أمة من الأمم في تنفيذ سياسة الاستقلال الاقتصادي لتقدم العلم فيها كان من اليسير على غيرها من الأمم أن تنقل عنها علمها وفنها لتستقل هي بدورها استقلالا اقتصاديا. هذه حقيقة لا مفر منها، ومن الخير ألا نتجاهلها وأن نستغلها لمصلحة المجموع.
إن الدول الدكتاتورية في الوقت الحاضر تستغل التقدم العلمي في أغراض الحرب وحدها. ولكن ليس هناك ما يدعونا إلى استخدام فكرة الاستقلال الاقتصادي في الاستعداد للحرب دون غيرها؛ فنحن نستطيع أن نستخدمها في نشر لواء السلام؛ وذلك أن قوة الشعور بالقومية تهددنا بقيام النزاع بين الأمم، فإذا نحن استطعنا أن نباعد بين هذه الدول من الوجهة الاقتصادية أمكننا أن نبعد شبح الحرب ولو إلى حين. والمكتشفات العلمية الحديثة تعاوننا على تنفيذ سياسة الاستقلال الاقتصادي؛ ولذلك فمن الخير لنا أن نشجع هذه المكتشفات.
ولننظر على سبيل المثال في مشكلة الغذاء. إن كثيرا من الحكومات - ومنها إنجلترا وألمانيا وإيطاليا واليابان - تبرر استعدادها للحرب وحبها الاستعمار بنقص الأغذية في بلادها نقصا يجعل إمداد جميع السكان بالطعام الكافي أمرا مستحيلا. ومما يزيد الطين بلة أن هذا النقص الطبيعي يعززه نقص وضعي منشؤه سياسة خاطئة في نظام النقد تمنع بعض البلدان من الحصول على مواد الغذاء اللازمة من الخارج، وهذه السياسة الخاطئة في نظام النقد نتيجة للروح العسكري السائد. وتؤثر الحكومات في هذه البلدان أن تنفق كل مصادر الثروة القومية في شراء الأسلحة بدلا من أن تنفقها في شراء الغذاء والكساء، تؤثر أن تشتري المدافع بدلا من الزبد؛ ومن ثم ترى أن الدولة لا تستطيع أن تشتري الغذاء لأنها تستعد للحرب، كما أن الدولة لا بد لها أن تحارب لأنها لا تستطيع شراء الأغذية؛ فهي حلقة مفرغة.
إن سياسة النقد الخاطئة قد تحول دون شراء الأغذية من الأمم الأجنبية، ولكن هناك أسباب أخرى تحتم على بعض الأمم أن تشتري بعض أطعمتها من الخارج؛ فهناك دول - منها بريطانيا العظمى وألمانيا واليابان - لا يكفيها إنتاجها الداخلي في الوقت الحاضر، نظرا لازدحامها بالسكان إلى درجة كبيرة؛ ومن ثم فإن حكام هذه البلاد يرون الاستعمار ضرورة لا مندوحة عنها. ولكن هل يمكن اعتبار ازدحام السكان عذرا مشروعا للاستعداد الحربي ولضرورة الاستعمار؟ إن الخبراء الزراعيين المحدثين لا يرون ذلك، ونحن نحيل القارئ على كتاب الدكتور ولككس
Dr. Wilcox
Bilinmeyen sayfa