الإهداء
مقدمة
1 - وهم الثوابت أو «النزعة الماهية»
2 - نزعة الماهية في البيولوجيا
3 - بين الماهوية والوجودية
4 - فتجنشتين ونزعة الماهوية
5 - اللاماهوية عند كارل بوبر
6 - الماهوية اللغوية
7 - الماهوية في علم التصنيف1
8 - الماهوية الجينية
9 - الماهوية وتقسيم الاضطرابات النفسية
الإهداء
مقدمة
1 - وهم الثوابت أو «النزعة الماهية»
2 - نزعة الماهية في البيولوجيا
3 - بين الماهوية والوجودية
4 - فتجنشتين ونزعة الماهوية
5 - اللاماهوية عند كارل بوبر
6 - الماهوية اللغوية
7 - الماهوية في علم التصنيف1
8 - الماهوية الجينية
9 - الماهوية وتقسيم الاضطرابات النفسية
وهم الثوابت
وهم الثوابت
قراءات ودراسات في الفلسفة والنفس
تأليف
عادل مصطفى
الإهداء
إلى الزميل النابه والفنان القدير د. سيد الرفاعي، الذي جعل حياتنا بالفن أجمل وربما خرج بنا منها إلى آفاق قصية ومباهج علوية ما كنا لنبلغها بالخبز وحده.
لا أحد ينزل النهر نفسه مرتين؛
فلا النهر هو ذات النهر،
ولا الشخص هو ذات الشخص.
هيراقليطس
540-480ق.م
لا شيء في الوجود لديه طبيعة،
لا شيء هنالك سوى امتزاج العناصر وانفصالها،
وما «الطبيعة» سوى «الاسم» الذي يخلعه عليها الإنسان.
أمبدوقليس
490-430ق.م
مقدمة
كثيرا ما يدس الناس هذا التعبير في مجادلاتهم: «ثوابت كذا»، «ثوابتنا»، «الثوابت» ... إلخ. وكثيرا ما يبلس الخصم إثر هذا التعبير كأنما ألقم الحجر.
وقلما ينتبه أحد إلى هذا التعبير نفسه لكي يضعه على المحك ويرى فيه رأيا. وقلما يدور بخاطر أحد أن يفك هذا الغلاف لكي يتيقن من أن بداخله شيئا. ذاك ضرب نادر من «خفة اليد»
sleight of hand
التي تلطف على الخصم وعلى الشهود وعلى القائل نفسه!
ينتمي هذا التعبير إلى ما يسمى «الألفاظ المشحونة (الملقمة/المفخخة)»
loaded words ؛ لأنها تفترض مسبقا حكما برمته لم تتم البرهنة عليه بعد؛ لذا كان جريمي بنتام
J. Bentham
يطلق على مثل هذه التعبيرات اسم «النعوت المصادرة على المطلوب»
question-begging epithets ، إنها تصادر بما لم تثبت، وتسلم تسليما بما قد لا نسلم به أصلا، وتدس مواقف انفعالية في داخل العبارة التي تحملها. وهذه المواقف ليست جزءا من الحجة، وإنما جرى استدعاؤها على نحو غير مشروع لكي تؤتي أثرا ما كان للحجة أن تؤتيه بمفردها. وبعبارة أخرى تعد هذه المواقف الانفعالية «غير ذات صلة»
irrelevant
بقيمة صدق العبارة؛ أي بتأسيس صدق العبارة المطروحة أو كذبها. (1) نزعة الماهية
ما ظنك بمن يعامل المتحول معاملة الثابت؟
ويعامل السائل معاملة الصلب؟
ومن ينظر إلى الغامض المتشابه على أنه دقيق محكم؟
وإلى الممتد المتصل على أنه متقطع منفصل؟
يقال لمثل هذا الشخص: إنه «ماهوي»
essentialist
تملكته «نزعة الماهية»
essentialism ، فجعل ينظر إلى كل شيء على أنه «مثول»
instantiation
لطبيعة محددة ثابتة، مسيجة كتيمة لا تمتزج بغيرها ولا تلتئم بسواها.
يبدو أننا جميعا هذا الشخص (الماهوي) على اختلاف الدرجة، وأن الاعتقاد بوجود ماهية ما - ظاهرة أو خفية - لكل شيء هو اعتقاد عام يشمل البشر جميعا، وأنه اعتقاد «غير واع بذاته، إن صح التعبير؛ أي إننا نضمره دون أن نعي أننا نضمره.
1
ويبدو أننا نحن البشر قد تبنينا هذا النزوع الماهوي خلال تطورنا النوعي كنتيجة لنجاعته التكيفية في تفاعلاتنا مع البيئة، بحيث أصبح هذا النزوع شاملا لجميع الثقافات والأحقاب، ودامغا لجميع مراحل العمر، بدءا من الطفولة الباكرة.
ينبئنا علماء النفس الذين يدرسون نمو اللغة بأن الأطفال ماهويون طبيعيون، وربما توجب عليهم أن يكونوا كذلك إذا كان لهم أن يحتفظوا بقواهم العقلية بينما تقوم عقولهم النامية بتقسيم الأشياء إلى «فئات تصنيفية»
categories
متمايزة، كل فئة منها موسومة باسم فريد.
لقد تركت الماهوية بصمة غائرة في «معمارنا المعرفي»
cognitive architecture ، وضربت أطنابها في «حسنا المشترك»
common sense ، فصار من الصعب اقتلاعها، وأصبحت تشكل عائقا لنا في مجالات البحث التي تتطلب تبني نماذج لا ماهوية.
ونحن في هذا العمل الوجيز لا نعرض للماهوية من جميع أطرافها؛ فإن ذلك يكون عملا لا آخر له؛ ولا نحن ننحاز لها أو عليها؛ فإن هذا يرمي بنا في مماحكات جدلية لا طائل من ورائها ولا هي داخلة في موضوعنا، وإنما نتخذ لنا (في حدود هذا العمل فحسب) وجهة من الرأي يمكن أن نطلق عليها «اللاماهوية الجزئية (أو الموضعية)»
local anti-essentialism ؛ أي الرأي المضاد للماهوية في مجال بعينه وسياق بذاته، نحن باختصار نريد أن نحذر من الأخطاء التي يمكن أن تنجم حيثما سول لنا الوهم أن نتصور ماهية حيث لا ماهية .
والكتاب شأنه شأن بعض أعمالي القديمة،
2
ليس بحثا أكاديميا صرفا يلتزم بضوابط الرسائل الأكاديمية المستتبة، وإنما هو فصول متفرقة، مزيج من التأليف والتصنيف، منه ما هو ابتكار شخصي خالص، ومنه ما هو قراءة مباشرة لأدبيات فلسفية وعلمية راسخة أشرت إليها في مواضعها. (2) فتجنشتين ومفهوم «التشابه العائلي»
في كتاباته المتأخرة دفع فتجنشتين بمفهوم جديد قدم للفلسفة وللبحث العلمي خدمة جليلة، وجعل بميسورنا أن نستخدم الأسماء العامة دون أن نكون مضطرين بهذا الاستخدام إلى أن نسلم بوجود ماهية وراء الاسم، ذلك هو «مفهوم التشابه العائلي»
family-resemblance concept ، ومفاده أن الأشياء التي يشير إليها حد من الحدود قد ترتبط معا لا بخاصة أو صفة واحدة بل بشبكة من المشابهات العديدة والمتداخلة جزئيا كشأن الأشخاص الذين تشترك وجوههم في ملامح مميزة لعائلة معينة.
هذا المفهوم الجديد - الذي توسع فيه العلماء ونوعوا عليه وطبقوه في مجالات متنوعة واتخذ أسماء عديدة
3 - كان اقتحاما جريئا وحصيفا في الوقت نفسه لمصاعب مفهوم «الماهية»
essence
التي لا حصر لها.
لم يعرض فتجنشتين لوجود الماهيات على نحو صريح، ولم يتورط قط في هذا المسلك الوعر. وكل ما أقر به هو أن مستخدمي اللغة لا يعرفون أي تعريف/ماهية للشيء عندما يستعملون اسمه استعمالا صحيحا، وأن معرفة مثل هذا التعريف الماهوي غير ضرورية للاستعمال الصحيح لأية لفظة. وصفوة القول أن دعوى فتجنشتين لا تعدو أن تكون دعوى «إبستمولوجية» تفيد فقط أن معرفة التعريفات ليست شرطا للاستخدام اللغوي الصحيح (وليست دعوى «أنطولوجية» تفيد عدم وجود خاصة مشتركة ماهوية). بذلك يؤتي مفهومه الجديد تأثيرا «علاجيا» من حيث إنه يجعل المشكلات الفلسفية المرتبطة بالماهيات (التعريفات) تختفي تماما، ويجعل التعريفات الماهوية «أشبه بتروس قطعت صلتها بالآلية».
وقد استخدم العلماء هذا المفهوم الجديد في مجالات بحثية عديدة، مثل البيولوجيا والميثودولوجيا والتاكسونوميا (علم التصنيف) والنوزولوجيا (علم تقسيم الأمراض)، فأسعفهم وأتاح لهم تقدما ملحوظا في فهم هذه المجالات، وأعفاهم من استنفاد جهودهم في غير طائل. (3) آثام أفلاطونية/أرسطية
منذ دفع أفلاطون بنظريته في المثل
ideas ، وقفى عليه أرسطو بنظريته في التعريف؛ استتبت نزعة الماهية ورانت على العقل البشري أكثر من ألفي عام، وصارت الماهوية مكونا أصيلا من مكونات الحس المشترك عاق العقل عن تصور أشياء كثيرة، وعطل علوما كثيرة عن التقدم الحثيث الذي أحرزته الفيزياء على سبيل المثال. (4) في علم التصنيف
في علم التصنيف
taxonomy
ظل النزغ الماهوي يلاحق العلماء حتى بعد أخذهم بنظرية تطور الأنواع. يقول ديفيد هول في مقاله الرائد «تأثير الماهوية في علم التصنيف، ألفا سنة من الركود»: «والآن فقط يبلغ علم التصنيف مرحلة من النضج تضاهي نضج الفيزياء منذ 300 عام مضت، أو تضاهي غيره من العلوم البيولوجية منذ خمسين أو مائة عام. فما السبب؟ يجيب كارل بوبر عن هذا السؤال بقوله: إنه بقدر استخدام كل تخصص لمنهج أرسطو في التعريف فقد ظل هذا التخصص موقوفا في حالة من الحشو اللفظي الفارغ والاسكولائية العقيمة. وإن العلوم المختلفة قد حققت درجة من التقدم بقدر ما تمكنت من التخلص من منهج البحث الماهوي. لا تصدق هذه العبارة في أي علم من العلوم بقدر ما تصدق في علم التصنيف؛ ذلك أن أهمية التعريف لا تتجلى في أي علم قدر تجليها في علم التصنيف.» (5) في البيولوجيا
يقول إرنست ماير: إن فرضية دارون عن التطور الطبيعي لم تكن مجرد نظرية جديدة. إنما هي نوع جديد من النظرية: نظرية أطاحت بالطرائق الماهوية في التفكير البيولوجي، واستبدلت بها ما أسماه ماير
population thinking . تعامل الماهوية البيولوجية الجمال والأرانب والسلاحف كما لو كانت مثلثات أو معينات أو قطوعا متكافئة؛ فالأرانب التي نراها هي ظلال شاحبة للفكرة التامة للأرانب: الأرنب الأفلاطوني الماهوي المثالي المعلق حيث هو في فضاء تصوري إلى جانب جميع الصور الهندسية التامة. إن الأرانب ذات اللحم والدم قد تتباين، ولكن تبايناتها هي دائما نشوز عن الماهية المثالية للأرنب.
إن النظرة التطورية لهي على تضاد جذري مع هذه النظرة الأفلاطونية/الأرسطية السالفة؛ إذ من الجائز أن يبتعد الأخلاف عن صورة حياة الأسلاف ابتعادا لا نهاية له، وكل ابتعاد يصبح سلفا ممكنا لتنوعات مستقبلية.
إذا كان ثمة «أرنب قياسي» فإن هذا اللقب لا يعني إلا مركز توزع جرسي الشكل لأرانب حقيقية تقفز وتعدو. وهذا التوزع يتبدل مع الوقت. ومع تتالي الأجيال قد تأتي بالتدريج نقطة غير محددة بوضوح عندها سيكون معيار ما نسميه أرانب قد ابتعد كثيرا بحيث يستحق اسما آخر. ليس ثمة «أرنبية» دائمة، ماهية للأرانب معلقة في السماء، بل هناك فحسب «مجتمعات/سكان
populations » من الأفراد الطويلة الآذان المكسوة بالفراء المرتعشة الشوارب التي تبدي توزعا إحصائيا من التباين في الحجم والشكل واللون والميول.
بالنسبة للعقل المغشى بغمامات أفلاطونية فإن أرنبا ما هو أرنب. أما القول بأن نوع الأرانب يشكل ضربا من الغيمة المتنقلة ... سديم إحصائي من المتوسطات الإحصائية، أو أن الأرنب النموذجي في يومنا هذا قد يكون مختلفا عن الأرنب النموذجي الذي كان منذ مليون سنة، أو الأرنب النموذجي الذي سيكون بعد مليون سنة؛ فإن هذا القول هو انتهاك لتابو داخلي.
إن التأخر المزري في وصول دارون إلى المشهد (القرن 19) يعود إلى أننا جميعا كنا قد أشربنا الماهوية وأضمرناها في صميم جيناتنا العقلية. (6) الماهوية الجينية
هي وجهة الرأي القائلة بأن ماهية الكائنات البشرية تقبع في جيناتها، وبأن سلوك الإنسان تحدده جيناته على نحو حتمي لا مرد له، وما تكاد الناس تتلقى خبرا جديدا عن اكتشاف أساس جيني لشيء ما (مرض، سمة شخصية، سلوك ...) حتى تشرئب تحيزاتهم الماهوية السيكولوجية وتسبغ على هذا الشيء صفة الثبات والديمومة والحتمية، وتضرب عرض الحائط بالعوامل البيئية والحرية الشخصية والاختيار الفردي.
الحق أن العلاقة بين النمط الجيني
genotype
والنمط الظاهري
phenotype
قد تكون شديدة التعقيد، حيث تنبثق الأنماط الجينية كنتيجة لتفاعل متبادل لجينات عديدة حين تتوافر ظروف بيئية معينة، وحين يمكن للجينات أن تحدد أي البيئات يسعى إليها الشخص وبالتالي يتأثر بها، مثل هذه العلاقات المعقدة تتحدى أي جواب ماهوي، وبسبب تعقد التفاعل بين «الطبيعة والتنشئة»
nature and nurture
يستسهل الناس التفسير الجيني ويغضون الطرف عن العلل البيئية والخبروية أو التفاعلية بين الجينات والبيئة.
ليس بميسور عامة الناس أن يتصوروا تعقد العلاقة بين الجينوتايب والفينوتايب، ويتفهموا أن التعبيرات الجينية احتمالية وتحكمها الخبرات والتفاعلات مع الجينات الأخرى، ويستوعبوا كيف يمكن للجينات أن تؤثر في طرائق تفاعلنا معها؛ ومن ثم كيف تشكلها بيئاتنا، وكيف تضطلع العوامل «التخليقية المتعاقبة»
epigenetic
بدور جوهري في نشأة مختلف السمات وشتى الأمراض. ولو أنهم علموا مبلغ تعقد العلاقات بين الجينات ومآلاتها؛ لاستجابوا للتقارير الجينية استجابة صحيحة ووضعوا أمرها في نصابه، واستردوا اهتمامهم بدور البيئة في تشكيل السلوك، وأدركوا صدارة الإرادة الفردية والاختيار الحر.
ويبدو أن فترة المراهقة هي أنسب المراحل العمرية للتحولات المعرفية والوجدانية الكبرى في حياة الإنسان؛ ومن ثم تبدو التدخلات التعليمية لحلحلة الماهوية السيكولوجية الراسخة ملائمة جدا أثناء فصول العلم في المدرسة المتوسطة والعليا. في هذه السن لا يبدي المراهقون ماهوية سيكولوجية قوية كالتي يبديها الأطفال الأصغر، ولا يكون أوان الحتمية الجينية للبالغين قد جاء بعد.
يستمد الناس معلوماتهم عن الجينات من وسائل الإعلام، والإعلام بغريزته يميل إلى الفرقعة والمبالغة والإثارة، ولا يقدم إلا تبسيطات مخلة تومئ إلى تفسيرات جينية قوية للظواهر تتجاوب مع حدوس الناس المشربة بالماهوية، وبذلك تنشأ حلقة موبقة من التدعيم والتحريف يصعب الفكاك منها. ومن شأن التحيز الماهوي أن يدعم «التنميط»
stereotyping
و«التمييز»
discrimination
بشتى تجلياتهما: العنصرية والجندرية والجنسية ... إلخ. وهكذا تسهم نزعة الماهية في تخليد هذه التحيزات، وتضع عوائق في طريق التقدم العلمي والخلقي للجنس البشري.
وقد كانت «اليوجينيا» (علم تحسين النسل)
eugenics
سليلة شرعية للماهوية الجينية أضلت كثيرا من الناس في النصف الأول من القرن العشرين، ودفعتهم إلى ارتكاب أفعال شائنة وتبرير إجراءات فظة، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ويسعون إلى تحسين الجنس البشري. (7) الماهوية اللغوية
من آثام الماهوية التي لا تغتفر أنها عطلت الفهم البشري قرونا طويلة عن فهم طبيعة اللغة ومنشئها، وما استتبعه ذلك من نتائج بعيدة الأثر ثقيلة الوطأة. وقد كان تأخر ظهور فرديناند دي سوسير (1857-1913م) في اللغويات مزريا كتأخر ظهور دارون في البيولوجيا.
وقد بلغت عواقب الماهوية في حالة اللغة العربية حدا لم تبلغه في أية لغة من اللغات، وكانت وراء ما نعانيه اليوم من ازدواجية لغوية حقيقية (فصحى/محكية) وجمود إبداعي مقيم وعقدة نقص غائرة.
من شأن نزعة الماهية أن تحمل العقل على أن يتصور اللغة كيانا أزليا ثابتا مكتملا نشأ بتدبير مدبر وفعل فاعل، وأن تجعل تصور اللغة كظاهرة «انبثاقية»
emergent
تنجم عفويا من عملية الاجتماع، تجعله أمرا يند عن الإدراك ويستعصي على الفهم. ومن شأنها أن تجعله يتوهم وجود «مناسبة» بين اللفظ والمعنى، أو رابطة طبيعية منطقية بين الأصوات ومدلولاتها.
مثل ذلك الماهوي لن يسعه في دراسة اللغة سوى أن يتخذ منهجا «معياريا»، وأن يميل إلى المحافظة على «الحالة» اللغوية ومنعها من التحول والتغير، وفرض قواعدها الموروثة بكل حزم وصرامة. لقد أملى عليه «مذهبه» في منشأ اللغة «منهجه» في دراستها، وخلق منه شرطيا لغويا جافيا، وإرهابيا نحويا فظا، يحفظ الوضع القائم ويحارب كل تجديد ويسميه «خطأ» ينبغي رده إلى الصواب؛ أي إلى القديم.
يعمه الماهوي عن ظاهرة أساسية في اللغة هي «التغير اللغوي»
language change . اللغة كيان متغير، كيان سائل. التغير - إن شئت الدقة - ليس من «خواص»
properties
اللغة بل من «أنطولوجيا» اللغة. التغير ليس «محمولا»
predicate
للغة، بل «كيفية وجود» أو «أسلوب كينونة». اللغة - بحكم طبيعتها ذاتها
ipso facto - متغيرة؛ وذلك لأسباب كثيرة أهمها الطابع «المحايث» للبنية ذاتها؛ أي الميول الباطنة في صميم البنية اللغوية والمسئولة عما يعرض لها من تغيرات.
لم يدرك قدامى اللغويين هذا الجانب الأساسي من أنطولوجيا اللغة: التغير، وكانوا في عمه
agnosia
عنه. لقد اعتبروا كل تغير خطأ، وتوفروا على رصد الخطأ ومطاردته (بدلا من أن يقوموا بعملهم الحقيقي ويقننوا التغير!) ودبجوا في ذلك أسفارا ومجلدات.
لم يدرس قدامى اللغويين التغير؛ لأنهم اعتبروه «لحنا» فدرسوا اللحن. «كان يجب على قدامى النحاة بعد الفراغ من دراستهم لتلك المرحلة (الفترة من منتصف القرن الثاني قبل الهجرة إلى منتصف أو نهاية القرن الثاني الهجري) ألا يدوروا حول أنفسهم فيها، وإنما يدرسوا ويوصوا بمتابعة الدراسات المتعاقبة ويتتبعوا الظواهر المتغيرة في كل أوضاعها على مر العصور وفي مختلف البيئات ... فلو أنهم رصدوا حركات التطور لأفادوا اللغة التي حاولوا المحافظة عليها، بالإضافة إلى أنهم كانوا ربما اهتدوا إلى معرفة قوانين التطور وإلى تسخيرها لمصلحة اللغة (غير واقفين في وجه سننها) ... وبذلك يكون علاجهم لها علاجا مبنيا على أسس علمية.»
4 «وليس من حق الباحث في اللغة أن يفترض فيها التوقف عند فترة معينة أو جيل خاص أو عدة أجيال، فيجمد الدراسة ويترك عمله الحقيقي في ملاحظة اللغة الدائبة التغير، وينصرف إلى تفريعات ومماحكات وعنت ذهني عقيم لا حاجة باللغة إليه، ثم يفرض ما لاحظه عن اللغة في فترة من فتراتها على فترة أخرى أدى إليها تطورها. وهذا عكس لمهمة الدارس من الوصف إلى التحكم، ومن الملاحظة إلى المصادرة.»
5
هكذا يتبين لنا أن هواة «قل ولا تقل» ليسوا أكثر من نفر لم يكملوا تعليمهم اللغوي؛ لأنهم لم يدرسوا «التغير اللغوي» بما هو تغير لغوي لا بما هو لحن ... بما هو صواب لا بما هو خطأ.
لقد توقف النحاة في تقعيداتهم عند زمن معين لا يتجاوزونه، بينما اللغة الحقيقية تمضي في سبيلها غير عابئة بهم، توقفت القواعد بينما العرف اللغوي يتغير مع الزمن، فاتسعت الفجوة بينهما وصارت هوة. هكذا انشطرت لغتنا إلى لغتين بينهما ثأر وخصام ولدد: المحكية والفصحى. وهكذا تجمدت الدماء في عروق الفصحى وتخلفت عن ركب اللغات، فصرنا ندرس العلم بلغة أجنبية، ونتنفج بلغة الغير وقد غرقنا في الدونية إلى الأذقان.
هذا ما فعلت بنا الماهوية: لقد قتلت العربية وغربتها: غربة الزمان لا المكان، وجعلتها لغة أجنبية يتجافى عنها اللسان وتمجها السليقة. (8) في فهم الأمراض النفسية وتقسيماتها
كان لنزعة الماهية أثر سلبي على فهمنا للأمراض النفسية وطريقتنا في تقسيمها؛ فرغم أن الفئات التشخيصية في الطب النفسي هي مجرد تصورات تنظم الخبرة الإكلينيكية وترشد القرارات العلاجية، فما يكاد يعم استخدام مفهوم تشخيصي - كالفصام ... إلخ - حتى تتناوله النزعة الماهوية بداخلنا بالتشييء
reification
وكأنه كيان واقعي حقيقي أو «ماهية» محددة تقبع وراء أعراض المريض وتفسرها. ورغم أن واضعي الدليل التشخيصي والإحصائي حريصون على الإشارة إلى أن كل فئة تشخيصية ليست كيانا مسيجا منفصلا عن غيره من الفئات وعن السواء
normality ، فإن مجرد إدراج التصور التشخيصي في دليل نوزولوجي رسمي، وتزويده بتعريف مركب دقيق يحفز نزعتنا الماهوية الصميمة، ويحملنا على هذا التشييء الماكر.
يبدو أن تفاوت الأعراض الطبنفسية هو شيء متصل، ولا يتكتل في تجمعات ذات تخوم حادة، وأن معظم الفئات التشخيصية هي مجرد مواضع اعتسافية في فضاء متعدد الأبعاد. على أن «العقل المتقطع» (بتعبير ر. دوكنز) لا يعي ذلك، ولا يفكر إلا بلغة قاطيغورية (لغة الفئات التصنيفية المنفصلة)، ولا يختزن معرفته الإكلينيكية إلا بهذا الفورمات. يشكل هذا «عائقا طبيعيا» لتقدم الطب النفسي وتقدم البحث العلمي في هذا المجال.
هب أنك تقدم لقطاع البحث العلمي عينات من الحالات المرضية تمثل فئات تشخيصية معينة، اجتزئت وفقا لهذا التوجه الذهني الماهوي، وطلبت منه أن يستكشف لك تلك الماهية القابعة وراء الأعراض: الخلل الجيني على سبيل المثال. إنك لا تجني من الشوك عنبا، ولا من الوهم واقعا؛ لذا تسفر الأبحاث الجينية لعيناتك عن «خلل جيني غير محدد
non-specific ». وكذلك الحال في بقية ضروب السببيات.
لقد طالما سلم القائمون على الطب النفسي وعلم النفس بأن هدف أي نسق نوزولوجي (متعلق بتقسيم الأمراض) هو «تقطيع الطبيعة من مفاصلها». يتضمن ذلك أن ثمة مفصلا وأن المرء لا ينشر في العظم. ولكن إذا لم يكن ثمة حدود طبيعية بين الزملات النوزولوجية، فمن يدرينا - حقا - أننا لا ننشر في العظم؟
إن من الخطأ أن نفهم الزملات الطبنفسية على أنها فئات تصنيفية محددة بحدود ولها شروط داخلية ضرورية وكافية لتشخيصها؛ فهذه طريقة غير صائبة في النظر إلى أي شيء؛ لأنها تصادر بأننا ننظر إليه كما بعين إله، وبأن هناك وصفا دقيقا واحدا لما يكونه هذا الشيء في الواقع، بمعزل عن الطريقة التي نتصوره بها. وعلى الأطباء النفسيين أن يكفوا عن مثل هذه النظرة، سواء تبنوا النموذج الطبي أو النموذج السيكومتري (الخاص بالقياس النفسي). إنما تتخذ الاضطرابات الطبنفسية متصلا
continuum
من «الأنواع العملية»، وأفضل طريقة لتصورها هي الطريقة البراجماتية. (9) الوجودية
الوجودية نقيض الماهوية وضدها المميز. ***
لقد كانت الفلسفات الكبرى في التاريخ فلسفة ماهيات ، تقول بأن للإنسان طبيعة سابقة على وجوده تطبعه بطابعها وتقولبه بقالبها، شأنه في ذلك شأن غيره من الكائنات: إن فكرة التمثال في خيال المثال تسبق عملية نحت التمثال، وتصميم المبنى في مخطط المهندس يسبق بناءه، وطبيعة الشجرة تسبق «وجودها بالفعل»
actual being
وتكمن في بذرتها الصغيرة وتوجد فيها «وجودا بالقوة»
potential being ، والإنسان الفرد ما هو إلا نسخة جزئية لنموذج سابق هو الطبيعة الإنسانية العمومية. الماهية إذن - وفقا لهذه الفلسفات - سابقة على الوجود (على تفاوت معنى السبق).
وتأتي الوجودية لتعكس الآية وتقول: بل الوجود هو السابق على الماهية. إنما يوجد الإنسان أولا غير محدد بصفة، ثم يجبل هويته بنفسه، ويبتكر أسلوبه في الوجود، ويختار ما يريد أن يكونه. إن عليه أن يحمل عبء حريته، شاء ذلك أم أبى؛ فهو «موجود لذاته»
pour soi ، موجود حر واع بذاته، وليس «موجودا في ذاته»
en soi
وجود العجماوات والجمادات الغارقة في سبات الضرورة وسكينتها. إنه مشروع يظل قيد التحقق على الدوام ولا يكتمل إلا بالموت.
يطبق الشعور بالحرية على الإنسان فيغمره بالقلق، ويبهظه بالمسئولية (القلق دوار الحرية). فينزغ له ما يسميه سارتر
mauvais foi ، وهو لون من خداع النفس يزين له العبودية والاستسلام، والتخلص من عبء الحرية باعتباره مسيرا غير مخير، وضحية قوى بيولوجية وتاريخية واجتماعية حتمية قاهرة ليس له بها يد، وكأنه مجرد «شيء» من الأشياء أو «موضوع» من الموضوعات.
لا جدوى رغم ذلك من محاولة الهروب من الحرية؛ فالإنسان «محكوم عليه بالحرية»، يمارسها بواسطة اختيارات عليه أن يجترحها كل لحظة؛ فالاختيار محتوم، وحتى عدم الاختيار هو نوع من الاختيار أو هو اختيار مقنع.
كادت الحرية عند سارتر أن تكون ماهية الإنسان، وكاد سارتر من ثم أن يكون ماهويا.
لا فكاك من الحرية ... لقد قذف بالإنسان قذفا في هذا العالم ورمي بحريته.
الحرية هي «الأمانة» التي قدر على الإنسان أن يحملها، فإذا هو كائن مخير مريد تقف القوانين السببية عنده مستأذنة، وتتحدد مصائره بيقين الحتمية مضروبا في «لا يقين» الحرية. إنه المخلوق الخالق الذي يوجد خارج واقعه وخارج ماهيته. إنه الكائن الذي يدخل «الوعي» في نسيج العالم، ويجلب «القيمة» إلى باحة الخليقة، ويسبغ «المعنى» على صمت الكون، ويفرز «عدما» من حوله في قلب الوجود الشيئي المكتمل. إنه الدودة في التفاحة ... أرق في سبات الضرورة، صدع بين «الأشياء»، مملكة داخل المملكة. (10) ابن نفسه!
من الناس من يترك غيره يعبث بعمره ويجبله على هواه،
ويسكه طبعة من قالب مسبق،
طبعة تحمل بلادة القالب وصفاقة الحجر،
وجوده تكرار ... عدم مكثف،
الكون يرمقه بسأم وملال:
حياته نسخة مكرورة، ما أبشعها وإن حسنت! ... ... ... ... ...
ومن الناس من يأبى إلا أن يجعل من عمره تجربة كبرى،
ابن نفسه يغمدها في كل أفق جديد وطريق بكر،
الكون يرمقه بغبطة واختلاج ودهش وتشوف:
حياته قطعة من خلقه، ما أجملها وإن ساءت!
عادل مصطفى
الكويت في 28 / 12 / 2015م
الفصل الأول
وهم الثوابت أو «النزعة الماهية»
مدخل عام
ثمة خطأ نقع فيه جميعا مرارا وتكرارا، وسنظل نرتكبه حتى لو أدركنا أننا نفعل ذلك.
ذلك أنه خطأ معرفي مفيد يتبطن الإدراك في معظمه، وأنه خطأ ضروري لنا ضرورة الماء والهواء. ونحن إذا كنا نعمد هنا إلى تسميته وتشريحه، فلكي نكتسب استبصارا بحدود إدراكنا البشري وبكيفية عمله. إنه خطأ محتوم لأنه مبيت في صميم جهازنا الإدراكي نفسه.
يطلق على هذا الخطأ اسم «نزعة الماهية» أو «مذهب الماهية» أو «الماهوية»
essentialism ، وهو الرأي القائل بأن لكل صنف معين من الكيانات (الكائنات)
entities
مجموعة من الخواص لا بد لكل فرد من أفراد هذا الصنف أن يمتلكها كيما يندرج تحت هذا الصنف (لكي يكون ذلك الصنف من الأشياء). يطلق على هذه الخواص اسم «الخواص الجوهرية أو الماهوية»
essential properties
كمقابل لل «الخواص العرضية»
accidental properties
التي قد يتصف بها الشيء أو لا يتصف ولكنها غير داخلة في ماهيته ولا هو محتم عليه أن يتصف بها لكي يندرج تحت هذا الصنف الذي يندرج تحته.
1
إن جرثومة الماهوية قابعة في بيولوجية الإدراك نفسه. ويبدو أن الكائن الإنساني محكوم عليه بنزعة الماهية، ومقدر عليه أن يقارب الفهم الكامل للواقع دون أن يصل إليه أبدا. ثمة استثناءات لهذا الوضع، كالرياضيات مثلا، سنعرض لها وشيكا. وعلى المفكر الحصيف أن يعي جيدا كل هذا، وأن يعي هل هو بإزاء القاعدة (استحالة الوصول إلى الفهم الكامل للواقع) أم بإزاء الاستثناء. وإن غياب هذا الوعي لمن أهم الأسباب التي تجعل العقل المحض عرضة لأن يجر استنتاجاتنا في اتجاهات عشوائية وخاطئة تماما.
تتعامل أدمغتنا مع رموز
symbols . يتناول الدماغ تمثيلات الواقع ويستخدم هذه التناولات الافتراضية (الخائلية) لكي يقود سلوكنا. وقد ضرب باول بلوم لذلك المثال التالي: حين أشعر بالعطش فإنني آخذ كوبا وأملؤه من الصنبور؛ ذلك أنني أعرف لأي غرض جعلت الأكواب والصنابير. يتطلب هذا تفكيرا رمزيا، حيث «كوب» و«صنبور» رمزان يمكن لدماغي تناولهما، ويجيء كل منهما مرتبطا بالمعلومات الخاصة بما يعرفه؛ فالكوب هو أداة تجعل الشرب أيسر، والصنبور هو جهاز لجلب الماء ... إلخ. هذا الوصف نظري بالتأكيد؛ غير أن هناك العديد من العلماء الثقات الذين يأخذون بهذا الرأي، منهم جاري ماركوس في مقاله الهام «كيف يعمل الدماغ؟ استبصارات من البيولوجيا».
2
ثمة طريقة لوصف فكرة الرموز تأتينا من المنطق/الرياضيات في شكل «فئات التكافؤ»
equivalence classes . فئات التكافؤ هي عناوين/بطاقات يمكن استخدامها كأوصاف اختزالية لمجموعة معطاة من الصفات (الكوب - مثلا - هو كوب إذا كان من الممكن استخدامه لتيسير الشرب بالطريقة الفلانية). فئات التكافؤ أدوات معرفية قوية للغاية؛ لأنها تسمح باطراح كل التفاصيل التافهة وحصر الانتباه فيما هو ذو صلة. فئات التكافؤ إذن هي لبنات البناء لجميع النماذج. والنماذج
models
بمختلف ضروبها أمر ضروري لللإدراك والتفكير والتواصل. (1) مغالطة نزعة الماهية
المشكلة هي أن فئات التكافؤ جد مسعفة (ولا يمكن تفاديها؛ إذ إن كل ما يسع المرء أن يعمله هو أن يتناول رموزا لا أن يتناول الأشياء الحقيقية)، بحيث إنها ما إن تطبق على شيء من الأشياء حتى يكون من السهل أن ننسى أن الرمز ليس هو الشيء الحقيقي (الواقعي).
العقل يتعامل مع رموز وليس مع الأشياء؛ ومن ثم فإن الواقع - بمعنى ما وإلى حد ما - غير قابل للمعرفة! نحن ننسى أن نتعامل مع «فئات تكافؤ»؛ ومن ثم نبيع الدقة في مقابل السهولة ... في مقابل التبسيطات المفيدة.
يستخدم العلماء فئات التكافؤ لكي يشيدوا نماذج مفيدة؛ غير أنهم عندئذ ينجرفون بعيدا، ويشرعون مثلا في الظن بأن النمور تتسم ب «نمرية» ما مطلقة وموضوعية، بينما «النمرية» لا وجود لها في الحقيقة، ولا تعدو أن تكون النتاج المباشر للطريقة التي تعمل بها أدمغتنا.
والفلاسفة بدورهم يقعون في نفس الخطأ، بل قد يفعلون ذلك متبعين أفلاطون بطريقة صريحة ومنظمة. إنما يتوجب علينا بدلا من ذلك أن نكون - ونحن ننخرط في عملية فهم الواقع - على دراية بأن «فهم الواقع» هو عملية البحث عن تبسيطات مفيدة (ثم استغلالها فيما بعد). فنحن بالتأكيد لسنا بصدد البحث عما هو أكثر واقعية من أشياء الواقع (كما يشير أفلاطون).
إن الانخداع بمغالطة الماهوية يفضي إلى كل ضروب الخطأ. وبعض هذه الأخطاء قد يفسر لنا أفظع ويلات التاريخ البشري. (2) الذهن المتقطع
يطلق ريتشارد دوكنز على نزعة الماهية «استبداد الذهن المتقطع»
tyranny of discontinuous mind ، ويردها إلى أفلاطون ورؤيته المعينة للأشياء التي هي رؤية مهندس إغريقي؛ فالدائرة المرسومة على الرمل هي تقريب للدائرة الأفلاطونية المثالية المعلقة في مكان تجريدي ما. مثل هذا يجوز بالنسبة للأشكال الهندسية كالدوائر؛ غير أن الماهوية قد طبقت على الأشياء الحية. ولعل هذا هو ما أفضى إلى التأخر الشديد في اكتشاف التطور فلم تدركه البشرية إلا في القرن التاسع عشر. فإذا كنت تنظر إلى الأرانب الحقيقية ذات اللحم والدم على أنها تقريبات غير تامة لأرنب أفلاطوني مثالي، فلن يخطر لك أن الأرانب قد تكون تطورات من سلف غير أرانب، وأنها قد تتطور إلى خلف غير أرنب. إذا كنت تفكر متبعا التعريف المعجمي للماهوية أن «ماهية»
essence
الأرنب «سابقة» على وجود الأرانب (أيا ما كان معنى «السبق» هنا) فلن يكون لفكرة التطور أن تقفز طوعا إلى ذهنك، وستقاومها إذا أوحى بها أحد إليك.
سيختلف علماء الحفريات فيما بينهم أشد الاختلاف حول ما إذا كانت حفرية معينة هي مثلا: «أسترالوبيثيكوس»
Australopithecus
أم «هومو»
Homo ؛ غير أن أي عالم تطور يعرف أن ثمة بالتأكيد أفرادا كانوا بين الاثنين تماما. إنه لمن الحماقة الماهوية أن تصر على ضرورة حشر حفريتك داخل أحد الأنواع أو الآخر. لم توجد قط أم أسترالوبيثيكوس أنجبت طفلا هومو؛ لأنه ما من طفل ولد إلا وينتمي إلى نفس النوع الذي تنتمي إليه أمه. إن المنظومة بأسرها - منظومة تسمية الأنواع بأسماء متقطعة غير متصلة - هي منظومة مكيفة لشريحة زمنية هي الحاضر، حيث تفرض المواءمة حذف أجداد لنا من مجال درايتنا. إنه ليكون من المستحيل تبني التسمية المتقطعة لو أن كل جد - بفعل معجزة ما - ظل قائما كحفرية محتفظ بها. وما «الفجوات» التي يولع أعداء التطور ولوعا مضللا بالدفع بها لإحراج التطوريين إلا نعمة تصادفية للمصنفين الذين يريدون بحق أن يعطوا الأنواع أسماء منفصلة منمازة.
3
وإن الخلاف حول ما إذا كانت حفرية معينة هي حقا لأسترالوبيثيكوس أم لهومو هي أشبه بالخلاف حول ما إذا كان جورج يجب أن يسمى «طويلا» أم لا. إن طوله خمسة أقدام وعشر بوصات؛ أليس ينبئك هذا بما تحتاج إلى معرفته؟
وتشرئب الماهوية برأسها القبيح في المصطلح العرقي. إن معظم «الأفريقيين الأمريكيين» عرق مختلط. إلا أن رسوخ التوجه الذهني الماهوي يلزم كل واحد منا أن يؤشر في النماذج الرسمية الأمريكية بعلامة في أحد مربعات العرق، فإما هذا وإما ذاك وإما ذلك ... ولا مكان للبينيات. وثمة نقطة أخرى ولكنها أيضا خبيثة: هي أن الشخص سوف يدعى «أفريقيا أمريكيا» حتى لو كان واحد فقط من جدوده الأعلين ينحدر من أصل أفريقي. إنني أريد فحسب أن ألفت الانتباه إلى تصميم مجتمعنا، تصميما ماهويا، على أن يخضع كل شخص لفئة منفصلة أو أخرى. يبدو أننا غير مؤهلين ذهنيا للتعامل مع طيف متصل من البينيات. يبدو أننا لا نزال موبوئين بماهوية أفلاطون.
ونفس الوباء قد طال المجادلات الأخلاقية حول الإجهاض والقتل الرحيم
euthanasia ؛ فعند أية نقطة يعد «ميتا» ذلك المصاب بحادث أدى إلى موت دماغه؟ وعند أية لحظة أثناء النمو يصبح الجنين «شخصا»؟ إن الجنين لينمو تدريجيا من زيجوت وحيد الخلية إلى طفل حديث الولادة، وليس ثمة نقطة بعينها إذا بلغها يعد «شخصا». ينقسم العالم إلى أولئك الذين يعون هذه الحقيقة وأولئك الذين يتذمرون منها. قد يقول قائل: «ولكن لا بد أن تكون ثمة لحظة ما يصبح الجنين عندها شخصا.» والجواب: كلا. لا وجود في الحقيقة لمثل هذه اللحظة، مثلما أنه لا وجود ليوم بعينه يصبح فيه الشخص الكهل شيخا. ولعل من الأفضل (وإن لم يكن مثاليا بعد) أن تقول: إن الجنين يمر بمراحل كونه ربع إنسان، نصف إنسان، ثلاثة أرباع إنسان ... يجفل الذهن الماهوي من مثل هذه اللغة ويتهمني بكل ضروب الفظائع لإنكاري «ماهية» البشرية.
والتطور أيضا تدريجي شأنه شأن نمو الجنين. فكل فرد من أسلافنا، رجعا إلى الجذر العام الذي نشترك فيه مع الشمبانزي، وما وراءه، ينتمي إلى نفس النوع الذي ينتمي إليه أبواه وأطفاله. وكذلك الشأن بالنسبة لأسلاف أحد الشمبانزي، رجعا إلى نفس الحد الأعلى المشترك. نحن نتصل بالشمبانزيات الحديثة بواسطة سلسلة على شكل
V
من الأفراد الذين عاشوا يوما ما وتنفسوا وتكاثروا، كل وصلة في السلسلة هي عضو في نفس النوع الذي ينتمي له جيرانه في السلسلة، مهما حاول المصنفون أن يقسموهم عند نقاط مريحة ويقحموا عليهم عناوين متقطعة. ولو أن كل الأفراد البينية رجعا إلى تفريعات ال
V
من الجد المشترك، لو أنه تصادف لهم البقاء، لاضطر الأخلاقيون إلى التخلي عن عادتهم الماهوية في وضع «النوع» البشري على نصب مقدس منفصلا كليا عن جميع الأنواع الأخرى. ولن يعود الإجهاض أكثر اغتيالا من قتل شمبانزي، أو بنفس القياس، من قتل أي حيوان. الحق أن الجنين البشري المبكر - وهو بدون جهاز عصبي ومجرد فيما يفترض من الألم والخوف - لا يستحق حماية أخلاقية أكثر مما يستحقها خنزير بالغ من الواضح أنه مؤهل جيدا للمعاناة. إن دافعنا الملح تجاه تعريفات صلبة لكلمة «بشري» (في مطارحات الإجهاض وحقوق الحيوان)، وكلمة «حي» (في مطارحات القتل الرحيم وقرارات إنهاء الحياة) ليس لها معنى في ضوء التطور وغيره من الظواهر التدريجية.
ونحن نعرف «خط» الفقر، فأنت إما فوقه وإما تحته؛ غير أن الفقر «متصل»
continuum
فلم لا تعبر عن مدى فقرك الفعلي بالمعادلات الدولارية؟
بوسعك بالتأكيد أن تذكر العديد من الأمثلة الأخرى على «إثم أفلاطون»
the dead hand of
؛ أعني «الماهوية». إنها مشوشة علميا وخبيثة أخلاقيا ويتعين أن تحال إلى التقاعد. (3) مفارقة الكومة
sorites paradox
مفارقة الكومات هو الاسم الذي أعطي لفئة من الحجج المفارقة (تعرف أيضا ب «حجج شيئا فشيئا»
little-by-little arguments ) التي تنشأ كنتيجة لعدم التحديد الذي يكتنف الحدود التي تنطبق عندها «المحمولات»
predicates . مثال ذلك أن مفهوم الكومة يفتقر إلى حدود حادة. إن «ماصدقات»
extensions
المحمول «يكون كومة» غير محددة؛ ومن ثم فليس ثمة حبة قمح واحدة يمكن أن تصنع الفارق بين ما هو كومة وما ليس كومة. وما دامت حبة قمح واحدة لا تصنع كومة فيبدو كنتيجة أن حبتين لا تصنعان كومة، وأن ثلاث حبات بالتالي لا تصنع كومة ... إلخ. يبدو في النهاية أن ليس ثمة قدر من القمح يمكن أن يصنع كومة، ونحن بإزاء «مفارقة» إذ نصل من مقدمات ظاهرة الصدق - ومن خلال استدلال صحيح بغير خلاف - إلى نتيجة ظاهرة الكذب.
تسمى هذه الظاهرة القابعة في القلب من المفارقة ب «الغموض»
vagueness . والغموض ليس وقفا على «المحمولات»؛ فقد يوجد الغموض في عناصر سياقية غير «المحمول»؛ فالأسماء والصفات والظروف ... إلخ كلها عرضة لمفارقة الكومة بمعنى أو بآخر.
وتأتي كلمة
sorites
من اللفظ اليوناني
soros
ويعني «كومة». وكانت تشير في الأصل لا إلى مفارقة، بل إلى لغز (أحجية)
puzzle
تعرف ب «أحجية الكومة»: هل لك أن تصف حبة قمح واحدة بأنها كومة؟ لا. تصف حبتين بأنهما كومة؟ لا ... إن عليك أن تعترف بوجود كومة إن عاجلا أو آجلا؛ إذن أين تمد الخط؟
كانت هذه واحدة من سلسلة أحاجي تنسب إلى يوبوليديس الملطي المنطقي الميجاري (والبعض يقتفي أصلها إلى زينون الإيلي). تتضمن الأحاجي أيضا أحجية الكذاب: (رجل يقول إنه كاذب؛ هل ما يقوله صادق أم كاذب؟) وأحجية الأقرع: (هل تصف رجلا ذا شعرة واحدة في رأسه بأنه أقرع؟ نعم. فهل تصف رجلا ذا شعرتين بالقرع؟ نعم ... إذن عليك ألا تصف رجلا لديه عشرة آلاف شعرة في رأسه بأنه أقرع؛ إذن أين عساك تمد الخط؟
هذه الأحاجي القديمة يكثر وصفها الآن بأنها «مفارقات»
paradoxes . ورغم أن هذه الأحاجي يمكن تقديمها بطريقة غير صورية كسلسلة من الأسئلة التي تضفي عليها طبيعتها الملغزة قوة ديالكتيكية، فإن بالإمكان تقديمها كحجة صورية ذات بنية منطقية.
الصورة التالية لحجة الكومة كانت شائعة:
حبة قمح واحدة لا تصنع كومة.
إذا كانت حبة قمح واحدة لا تصنع كومة؛ إذن حبتا قمح لا تصنعان كومة.
إذا كانت حبتا قمح لا تصنعان كومة؛ إذن ثلاثة حبات لا تصنع كومة. ...
إذا كانت 9,999 حبة لا تصنع كومة؛ إذن 10,000 لا تصنع كومة/10,000 حبة قمح لا تصنع كومة.
إن فرق حبة واحدة هو - فيما يبدو - من الضآلة بحيث لا يصنع أي فارق في تطبيق المحمول. إنه فارق همل لا يصنع فارقا ظاهرا لقيم الصدق الخاصة بالمقدمات والتوالي المتعاقبة.
غير أن النتيجة ظاهرة الكذب. هكذا واجهت المفارقة الرواقيين مثلما واجهت المنطقي الكلاسيكي الحديث. كما أن مثل هذه المفارقات ليست ألغازا منعزلة، فمن الممكن التعبير بهذه الطريقة عن مفارقات كومة لا حصر لها. بإمكان المرء على سبيل المثال أن يطرح أحجية «الرجل الأقرع» بهذه الطريقة، فما دام رجل ذو شعرة واحدة في رأسه هو رجل أقرع، وإذا كان رجل ذو شعرة واحدة أقرع؛ إذن رجل ذو شعرتين هو أقرع. ومرة ثانية إذا كان رجل ذو شعرتين أقرع؛ إذن رجل ذو ثلاث هو أقرع ... وهكذا؛ إذن رجل ذو عشرة آلاف شعرة في رأسه هو أقرع؛ غير أننا نشعر بحق أن مثل هذا الرجل غزير الشعر؛ أي ليس أقرع. ويبدو حقا أن أي محمول غامض يتيح مثل هذه المفارقة: مفارقة الكومة والمحمولات الغامضة موجودة في كل حدب صوب.
ومثلما تمضي مفارقة الكومة والرجل الأقرع بالإضافة، فإن بالإمكان أيضا أن تمضي بالعكس، بالطرح. فإذا كان المرء مهيئا لأن يسلم بأن عشرة آلاف حبة رمل تصنع كومة فإن بإمكانه إذن أن يحاج بأن حبة واحدة تصنع كومة؛ حيث إن إزالة أي حبة رمل واحدة لا يمكن أن تصنع الفارق. وبالمثل إذا كان المرء مهيئا لأن يسلم بأن رجلا ذا عشرة آلاف شعرة في رأسه ليس أقرع، فلن يمكنه إذن أن يحاج بأنه ليس أقرع حتى لو كان ذا شعرة واحدة في رأسه؛ حيث إن إزالة شعرة واحدة من فروة رأسه المشعرة أصلا لا يمكن أن تصنع الفارق. هكذا كان متبينا حتى في العصر القديم أن حجج الكومة تأتي في أزواج، مستخدمة: «ليس كومة» و«كومة»؛ «أقرع» و«مشعر»؛ «فقير» و«غني»؛ «قليل» و«كثير»؛ «صغير» و«كبير»؛ «قصير» و«طويل» ... وهكذا. فلكل حجة تمضي بالإضافة هناك حجة أخرى معكوسة تمضي بالطرح.
ومن عجب أن المفارقة لم تنل - فيما يبدو - اهتماما لاحقا يذكر حتى أواخر القرن التاسع عشر، فنجد من المدرسة الهيجلية الجديدة فلاسفة ماركسيين مثل بليخانوف يذكر المفارقة كدليل على فشل المنطق «المعتاد» وعلى أفضلية «منطق التناقض». هكذا حاول بعض المنظرين الماركسيين تأسيس انتصار الديالكتيك. وفي نفس الوقت أخذ المنطق الصوري في الفلسفة الأنجلو أمريكية مرة ثانية دورا محوريا، وفي صورته الكلاسيكية برزت لفريجه ورسل مشكلات في تناول ظاهرة «الغموض». وقد أقرا بأن ظاهرة الغموض ومفارقة الكومة المرتبطة بها هما أشياء خارج مجال المنطق؛ ومن ثم لا يشكلان تحديا له. ومنذ زوال مذهبي اللغة المثالية عند رسل وفريجه في النصف الثاني من القرن العشرين زاد الاهتمام بأوهام اللغة العادية (وبخاصة مفارقة الكومة) زيادة عظيمة. (4) عود إلى «الذهن المتقطع»
متى تبدأ الحياة إذن ومتى تنتهي؟ للوهلة الأولى يبدو الأمر واضحا؛ فنحن في ظروف الحياة اليومية لا نجد مشكلة في تقرير ما إذا كان شخص ما «ميتا» أم «حيا»، ولكن المشكلة هي أن «الحياة» (شأنها شأن جميع «فئات التكافؤ»
equivalence classes
التي توجد لأنها تبسيطات نافعة غاية النفع) ليست «ماهية»؛ فحدودها غائمة ضبابية لا يمكن تحديدها بدقة. هب أنني انتزعت من رأسي شعرة؛ ثمة احتمال بأن تكون هذه الشعرة محتفظة ببصيلتها، وهذه البصيلة مكونة من خلايا حية؛ ومن ثم فإن بوسعنا أن نستنتج أن البصيلة حية. ولكن هل هي كذلك حقا ؟ إن هذه الخلايا سوف تموت بالتأكيد وهي خارج جسمي ولن تكون لها فرصة ل «الحياة» بمعزل.
ودمي أيضا مليء بالخلايا الحية، ولكن من ذا الذي يعتبر قطرة من الدم شيئا حيا؟ وماذا عن الخلايا المزروعة في صحفة بتري
بالمختبر؟ هي بكل تأكيد حية، ولكن ما الفرق بالضبط بينها وبين قطرة الدم؟ لا فرق؛ فمن قال: إنه من غير الممكن بالضرورة حفظ الخلايا البيضاء - في قطرة دم - حية في صحفة بتري؟
إن الأمثلة السابقة تافهة وقد استعنت بها خصيصا خشية أن تشوش أطروحتي متضمنات أخلاقية. الفكرة الأساسية هي أننا ما إن نشرع في النظر إلى المنطقة التي تبدأ فيها الحياة وتنتهي حتى نراع لعدم وجود خطوط فاصلة محددة؛ ومن ثم لا يمكننا عزل الحياة وتعريفها بأي طريقة موضوعية. إن مفهوم «الحياة» يصبح بلا معنى عندما تطلب تعريفا موضوعيا. ولا يتحلى بالمعنى إلا إذا تقبل المرء (أو بالأحرى أغفل) استحالة التعريف الدقيق.
هكذا تجد المغالطة الماهوية أرضا خصبة لتبدي كل خبثها. يغفل معظم الناس استحالة تعريف الحياة ويمضون في استخدام المفهوم حتى حيث يكون مريبا حقا؛ أي عند بداية حدود الحياة ونهايتها. يفضي ذلك إلى أخطاء وفظائع وأباطيل، حيث باسم الحياة قد نطيل عذاب أجسام شبه ميتة (بما يكافئ تماما في بعض الحالات «إنقاذ» قطرة دم باستنباتها في صحفة بتري)، أو نقرر اعتباطيا أن زيجوتا ما هو «شخص» مسبغين على خلية فردة أهمية لا تتناسب معها، متناسين في الأغلب ذلك الشخص التام التكوين الذي يحملها.
هذه الحالات الأخيرة - كما ترى - ليست موضوعات فلسفية تافهة تليق بالأرائك الوثيرة، إنها موضوعات حقيقية تهمنا جميعا، ولكن ما زال موقفنا العام تجاهها هو أننا نقاربها بألفاظ ماهوية، حتى إذا بات واضحا للجميع أن ذلك ليس خطأ تصوريا فحسب، بل خطرا أيضا وخسرانا مبينا.
إذا كنت غير مقتنع بعد فانظر إلى العرق: نحن نشير إلى الناس على أنهم قوقازيون، سود، سمر ... إلخ، وبألف طريقة بناء على مظهرهم الخارجي. ولكن الحقيقة العلمية هي أن من غير الممكن وضع حدود واضحة للعرقية؛ فنحن جميعا «مخلطون» إلى حد ما. بل إننا لنقيم سياساتنا على هذه التصنيفات التي لا أساس لها. قد يكون هناك ما يبرر هذه التصنيفات في بعض الحالات، ولكن المشكلة هي أن معظمنا يكون سعيدا بإغفال حقيقة أن التعريفات القائمة على الإثنية هي من بين أبشع ما يمكن من التبسيطات، وينبغي أن تعامل على أنها كذلك؛ غير أن الكثير من الناس يكون سعيدا إذ يعتقد أن الأعراق شيء تحدده ماهية أو أخرى؛ الأمر الذي يديم (ولا أقول يولد) العنصرية وجميع الفظائع التي تترتب عليها.
وتنطبق نفس المخاطر على أغلب الاعتبارات الأخلاقية؛ فنحن نحكم على الناس وعلى الأحداث بناء على فئات عريضة وغير محددة موضوعيا، ونتخذ من ثم قرارات وكأن هذه الفئات فئات حقيقية. من شأن هذا أن يولد الكثير من الأخطاء المريعة والمؤذية، ونحن كالعادة لا نلحظ ذلك. ما أريد أن أقوله هو أن مغالطة الماهوية ليست فقط عادة فكرية معتمة وغير ذات صلة؛ إنها مصدر بعض من أفدح الأخطاء التي تم ارتكابها على الإطلاق. إنها شائعة في كل مكان، وتؤثر فينا جميعا بمن فينا الأساتذة والعلماء والفلاسفة، بل الأسوأ هو أنها شائعة بين رجال الدين والسياسيين والمواطنين. (5) الاستثناءات
كل ما قلناه آنفا إنما هو حجة تصورية، هي ذاتها تتناول رموزا، وهي تستحق الاستكشاف؛ لأنها - فيما نرجو - تبسيط مفيد؛ لذا فإن ثمة تنبؤا واضحا: أنها لا يمكن أن تكون حقيقة مطلقة، ولا بد أن هناك استثناءات. أبرز هذه الاستثناءات الرياضيات. ولكن بصفة عامة فإن الأفكار نفسها قد لا تكون عرضة للأخطاء الماهوية، حين يكون موضوع تفكيري مجبولا من فئات التكافؤ مباشرة، حينئذ يتناول الذهن موضوعه مباشرة ولا يتناول مجرد رموز لموضوعه. ومن الجهة النظرية: إذا كنت أفكر حول فئات تكافؤ فإنني أفكر حول النوع الوحيد من البناءات التي لها حقا ماهية. ينتج من ذلك أن المرء حين يفكر حول مفاهيم فإن بوسعه (نظريا على الأقل) أن يؤسس حقائق مطلقة. وهذا يختلف جذريا عن «البحث عن تبسيطات مفيدة». والمثال النموذجي هنا هو الرياضيات: فهي تتعامل حصرا مع مفاهيم مجردة؛ ولذا يمكنها إيجاد الكثير من الحقائق المطلقة. إن 2 + 2 تساوي 4 بلا استثناءات.
والأمر نفسه ينطبق على عملية تقييم نظريات مختلفة ومتنافسة أو منظومات من «التبسيطات المفيدة». إن بوسعي بغير شك أن أستنتج أن فكرة استواء الأرض أقل دقة من تقريب العالم على أنه كروي. إن كلتا الفكرتين خطأ، ولكن الأخيرة أقل خطأ. والشيء نفسه ينطبق على نظرية الخلق ونظرية التطور؛ فلا شك أن نظرية التطور تقريب للعالم أفضل من نظرية الخلق. وبوسعي في كلتا الحالتين أن أدعي أن النتيجة موضوعية؛ لأنها تتعلق بمفاهيم هي نفسها مكونة من فئات تكافؤ.
كذلك الحال بالنسبة للمصنوعات أو المنتجات - الكوب مثلا - إنه من صنع الإنسان، ونتاج تفكير تدفعه فئات التكافؤ. وهو مصنوع بشكل معين ومادة معينة؛ لأن مصممه كانت لديه بالفعل فكرة عما ينبغي أن تكون عليه الأكواب. إن جانبا على الأقل مما تكونه جميع الأكواب هو نتاج تفكير ماهوي. لقد صنع الكوب بقصد مثول نسخة من الفئة التصورية «كوب»؛ ومن ثم فإن بوسع المرء أن يقول بأن للكوب جانبا ماهويا حقا.
هذا حق، ولكن فهم الأشياء الصنعية في حدود ماهياتها (المقصودة) على وجه الحصر يظل منكرا (أو غير مكترث) لفيزيقيتها الخاصة. والنتيجة النهائية هي أننا بإزاء حافة غائمة أخرى: إن للأشياء المصممة (إلى حد ما وإلى حد متفاوت) ماهية، وهي من ثم أقل تعرضا لمغالطة الماهوية؛ غير أنها تبقى بناءات فيزيقية، ولها بما هي كذلك بعض الصفات أيضا التي لا يمكن وصفها تماما في حدود ماهوية. وكلما ازداد الجانب التصوري للشيء (مثال ذلك العتاد الرخو
software
بل والكتب والرواية أيضا) كان أكثر قابلية للتحليل الماهوي.
وصفوة القول: إنه ينبغي على جميع الجهود الفكرية أن تكون على وعي جيد بالمغالطة الماهوية، وأن تكيف مناهجها ودعاويها وفقا لدرجة انطباق هذه المغالطة على مجالها الخاص؛ ذلك أن إغفالنا لذلك قد يؤدي إلى أخطاء كارثية، وبعض هذه الأخطاء قد أفضى بالفعل إلى أفظع مشاهد التاريخ البشري. (6) نزعة اللامعصومية
fallibilism
يهيب بنا التفكير العلمي أن نتخذ موقفا إبستمولوجيا هو «اللاعصمة» أو «اللامعصومية»
fallibilism (استحالة العصمة من الخطأ). ينسب هذا المذهب أو هذه النزعة إلى الفيلسوف الأمريكي تشارلس بيرس
C. Pierce (1839-1914م)، وتعني أن ليس من الضروري أن تكون الاعتقادات يقينية أو مبنية على اليقين؛ فإن لنا أن نقنع أحيانا باعتقاداتنا في الظروف التي نتشوف فيها إلى دليل جديد يدفعنا إلى مراجعة رأينا؛ غير أنه قد يوافينا في أوانه. وفي الحق أن علينا - ما دام هذا هو حالنا دائما - أن نعتصم بهذه الروح ونتذرع بهذا الموقف وإلا وقعنا في الارتيابية
skepticism . وبذلك يعد هذا الموقف بمثابة «منزلة بين منزلتين»، ويفرغ له مكانا وسطا بين موقفين كلاهما معيب: الموقف الدوجماطيقي الوثوقي من جهة، والموقف الارتيابي الشكي من جهة أخرى.
4
وقد اتخذ كارل بوبر
k. Popper (1902-1994م) هذا الموقف الحصيف، وذهب إلى أننا لا يمكننا على الإطلاق أن نبرهن على أن نظرية ما هي نظرية صادقة؛ ذلك أننا لا يمكننا على الإطلاق أن «نعرف»، بمعنى أن نؤسس صدق نظرية ما بشكل نهائي لا يعود بعده أي احتمال بأن نكون مخطئين. إن من المتعذر أن نكون على يقين تام بأننا قد عثرنا على الحقيقة. إن جميع نظرياتنا هي افتراضات حدسية وتخمينات مفتوحة دوما للاختبار. ولعل بإمكاننا إذاك أن نقول إن بعض الحدوس أفضل من بعض؛ لأنها صمدت للاختبارات أكثر من غيرها.
5
قلنا إن التفكير العلمي يحملنا على أن نتخذ اللاعصمة موقفا إبستمولوجيا، فنكون متهيئين لاحتمال أن نبدل بنماذجنا الحالية نماذج أفضل وأقرب إلى الحقيقة. إن مشكلة التصنيفات الماهوية للأشياء (الأنواع الطبيعية
natural kinds ) أنها تميل بنا ميلا متحيزا إلى الاعتقاد بأننا اكتشفنا رؤية نهائية لموضوع بحثنا، كما بعين إله، وأننا قد عرفنا البنية الداخلية الثابتة للفئة التصنيفية المعنية، وعرفنا أنها حق في جميع العوالم الممكنة.
ويهيب بنا التفكير العلمي فضلا عن ذلك أن نتخذ موقفا أنطولوجيا ضد التصنيفات الماهوية، فلا نكتفي باجتناب التفكير عن العالم بلغة الماهية الثابتة (الأنواع الطبيعية)، بل أن نعي أن هذه الماهيات الثابتة لا وجود لها. لقد علمنا البحث العلمي في المائة والخمسين سنة الأخيرة أن العالم لا ينتظم ببساطة في ماهيات ثابتة (أنواع طبيعية)، وأن الأشياء ليس لها ماهيات حقيقية.
6
وبناء عليه يمكننا أن نخلص من ذلك إلى أن الماهوية هي شيء مستمد من خصوصيات السيكولوجيا البشرية.
الماهيات لا تقبع في العالم، بل في الذهن البشري الذي يدرك العالم. وقد بينت جلمان وكولي وجتفريد (1994م) أن الأطفال تتبنى التحيزات الماهوية بخصوص العالم البيولوجي منذ بلوغهم الرابعة من العمر. أطفال الرابعة أرسطيون بالسليقة يفترضون أن الكائنات الحية لديها ماهيات داخلية، وأن هذه الماهيات هي التي تجعل الكائنات ما هي وتجعلها تسلك مثلما تسلك. ويبدو أن هذا التحيز ينشأ بمعزل إلى حد ما عن التعليمات الوالدية. ويبدو أيضا أنه تحيز مكين يبدأ مبكرا جدا، ويتعمم بسهولة كبيرة بحيث لا تجدي إزاءه أي أدلة مضادة.
7
ويذهب إرنست ماير
Earnst Mayr (1988م) إلى أن التحيزات الماهوية ذات أثر ضار؛ لأنها يمكن أن تعيق التقدم العلمي. ويرى ماير من وجهة نظره أن الافتراضات الماهوية عن الأنواع تجعل صعبا على الناس أن تتقبل تفسير دارون لأصل الأنواع. ومن المحتمل من زاوية فلسفة العلم أن العلماء من كافة فروع البحث يميلون في البداية - شأن كل إنسان آخر - إلى التفكير في موضوعهم على نحو ماهوي؛ غير أنهم - إذ يكتسبون الخبرة في مجالهم المختار - يشرعون في إدراك أن العالم أعقد مما يوحي به النموذج الماهوي للحس المشترك. سل أي عالم فيزياء ما هو «العنصر»
element ؟ وسل أي عالم وراثة ما هو «الجين»
gene ؟ وسل أي عالم حيوان ما هو «النوع»
species ؟ فقد يقدمون لك جوابا ماهويا؛ لأنه الجواب الأيسر في الفهم. ولكنهم سيضيفون أيضا أن ما قالوه لتوهم هو في الحقيقة تبسيط وأن الواقع أعقد من ذلك بكثير.
ويذهب بيتر زاتشار
(2001م) إلى أن التحليل الفلسفي قد يعيننا في فهم العلاقة بين التصنيفات العلمية والتصنيفات الشعبية، أو بين المفاهيم العلمية ومفاهيم الحس المشترك. صحيح أن العلم في الرواية التقليدية مضاد للحس المشترك (مثال ذلك أن المائدة الخشبية «الصلبة» وفقا للحس المشترك هي وفقا لعالم الفيزياء فضاء فارغ تقريبا! فهذا الشيء ليس صلبا في الحقيقة وإنما «يبدو» صلبا فحسب). وصحيح أن بعض المفكرين في الفلسفة قد استخدم أمثلة من هذا القبيل ليعلن أن هناك تمييزا صارما بين المفاهيم العلمية ومفاهيم الحس المشترك؛ غير أن التعارض المؤقت بين مفاهيم علمية معينة ومفاهيم أخرى للحس المشترك لا تثبت أن ثمة تعارضا مستديما بين العلم والحس المشترك؛ ذلك أن مفاهيم الحس المشترك يمكن أن تكون مرنة بعض الشيء، وأن التفكير العلمي يميل إلى أن يندمج مع الوقت في الحس المشترك. مثال ذلك أنه ليبدو اليوم أن الاعتقاد باستواء العالم أو بدوران الشمس حول الأرض هو ضرب من الخرف، إلا أن هذا الاعتقاد كان يوما ما تصورا نموذجيا سائدا من تصورات الحس المشترك.
8
على الحس المشترك أن يدمج المفاهيم العلمية في جهازه التصوري ولا يجفل منها، وأن يتعلم شيئا فشيئا أن ينظر إلى الأشياء نظرة مختلفة. لقد بين بعض التطوريين - مثل كوزميديس وتوبي
Cosmides and Tooby (1994م) - أن معمارنا المعرفي
cognitive architecture
الطبيعي - الذي قد يتضمن التحيز الماهوي - لم يتطور لكي يحل تلك الضروب من المشكلات التي تبزغ في برامج البحث العلمي. إن من الأيسر علينا بكثير أن نتبنى النموذج التصنيفي التقليدي؛ لأنه طبيعي للغاية بالنسبة لنا. أما النموذج اللاماهوي فهو مضاد للحدس. ورغم ذلك فإن تمرسنا بالخبرة العلمية كثيرا ما يتضمن دمج القضايا المضادة للحدس في نموذجنا العامل في تخصصنا العلمي. وإن من الخير للتخصصات العلمية المختلفة أن يقوم أصحابها بإعادة تشكيل افتراضات الحس المشترك لديهم وتصور موضوعات بحثهم على نحو لا ماهوي.
9 (7) نزعة الماهية عند الأطفال
الماهيات قائمة في العقل لا في العالم، و«نزعة الماهية» تحيز عقلي دائم وشامل يؤثر على عملية التصنيف لدى الإنسان تأثيرا جسيما. إنها متجذرة في أجهزتنا التصورية، تنشأ في سن صغيرة جدا عبر سياقات ثقافية شديدة التنوع. وهي لا تعلم على نحو مباشر، ولا هي ترجع ببساطة إلى قراءة المشعرات الماثلة «هناك» في العالم. ورغم أنها تحيز معرفي (إدراكي) في المقام الأول إلا أنها تتدعم أيضا وتتشكل باللغة.
يعتقد الناس أن فئات تصنيفية معينة
categories
هي «أنواع طبيعية»
natural kinds : إنها حقيقية (غير مصطنعة من جانب البشر)، وإنها مكتشفة (لا مخترعة)، وإنها متجذرة في الطبيعة. وحين نقول: «يعتقد الناس ...» فإنما نعني اعتقادات أو افتراضات حدسية لا دخل للوعي بها؛ فهي ليست اعتقادات صريحة معلنة واعية بذاتها؛ أي ليست اعتقادات عن الاعتقادات، وليست إدراكا للإدراك
metacognition .
ويعتقد الناس أن ثمة خاصة غير منظورة - هي «الماهية»
essence - تجعل الأشياء ما هي عليه. وأن الماهية تسبب التشابهات الملاحظة التي يشارك فيها أعضاء الفئة التصنيفية المعينة.
ويعتقد الناس أن ألفاظ الحياة اليومية تعكس بنية العالم الحقيقي؛ فألفاظ مثل: كلب، شجرة، ذهب، فصام ... ترسم في اعتقادهم الأنواع الطبيعية للعالم على نحو مباشر (ليست جميع الألفاظ بالطبع تفعل ذلك، بل الألفاظ التي تشير إلى الأنواع الطبيعية، وكثير من الألفاظ الخاصة بالفئات الاجتماعية). (8) ألوان من الماهوية
تفرق سوزان جلمان
10
بين الماهوية كموقف فلسفي والماهوية كاعتقاد شعبي؛ فالأولى تتناول طبيعة العالم الموضوعي ويعنيها ما إذا كانت الماهيات قائمة في العالم أم لا (سؤال ميتافيزيقي)؛ أما الثانية فتتناول طبيعة تمثلات الناس للعالم وتجتنب إلى حد كبير السؤال الميتافيزيقي، ويمكن أن تتمثل في المنظومات الاعتقادية الدارجة (الماهوية السيكولوجية)، وفي اللغة (الماهوية الاسمية)، وفي الممارسات الثقافية (الماهوية الثقافية).
وتفرق جلمان بين الماهية التصنيفية والماهية العلية والماهية المثالية. أما الماهية التصنيفية
sortal essence
فهي مجموعة الخصائص المميزة التي يشارك فيها جميع (وفقط) أعضاء الفئة. وهي الماهية كما حصرها تمييز أرسطو بين الخواص الجوهرية (الماهوية) والخواص العرضية، حيث الخواص الجوهرية تشكل الماهية؛ مثال ذلك: أن ماهية الجدة هي خاصة كونها أم الأم (أو الأب) وليس كونها تتخذ نظارة أو أن شعرها أشيب إلى غير ذلك من الخواص العرضية.
أما الماهية العلية
causal essence
فهي الجوهر أو القوة أو الكيفية أو العملية أو العلاقة أو الكيان الذي يسبب الخواص المميزة للفئة ويجعلها تظهر وتدوم ويمنح الشيء هويته. ولعل فقرة جون لوك الشهيرة في «مقال يتعلق بالفهم الإنساني» خير تصوير للماهية العلية . يقول جون لوك: «الماهية هي الوجود نفسه بالنسبة لأي شيء من الأشياء ، الذي به يكون الشيء ما هو. وهكذا فإن التكوين الحقيقي الداخلي للأشياء، والمجهول رغم ذلك في عامة الأحوال، والذي تعتمد عليه صفاتها القابلة للكشف، يمكن أن يسمى ماهيتها.»
تستخدم الماهية العلية لتفسير الخواص الملاحظة لأعضاء الفئة. وإذا كانت الماهية التصنيفية يمكن أن تنطبق على أي كيان (الأقلام وسلال المهملات والنمور كلها فئات لها خواص معينة قد تكون «ماهوية» أي حاسمة لتحديد عضوية الفئة)، فإن الماهية العلية لا تنطبق إلا على الكيانات التي فيها خواص باطنة خفية تحدد الكيفيات الملاحظة. مثال ذلك: أن ماهية الماء قد تكون شيئا من قبيل
H
2
O
والمسئول عن شتى الخواص الملاحظة للماء. أما مجموعة الخواص (لا لون، لا طعم، لا رائحة) فهي ليست ماهية علية للماء رغم أنها تصدق على كل ما ينتمي لفئة «الماء»؛ ذلك لأن هذه الخواص الأخيرة تفتقد القوة العلية.
وأما الماهية المثالية فليس لها مثول حقيقي في العالم. مثال ذلك: أن ماهية «الخيرية» هي كيفية ما مجردة خالصة تتحقق على نحو غير مكتمل في أمثلة الأشخاص الذين يجترحون أفعالا خيرة. لا واحد من هذه الأفعال الخيرة يجسد «الخير» تجسيدا تاما، بل يعكس كل منها جانبا ما من الخير. وتمثل أسطورة كهف أفلاطون هذه الوجهة من الرأي. وبذلك تقف الماهية المثالية في مقابل كل من الماهية التصنيفية والعلية المتعلقتين بكيانات العالم الحقيقي وصفاتها.
من التأويلات الماهوية ما هو محدد ويمكن أن نجده في مفاهيم متباينة مثل «الروح» و«الدنا
DNA »؛ غير أن الماهوية قد تكون استقرابية وضمنية: أي الاعتقاد بأن فئة ما لديها صميم أو لب دون معرفة ماذا يكون ذلك الصميم أو اللب. يطلق على مثل هذا اللب الذي تحل فيه الماهية دون أن نعرفه بالتحديد «محل الماهية»
essence placeholder .
11
مثال ذلك: أن الطفل قد يعتقد - حتى قبل أن يتعلم أي شيء عن الكروموزومات أو الفيزيولوجيا البشرية - أن البنات لديها كيفية ما خفية داخلية تميزها عن الأولاد وتسبب الفروق الكثيرة الملاحظة في المظهر والسلوك بين الأولاد والبنات. وإذا كان أولئك الذين أوتوا العلم قد تستوي لديهم اعتقادات مفصلة تماما عن ماهية ما (مثل أن ماهية الذهب هي أن له العدد الذري 79)، فإن مثل هذه التصورات نادرة في تفكير الحياة اليومية، وما نراه بعامة هو أن الناس تضمر اعتقادا حدسيا بأن ماهية ما موجودة حتى وإن عز عليهم كشف تفاصيلها. من مترتبات ذلك أن الماهية لا يمكن أن تكون جزءا من الصميم السيمانتي (الدلالي) للفظة، ولا يمكن أن تحدد ماصدقات
extensions
اللفظة؛ غير أن لها متضمنات لاعتقادات الناس من حيث عمق وثبات مفهوم من المفاهيم.
الماهوية الكلية والماهوية الجزئية: دأب الفلاسفة على أن يتناولوا «نزعة الماهية» كما لو كانت مذهبا كليا؛ أي كما لو أنها فلسفة موحدة تتبناها العلوم جميعا أو ترفضها العلوم جميعا. اتخذ كارل بوبر - على سبيل المثال - رأيا كليا في الماهوية؛ فهو يراها عائقا كبيرا للعقلانية العلمية
12
وكذلك فعل كواين، فتمنى - لأسباب سيمانتية (دلالية) وإبستمولوجية - لو ينفي الماهوية من الخطاب العلمي كله.
13
أما بنتام
14
وكريبك
15
فقد أيدا مذاهب ماهوية، وذهبا إلى أن على كل علم أن يدرس الخواص الماهوية للأنواع الطبيعية التي تشكله. وفي مقابل هذه النظرات الكلية ثمة من يرفض الماهوية في مجال بعينه، وهو ما يمكن أن نطلق عليه «اللاماهوية الجزئية أو الموضعية»
local anti-essentialism . من أمثلة ذلك: رفض ماير للماهوية في مجال البيولوجيا. يذهب ماير
16
إلى أن فرضية داروين عن التطور بالانتخاب الطبيعي لم تكن مجرد نظرية جديدة، إنما هي نوع جديد من النظرية، نظرية أطاحت بالطرائق الماهوية في التفكير البيولوجي واستبدلت بها ما أسماه ماير «التفكير السكاني (المجتمعي)»
population thinking . •••
لدراسة النزعة الماهوية لدى الأطفال أهمية كبرى لأسباب عديدة، أولها أنها شاملة بدرجة لافتة؛ فهي شاملة عبر الزمن (تناولها المفكرون عبر ما لا يقل عن ألفي عام)، وعبر تعاليم فلسفية مختلفة فيما بينها اختلافا جذريا (اعتنقها - على سبيل المثال - مفكران متباينان تباين أفلاطون وجون لوك)، وربما عبر الثقافات. من المهم إذن أن نكشف سر هذه المجموعة من الافتراضات الراسخة، وأن نفحص منشأها ومتضمناتها الحسنة والسيئة للفكر البشري.
والسبب الثاني أنها تكشف لنا قدرات لدى الأطفال لم نكن نتوقعها في السابق. لقد كانت الفكرة الواسعة الانتشار هي أن مفاهيم الأطفال محدودة داخل الصفات العيانية والحسية والواضحة، فإذا بدراسة الماهوية في الأطفال تكشف أنهم يدمجون ضروبا شتى من الملامح الخفية داخل تصوراتهم تتضمن الأجزاء الداخلية والوظائف والعلل والتمييزات الأنطولوجية. من شأن ذلك أن يلهمنا تحولا في نظراتنا الخاصة بنمو المعرفة، فإذا كانت البناءات غير الملاحظة قائمة منذ البداية، فلا يمكن إذن أن تكون الملامح السطحية الملاحظة هي الأكثر امتيازا أو بساطة أو أساسية. تلك هي «المتضمنات الحسنة» للماهوية بالنسبة للتفكير البشري.
السبب الثالث أن الماهوية - فيما يبدو - تعزز «التنميط»
stereotyping
وتتبطنه. وتلك هي «المتضمنات السيئة» للماهوية في التفكير البشري. لنقل صراحة: إن التنميط يستعير الإطار اللغوي والتصوري للماهوية. فتعامل الجماعات البشرية المختلفة على أنها منمازة (متمايزة) على نحو خفي عميق، ويفترض في الفروق بين الجماعات الاجتماعية أنها محتومة وثابتة ومتأصلة جبليا. وبقدر ما يتقبل الناس هذه الطريقة في التفكير سيكون لهم أساس للتعامل مع الفروق الجماعية الاجتماعية على أنها محورية لهوية فرد من الأفراد، ولجلب استنتاجات عن الفرد قائمة على الجماعة التي ينتسب إليها الفرد، ولإلصاق دوافع وتفسيرات مختلفة بأولئك الذين ينتمون لجماعات اجتماعية مغايرة لجماعتنا. إن الشخص الذي يمارس التنميط يعامل الجماعات الاجتماعية على أنها «أنواع طبيعية»
natural kinds .
وسبب آخر من الأهمية بمكان، وهو أن لدراسة الماهوية متضمنات تعليمية واجتماعية؛ فقد أشار بعض الباحثين إلى أن الافتراضات الماهوية تعيق محاولات تدريس نظرية التطور. وبصفة أعم يمكننا أن نقول: إن الكثير من معرفتنا عن العالم إنما نتوصل إليه بواسطة الاستدلالات وليس بالتدريس المباشر؛ ومن ثم فإن أي وصف مكتمل لعملية اكتساب المعرفة ينبغي أن ينظر بعين الاعتبار إلى الشروط التي تعزز وتشجع التفكير الاستدلالي لدى الأطفال. إن الافتراض الماهوي عن الفئات التصنيفية، واللغة الماهوية عن الفئات يؤثران تأثيرا بليغا في استدلالات الأطفال.
ثمة من يفسر تفشي الماهوية بأنها ظاهرة عرضية تاريخيا؛ فهي نتاج الفكر الغربي الحديث والتقاليد الثقافية والسياسية والتكنولوجيا؛ فنحن ماهويون في هذه الحقبة من التاريخ؛ إذ صار بوسعنا أن نطلع على العلوم ونلم بكيانات غير منظورة مثل الدنا والجزيئات؛ غير أن عزو نزعة الماهية للعرض التاريخي لا يتسنى له أن يفسر لماذا يماهي الأطفال قبل سن المدرسة!
وثمة من يرى أن الماهوية نتيجة مبيتة ومستأصلة في فعل التسمية؛ فنحن إذ نعطي أشياء محددة نفس الاسم إنما نقرر ضمنا وجود شيء تحتي ثابت تتشارك فيه هذه الأشياء؛ فالماهوية إذن نتيجة منطقية لاستخدام اللغة. ولكن إذا صح أن الماهوية هي نتاج استخدام الأسماء، فلماذا نحن نماهي في بعض المجالات أكثر مما نفعل في غيرها؛ لماذا تكون الماهوية «محددة المجال»
domain-specific ؟
وعلى خلاف ذلك تذهب سوزان جلمان إلى أن الماهوية عادة عمومية (عالمية) للعقل تشمل الناس جميعا؛ فالناس ماهويون بمعزل عن تفضل العلم وعن جمهورية أفلاطون، والناس ماهويون بمعزل عن اللغة واستخدامها. وتقول جلمان: إن رأيها أقرب إلى موقف التكيف التطوري الذي يقول بأن البشر قد طوروا نزوعا ماهويا عموميا؛ لأنه ذو فائدة في تفاعلاتهم مع العالم. يستمد هذا الموقف جاذبيته من قدرته على تفسير توارد الماهوية عبر الثقافات وعبر الأحقاب وعبر أعمار النمو. (9) دور اللغة في نزعة الماهية
من الأسباب التي تبث في النفس شيئا من نزعة الماهية أن ثمة كلمات معينة تعتمد معانيها - فيما يبدو - على شيء ما غير الخواص السطحية المعروفة. ويحاج كريبك وبنتام بأن معاني أسماء الأعلام «كريبك» وأسماء الأنواع الطبيعية «بنتام» لا تتأسس على قائمة من الخواص المعروفة بل بالأحرى على خواص «أعمق»؛ ما يمكن أن نسميه «خواص محملة بالنظرية»
theory-laden properties
متضمنة تلك الخواص التي قد لا تكون معروفة بعد. مثال ذلك أن الاسم «علي شوقي» لا يعرف بمجموعة من العلامات من قبيل «يرتدي نظارة طبية، يعمل ضابطا بالمطار، أقرب صديقين له يسميان رفعت ويوسف ...» ذلك أن علي شوقي إذا كان قد توفي عند ولادته لما كان له أي وصف من هذه الأوصاف؛ ومن ثم فهي لا يمكن أن تكون محددة لكونه علي شوقي. أما الملمح الوحيد الذي يبدو أنه متصل «بالضرورة» باسم «علي شوقي» فهو أنه ولد لأبوين معينين. يقول كريبك: إن أسماء الأعلام تشير ولكنها لا تصف. وأي وصف مرتبط باسم من الأسماء إنما يساعدنا فحسب في اختيار المرجع
referent (المشار إليه)، ولكنه لا يعرف المرجع.
وقد نقل كريبك وبنتام بخاصة هذا التحليل لأسماء الأعلام إلى ألفاظ النوع الطبيعي. وهما يحاجان بأنه بالرغم من أن مجموعة من الملامح المعروفة قد تستخدم لتعريف أعضاء فئة نوع طبيعي ما، فإن الملامح لا تعمل كمعايير ضرورية وكافية. مثال ذلك: أن الحيتان لها شكل شبيه بالأسماك، وتعيش وتسبح في الماء كما تفعل الأسماك، ولكنها ليست أسماكا. وبالمثل يقدم بنتام مثالا، فمعظمنا لا يمكنه التفرقة بين شجر الدردار وشجر الزان، ورغم ذلك يقرر أن كلمتي: «دردار» و«زان» مختلفتان في المعنى. يبدو أننا نفترض أن أشجار الدردار وأشجار الزان نوعان مختلفان من الأشياء؛ أي نفترض أن الفروق قائمة هناك في العالم بانتظار اكتشافنا لها، وأن بإمكان الخبراء أن يخبرونا أيها هذا وأيها ذاك (مشيرة أن التمييز واقعي). بذلك يحاج بنتام بقوة ضرورة التقسيم الاجتماعي-اللغوي للعمل، الذي وفقا له لا يلزم الناطق العادي أن يعرف كيف يميز ما إذا كان شيء ما هو «شجرة دردار» مثلا، ولكن الخبراء في المجتمع لديهم القدرة على هذا التمييز. وكما يؤثر عن بنتام فإن «المعاني ليست في الرأس». صحيح أن المعاني قد لا تكون في الرأس، لكن الأسس التصورية لمثل هذه المنظومة تتضمن نوعا من الماهوية «في الرأس».
تبين هذه المراجعة الموجزة أن اللغة تعمل وفقا لافتراضات ماهوية معينة؛ غير أنها تترك السؤال مفتوحا عما إذا كانت اللغة بما هي كذلك تسهم في التفكير الماهوي؛ فقد يكون الأمر غير ذلك ويكون التفكير الماهوي هو الذي يسهم في كيف تستخدم الألفاظ.
ثمة نظريات في دور اللغة في الفكر؛ وهي نظريات شديدة التفاوت، بدءا من تلك التي تدعي أن اللغة هي العدسة التي ننظم من خلالها الواقع، وأن اللغات المختلفة تفضي بأصحابها إلى تبين رؤى مختلفة للعالم
worldviews (فرضية سابير/ورف)، وانتهاء بتلك التي تدعي أن اللغة ليس لها أي تأثير جوهري في الإدراك البشري (اللهم إلا بعض التأثيرات الشديدة الفرعية مثل تسجيل بعض مكونات الذاكرة في صيغة لفظية). وبعد سنوات طويلة من رفض تأثير اللغة على الفكر عادت الدراسات الأحدث لتحيي الاهتمام بتأثير اللغة في الفكر وبخاصة من منظور نمائي، وتومئ إلى تأثيرات مهمة للغة في هذا الشأن.
تتخذ سوزان جلمان موقفا وسطا بين هذين الطرفين، وتذهب إلى أن اللغة بحد ذاتها لا تحملنا على أن نماهي، وإلى أن اللغات المختلفة لا تماهي بدرجات مختلفة جذريا وإن كانت بينها فروق طفيفة في ذلك؛ غير أن اللغة تحدد متى تستخدم الماهوية، وثمة صيغتان لغويتان بصفة خاصة توحيان للأطفال بمنظور ماهوي إلى الفئات، وهما: الأسماء العامة
common nouns
والتعبيرات الاسمية التعميمية
generic noun phrases .
الفصل الثاني
نزعة الماهية في البيولوجيا
إثم أفلاطون
The Dead Hand of Plato
ذهب أفلاطون إلى أن «الواقع» الذي نحسب أننا نراه لا يعدو أن يكون ظلالا تلقيها على جدار كهفنا نيران مخيم خارجي (كان أفلاطون - شأنه شأن غيره من المفكرين الإغريق الكلاسيكيين - مهندسا في حقيقة الأمر)، فكل مثلث مرسوم في الرمل إن هو إلا ظل غير دقيق للماهية الحقيقية للمثل؛ ذلك أن خطوط المثلث الماهوي هي خطوط إقليدية لها طول وليس لها عرض، تعرف بأنها خطوط لا متناهية الضيق لا تلتقي أبدا إذا كانت متوازية، ومجموع زوايا المثلث يساوي قائمتين لا يزيد نقيرا عن ذلك ولا يقل. وهذا شيء لا ينطبق بحال على مثلث مرسوم في الرمل، فمثلث الرمل عند أفلاطون هو مجرد ظل قلق للمثلث الماهوي المثالي.
وقد ابتليت البيولوجيا - كما يقول إرنست ماير - بصيغتها الخاصة من «الماهوية». تعامل الماهوية البيولوجية الجمال والأرانب والسلاحف كما لو كانت مثلثات أو معينات أو قطوعا مكافئة: فالأرانب التي نراها هي ظلال شاحبة للفكرة التامة للأرنب؛ الأرنب الأفلاطوني الماهوي المثالي، المعلق حيث هو في فضاء تصوري إلى جانب جميع الصور الهندسية التامة. إن الأرانب ذات اللحم والدم قد تتباين، ولكن تبايناتها هي دائما نشوز عن الماهية المثالية للأرنب.
تلك صورة لا تطورية بدرجة تدعو إلى القنوط؛ فالأفلاطوني يعتبر أي تغير في الأرانب انحرافا وزيغا عن الأرنب الماهوي، وستكون هناك مقاومة دائما للتغير؛ كما لو كانت الأرانب الحقيقية موثوقة بطول مرن غير مرئي بالأرنب الماهوي الكائن في السماء. أما النظرة التطورية فهي على تضاد جذري: إذ من الجائز أن يبتعد الأخلاف عن صورة حياة الأسلاف ابتعادا لا نهاية له، وكل ابتعاد يصبح سلفا لتنوعات مستقبلية. وليس من قبيل الصدفة أن يطلق رسل والاس
Russel Wallace ، المشارك لداروين في اكتشاف التطور بواسطة الانتخاب الطبيعي بمعزل عنه، أن يطلق على دراسته: «في ميل التنوعات إلى الابتعاد اللانهائي عن النمط الأصلي».
إذا كان ثمة «أرنب قياسي»؛ فإن هذا اللقب لا يعني إلا مركز توزع جرسي الشكل لأرانب حقيقية متنوعة تقفز وتعدو. وهذا التوزع يتبدل مع الوقت، ومع تتالي الأجيال قد تأتي بالتدريج نقطة غير محددة بوضوح، عندها سيكون معيار ما نسميه أرانب قد ابتعد كثيرا بحيث يستحق اسما آخر.
ليس ثمة «أرنبية» دائمة؛ ماهية للأرانب معلقة في السماء، بل هناك فحسب «مجتمعات/سكان»
populations
من الأفراد الطويلة الآذان المكسوة بالفراء المرتعشة الشوارب التي تبدي توزعا إحصائيا من التباين في الحجم والشكل واللون والميول. فما دأب على أن يكون نهاية أطول أذنا للتوزع القديم قد يجد نفسه مركزا لتوزع جديد فيما بعد في الزمن الجيولوجي. ومع تتابع عدد كبير بما يكفي من الأجيال، فقد لا يكون ثمة تداخل بين توزعات الخلف والسلف؛ فقد يكون الأطول آذانا بين الأسلاف أقصر من الأقصر آذانا بين الأخلاف. كل شيء في سيولة. كما قال فيلسوف يوناني آخر هو هيراقليطس: لا شيء ثابت. وبعد انقضاء مائة مليون عام قد يكون من الصعب الاعتقاد بأن الحيوانات الأخلاف كان لها أرانب بين أسلافها؛ غير أنه ما من جيل أثناء العملية التطورية إلا ويشبه الجيل السابق عليه ولا يبتعد نمطه السائد كثيرا عن النمط السائد في الجيل السابق.
هذه الطريقة في التفكير هي ما يطلق عليه أرنست ماير «التفكير المجتمعي/السكاني »
population thinking . وهذا التفكير السكاني عند ماير هو نقيض الماهوية. ويرى ماير أن التأخر المزري في وصول داروين إلى مشهد (أواسط القرن 19) يعود إلى أننا جميعا - سواء تحت التأثير اليوناني أو لأي سبب آخر - كنا قد أشربنا الماهوية وأضمرناها في صميم جيناتنا العقلية.
يصف ماير الماهوية بأنها المذهب القائل بأن «هناك عددا محدودا من «الأفكار» الثابتة تتبطن التنوع الملاحظ في الطبيعة، حيث «الصورة»
eidos (الفكرة/المثال) هي وحدها الشيء الثابت والحقيقي، بينما التنوع الملاحظ ليس له واقع أكثر مما لظلال شيء ما على جدار كهف. وفي المقابل يؤكد صاحب «الفكر المجتمعي/السكاني»
population thinking
فرادة كل شيء في العالم العضوي. فجميع الكائنات العضوية والظواهر العضوية تتكون من ملامح فذة ولا يمكن وصفها في مجموعها إلا بلغة إحصائية. تشكل الأفراد - أو أي نوع من الكيانات العضوية - مجتمعات يمكن تحديد المتوسط الحسابي وإحصاء التنوع لها. لا تعدو المتوسطات أن تكون تجريدات إحصائية، وليس ثمة واقعية إلا للأفراد الذين يتكون منهم «المجتمع»
population . يخلص كل من المفكر المجتمعي والمفكر النمطي إلى نتائج نهائية متضادة تماما: فينتهي النمطي إلى أن النمط
eidos
هو الحقيقي والواقعي وأن التنوع وهم، بينما ينتهي المجمتعي إلى أن النمط (المتوسط) تجريد، وأن التنوع وحده هو الحقيقي والواقعي. ليس بوسع طريقتين في النظر إلى الطبيعة أن تكونا أشد تباينا من ذلك.
1
بالنسبة للعقل المغشى بغمامات أفلاطونية، فإن أرنبا ما هو أرنب. أما القول بأن نوع الأرانب يشكل ضربا من الغيمة المتنقلة ... سديم إحصائي من المتوسطات الإحصائية، أو أن الأرنب النموذجي في يومنا هذا قد يكون مختلفا عن الأرنب النموذجي الذي كان منذ مليون سنة، أو الأرنب النموذجي الذي سيكون بعد مليون سنة؛ فإن هذا القول هو انتهاك لتابو داخلي. والحق أن علماء السيكولوجيا الذين يدرسون نمو اللغة ينبئوننا بأن الأطفال ماهويون طبيعيون. وربما توجب عليهم أن يكونوا كذلك إذا كان لهم أن يحتفظوا بقواهم العقلية بينما تقوم عقولهم النامية بتقسيم الأشياء إلى فئات تصنيفية منمازة كل فئة منها موسومة باسم فريد. وليس من المستغرب أن تكون المهمة الأولى لآدم في قصة «التكوين»
Genesis
هي أن يعطي كل الحيوانات أسماء.
لا عجب إذن - في رأي ماير - أن تنتظر البشرية داروينها حتى أواسط القرن التاسع عشر. ولكي نجسد كم هي مضادة نظريته للماهوية فلننظر ما يلي: من وجهة نظر التفكير المجتمعي/السكاني التطوري، فإن كل حيوان موصول بكل حيوان آخر؛ الأرنب مثلا بالنمر، بسلسلة من الحيوانات الوسطى حيث كل حيوان يشبه تاليه بحيث يمكن لكل وصلة معاشرة جارتها في السلسلة وإنتاج ذرية خصبة، هذا انتهاك للتابو الماهوي ما بعده انتهاك. وهذا واقع وليس تجربة فكرية غامضة خيالية؛ فمن وجهة نظر تطورية ثمة حقا سلسلة من الحيوانات الوسطى تصل الأرنب بالنمر كل حيوان منها عاش وتنفس، وكل حيوان منها كان حقيقا أن يندرج تماما في نفس النوع الذي ينتمي إليه جاراه على جانبي المتصل الانزلاقي الطويل. فكل حيوان في السلسلة هو حقا ابن جاره الذي على جانبه ووالد جاره الذي على الجانب الآخر. ورغم ذلك فالسلسلة كلها تشكل جسرا متصلا من الأرنب إلى النمر (رغم أنه لم يوجد قط، كما سوف نرى، «أرنب- نمر»). وهناك جسور شبيهة من الأرنب إلى الحصان، ومن النمر إلى سرطان البحر، ومن كل حيوان (أو نبات) إلى كل حيوان آخر. لعلك ساءلت نفسك: لماذا تترتب هذه النتيجة المروعة بالضرورة من رؤية العالم التطورية؟ ولكن لأفصح عنها على كل حال سأطلق عليها تجربة دبوس الشعر: (البنسة) الفكرية. خذ أرنبة - أي أرنبة (لنلتزم جزافيا بالإناث على سبيل التيسير: وهو لا يؤثر على الحجة أدنى تأثير) - وضع أمها تالية لها، والآن ضع جدتها تالية لأمها، وهكذا رجعا في الزمن، رجعا خلال ملايين الأعوام، في خط يبدو لا نهاية له من إناث الأرانب، كل منها محصورة بين ابنتها وأمها. ونحن الآن نسير على خط من الأرانب رجعا في الزمن متفحصين إياها بدقة كقائد يتفقد الجند. سنلاحظ في النهاية - ونحن نخطو على هذا الخط - أن الأرانب القديمة التي نمر بها مختلفة اختلافا طفيفا عن الأرانب الحديثة التي اعتدنا عليها. على أن معدل التغير سيكون من البطء بحيث لن نلحظ الاتجاه من جيل إلى جيل، تماما مثلما لا يمكننا أن نرى حركة عقرب الساعات في ساعات يدنا، وتماما مثلما لا يمكننا أن نرى طفلا وهو يكبر (لا يمكننا إلا لاحقا أن نراه وقد أصبح مراهقا، ثم فيما بعد راشدا).
ورغم ذلك فإذا مضينا القهقرى خلال الزمن - باطراد وتدرج - سوف نصل إلى أسلاف تبتعد شيئا فشيئا عن هيئة الأرنب وتقترب شيئا فشيئا إلى هيئة الزبابة.
2
إحدى هذه المخلوقات سأسميه منحنى أو منعطف البنسة؛ لأسباب سوف تتضح. هذا الحيوان هو السلف العام الأحدث الذي تشارك فيه الأرانب النمور.
نحن لا نعرف بالضبط ماذا يشبه هذا المخلوق، ولكن يترتب من وجهة النظر التطورية أنه لا بد أن يوجد. وكان - شأن جميع الحيوانات - عضوا في نفس النوع الذي تنتمي له بناته وأمه. نحن الآن نستمر في طريقنا؛ غير أننا قد اجتزنا منعطف الدبوس ونمضي الآن قدما في الزمن متجهين صوب النمور (من بين أخلاف الدبوس العديدين والمتنوعين؛ ذلك أننا سوف نقابل تشعبات في الخط باستمرار، حيث نختار بثبات ذلك التشعب الذي سيفضي في النهاية إلى النمور) وكل حيوان شبيه بالزبابة على طول المسار المتجه أماما هو الآن متبوع بابنته. وبالتدريج وبمراحل غير مدركة سوف تتغير الحيوانات الشبيهة بالزبابة عبر حيوانات وسطى قد لا تشبه كثيرا أي حيوان حديث، ولكن يشبه كل منها الآخر بشدة، حتى نصل في النهاية - دون أن نلحظ أي تغير مفاجئ من أي نوع - إلى النمر.
ثمة عدة أشياء يجب أن تقال عن هذه التجربة الفكرية:
أولا:
أننا قد تصادف أن اخترنا الطريق من الأرنب إلى النمر، ولكن كان من الممكن أن نختار الطريق من الشيهم إلى الدولفين، أو من الكنغر إلى الزراف، أو من الإنسان إلى أسماك الحدوق. زبدة القول: أن بين أي حيوانين ثمة بالضرورة طريق بنسي؛ لسبب بسيط هو أن كل نوع يشارك كل نوع آخر في سلف ما: كل ما علينا فعله هو أن نمضي القهقرى من النوع إلى السلف المشترك ثم ننثني خلال ثنية الدبوس ونمضي قدما إلى النوع الآخر .
ثانيا:
لاحظ أننا لا نتحدث إلا عن تحديد سلسلة حيوانات تصل حيوانا حديثا بحيوان آخر حديث. نحن بالتأكيد لا نطور أرنبا إلى نمر، بل أفترض أن بوسعك القول بأننا «ندهور» رجعا إلى منحنى الدبوس ثم «نطور» قدما إلى النمر من هناك. علينا للأسف أن نعيد مرارا وتكرارا أن الأنواع الحديثة لا تتطور إلى أنواع حديثة، بل تتشارك السلف فحسب؛ فهي أبناء عم. هذا هو جواب الشكوى الشائعة على نحو مزعج: «إذا كان البشر متطورين من الشمبانزي فكيف يتأتى أن تكون ثمة شمبانزيات بين ظهرانينا؟»
ثالثا:
في طريقنا القادم من حيوان منعطف الدبوس نحن نختار اعتسافيا الطريق المؤدي إلى النمر. هذا طريق حقيقي في تاريخ التطور، ولكن مرة ثانية نحن نختار أن نغفل نقاط تفرع كثيرة حيث كان بوسعنا أن نتبع التطور إلى نقاط وصول أخرى لا حصر لها؛ ذلك أن حيوان المنعطف هو السلف الأكبر لا للأرانب والنمور فحسب بل لقسم كبير من الثدييات الحديثة.
رابعا:
رغم أن الفروق بين نهايتي الدبوس (الأرنب والنمر مثلا) جذرية وهائلة، فكل خطوة في السلسلة التي تصل بينهما ضئيلة شديدة الضآلة. فكل فرد على طول السلسة مشابه لجاريه على الجانبين تشابه الأمهات وبناتها، وشبهه بجاريه في السلسلة أكبر من شبهه بالأعضاء النموذجيين من المجتمع المحيط به.
لقد كان الناس مشربين بنزعة الماهية بحيث تعذر عليهم تقبل نظرية التطور. لم يذكر داروين في أعماله لفظة «ماهوية»؛ فهي لم تبتكر إلا عام 1954م، ولكنه كان على إلف تام بالصيغة البيولوجية منها وهي فكرة «ثبات الأنواع»
immutability of species ، ووجه الكثير من جهده لمحاربتها تحت هذا الاسم. ولن يدرك المرء جيدا ما كان داروين بصدده في كثير من أعماله ما لم يتذكر جيدا أن مستمعيه كانوا ماهويين لا يشكون البتة في ثبات الأنواع.
الفصل الثالث
بين الماهوية والوجودية
الحرية هي ذلك «اللاوجود» الذي يفصل الإنسان دائما عن ماهيته.
سارتر
لا تفهم «الوجودية»
existentialism
إلا بنقيضها: «الماهوية»
essentialism ؛ فالمقولة الرئيسية التي تنسب لسارتر: «الوجود سابق على الماهية» لا تفهم حق الفهم إلا بنقيضها: «الماهية سابقة على الوجود». لقد كانت الفلسفات الكبرى في التاريخ فلسفة ماهيات
essences ؛
1
بمعنى أن للإنسان طبيعة سابقة على وجوده تطبعه بطابعها وتقولبه بقالبها، شأنه في ذلك شأن غيره من الكائنات، «الشجرة مثلا ماهيتها تسبق ظهورها في عالم الوجود. لقد كانت يوما ما بذرة صغيرة تنطوي على كل إمكانات الشجرة الكبيرة، وتوافرت لها شروط معينة يقتضيها الجو وطبيعة التربة ... إلخ. فترعرعت الشجرة وحققت كل ما كانت تنطوي عليه تلك البذرة الصغيرة من قوى كامنة. وكل ما سوف يحدث لتلك الشجرة من تطورات هو مما يمكن التنبؤ به وتحديده.»
2
إن فكرة التمثال في خيال المثال تسبق عملية نحت التمثال وتشكيله، وتصميم المبنى في مخطط المهندس يسبق بناءه وتنفيذه. «وإذ يخلق الله الإنسان فإن فكرة الإنسان تكون قابعة في فكره كما تقبع السكين في عقل الصانع الذي يصنعها، بحيث يأتي خلقها طبقا لمواصفات خاصة وشكل معين ...»
3
الإنسان الفرد إذن - وفقا لهذا الخط من التفكير - ما هو إلا نسخة جزئية لمثال كلي مسبق أو نموذج قبلي عام، هو الطبيعة الإنسانية التي تشمل كل أفراد البشر، هذه هي فكرة الماهية السابقة على الوجود، تلك الفكرة التي ظلت مسيطرة على الفكر الإنساني منذ نشأته اليونانية، وبقيت مسيطرة على أذهان الكثيرين، «فنجدها» عند «ديدرو» وعند «فولتير» وحتى عند «كانت»؛ فالإنسان له طبيعة بشرية، وهذه الطبيعة البشرية هي ما يصاغ عليها الإنسان، وهي ما يتسم به كل إنسان، أو يشترك في صفاتها مع غيره من البشر. وبذلك تكون الإنسانية كلها أو أفرادها قد خلقوا طبقا لفكرة عامة أو مفهوم عام أو نموذج عام يجب أن يكون عليه البشر. ويغالي «كانت» في وصف هذه الطبيعة العامة للبشرية، بحيث يساوي بين رجل الغابة والإنسان الطبيعي والبورجوازي، ويجعلهم الثلاثة يشتركون في صفات عامة. وهكذا نجد فكرة الإنسان في التاريخ أسبق على حقيقته؛ بمعنى أننا نجد أنه لا يوجد بشر معينون وكل منهم يختلف عن الآخر، ولكن توجد فكرة عامة وإطار عام يجمع البشر جميعا ويساوي بينهم، ثم هناك بعد ذلك الآحاد المتميزة من البشر؛ أي إن الماهية تسبق على الوجود مرة أخرى.
4
ويأتي سارتر ليعكس الآية ويقول: بل الوجود هو الأصل وهو السابق؛ فالإنسان يوجد أولا ثم يتحدد بعد ذلك. وليس ثمة طبيعة إنسانية موجودة سلفا أو ماهية مسبقة تفرض نفسها على الإنسان وتصبه في قالبها ضربة لازب، بل الإنسان هو الذي يخلق ماهيته؛ فالإنسان في أول وثبته نحو الوجود ليس شيئا. لقد قذف به إلى عالم غير مكترث فهو في وضع مستيئس وعليه أن يختار ويفعل دون أية مرجعية. إنه يوجد أولا غير محدد بصفة، ثم يغمد نفسه في المستقبل ويبرأ ماهيته بنفسه عن طريق اختياراته ومقاصده وأفعاله التي يؤديها عن حرية هي نظير المخاطرة؛ لأنه يؤديها دون أية قاعدة مسبقة ودون أية ضمانات. إنه ينحت هويته كل لحظة ويصنع تعريفه ويخترع طريقته في الوجود. إنه مشروع دائم يظل يتحقق ولا يكتمل إلا بالموت.
5
في كتابه: «الوجودية مذهب إنساني» يقول سارتر: «... يوجد على الأقل مخلوق واحد قد تواجد قبل أن تتحدد معالمه وتبين. وهذا المخلوق هو الإنسان ... وحين نقول: إن الوجود سابق على الماهية فإننا نعني أن الإنسان يوجد أولا، ثم يتعرف إلى نفسه، ويحتك بالعالم الخارجي، فتكون له صفاته، ويختار لنفسه أشياء هي التي تحدده، فإذا لم يكن للإنسان في بداية حياته صفات محددة؛ فذلك لأنه قد بدأ من الصفر، بدأ ولم يكن شيئا. وهو لن يكون شيئا إلا بعد ذلك، ولن يكون سوى ما قدره لنفسه ... إن الإنسان يوجد ثم يريد أن يكون، ويكون ما يريد أن يكونه بعد القفزة التي يقفزها إلى الوجود.»
6 «الإنسان ليس سوى ما يصنعه هو بنفسه. هذا هو المبدأ الأول من مبادئ الوجودية، وهذا هو ما يسميه الناس «النزعة الذاتية» للوجودية مستخدمين هذه الكلمة ليوجهوا بها النقد إلينا. لكننا لا نعني بها سوى أن للإنسان كرامة أكبر مما للحجارة أو المنضدة؛ لأننا نعني أن نقول: إن الإنسان يوجد أساسا ثم يكون ، وهو يكون شيئا يمتد بذاته نحو المستقبل، وهو يعي أنه يمتد بها إلى المستقبل؛ فالإنسان مشروع، مشروع يمتلك حياة ذاتية، بدلا من أن يكون شيئا كالطحلب.»
7
الإنسان إذن كائن «محكوم عليه بالحرية»، يمارسها عن طريق اختيارات يقوم بها في كل لحظة؛ فالاختيار حتم، حتى عدم الاختيار هو نوع من الاختيار أو هو اختيار مقنع. وما دام الإنسان حرا مختارا فهو مسئول عن وجوده وعما يكون عليه. المسئولية هي توءم الحرية. وهذه المسئولية ليست وقفا عليه بوصفه فردا بل تمتد لتشمل الناس جميعا؛ فالإنسان يختار للآخرين فيما يختار لنفسه، ويفعل للآخرين فيما يفعل؛ لأنه باختياره وفعله هذين يرسم الإنسان كما يرى أن يكون، ويدس «القيم» في قلب العالم، وبتشكيله لصورته يشكل في الوقت نفسه صورة الإنسان بعامة. وحين يختار قيمة أو فعلا ما فإن ما يأتيه يمس الآخرين بالضرورة وينعكس عليهم، المسئولية إذن باهظة ثقيلة؛ لأنها تمس الناس جميعا؛ ومن ثم ترتبط الحرية والفعل الحر دائما بالكرب والقلق. «القلق دوار الحرية»، وهو مما ينزغ للإنسان أن يضع عن كاهله عبء الحرية والمسئولية، وأن يخفض نفسه من مرتبة «الموجود لذاته»
le pour soi ؛ الوجود الإنساني الحر الواعي بذاته، إلى مرتبة «الموجود في ذاته»
l’en soi
وجود العجماوات والجمادات الغارقة في سبات الضرورة وسكينتها.
هذا النزغ هو الذي يسميه سارتر
mauvais-foi ، وهو لون من خداع النفس يزين للإنسان العبودية والاستسلام باعتباره مسيرا غير مخير، وضحية قوى بيولوجية وتاريخية واجتماعية حتمية قاهرة ليس له فيها يد، وكأنه مجرد «شيء» من الأشياء أو «موضوع»
object
من الموضوعات. ويمعن سارتر في توكيد الحرية إلى أقصى مدى، فيقول: إن الإنسان إذ يتمتع بالوعي الذاتي، فإن بإمكانه أن يعي حتى أسباب فعله ومحددات سلوكه، وهو من خلال هذا الوعي الانعكاسي يقف على دوافعه ويراها؛ ومن ثم يمتلك زمامها ويصبح حرا إزاءها وفي حل من اتباعها. إن الكائن الإنساني محكوم عليه أن يوجد خارج ماهيته وخارج دوافعه وأسبابه.
8
قد يعترض البعض على هذا التوجه الوجودي بقوله: إن وجود الإنسان هو أيضا يتوقف على عوامل كثيرة، لعل أهمها وراثته وبيئته والتربية التي تلقاها ... إلخ. فليس الوجود الإنساني بخارج على النظام الكوني الشامل، بل نحن خاضعون لتلك الآلية الطبيعية التي تجعل اختيارنا متوقفا تماما على طبيعة الشيء المختار نفسه. وهنا يرد أنصار الوجودية فيقولون: إنهم لا ينكرون بحال توقف الإنسان على العالم، خصوصا وأنهم يشعرون تمام الشعور (مع فيلسوف مثل هسرل
Husserl
مثلا) بأن «الوجود في العالم» حقيقة جوهرية هامة بالنسبة إلى الشعور الإنساني؛ فالوجوديون مجمعون على أن الوجود الإنساني ليس وجودا عاما مطلقا، بل هو وجود زماني تاريخي، وجود له ظروفه ومواقفه، وجود متجه نحو العالم الخارجي، مؤتلف من مجموعة روابط أو علاقات مع هذا العالم بما فيه من ذوات وأشياء. ولكن هذا لا يمنعنا من أن نقرر أن لدى الإنسان من الحرية ما يفصله عن باقي الموجودات؛ لأن كل ما عداه هو بالنسبة إليه مجرد «معطيات محضة» يستطيع أن يخلع عليها بحريته المعنى الذي يختاره.»
9
صحيح أنني لم أستشر في اختيار والدي أو مسقط رأسي أو تكويني البيولوجي، فكل هذه أوضاع مفروضة علي ولا سبيل إلى إلغائها؛ غير أن لدي مطلق الحرية في اتخاذ الموقف الذي أراه منها، فأكون مثلا فخورا بها أو مستخذيا، متقبلا أو متمردا. فإذا كنت غير مخير في هذه الأوضاع، فإنني جد مخير في استجابتي لها وموقفي منها.
لا فكاك من الحرية. لقد قذف بالإنسان في هذا العالم ورمي بحريته!
قد يتفنن الإنسان للتخلص من هذه الحرية العبء: فيوهم نفسه بأنه أسير الضرورة، ويعمد إلى أن يعيش حياة الأشياء «القابعة في ذاتها»، ويتهيأ للخضوع لكافة ألوان السلطة، ويروغ من مواقف الاختيار أو يكل إلى غيره أن يتخذ القرارات نيابة عنه؛ ذلك بأن الحرية توءمها القلق. القلق يلازم الحرية كظلها؛ فالقلق شعور عام مبعثه ضرورة الاختيار نفسها: «ذلك لأن على الإنسان أن يختار دون أن يكون لديه أي مبدأ للاختيار، بل دون أن يكون لديه أي معيار يستطيع بمقتضاه أن يتحقق مما إذا كان قد أحسن أو أساء الاختيار. فليس القلق هنا عبارة عن خوف من خطر معين، وإنما هو تعبير عن ذلك الشعور الحاد الذي يغمر الإنسان حينما يتحقق من أنه قد قذف به إلى هذا العالم بدون إرادته، وأنه قد حكم عليه بأنه يختار دون أن يكون في وسعه أن يتنبأ بنتائج أفعاله، بل دون أن يستطيع تبريرها؛ فالقلق شعور أليم، وإن كان في الوقت نفسه لا يخلو من نبل، وهو الأصل في شعورنا بما لدينا من حرية شاملة ومسئولية مطلقة أمام ذواتنا وأمام الآخرين؛ فنحن نصنع مثال الإنسان حينما نصنع ذواتنا؛ لأننا بفعلنا نخلق المثل ونبدع القيم لا لأنفسنا فقط بل للجميع أيضا ... يقول سارتر: إن الإنسانية تحدق بعينيها إلى كل ما يعمله الإنسان لكي تتخذ منه نظاما تسير بمقتضاه وتعمل على هديه، فعلى كل إنسان أن يسائل نفسه: هل أنا بحق ذلك الموجود الذي يجدر بالإنسانية أن تعمل على هدي أفعاله؟»
10
يطبق الشعور بالحرية على الإنسان، ويغمره بالقلق ويبهظه بالمسئولية، فيحاول أن يجد منفذا من هذا الحرج بأن يتصور نفسه من الخارج وكأنه بإزاء شيء من الأشياء، أو بتعبير آخر: يحاول أن «يموضع» نفسه. هكذا نحاول أن نتخلص من عبء الحرية فندرس أنفسنا على أننا رهائن في يد الوراثة أو النشأة أو الماضي الذي فرض علينا فرضا. وكأننا نحسد الأشياء الجامدة القارة في ذاتها على سكينتها وطمأنينتها السلبية، فنحاول أن نبرهن على أننا مجبرون مسيرون تحت نير ماهيتنا المسبقة المقدرة علينا. «وهذا هو الأصل في تلك المذاهب الفلسفية التي تحاول أن تدرج الوجود الإنساني في نطاق الوجود العام (وجود الأشياء) كأن الإنسان مجرد موضوع لا يفهم وجوده إلا على ضوء ماهيته. وإذا كان لدى الإنسان حنين مستمر إلى الوجود الموضوعي - وجود الأشياء - فذلك لأنه يرى أن تلك الأشياء كائنة بالفعل، بينما هو لا يملك سوى حياة متقلبة تتأرجح باستمرار بين الوجود والعدم؛ فالأشياء هي ما هي في حين أن الإنسان لا يمكن قط أن يكون ما هو؛ لأنه لا يكف مطلقا عن أن يختار لنفسه ما يريد أن يكون.»
11
وهكذا يستحيل على مشروع الإنسان أن يكتمل إلا بموته!
من هنا نفهم قول سارتر بأن الكائن الإنساني ثغرة في الوجود أو تصدع في حائط الوجود العام؛ لأنه هو الذي يسبب انعدام التجانس في نسيج الكون. إنه الدودة في التفاحة! إنه الموجود الذي بفعله ينفذ العدم إلى الوجود! إنه المخلوق الذي يفرز من حوله عدما يعزله عن باقي الوجود العام. وهو ليس حرا إلا لأن وجوده وجود ناقص يتخلله العدم من كل جانب، فليست الحرية سوى ذلك «العدم» الذي يفصل الإنسان دائما عن ماهيته.
هذا ما يدفعنا إلى محاولة الهروب من حريتنا، والعمل وفقا لماهيتنا، وكأن لدينا - كبقية الأشياء - ماهية سابقة على وجودنا. «وهكذا نحسد تلك اللامسئولية التي تتمتع بها الأشياء، فننزع إلى ذلك الوجود الثابت الأزلي، وجود الأشياء الغارقة في سكون الطمأنينة واليقين، ونعمل على توكيد دعائم تلك الحالة السلبية بإطاعة قوانين صارمة (محددة تحديدا سابقا) أو بالاستناد إلى أحكام أناس آخرين نتخذ منهم قادة ومعلمين، أو بابتداع التزامات موهومة نحو الطبيعة أو الله (كذا) نحاول أن نعمل بمقتضاها ... إلخ. وهذه كلها في نظر سارتر ليست سوى أساليب متنوعة لخداع النفس؛ فهي في صميمها مجرد محاولة يقصد بها القضاء على الحرية.»
12
انتهج مارتن هيدجر المنهج الفينومينولوجي فأسس فلسفة في الوجود الكلي أو الأنطولوجيا تقوم على تحليل الوجود المتعين المفرد (الدازاين)
Dasein
بوصفه مدخلا لمبحث الكينونة ذاتها مختلطا بها ومشتركا معها في الحدود. وأول ما يتصف به هذا الوجود المتعين المفرد هو «الوجود في العالم». هذا هو القوام الوجودي الأساسي للكائن البشري. يجب أن نفهم «الوجود في العالم» كظاهرة واحدة غير مجزأة؛ فالوجود الإنساني ليس راقدا في العالم رقود حصاة على الشاطئ، ولا هو سابح فيها سبح سمكة في البحر. بل هو معطى في سياق العالم ... مخلوط بالعالم، بحيث يجد في متناوله الأشياء التي يستطيع أن يتناولها ويتخذها أدوات، ويجد نفسه في ذات الوقت محددا بالأشياء التي يجب أن يعاني منها. يترتب على هذا القوام الأساسي للكائن الإنساني نتائج بعيدة الأثر، أهمها انتفاء الثنائية التقليدية بين الذات والموضوع، تلك الثنائية التي استهلها أفلاطون وعمقها ديكارت وكرسها تكريسا نهائيا فبقيت صدعا في الفكر الغربي وعائقا عطل علم النفس قرونا عدة. الوجود الإنساني إذن ممزوج بعالم «مضروب» به، بحيث إن هناك عنصرا من العالم داخلا في صميم وجودنا.
ويتصف الوجود الإنساني أيضا بأنه انبثاق وصيرورة؛ فالإمكان هو جوهر الوجود الإنساني. فما الإنسان على الحقيقة إلا ممكناته. الإنسان مشروع نفسه على الدوام؛ ومن ثم فالمستقبل هو اللحظة الجوهرية في وجوده. أن يعيش المرء تعني أن يتولى امتلاك مشروع وجوده الخاص، أن يكون مشدودا بهدف مستقبلي هو الذي يملي عليه ما يفعله هنا والآن، أن يعي ذاته لا بما كانه أو بما هو عليه، بل بما يمكن أن يكونه ... أن ينطلق في اتجاه نفسه الحقيقية ... أن يعلو على ذاته ... أن يتخطاها إلى أقصى ما تسمح له ممكنات وجوده. هذا البعد الوجودي هو ما يسميه هيدجر «العلو» أو «التجاوز»
transcendence .
يقول سارتر: «إن الإنسان خارج نفسه دائما، وهو بامتداده خارج ذاته وإضاعة نفسه خارج ذاته يوجد! بوسع الإنسان أن يوجد بأن يسعى وراء أهداف متعالية؛ فالإنسان كائن متعال بطبعه، يتجاوز ذاته ويعامل الأشياء معاملة مرجعها هذا العلو (التجاوز). إنه إذن في صميم العلو ... وهو كإنسان لن يحقق وجوده الإنساني باتجاهه نحو ذاته، بل بتجاوزه لذاته وسعيه نحو غايات خارج ذاته. بهذه الطريقة وحدها يحرر ذاته ويحقق وجوده كإنسان.»
13 •••
صفوة القول: إن الماهوية تذهب إلى أن الكائنات تولد على خواص ثابتة محددة دائمة هي التي تشكل ماهيتها أو تعريفها، بينما تزعم الوجودية أن الناس تولد بغير تعريف محدد، وأن على الفرد أن يضفي المعنى على حياة خلو في صميمها من المعنى، وأن يبدع ماهيته من خلال الفعل الحر والالتزام المسئول.
تذهب الماهوية إلى أن الحياة لها معنى صميم وغاية مسبقة وعلى الفرد أن «يعثر» على هذا المعنى وتلك الغاية، بينما تنكر الوجودية ذلك وتضع على عاتق الفرد أن «يبتكر» معنى حياته وغايتها، ويخلق ماهيته بنفسه، تهيب الماهوية بالتفكر والاستبطان لاكتشاف الماهية القائمة من الأصل، بينما تهيب الوجودية بالفعل الذي يسبغ الغاية على حياة لا معنى لها بحد ذاتها ولا غاية.
وبتعبير آخر: تذهب الماهوية إلى أن الماهية قائمة وتكتشف، بينما تؤكد الوجودية أن الماهية غائبة وتبتكر.
الفصل الرابع
فتجنشتين ونزعة الماهوية
ذهب فتجنشتين في مراحله المتأخرة إلى ضرورة أن يعود الفلاسفة إلى اللغة العادية وأن يتخلوا عن أية محاولة لإقامة لغة مثالية؛ ذلك لأن المشكلات الفلسفية تنشأ في نظره من سوء استخدام الفلاسفة للغة العادية أو تجاهلها، واستخدام الألفاظ بمعان بعيدة كل البعد عن الاستخدام المألوف. إنهم عنده مرضى مصابون بداء القلق والحيرة والوهم بسبب استخدامهم لغة فنية اصطلاحية تلصق بالألفاظ معاني غريبة من خلق عقولهم ولا أساس لها في الاستخدام العادي، مما أوقعهم في مآزق فكرية. ورأى فتجنشتين أن مهمة الفيلسوف الجديدة هي نوع من «العلاج الفلسفي» لهؤلاء المرضى الذين تسيطر على أذهانهم نماذج لغوية معينة، وأن علاجهم هو في عودتهم إلى اللغة العادية وصياغة المشكلات الفلسفية في إطارها، بحيث نحل المشكلة حلا أفضل أو يتبين لنا أنها مشكلة وهمية لا وجود لها إلا في عقول الفلاسفة.
1
ينقسم التاريخ الفكري للودفيج فتجنشتين
L. Wittgenstein (1889-1951م) بصفة عامة إلى مرحلتين: مرحلة «دراسة
2
منطقية فلسفية»
tractatus logico-philosophicus
وهو الكتاب الوحيد الذي في حياته، ومرحلة متأخرة هي مرحلة «بحوث فلسفية»
philosophical investigation
وهو عبارة عن مذكرات محاضراته ومجموعة أبحاثه التي نشرت عام 1953م (بعد وفاته).
في المرحلة الأولى - مرحلة «الدراسة»
tractatus - كان فتجنشتين يطمح إلى إمكان تحليل جميع القضايا إلى مكونات نهائية بسيطة لا تقبل مزيدا من التجزيء؛ ولذلك سميت نظريته «الذرية المنطقية»
logical atomism ، «وهي تشترك في الكثير مع نظريات أسبق منها عن المكونات النهائية البسيطة التي قال بها العقلانيون
rationalists . وهذه الفكرة هي أساس جميع محاولات وضع لغة كاملة تعبر عن كل شيء بأقصى درجة من الدقة. أما في المرحلة المتأخرة فقد أنكر فتجنشتين إمكان إيجاد مثل هذه اللغة، فمن المستحيل أن نقضي على الخلط قضاء مبرما.»
3
يمكن تلخيص الفكرة الأساسية لنظرية فتجنشتين المتأخرة في أن «معنى أية كلمة هو طريقة استخدامها». وهو يستخدم تشبيه «الألعاب اللغوية»
language games
لكي يبين فكرة أن المعنى هو طريقة الاستخدام . إن الاستخدام الفعلي لجزء معين من اللغة هو أشبه بلعبة كالشطرنج مثلا. ولهذه اللعبة قواعد معينة ينبغي على كل من يمارسونها أن يراعوها. كما أن هناك قيودا معينة على الحركات المسموح بها. إننا حين نتعلم كيف نلعب عددا من الألعاب اللغوية المتنوعة نكتسب معنى الكلمات عن طريق استخدامها ومن خلاله ... وبتعبير آخر: «إننا نتعلم النحو
grammar
أو المنطق الخاص بكلمة معينة.» «وهكذا فإن إثارة المشكلات الميتافيزيقية ينجم عندئذ عن نقص في إدراك «النحو» الخاص بالكلمات؛ ذلك لأننا بمجرد أن نفهم القواعد فهما صحيحا لا تظل لدينا رغبة في طرح مثل هذه الأسئلة بعد أن يكون «العلاج اللغوي» قد شفانا من هذه الرغبة.»
4
إن اللغة العادية تكفي، وإنما تنشأ المشكلات الفلسفية عن سوء الاستخدام.
إن معظم المشكلات الفلسفية التي حيرت الفلاسفة التقليديين هي وليدة نزغ أو وسواس يتلبس بالفلاسفة إذ يحولون التعبيرات المستخدمة في اللغة بطريقة معينة إلى مجالات أخرى لا تنطبق فيها على الإطلاق، ويسيئون فهم بعض ضروب التماثل اللفظي، وينخدعون بالتركيب الظاهري لبعض العبارات أو الكلمات؛ الأمر الذي يولد المفارقات اللفظية العجيبة والمتناقضات اللغوية الصارخة التي طالما غصت بها مؤلفات الفلاسفة الميتافيزيقيين. لقد دأبوا على القذف باللغة بعيدا عن تروس الحياة، فلا عجب في أن نراهم يستخدمون اللغة استخداما هجينا غير مألوف. وليس من علاج لهذه الظاهرة الشاذة إلا بإخضاع الفلاسفة أنفسهم لضرب من العلاج النفسي حتى نظهرهم على منشأ تلك الأوهام الميتافيزيقية التي طالما وقعوا تحت سطوتها؛ وبذلك نعينهم على الاهتداء إلى المعاني الحقيقية لما يفوهون به من كلمات. إن مهمة الفلسفة عند فتجنشتين سلبية صرفة، ما دامت كل وظيفتها لا تكاد تتعدى إزالة العوائق التي تقف حجر عثرة أمامنا في سبيل فهم معاني اللغة العادية.
5 (1) من الماهية إلى «التشابه العائلي»
الكلمات أدوات. ومعنى الكلمة لا يتمثل في «موضوع» يفترض أن الكلمة تقوم مقامه. وواقع الحال في الممارسة اللغوية الحقيقية أننا حين نتحدث عن معنى أية كلمة فإننا نتحدث عندئذ عن الطريقة التي تستخدم بها تلك الكلمة، وحين نقول عن أي شخص: إنه قد تعلم أو فهم معنى أية كلمة فإننا نعني بذلك أن هذا الشخص قد تعلم أو أصبح يفهم كيف يستخدم تلك الكلمة، وأصبح بالتالي عضوا في جماعة لغوية معينة. للغة إذن طابع اجتماعي يجعل منها أكثر من مجرد وسيلة لتصوير الوقائع.
6
للغة استعمالات كثيرة غير مجرد الوصف أو التصوير، منها الأمر والتحذير والتوبيخ والتحضيض والتعبير عن المشاعر ... إلخ.
المعنى هو الاستخدام، لا تسأل عن المعنى ولكن اسأل عن الاستخدام. ومعنى اللفظة ليس غير طريقة (أو طرق) استخدامنا لها في حياتنا اليومية. فبينما يؤكد الفلاسفة أن الفكر الواضح منوط بالتعبير مما يستوجب أن يكون لكل كلمة معنى محدد، فإن فتجنشتين يبدهنا بغير ذلك؛ فليس للكلمة الواحدة من كلمات اللغة معنى محدد دقيق، وإنما للكلمة الواحدة كما هي مستخدمة بالفعل في الحياة اليومية معان لا حصر لها تتحدد بحسب السياقات والمواقف والظروف المختلفة التي تستخدم فيها الكلمة؛ فالكلمة مطاطة تتسع وتضيق وفقا للظروف والحاجات المختلفة، ولا يوجد بين الاستخدامات المختلفة للكلمة الواحدة عنصر مشترك محدد، وإنما توجد بينها تشابهات متداخلة متشابكة كالتي نراها بين أفراد العائلة الواحدة.
7
و«التشابه العائلي»
family resemblance
هو الظاهرة التي بينها فتجنشتين في كتاباته المتأخرة، ومفادها أن الأشياء التي يشير إليها حد من الحدود قد ترتبط معا لا بخاصة مشتركة واحدة بل بشبكة من التشابهات، كشأن الأشخاص الذين تشترك وجوههم في ملامح مميزة لعائلة معينة. و«مفهوم التشابه العائلي»
8
يعني كل مفهوم يضم مجموعة من الأشياء أو الموضوعات وينطبق عليها لا بفضل سمة فريدة عامة بل لوجود تشابهات بينها عديدة ومتداخلة جزئيا بعضها مع بعض.
للغة إذن استعمالات عديدة. وقد يكون من العبث أن نحاول البحث عن عنصر مشترك بين هذه الاستعمالات المختلفة، وكأن ثمة «ماهية»
essence
شاملة للمعنى تكمن من وراء تلك الاستعمالات. ولعلنا نكون أقرب إلى جادة الحق لو أننا حاولنا أن نشبه فهم الإنسان للاستعمالات المختلفة للألفاظ بفهمه للقواعد التي لا بد من مراعاتها في كل لعبة من الألعاب. فاللغة هي أشبه ما تكون باللعبة من حيث إنه لا بد من التزام بعض القواعد في كل منها. وكما أن الاختلاط لا بد أن يشيع بين اللاعبين لو أن كل لاعب سمح لنفسه بابتداع قواعد جديدة للعبة أثناء استمراره في اللعب، فكذلك يشيع الاختلاط لو عمد الناطق باللغة إلى مخالفة القواعد المرعية، ولا سبيل إلى بلوغ الوضوح المطلوب حول معنى أية كلمة إلا بالرجوع إلى طرق استعمالها.
9
وحسبنا أن نمعن النظر في الوظائف المتنوعة التي تضطلع بها اللغة لكي نتحقق من سذاجة تلك النظرة المنطقية التي طالما اصطنعها الفلاسفة في تحليلهم لبناء اللغة، أو في تصورهم للغة مثالية يكون فيها رمز واضح محدد لكل موضوع بسيط أو لكل خاصية بسيطة ... ليست اللغة مجرد عملية لصق بطاقات على بعض الموضوعات، ولا هي مجرد «حساب منطقي». وليس أدل على مرونة اللغة (من وجهة النظر الصورية أو الشكلية) من أنها تقبل التعبير عن العديد من الاستعمالات الجديدة، فضلا عن أنها قد تنهض بتحمل مهام جديدة غير تلك التي دأبت على النهوض بها.
10
وليس ثمة سبيل لفهم طبيعة اللغة أفضل من النظر إلى الطريقة العملية التي تستخدم بها اللغة في صميم حياتنا الاعتيادية، على نحو ما ينظر المرء إلى أي جهاز آلي أثناء تحركه أو دورانه، فيفهمه أو يدرك طريقة استخدامه.
11
يقول فتجنشتين: «أن نفهم لغة ما هو أن نفهم شكلا من أشكال الحياة.» ويبدو أن هذا القول يحمل في تضاعيفه دعوة تلزم أولئك الذين يرغبون في دراسة اللغة أن يفعلوا بإزاء عشائرهم الخاصة شيئا شديد الشبه بما يفعله الإثنوغرافيون/الأنثروبولوجيون بإزاء العشائر التي يدرسونها، يتضمن ذلك على أقل تقدير ترسم معنى إجمالي لجملة الممارسات اللغوية وغير اللغوية التي تؤلف شكلا من أشكال الحياة.
12 (2) التشابهات العائلية: عن نص فتجنشتين حرفيا
65-67 (
65 ) هنا نواجه السؤال الكبير الذي يكمن خلف كل هذه الاعتبارات؛ إذ قد يعترض أحد علي بقوله: «لقد سلكت الطريق السهل! فأنت تتكلم عن جميع أنواع ألعاب اللغة، لكنك لم تذكر ماهية اللعبة اللغوية؛ ومن ثم ماهية اللغة: ولا ما هو مشترك بين كل هذه المناشط أو الفعاليات على نحو يجعل منها لغة أو أجزاء من اللغة، وبذلك تكون قد استبعدت من بحثك ذلك الجزء الذي سبب لك صداعا، وهو ذلك الجزء الخاص بالصورة العامة للقضايا وللغة.» وهذا حق ... فبدلا من التوصل إلى شيء يكون مشتركا بين كل ما نسميه لغة، أقول بأنه لا يوجد شيء واحد مشترك بين تلك الظواهر اللغوية يكون من شأنه أن يجعلنا نستخدم لفظا واحدا بالنسبة لها جميعا، وإنما هي مترابطة الواحدة منها بالأخرى بطرق عديدة مختلفة، وإنه بسبب علاقة الترابط هذه أو العلاقات، فإننا نسميها جميعا باسم «اللغة». وسوف أحاول الآن أن أفسر هذا القول. (
66 ) لنأخذ مثلا العمليات أو الأفعال التي نسميها ب «الألعاب»؛ وأعني بذلك الألعاب ذات الرقعة، وألعاب الورق، وألعاب الكرة، والألعاب الأوليمبية، وغير ذلك. ما الذي يكون مشتركا بينها جميعا؟ لا تقل: «لا بد من وجود شيء مشترك وإلا ما أسميناها جميعا بأنها «ألعاب».» بل انظر وشاهد ما إذا كان هناك أي شيء مشترك بينها جميعا؛ لأنك إذا نظرت إليها فلن تشاهد شيئا مشتركا بينها جميعا، وإنما ستشاهد تماثلات وعلاقات بل سلسلة كاملة منها.
أكرر: لا تفكر، لكن انظر وشاهد!
انظر مثلا إلى الألعاب ذات الرقعة بعلاقاتها العديدة المترابطة. ثم انتقل إلى ألعاب الورق؛ هنا تجد تناظرات كثيرة بينها وبين المجموعة الأولى، إلا أنك تجد صفات مشتركة عديدة بينها اختفت، بينما تظهر صفات أخرى غيرها. وحينما ننتقل بعد ذلك إلى ألعاب الكرة؛ نجد أن كثيرا مما هو مشترك يظل باقيا، في حين يزول الكثير أيضا.
هل هي جميعها تتصف بأنها «مسلية»؟ قارن لعبة الشطرنج بلعبة السلم والثعبان. أم هل هناك دائما مكسب وخسارة، أو تنافس بين اللاعبين؟ فكر في الصبر (أثناء ممارسة هذه الألعاب). في ألعاب الكرة مكسب وخسارة، لكن حينما يرمي طفل بكرته إلى الحائط ثم يمسك بها مرة ثانية نجد أن هذه السمة تزول. انظر إلى الدور الذي تلعبه المهارة ويلعبه الحظ، والفرق بين المهارة في الشطرنج والمهارة في التنس. فكر الآن في الألعاب الدائرية؛
13
هنا عنصر التسلية موجود، لكن كم من الصفات الأخرى قد اختفت! ويمكننا أن نستمر على هذا النحو في ذكر مجموعات كثيرة أخرى من الألعاب، ويمكننا أن نتبين كيف تنشأ التشابهات أو التماثلات، وكيف تزول وتختفي.
ونتيجة هذا التأمل هي أننا نرى شبكة مركبة من التماثلات تتداخل وتتقاطع؛ وهي أحيانا تماثلات شاملة، وأحيانا أخرى تماثلات تفصيلية. (
67 ) أعتقد أنني لا أكاد أجد تعبيرا يحدد هذه التماثلات أفضل من القول بأنها «تشابهات عائلية»؛ لأن أوجه التشابه العديدة بين أفراد العائلة الواحدة، مثل: البنية والملامح ولون العينين وطريقة المشي والمزاج ... إلخ تتداخل وتتقاطع بنفس الطريقة.
أنا أقول: إن «الألعاب تكون عائلة» بهذا المعنى السابق، وكذلك فإن أنواع العدد تكون عائلة بنفس الطريقة. لماذا تسمي شيئا بأنه «عدد»؟ حسنا، ربما لأنه يرتبط بعلاقة مباشرة مع أشياء أخرى سميت حتى الآن باسم العدد. بهذه الطريقة يمكن القول بأننا نربطه بعلاقة غير مباشرة مع غيره من الأشياء التي نسميها بالاسم نفسه ...»
14 (3) هل «التشابه العائلي» رفض صريح للماهوية؟
تذهب القراءة السائدة لحديث فتجنشتين عن «التشابه العائلي» (بحوث فلسفية 65-67) إلى أن فتجنشتين رافض صريح لنزعة الماهية، وأن المفهوم التشابه العائلي عنده يتضمن «دعوى أنطولوجية»، مفادها أنه لا وجود لخاصة مشتركة ماهوية للألعاب، وليس ثمة تعريف ماهوي تحليلي يحصر السمة المشتركة للألعاب أو يقبض على «ماهية» الألعاب.
والحقيقة أن نص فتجنشتين في «بحوث فلسفية» لا يفيد ذلك، بل يفيد أن الألفاظ لا يلزمها أن يكون لها تعريفات ماهوية (تحصر الخواص المشتركة) لكي تعمل كألفاظ؛ فمفهوم التشابه العائلي لا يرمي إلى رفض الماهوية، بل إلى جعل هذا المذهب الماهوي غير ذي صلة، وإلى تبديد وطأته الفلسفية؛ فالأفضل أن نقرأ هذه الشذرات من فتجنشتين في ضوء هدفه من منهجه الفلسفي كما نص عليه مثلا في الشذرة 133 من «بحوث فلسفية»، وهو أن «المشكلات الفلسفية (المتصلة بالماهوية في هذا الصدد) يجب أن تختفي تماما.»
15
إذا كان التفسير السائد للتشابه العائلي يتضمن «دعوى أنطولوجية» (عدم وجود خاصة مشتركة ماهوية)، فإن القراءة الصحيحة للشذور الثلاث يتضمن «دعوى إبستمولوجية» تتحدث عما يتعين على الناطقين أن يعرفوه لكي يستخدموا كلمة ما استخداما صحيحا، ويراد بها أن تكون «وصفا» ذا صلة فلسفية (علاجية) دالة. ولكي نتحقق من دقتها فإن علينا أن ننزل إلى أرض الواقع وننظر إلى استعمال الكلمات ونتفحص ما يفعله الناطقون عندما يستخدمونها. إن الدور المنوط ب «استعمال» اللفظة لهو دور أساسي في المنهج الفلسفي عند فتجنشتين المتأخر.
16
يعني ذلك أن فتجنشتين لم يقل بصريح العبارة: إن الماهيات لا وجود لها؛ فالشذور الثلاث لم تصرح بما إذا كانت التعريفات الماهوية موجودة أو غير موجودة. إنما تقرر فحسب أن معرفة التعريفات ليست إلزامية أو إجبارية من أجل الاستخدام الصحيح.
وبتعبير آخر: لم يكن الغرض الذي يصوب إليه فتجنشتين سهام نقده في فقرات التشابه العائلي (65-67) هو الدعوى الماهوية الصريحة، «ثمة ماهيات للألعاب (محصورة في التعريف الماهوي)»، بل كان الغرض المستهدف هو رأي من قبيل «الناطقون بحاجة إلى معرفة تعريف/ماهية لكي يستخدموا اللفظ على نحو صحيح»؛ فالوصف الواقعي لعملية استعمال اللغة يكشف أن الناطقين لا يعرفون أي تعريف/ماهية للألعاب عندما يستخدمون لفظة «لعبة» استخداما صحيحا، إذن معرفة مثل هذا التعريف الماهوي ليست ضرورية للاستعمال الصحيح لأي لفظة. والتأثير الذي ترمي إليه هذه القراءة المراجعة لفتجنشتين هو تناول اللب الماهوي لا بالرفض بل بالإذابة إن صح التعبير؛ فالقوة التأسيسية المفترضة للماهوية ينبغي أن تحيد ما دامت التعريفات الماهوية لا دخل لها ولا دور في استخدامنا لمفهوم من مفاهيم اللغة الطبيعية، وباستعارة التعبير الأثير لفتجنشتين فإنها «أشبه بتروس قطعت صلتها بالآلية».
وفي ضوء هذه القراءة فإن الأثر المنشود للمنهج الفلسفي عند فتجنشتين ليس أثرا مبالغا فيه؛ فلقد بدا لنا الآن كيف ولماذا ينبغي للمشكلات الفلسفية المرتبطة بالماهوية (التعريفية) أن «تختفي تماما» (بحوث فلسفية، 133). وهذا مثال من الأمثلة التي تقوض ما تدعيه الميتافيزيقا التقليدية من أنها تقدم لنا نتائج «تأسيسية»
foundational
وكشوفا عن طبيعة الواقع نفسه؛ فنحن عندما نتبين أن استعمالنا للغة مستقل عما يمكن لمثل هذا المشروع الميتافيزيقي أن يكتشفه (إن كان يكتشف شيئا على الإطلاق)؛ تتبدد أمام أعيننا أية صلة يريدها الميتافيزيقي لبحثه في طبيعة الأشياء. يذهب فتجنشتين إلى أن ادعاء الفلاسفة بتقديم أسس تصورية (بمعنى تزويدنا بتبريرات أسسية لاستخدامنا المفاهيم) هو - ببساطة - مجرد وهم، فالفلسفة الأصيلة تترك كل شيء كما هو، بينما تجهد الفلسفة الزائفة من أجل الأسس. وإذا وقر الاعتقاد بالعثور على هذه الأسس فإن النتيجة المباشرة المترتبة على ذلك هي أن تلج الفلسفة (الزائفة) في اقتراح إصلاحات لغوية، معيقة بذلك الاستعمال الفعلي لمفاهيم اللغة الطبيعية.
17
الفصل الخامس
اللاماهوية عند كارل بوبر
كان كارل ريموند بوبر (1902-1994م) من أشد المناوئين لنزعة الماهية والرافضين لفكرة وجود «واقع نهائي» علينا أن نكتشفه ونفسر في ضوئه كل شيء آخر، في كتابه (المشترك) «النفس ودماغها» يعرض بوبر لعالم المثل الأفلاطونية فيقول: إن عالم المعقولات عند أفلاطون رغم شبهه بالعالم 3 عند بوبر، فإنه شديد الاختلاف عنه من نواح كثيرة، فهو يتكون مما أسماه «الصور»
forms ، أو «الأفكار/المثل»
ideas ، أو «الماهيات»
essences ؛ أي الأشياء التي تشير إليها المفاهيم أو الأفكار العامة. وأهم الماهيات في عالم الصور أو الأفكار المعقولة عند أفلاطون هي «الخير» و«الجمال» و«العدالة». وهو يتصور هذه الأفكار على أنها ثابتة، ولا زمنية أو «أزلية»، ومن مصدر إلهي. وعلى خلاف ذلك فإن العالم 3 عند بوبر هو صنيعة الإنسان من حيث مصدره (رغم استقلاله الجزئي). وهو رأي كان كفيلا أن يمثل صدمة لأفلاطون. يقول بوبر: «بينما أؤكد على وجود أشياء العالم 3، فأنا لا أعتقد أن الماهيات لها وجود، بمعنى أنني لا أسبغ أي وضع على الموضوعات أو المسميات الخاصة بمفاهيمنا أو أفكارنا. إن التأملات النظرية في الطبيعة الحقيقية أو التعريف الحقيقي للخير أو للعدالة؛ تؤدي - في رأيي - إلى مماحكات لفظية وعلينا اجتنابها؛ فأنا من المناهضين لما أسميته «نزعة الماهية»
essentialism ... لقد وصف أفلاطون عملية فهم الصور أو الأفكار على أنها نوع من الرؤية . إن عيننا العقلية (النوس، العقل)، «عين الروح»، قد وهبت حدسا فكريا وبوسعها أن «ترى» الفكرة أو الماهية أو الشيء الذي ينتمي إلى عالم المعقولات. وما إن نتمكن من أن نراه - أن نفهمه - فإننا نعرف هذه الماهية، نستطيع أن نراها «في ضوء الحقيقة». هذا الحدس الفكري متى يتم الوصول إليه فهو معصوم من الخطأ.»
يذهب بوبر إلى أن هناك شيئا من قبيل الحدس الفكري ولكنه يؤكد أنه بعيد عن المعصومية، وأنه يخطئ أكثر مما يصيب. ويذهب إلى أننا لا نملك شيئا من قبيل «عين العقل» أو عضو الإحساس الفكري، رغم أننا قد اكتسبنا ملكة - شيئا ما أشبه بعضو - للجدل أو الاستدلال. ويرى أننا نفهم موضوعات العالم 3 من خلال عملية صنعها أو إعادة خلقها، وهي قدرة تنتج عن الممارسة؛ فنحن نتعلم بالممارسة وليس بالتأمل المباشر، نتعلم بالإسهام النشط، نتعلم كيف نصنع موضوعات العالم 3 وكيف نفهمها وكيف نراها.
1
كان بوبر يكره أسئلة «ما هو؟ ما هي الجاذبية؟ ما هي الحياة؟ ... إلخ». إن أسئلة من هذا القبيل هي أسئلة لا يرجى منها أن تصنع تقدما في العلم، مثلما أن «ما هي الحرية؟ ما هي العدالة؟ ... إلخ» لا تصنع تقدما في السياسة. مثل هذه المحاولات شبه السحرية لحبس ماهية الواقع في تعريف هو ما حدا ببوبر إلى أن يدرجها تحت تصنيف «الماهوية». ومن طبيعة هذا المدخل الماهوي في السياسة أن يؤدي إلى اليوتوبية والصراع المذهبي. أما الأسئلة الأكثر أصالة وجدوى فهي أسئلة من قبيل: «ماذا ينبغي علينا أن نفعل في هذه الظروف؟» «ما هي مقترحاتك؟» ... فإجابات مثل هذه الأسئلة يمكن أن تناقش وتنقد بطريقة مثمرة، فإذا صمدت لذلك فهي جديرة بأن نجربها عمليا؛ فالعمل الأجدى في السياسة - كما في العلم - ليس تحليل المفاهيم بل التمحيص النقدي للنظريات وتعريضها لاختبار التجربة.
2 (1) نقد نظرية التعريف الأفلاطونية-الأرسطية
الخطر الأكبر على فلسفتنا - عدا الكسل والتشوش - هو السكولائية ... التي تعامل ما هو غامض على أنه دقيق محدد.
فرانك رامزي
في الفصل الأول من الجزء الثاني من كتابه «المجتمع المفتوح وأعداؤه» يعرض بوبر في استطرادة مهمة للمنهج الماهوي في التعريفات عند أرسطو. يقول بوبر: إن مشكلة التعريفات و«معنى المصطلحات» غير ذي وقع مباشر على التاريخانية؛ غير أنه كان مصدرا لا ينقطع للخلط؛ ولذلك الضرب من الحشو اللفظي الذي اتحد بالتاريخانية في عقل هيجل؛ فأنتج ذلك المرض الفكري السام الذي ألم بزمننا نحن والذي أسميه «الفلسفية النبوئية»
oracular philosophy ، وهو أهم مصدر للتأثير الفكري المدمر لأرسطو، لكل تلك التاريخانية اللفظية والفارغة التي لا تنتاب العصور الوسطى فحسب بل ترين على فلسفتنا المعاصرة نفسها؛ فحتى فلسفة في حداثة فلسفة فتجنشتين لم تسلم من هذا التأثير!
يذهب بوبر إلى أن بوسعنا أن نجمل تطور الفكر منذ أرسطو بأن نقول: إنه ما من مبحث لا يزال يستخدم المنهج الأرسطي في التعريف إلا ظل موثقا في حالة من الحشو اللفظي الفارغ والسكولائية العقيمة، وإن مختلف العلوم لم تتمكن من إحراز أي تقدم إلا بقدر ما تمكنت من التخلص من هذه المنهج الماهوي. (وهذا هو السبب في أن كثيرا من «علومنا الاجتماعية» ما زالت تنتمي إلى العصور الوسطى).
سيتعين على عرض هذا المنهج أن يكون مجردا بعض الشيء؛ ذلك أن المشكلة قد عانت تشوشا عظيما على يد أفلاطون، وعلى يد أرسطو بصفة خاصة؛ فقد أدى نفوذهما إلى تحيزات بلغت من الرسوخ مبلغا جعل تبديدها أمرا ليس بالهين. ورغم كل ذلك فإن تناول مصدر هذا الخلط والحشو الكثير بالتحليل قد لا يخلو من الفائدة والتشويق.
يفرق أرسطو - مقتفيا في ذلك أثر أفلاطون - بين المعرفة
knowledge
والرأي
opinion ؛ فالمعرفة عنده سديدة لا تخطئ، وصادقة على نحو نهائي مطلق، بينما الرأي لا يعول عليه، وقد يكون كاذبا أحيانا. تتكون المعرفة عند أرسطو من العبارات العلمية التي تم إثباتها أو البرهنة عليها، أو «المبادئ»
principles
التي لا يمكن إثباتها. وقد كان أرسطو على صواب بغير شك حين أصر على أن علينا ألا نحاول إثبات كل معرفتنا، فكل برهان يتعين أن ينطلق من مقدمات؛ ومن ثم فإن البرهان بحد ذاته - أي الاستقاء من المقدمات - لا يمكن أن يحسم صدق أي نتيجة، بل يبين فحسب أن النتيجة لا بد أن تصدق شريطة أن تكون المقدمات صادقة. فإذا كان علينا أن نطلب البرهنة على المقدمات بدورها، فإن مسألة الصدق تكون قد ترحلت خطوة إلى الخلف - ليس إلا - إلى مجموعة جديدة من المقدمات. وهكذا إلى غير نهاية. ولكي نتجنب هذا النكوص اللانهائي
infinite regression (regress)
فقد علمنا أرسطو أن نفترض بالضرورة أن هناك مقدمات صادقة لا تقبل الشك ولا تحتاج إلى أي برهان، وهو يسميها «المبادئ». إذا سلمنا بالمناهج التي نشتق بها النتائج من هذه المبادئ فإن بوسعنا أن نقول - وفقا لأرسطو: إن المعرفة العلمية كلها متضمنة في المبادئ، وإننا حقيقون بتملكها لو كان بمكنتنا فقط أن نحصل قائمة موسوعية من المبادئ. ولكن كيف نحصل هذه المبادئ؟ ذهب أرسطو - شأنه شأن أفلاطون - إلى أننا نحصل كل معرفة بشكل جوهري بإدراك ماهية الأشياء.
يقول أرسطو: «ليس بوسعنا أن نعرف شيئا ما إلا بمعرفة ماهيته»، و«أن نعرف الشيء هو أن نعرف ماهيته». و«المبدأ»
principle
وفقا لأرسطو ليس إلا عبارة تصف ماهية شيء ما. ولكن هذه العبارة هي بالضبط ما يسميه «تعريفا»
definition . بذلك تكون كل «المقدمات الأساسية للبراهين»؛ أي كل «المبادئ» هي «تعريفات»
definitions .
كيف يبدو التعريف؟ قد يكون مثالا لتعريف أن نقول: «الجرو هو كلب صغير.» إن الموضوع
subject
في هذه الجملة-التعريف (لفظة «جرو») يسمى «الحد المعرف»
the defined term ، أما كلمتا: «كلب صغير» فيطلق عليها «الصيغة المعرفة»
the defining formula . وكقاعدة: تكون الصيغة المعرفة أطول من الحد المعرف وأكثر تعقيدا وبكثير جدا في بعض الأحيان. ويعتبر أرسطو الحد المعرف اسما لماهية الشيء، والصيغة المعرفة وصفا لهذه الماهية. وهو يؤكد أن الصيغة المعرفة يجب أن تقدم وصفا جامعا للماهية، أو الخواص الماهوية للشيء المعني. هكذا فإن عبارة مثل «الجرو له أربع أرجل» - رغم صدقها - ليست تعريفا قويما، من حيث إنها لا تجمع (تستنفد) ما قد يسمى ماهية كون الشيء جروا، بل تصدق أيضا على الحصان. وبالمثل فإن العبارة: «الجرو بني اللون»، رغم أنها قد تصدق على الجراء، فإنها لا تصدق على جميع الجراء، وهي من أجل ذلك تصف ما هو غير جوهري (غير ماهوي) وما هو مجرد خاصة عرضية
accidental property
للحد المعرف.
ولكننا لم نجب حتى الآن عن سؤال كيف يمكننا أن نحصل على التعريفات أو المبادئ ونتيقن من أنها صحيحة. رغم أن أرسطو غير واضح تماما في هذه النقطة فليس ثمة شك في أنه بعامة يقتفي أثر أفلاطون مرة أخرى. فقط كان أفلاطون يعلم أن بوسعنا فهم «المثل/الأفكار»
ideas
عن طريق نوع معين من «الحدس الفكري»
intellectual intuition ؛ أي إننا نراها أو ننظر إليها ب «عين العقل»
mental eye
لدينا، وهي عملية يتصورها أفلاطون كشيء مماثل للرؤية، ولكن يعتمد كليا على الفكر ويستبعد أي عنصر يعتمد على حواسنا. ورغم أن وجهة نظر أرسطو في هذا الشأن أقل جذرية وإلهاما من وجهة نظر أفلاطون فإنها تفضي إلى نفس الشيء؛ ذلك أن أرسطو وإن كان يعلم أننا لا نصل إلى التعريف إلا بعد أن نكون قد قمنا بكل الملاحظات الممكنة؛ فهو يعترف بأن الخبرة لا يمكن على الإطلاق أن تحدد تعريفا تحديدا تاما، ويفترض في النهاية أننا نمتلك حدسا فكريا، تلك الملكة العقلية أو الفكرية التي تمكننا من أن ندرك ماهيات الأشياء وأن نعرفها؛ ويفترض كذلك أننا إذا ما عرفنا ماهية ما حدسيا نكون بالضرورة قادرين على وصفها؛ ومن ثم على تعريفها.
ونحن إذ نجمل هذا التحليل المختصر يمكننا - فيما أعتقد - أن نقدم وصفا مقبولا للمثال الأرسطي للمعرفة التامة والكاملة إذا قلنا: إنه ذهب إلى أن الهدف النهائي للمعرفة هو في جمع موسوعة تحتوي على تعريفات جميع الماهيات؛ أي تحتوي على أسمائها مع صيغاتها التعريفية، وإنه اعتبر أن تقدم المعرفة عبارة عن تراكم تدريجي لهذه الموسوعة، والتوسع فيها وملء الثغرات بها.
يتضح الآن دون أدنى شك أن جميع هذه الآراء الماهوية تقف على النقيض التام من مناهج العلم الحديث. أولا: رغم أننا في مجال العلم نبذل قصارى جهدنا لكي نصل إلى الحقيقة، فنحن على دراية بأننا لا يمكننا على الإطلاق أن نتيقن من أننا وضعنا يدنا عليها. لقد سبق أن تعلمنا من الإحباطات الكثيرة في مجال العلم أننا ينبغي ألا نطمح إلى الحقيقة المطلقة. ولقد تعلمنا ألا نحزن إذا ما تقوضت نظرياتنا العلمية؛ لأن بوسعنا في حالات كثيرة أن نحدد بثقة كبيرة أية نظرية من النظريتين هي الأفضل. بوسعنا إذن أن نعرف أننا نحرز تقدما، وإن هذه المعرفة لهي العوض - لدى معظمنا - عن انقشاع وهم الحقيقة المطلقة ووهم اليقين. نحن بعبارة أخرى نعرف أن نظرياتنا العلمية ينبغي لها دائما أن تظل فرضيات، ولكننا نعرف أيضا أن بوسعنا في حالات كثيرة مهمة أن نبين ما إذا كانت فرضية جديدة تفوق فرضية قديمة أم لا؛ ذلك لأنهما إذا كانتا مختلفتين فسوف تؤديان إذن إلى تنبؤات مختلفة، والتي يمكن في الأغلب اختبارها تجريبيا؛ وعلى أساس هذه التجربة الفاصلة يمكننا أحيانا أن نبين أن النظرية الجديدة تؤدي إلى نتائج مرضية في حين تقصر النظرية القديمة عن ذلك وتتقوض. بذلك يمكننا أن نقول: إننا في بحثنا عن الحقيقة قد استبدلنا باليقين العلمي التقدم العلمي، إن هذه الوجهة من الرأي في المنهج العلمي يعززها تطور العلم؛ فالعلم لا ينمو بتراكم موسوعي تدريجي للمعلومات كما كان أرسطو يعتقد، بل بطريقة أكثر ثورية بكثير. إنه يتقدم بواسطة الأفكار الجريئة، بواسطة تقديم نظريات جديدة وشديدة الغرابة (مثل نظرية أن الأرض ليست مسطحة، وأن المكان ليس مسطحا)، وبواسطة الإطاحة بالنظريات القديمة.
ولكن هذه الرؤية للمنهج العلمي تعني أن ليس في العلم «معرفة» بالمعنى الذي فهم به أفلاطون وأرسطو هذه الكلمة؛ أي المعنى الذي يتضمن النهائية. ليس لدينا في العلم مبرر كاف على الإطلاق للاعتقاد بأننا قد بلغنا الحقيقة، وإن ما اعتدنا أن نطلق عليه «المعرفة العلمية» هو كقاعدة ليس معرفة بهذا المعنى، وإنما هو معلومات تتعلق بشتى الفرضيات المتنافسة وكيف صمدت لشتى الاختبارات. إنه - باستخدام لغة أفلاطون وأرسطو - معلومات تتعلق بآخر «رأي»
opinion
علمي.
هذه الرؤية تعني - فضلا عن ذلك - أننا في العلم ليس لدينا براهين (باستثناء الرياضيات البحتة والمنطق بطبيعة الحال). أما في العلوم الإمبيريقية - التي بمكنتها وحدها أن تزودنا بمعلومات عن العالم الذي نعيش فيه - فالبراهين لا تحدث، إذا كنا نعني ب «البرهان»
proof
حجة تؤسس صدق نظرية ما مرة وإلى الأبد. (أما الذي قد يحدث فهو تفنيدات النظريات العلمية). ومن الجهة الأخرى فإن الرياضيات البحتة والمنطق - اللذين يسمحان بالبراهين - لا يقدمان لنا معلومات عن العالم، بل يطوران فحسب وسائل وصفه. بذلك يسعنا أن نقول (كما أشرت في موضع آخر): «بقدر ما تشير الجمل العلمية إلى عالم التجربة يتعين عليها أن تكون قابلة للدحض، وبقدر ما تكون غير قابلة للدحض، فإنها لا تشير إلى عالم التجربة.» ولكن على الرغم من أن البرهان لا يلعب أي دور في العلوم الإمبيريقية فما تزال الحجة تلعب دورا، بل إن دورها مساو في الأهمية على أقل تقدير للدور الذي تلعبه الملاحظة والتجربة.
كما أن دور التعريفات في العلم بخاصة مختلف تماما عما كان يقر في ذهن أرسطو. كان أرسطو يعلم أننا في التعريف نشير أولا إلى الماهية بتسميتها ثم نصفها تماما كما في جملة عادية مثل: «هذا الجرو بني اللون.» نحن نشير أولا إلى شيء معين بقولنا: «هذا الجرو»، ثم نصفه بأنه «بني اللون». وكان يعلم أننا بوصفنا هكذا للماهية التي يشير إليها الحد المعرف فنحن نحدد أيضا أو نفسر «معنى» الحد. يعني ذلك أن التعريف قد يجيب في وقت واحد عن سؤالين مرتبطين أشد الارتباط: السؤال الأول هو «ما هو؟» مثلا: «ما هو الجرو؟» وهو يسأل: ما هي الماهية التي يشير إليها الحد المعرف؟ والسؤال الثاني هو «ماذا تعني؟» مثلا: «ماذا تعني لفظة «جرو»؟» وهو يطلب معنى حد ما (أي معنى الحد الذي يشير إلى الماهية). وليس من الضروري في السياق الحالي أن نميز بين هذين السؤالين. أما المهم فهو أن نرى ما يتشاركان فيه، وأود بخاصة أن ألفت الانتباه إلى حقيقة أن كلا السؤالين يطرحهما الحد الذي يقع في التعريف على الجانب الأيسر (الأيمن في اللغة العربية)، وتجيب عنهما الصيغة المعرفة التي تقع على الجانب الأيمن (الأيسر في العربية). هذه الحقيقة تميز وجهة النظر الماهوية التي يختلف عنها المنهج العلمي للتعريف اختلافا جذريا .
فبينما يمكننا القول بأن التأويل الماهوي يقرأ التعريف «اعتياديا»؛ أي من اليسار إلى اليمين (العكس في العربية)، فإن بوسعنا القول بأن التعريف العلمي يجب أن يقرأ من الخلف إلى الأمام، أو من اليمين إلى اليسار (العكس في العربية)؛ لأنه يبدأ بالصيغة المعرفة ويطلب تسمية قصيرة لها. بذلك تكون النظرة العلمية للتعريف «الجرو هو كلب صغير» أنه جواب عن السؤال: «ماذا سنسمي الكلب الصغير؟» وليس جواب السؤال: «ما هو الجرو؟» (إن أسئلة من قبيل «ما هي الحياة؟» أو «ما هي الجاذبية؟» هي أسئلة لا تلعب أي دور في العلم). هذه النظرة العلمية للتعريف التي تتسم بالمقاربة «من اليمين إلى اليسار» (العكس في العربية) يمكن أن نطلق عليها تأويله «الاسمي»
nominalist ، كمقابل لتأويله الأرسطي أو «الماهوي»
essentialist . في العلم ليس ثمة إلا تعريفات اسمية؛ أي إدخال رموز أو تسميات اختزالية من أجل اختصار قصة طويلة. من هذا يمكننا أن نرى للتو أن التعريفات لا تلعب أي دور بالغ الأهمية في العلم؛ ذلك أن الرموز الاختزالية - بطبيعة الحال - يمكن دائما أن يستبدل بها التعبيرات الأطول، الصيغ المعرفة التي ترمز إليها هذه الرموز. من شأن هذا أن يجعل لغتنا العلمية شديدة البطء في بعض الحالات، وأن يهدر الوقت والورق؛ غير أننا لن نفقد أبدا مثقال ذرة من المعلومات الوقائعية. إن «المعرفة العلمية»
scientific knowledge - بالمعنى القويم لهذا المصطلح - تظل دون أدنى مساس إذا ما استبعدنا جميع التعريفات. الشيء الوحيد الذي يتأثر هو لغتنا التي ستفقد لا نقول الدقة بل الإيجاز فحسب (ليس يعني ذلك أنه لا يمكن في العلم أن تكون ثمة حاجة عملية ملحة إلى إدخال تعريفات من أجل الإيجاز). هذه النظرة للدور الذي تلعبه التعريفات تقف على النقيض التام من نظرة أرسطو؛ فالتعريفات الماهوية عند أرسطو هي المبادئ التي تستمد منها معرفتنا كلها؛ فهي بذلك تتضمن كل معرفتنا، وهي تعمل على أن تستبدل بالصيغة الطويلة صيغة أقصر. أما التعريفات العلمية أو الاسمية فهي على النقيض من ذلك لا تحتوي على أي معرفة كانت، ولا حتى أي «رأي»
opinion ، وكل ما تعمله هو إدخال تسميات مختزلة اعتسافية جديدة، إنها تختصر رواية طويلة.
لهذه التسميات أعظم النفع في الممارسة، ويكفينا لكي ندرك ذلك أن نتأمل المصاعب الشديدة التي ستعرض إذا كان على عالم بكتريا كلما تحدث عن سلالة معينة من البكتريا أن يكرر وصفها كله (بما فيه طرائق الصباغة إلخ التي تميزها عن عدد من الأنواع الشبيهة). ولعلنا نفهم أيضا - بتأمل مماثل لذلك: لماذا أغفل كثيرا جدا - حتى من جانب العلماء - أن التعريفات العلمية يجب أن تقرأ «من اليمين إلى اليسار» (العكس في العربية) مثلما أوضحنا آنفا؛ ذلك أن معظم الأشخاص عندما يدرسون علما ما - وليكن البكتريولوجيا - للمرة الأولى يجب أن يحاولوا كشف معاني كل هذه المصطلحات الفنية التي تصادفهم. وهم بهذه الطريقة - في حقيقة الأمر - يتعلمون التعريف «من اليسار إلى اليمين»، كما لو كان تعريفا ماهويا، مستعيضين عن رواية طويلة جدا بأخرى قصيرة جدا؛ غير أن هذا مجرد عرض سيكولوجي، وقد يمضي معلم أو مؤلف كتاب دراسي حقا بطريقة مختلفة تماما، بمعنى أنه قد لا يدخل أي مصطلح فني إلا بعد أن تعرض له الحاجة لهذا المصطلح.
لقد حاولت حتى الآن أن أبين أن الاستخدام العلمي أو الاسمي للتعريفات مختلف تماما عن المنهج الماهوي لأرسطو في التعريفات. ولكن بالإمكان أيضا تبيان أن النظرة الماهوية في التعريفات هي ببساطة أمر مغلوط بحد ذاته. وسأكتفي - لكي لا أطيل هذا الاستطراد فوق ما ينبغي - بأن أنقد مذهبين فقط من المذاهب الماهوية، مذهبين لهما أهمية من حيث إن بعض المدارس الحديثة الذائعة لا تزال قائمة عليهما. الأول هو المذهب الخفي الخاص بالحدس الفكري، والآخر هو المذهب الشديد الرواج القائل بأننا يجب أن «نعرف مصطلحاتنا» إذا شئنا الدقة.
ذهب أرسطو مع أفلاطون إلى أننا نمتلك ملكة - هي الحدس الفكري - يمكننا بها أن نبصر الماهيات ونتحقق أي التعريفات هو الصحيح، وكثير من الماهويين المحدثين قد أعادوا هذا المذهب ، وذهب فلاسفة آخرون - مقتفين أثر كانت - إلى أننا لا نملك أي شيء من هذا القبيل. ورأيي أن بوسعنا أن نسلم طوعا بأننا نملك شيئا ما قد يوصف على أنه «حدس فكري»
intellectual intuition ، أو بتعبير أدق: أن لدينا خبرات فكرية معينة قد توصف كذلك. إن كل من «يفهم» فكرة ما أو وجهة نظر أو طريقة رياضية كالضرب مثلا، بمعنى أنه قد «أحس بها» قد يقال: إنه يفهم هذا الشيء حدسيا، وهناك خبرات لا حصر لها من هذا الصنف؛ غير أني من جهة أخرى أود أن أؤكد أن هذه الخبرات - على أهميتها لجهودنا العلمية - لا يمكن على الإطلاق أن تفيد في تأسيس صدق أية فكرة أو نظرية مهما اشتد شعور المرء حدسيا بأنها صادقة بالضرورة أو أنها «واضحة بذاتها»
self-evident . مثل هذه الحدوس لا يمكن أن تعمل حتى كحجة، رغم أنها قد تشجعنا على البحث عن حجج؛ فقد يكون هناك شخص آخر لديه حدس - ليس أقل قوة - بأن نفس النظرية خاطئة. إن طريق العلم مرصوف بنظريات بائدة كانت تعد يوما ما واضحة بذاتها، لقد كان فرنسيس بيكون - على سبيل المثال - يسخر من أولئك الذين أنكروا الحقيقة الواضحة بذاتها بأن الشمس والنجوم تدور حول الأرض التي كانت تبدو ثابتة على نحو واضح. إن الحدس ليلعب بغير شك دورا عظيما في حياة العالم، مثلما يفعل بالضبط في حياة الشاعر. إنه يقوده إلى اكتشافاته، ولكنه قد يقوده أيضا إلى إخفاقاته. وهو يظل دائما شأنه الخاص كيفما كان، فالعلم لا يسأله كيف حصل على أفكاره. العلم لا تهمه إلا الحجج التي يمكن أن يختبرها كل شخص. وقد وصف الرياضي العظيم جاوس هذا الموقف وصفا غاية في الدقة عندما قال متعجبا: «لقد حصلت على نتيجتي، ولكني لا أعرف بعد كيف الحصول عليها!» كل هذا ينطبق بالطبع على مذهب أرسطو في حدس ما يسمى بالماهيات، الذي انتقل بواسطة هيجل، وفي زمننا نحن بواسطة إدموند هسرل وتلاميذه الكثيرين، وهو يشير إلى أن «الحدس الفكري للماهيات» أو «الفينومينولوجيا الخالصة» - كما يسميه هسرل - هو منهج لا يخص العلم ولا الفلسفة. «من الميسور حسم السؤال الذي كثر الجدل حوله: أهو ابتكار جديد كما يعتقد أصحاب الفينومينولوجيا الخالصة أم هو ربما صيغة من الديكارتية أو الهيجلية؟ فالجواب أنه صيغة من الأرسطية.»
والمذهب الثاني الذي أتناوله بالنقد هو أكثر ارتباطا بالآراء الحديثة حتى من مذهب الحدس الفكري، ويتصل بصفة خاصة بمشكلة النزعة اللفظية
verbalism . منذ أرسطو أصبح من المعروف على نطاق عريض أن المرء لا يمكن أن يبرهن على جميع العبارات، وأن مثل هذه المحاولة مقدر عليها الإخفاق؛ لأنها لن تفضي إلا إلى نكوص لا نهائي للبراهين. ولكن لا أرسطو ولا العديد من الكتاب المحدثين - فيما يبدو - يدركون أن المحاولة المماثلة بتعريف معاني جميع حدودنا تفضي بنفس الطريقة إلى نكوص لا نهائي للتعريفات. والفقرة التالية من كتاب كروسمان «أفلاطون اليوم» خير تعبير عن وجهة من الرأي مبيتة في اعتقاد الكثير من الفلاسفة المعاصرين ذائعي الصيت (فتجنشتين على سبيل المثال): «... إذا لم نكن نعرف بدقة معاني الألفاظ التي نستخدمها فلن يمكننا أن نناقش أي شيء على نحو مفيد؛ فمعظم مجادلاتنا العبثية التي نضيع فيها الوقت جميعا تعود بالأكثر إلى حقيقة أن كلا منا لديه معان غامضة خاصة به للألفاظ التي يستخدمها ويفترض أن خصمه يستخدمها بنفس المعنى. فإذا ما بدأنا بتعريف ألفاظنا لكان بإمكاننا أن نخلص إلى نقاشات أكثر فائدة بكثير. مرة ثانية: بحسبنا أن نقرأ الصحف اليومية لكي نلحظ أن الدعاية (النظير الحديث للخطابة) تعتمد اعتمادا كبيرا من أجل نجاحها على خلط معاني الألفاظ. إنه لو أجبر السياسيون بالقانون على أن يعرفوا أي لفظ يريدون أن يستخدموه لفقدوا الشطر الأكبر من جاذبيتهم الشعبية، ولصارت خطبهم أقصر، ولتبين أن كثيرا من خلافاتهم هي خلافات لفظية محضة.» هذه الفقرة مميزة جدا لواحدة من التحيزات التي نعزوها لأرسطو، ومفادها أن اللغة يمكن أن تجعل أكثر دقة عن طريق استخدام التعريفات. فلننظر هل يمكن حقا إدراك هذه الغاية.
يمكننا أولا أن نرى أن «السياسيين» (أو أي شخص آخر) إذا «أجبروا بالقانون على أن يعرفوا أي لفظ يريدون أن يستخدموه»، فلن تقصر خطبهم بل ستطول إلى غير حد ؛ ذلك أن التعريف لا يمكن أن يؤسس معنى حد من الحدود أكثر مما يمكن للبرهان أو الاستنباط أن يؤسس صدق عبارة؛ فكلاهما لا يملك إلا أن يزيح هذه المشكلة إلى الخلف.
3
أما الاستنباط فينقل مشكلة الصدق خلفا إلى المقدمات، وأما التعريف فينقل المشكلة خلفا إلى الحدود المعرفة (أي الحدود التي تكون الصيغة المعرفة)؛ غير أن هذه (الحدود المعرفة) من المرجح لأسباب كثيرة ألا تكون أقل غموضا وخلطا من الحدود التي بدأنا بها؛ وسيكون علينا على أية حال أن نمضي لكي نعرفها بدورها؛ الأمر الذي يؤدي إلى حدود جديدة ينبغي تعريفها كذلك ... وهكذا إلى غير نهاية. بوسع المرء أن يرى أن المطلب الخاص بضرورة تعريف جميع ألفاظنا هو مطلب لا يقل تمنعا عن المطلب الخاص بضرورة البرهان على جميع عباراتنا.
للوهلة الأولى قد يبدو هذا النقد غير منصف؛ فقد يقال بأن ما يعنيه الناس إذا التمسوا تعريفات هو التخلص من الالتباسات التي كثيرا جدا ما ترتبط بكلمات من قبيل «الديمقراطية»، «الحرية»، «الواجب»، «الدين» ... إلخ. وإن من الواضح أن من غير الممكن تعريف جميع ألفاظنا، ولكن من الممكن تعريف بعض من هذه المصطلحات الأكثر خطورة وتركها عند ذلك الحد، وأن الألفاظ التعريفية ينبغي قبولها فحسب؛ أي إن علينا أن نتوقف بعد خطوة أو اثنتين كيما نتجنب النكوص اللانهائي؛ غير أن هذا الدفاع مغلوط: فصحيح أن الألفاظ المذكورة يساء استخدامها كثيرا، إلا أني أنكر أن محاولة تعريفها يمكن أن تصلح الأحوال؛ إذ لا يمكنها إلا أن تجعل الأحوال أسوأ. إن من الواضح أن تعريف السياسيين لمصطلحاتهم ولو مرة واحدة وترك الألفاظ المعرفة غير معرفة لن يمكنهم من تقصير خطبهم؛ ذلك أن أي تعريف ماهوي - أي الذي يعرف ألفاظنا (كمقابل للتعريف الاسمي الذي يدخل مصطلحات فنية جديدة) - يعني استبدال قصة طويلة بقصة قصيرة كما رأينا. وفضلا عن ذلك فإن محاولة تعريف الحدود لن يؤتي إلا المزيد من الغموض والخلط؛ فما دمنا لا نستطيع أن نطالب بتعريف جميع ألفاظنا المعرفة بدورها فإن بوسع السياسي أو الفيلسوف الحاذق بسهولة أن يجيب مطلب التعريفات. فإذا سئل مثلا ماذا يعني ب «الديمقراطية» فإن بوسعه أن يقول: «حكم الإرادة العامة» أو «حكم روح الشعب». وحيث إنه الآن قد قدم تعريفا، ووفى من ثم بأعلى معايير الدقة، فلن يجرؤ أحد على نقده مرة ثانية. وكيف يمكن حقا أن ينقد ما دام مطلب تعريف ألفاظ «الحكم» أو «الشعب» أو «الإرادة» أو «الروح» بدورها تضعنا على طريق نكوص لا نهائي مؤكد، بحيث تجعل أي شخص يتردد في طرح ذلك؛ على أنه إذا طرح هذا المطلب رغم كل هذا فبالإمكان إجابته بنفس السهولة. ومن جهة أخرى فإن النزاع حول مدى صواب أو صدق التعريف لا يمكن أن يؤدي إلا إلى خلاف فارغ حول ألفاظ.
هكذا تنهار وجهة الرأي الماهوية حتى إذا لم تحاول مع أرسطو تأسيس «مبادئ» معرفتنا واكتفت بالمطلب الذي يبدو أكثر تواضعا، وهو أن علينا «أن نعرف معنى حدودنا».
ولكن لا شك أن مطلب أن نتحدث بوضوح وبدون التباس هو مطلب شديد الأهمية وينبغي أن يجاب. فهل بوسع وجهة الرأي الاسمية أن تفي به؟ وهل يمكن للاسمية أن تتلافى النكوص اللانهائي؟
نعم يمكنها؛ فليس ثمة صعوبة لدى الموقف الاسمي تتعلق بالنكوص اللانهائي؛ فالعلم - كما قد رأينا - لا يستخدم التعريفات لكي يحدد معاني حدوده، بل لكي يدخل تسميات مختزلة يسيرة الاستخدام لا أكثر. وهو لا يعتمد على التعريفات؛ فجميع التعريفات يمكن أن تحذف من العلم دون فقدان للمعلومات التي ينقلها. ينتج من ذلك أنه في العلم «يجب أن تكون جميع الحدود التي يحتاجها حقا حدودا غير معرفة». كيف تؤمن العلوم إذن بمعاني مصطلحاتها؟ لقد اقترحت أجوبة شتى على هذا السؤال، ولكني لا أظن أن من بينها أي جواب شاف؛ فالموقف - فيما يبدو - هو هذا: لقد أنبأتنا الفلسفة الأرسطية وما لف لفها لزمن طويل كم هو مهم أن نحصل على معرفة دقيقة بمعنى حدودنا، بحيث صرنا جميعا نميل إلى تصديقها، ونحن ما زلنا متشبثين بهذه العقيدة برغم الحقيقة التي لا تقبل الشك بأن الفلسفة - التي جعلت همها معنى المصطلحات طيلة عشرين قرنا - ليست تعج باللفظية فحسب، بل هي أيضا غامضة على نحو مريع، في حين أن علما مثل الفيزياء لا يكاد يكترث بالألفاظ ومعانيها بل بالوقائع قد بلغ درجة عظيمة من الدقة. من المؤكد أن هذه الحقيقة ينبغي أن تلفتنا إلى أنه تحت النفوذ الأرسطي تمت المبالغة الشديدة في أهمية معاني الحدود؛ غير أني أراها تشير إلى ما هو أكثر حتى من ذلك؛ فهذا التركيز على مشكلة المعنى لا يفشل فحسب في تأسيس الدقة، بل إنه هو نفسه المصدر الرئيسي للغموض والخلط.
نحن في العلم نحرص على أن تكون عباراتنا لا تعتمد مطلقا على معنى ألفاظنا. وحتى عندما تعرف مصطلحاتنا فنحن لا نحاول على الإطلاق أن نستمد أي معلومات من التعريف، أو نؤسس عليه أية حجة؛ لذا لا تسبب مصطلحاتنا أدنى اضطراب، نحن لا نبهظها، ونحن لا نأخذ «معناها» بجدية شديدة. نحن على وعي دائما بأن مصطلحاتنا غامضة بعض الشيء (ما دمنا قد تعلمنا ألا نستخدمها إلا في تطبيقات عملية)، ونحن نبلغ الدقة لا بإنقاص هامش الغموض منها بل بالبقاء في صميمه، بصياغة جملنا بعناية بحيث لا يكون للظلال الممكنة لمعنى مصطلحاتنا شأن يذكر. هذا هو سبيلنا في تجنب الاصطراع حول ألفاظ.
من المؤكد أن الرأي القائل بأن دقة العلم ولغة العلم تعتمد على دقة مصطلحاته هو رأي جد مقبول ظاهريا، إلا أنه مجرد تحيز؛ فدقة أي لغة إنما تعتمد على حقيقة أنها تحرص على ألا تثقل ألفاظها بمهمة أن تكون دقيقة. إن لفظا مثل «كثيب (رملي)»، أو «ريح» هو لفظ شديد الغموض بدون شك (فكم بوصة يتعين أن يكون طول الكثيب حتى يسمى كثيبا؟ وبأية سرعة يتعين أن يتحرك الهواء كيما يسمى «ريحا»؟) ورغم ذلك فهذان اللفظان يتحليان بدقة كافية تماما لكثير من أغراض عالم الجيولوجيا، وإذا ما تطلب الأمر درجة أعلى من التمييز فإن بوسعه دائما أن يقول: «كثبان رملية طولها بين 4-20 قدما» أو «ريح سرعتها بين 20-40 ميلا في الساعة». وكذلك الحال في العلوم الأكثر دقة. في القياسات الفيزيائية - على سبيل المثال - نحرص دائما أن نضع اعتبارا للنطاق الذي قد يحدث فيه خطأ، ولا تتمثل الدقة في محاولة إنقاص هذا النطاق إلى صفر، أو نتظاهر بعدم وجود مثل هذا النطاق، بل في تمييزه الصريح.
وحتى حيثما أوقع مصطلح ما إزعاجا، كمصطلح
simultaneity (تزامن) في الفيزياء على سبيل المثال؛ فإن ذلك لم يكن لأن معناه كان غير دقيق أو كان ملتبسا، بل بسبب تحيز حدسي معين حملنا على أن نثقل المصطلح بقدر كبير من المعنى، أو بدقة زائدة في المعنى، وليس لأننا أضفينا عليه قدرا قليلا من المعنى أو من دقة المعنى. إن ما وجده أينشتين في نقده للتزامن هو أن الفيزيائيين في حديثهم عن الأحداث المتزامنة كانوا يضمرون افتراضا ضمنيا (افتراض إشارة لا متناهية السرعة) تبين أنه مصطنع. لم يكن الخطأ أنهم لم يعنوا أي شيء أو أن معناهم كان ملتبسا أو أن المصطلح لم يكن دقيقا بما فيه الكفاية؛ بل ما وجده أينشتين هو أن التخلص من افتراض نظري كان خفيا حتى حينه بسبب وضوحه الذاتي الحدسي - قد تكفل بإزالة صعوبة كانت قد برزت في العالم؛ ومن ثم فقد كان أينشتين غير معني في الحقيقة بمسألة معنى المصطلح بل بصدق إحدى النظريات، وإنه لمن المستبعد جدا أنه كان سيجدي كثيرا لو أن المرأ كان قد بدأ بمعزل عن مشكلة فيزيائية محددة في تحسين مفهوم التزامن عن طريق تحليل «معناه الجوهري»، أو حتى بتحليل ما «يعنيه الفيزيائيون حقا» عندما يتحدثون عن التزامن.
أعتقد أننا يمكن أن نتعلم من هذا المثال أننا يجب ألا نحاول أن نعبر جسورنا قبل أن نصل إليها، وأعتقد أيضا أن من المؤكد أن الانشغال بأسئلة تتعلق بمعنى المصطلحات (مثل غموضها أو التباسها) لا يمكن تبريره باللجوء لمثال أينشتين. إنما يستند مثل هذا الانشغال على الافتراض القائل بأن شيئا كثيرا يتوقف على معنى مصطلحاتنا وأننا نعمل بواسطة هذا المعنى؛ ومن ثم فهو لا بد أن يؤدي إلى النزعة اللفظية والسكولائية. من هذه الزاوية يمكننا أن ننتقد مذهبا مثل مذهب فتجنشتين الذي يقول بأنه في حين أن العلم يبحث في الوقائع فإن مهمة الفلسفة هي أن توضح معنى المصطلحات؛ وبذلك تنقي لغتنا وتتخلص من الأحاجي اللغوية. إن السمة المميزة لآراء هذه المدرسة أنها لا تفضي إلى أية سلسلة من الحجة يمكن أن تخضع للنقد العقلاني، وأنها من ثم لا تتوجه بتحليلاتها الدقيقة إلا لدائرة حصرية صغيرة من المكرسين. يشير ذلك فيما يبدو إلى أن أي انشغال بالمعنى ينزع إلى أن يؤدي إلى تلك النتيجة التي تسم المذهب الأرسطي بصفة خاصة: النزعة السكولائية والتصوف.
لننظر الآن باختصار كيف نشأت هاتان النتيجتان المميزتان للأرسطية. لقد كان أرسطو يؤكد أن البرهان والتعريف هما المنهجان الأساسيان لتحصيل المعرفة. بالنظر أولا إلى مذهب البرهان، فلا سبيل إلى إنكار أنه قد أدى إلى محاولات لا حصر لها لإثبات أكثر مما يمكن إثباته. وتعج الفلسفة القروسطية بهذه السكولائية، ويمكن أن نلاحظ الميل نفسه في القارة حتى زمن كانت. لقد كان نقد كانت لجميع محاولات إثبات وجود الله هو ما أدى إلى رد الفعل الرومانسي عند فخته وشيلنج وهيجل. وتتمثل النزعة الجديدة في إغفال البراهين ومعها كل نوع من الحجة العقلانية. ومع الرومانسيين فإن نوعا جديدا من الدوجماطيقية يصبح صيحة رائجة في الفلسفة وفي العلوم الاجتماعية أيضا. إنها تجابهنا بقولها الفصل وعلينا أن نأخذها أو ندعها. يصف شوبنهاور هذه الفترة الرومانسية لفلسفة نبوئية، والتي أطلق عليها «عصر الغش»، قائلا: «إن سمة الأمانة - تلك الروح الخاصة بمشاركة القارئ في الاضطلاع ببحث ما، والتي تتخلل أعمال كل الفلاسفة السابقين - تختفي هنا كليا. وإن كل صفحة تشهد بأن هؤلاء المدعوين فلاسفة لا يحاولون أن يعلموا القارئ بل أن يسحروه.»
وثمة نتيجة مماثلة أنتجها مذهب أرسطو في التعريف. لقد أدى أولا إلى كم كبير من المماحكة اللفظية؛ غير أن الفلاسفة بدءوا يشعرون فيما بعد بأن المرء لا يمكنه أن يحاج حول التعريفات. بهذه الطريقة فإن الماهوية لم تشجع النزعة اللفظية فحسب، بل أدت أيضا إلى خيبة أمل في الحجة؛ أي في العقل. السكولائية والصوفية واليأس من العقل، هذه هي النتائج المحتمة لماهوية أفلاطون وأرسطو. وتصبح ثورة أفلاطون المعلنة ضد الحرية - مع أرسطو - ثورة سرية ضد العقل.
وكما نعلم من أرسطو نفسه، فإن الماهوية ونظرية التعريف عندما دفع بهما لأول مرة قد ووجها بمعارضة قوية، وبخاصة من أنتستين الرفيق القديم لسقراط، الذي يبدو أن نقده كان معقولا للغاية، إلا أن هذه المعارضة قد انهزمت للأسف، وإن نتائج هذه الهزيمة لفادحة بالنسبة للتطور الفكري للجنس البشري.
الفصل السادس
الماهوية اللغوية
إثم تصوري يكبل اللغة ويعوق انطلاق العقل. ***
ثمة توتر في اللغة بين النزعة الماهوية المحافظة من جهة والنزعة التقدمية الواقعية العملية من جهة أخرى.
هل للغة ماهية مسبقة، ثابتة، تامة، دائمة؟
أم اللغة من الناس، وبالناس، وللناس؟
هل من المحتمل أن يكون للتعاليم اللغوية العسيرة التي نفرضها على التلاميذ دور ما في تجميد إبداعيتهم وتعويق تدفقهم؟
من الذي يقرر أن القواعد الموروثة صواب والاستعمال الحديث خطأ؟
يبدو أن النزعة الماهوية هي في القلب من كل مذهب محافظ في اللغة، وأن موقف المرء من الماهوية هو الذي يحدد مذهبه في فقه اللغة:
في أصل اللغة: توقيف هي أم اصطلاح؟
في طبيعة اللغة: علاقة الدال بالمدلول؛ أهي علاقة طبيعية ضرورية أم هي مواضعة واتفاق؟ هل اللغة شيء ثابت أم شيء متغير؟
في علوم اللغة: أينبغي لها أن تكون معيارية حاكمة أم وصفية سمحة؟
سيقول من أشرب بالنزعة الماهوية إن اللغة توقيفية، طبيعية، ثابتة، حاكمة. وسيقول من عوفي من الماهوية بغير ذلك. (1) توقيف أم اصطلاح؟
سيقول الماهوي: إن اللغة البشرية هبطت من السماء وظهرت فجأة بطريقة إعجازية خارقة، في لحظة زمنية واحدة، مستوية مكتملة، كما ولدت منرفا من رأس زيوس! اللغة عند هؤلاء هي «توقيف» أو وحي أو إلهام من الله.
من الثابت الآن في ضوء اللغويات الحديثة وعلم الاجتماع الحديث «أن اللغة ليست إلا ظاهرة اجتماعية، وتلك الظواهر الاجتماعية لا تقوم إلا على غير ما تصوره الأقدمون من أمور عقلية منطقية وأعمال صناعية تحكمية»
1 ... تلك الظواهر الاجتماعية ليست صناعة فرد بعينه أو أفراد بعينهم، ولا عمل جيل بذاته، ولا توجيه فيها لعقل الفرد، أو الإرادة الفردية، ولا تأثير له عليها، فلا هو يستطيع دفعها إذا أراد، ولا هو يستطيع صدها إذا شاء، وما هو ولا قومه مجتمعين بمستطيعين أن يقدموا من أمرها شيئا أو يؤخروه. فلا هم يتدخلون تدخلا إراديا في وجودها، ولا هم يسهمون في تنظيمها، ولا هم يختطون طريقها؛ وكل ما تتعرض له وما يواجهها من دوافع أو موانع ... وما ينالها من تغير وتحول، أو توسط وتبسط، أو توقف وتعطل، لا يكون شيء منه إلا من نتائج العقل الجمعي، ومقتضيات الوجود التجمعي، وهو ما لا ينفي فيه منطق الأفراد ولا يثبت، ولا تعطي فيه إرادتهم ولا تمنع، ولن يغيروا أبدا من واقع تحتمه القوانين الاجتماعية الثابتة المطردة.»
2
هذا أمر ينبغي تفهمه ابتداء حتى يتبين لنا خطأ القدماء الأولي فيما ذهبوا إليه. «فاللغة في كل مجتمع نظام عام يشترك الأفراد في اتباعه، ويتخذونه أساسا للتعبير عما يجول بخواطرهم، وفي تفاهمهم بعضهم مع بعض. واللغة ليست من الأمور التي يصنعها فرد معين أو أفراد معينون، وإنما تخلقها طبيعة الاجتماع، وتنبعث عن الحياة الجمعية، وما تقتضيه هذه الحياة من تعبير عن الخواطر وتبادل للأفكار. وكل فرد منا ينشأ فيجد بين يديه نظاما لغويا يسير عليه مجتمعه فيتلقاه عنه تلقيا بطريق التعليم والمحاكاة، كما يتلقى سائر النظم الاجتماعية الأخرى، ويصب أصواته في قوالبه، ويحتذيه في تفاهمه وتعبيره.»
3 (2) من خصائص العقل القديم
لم يكن العقل الإنساني في تلك المرحلة التاريخية من تطوره لحظة تأسيس علوم اللغة، لم يكن قد تخلص بعد من آثار الشفاهية والبدائية وسذاجة الطفولة البشرية. كان عقلا قديما يهيمن عليه «بارادايم»
4
قديم بائد؛ وما يزال يتلقط رواية من هنا وأسطورة من هناك يسد بها الثغرة وينفي الحيرة. وكان التاريخ عنده لا يتجاوز بضعة آلاف من السنين؛ ومن ثم لم يكن بوسع الإنسان في هذا التاريخ المقزم أن يصنع شيئا هائلا كاللغة. من هنا تنفذ الأسطورة وتستوي وتتربع.
وجه الأمر أن كفاح الإنسان على الأرض بدأ منذ ملايين السنين، كما تدلنا علوم الأنثروبولوجيا والجيولوجيا، وأن اللغة ظاهرة اجتماعية نشأت على رسلها كنتيجة حتمية للحياة في جماعة أفرادها يجدون أنفسهم مضطرين إلى اتخاذ وسيلة للتواصل والتعبير وتبادل الأفكار والخواطر. اللغة ظاهرة اجتماعية تظهر بظهور المجتمع وتتأثر بعاداته وتقاليده وطرائق سلوكه وتفكيره، وتخضع لسنن التطور التي يخضع لها المجتمع، فترتقي بارتقائه وتنحط بانحطاطه.
ولم يكن العقل الإنساني في هذه المرحلة من تطوره ينفر من التناقض نفورنا منه الآن. ولم يكن «قانون التناقض»
law of contradiction
فاعلا فيه، هذا ما يجب أن نعيه ونحن نشهد النقائض متراصة في فكر القدماء جنبا إلى جنب
juxtaposed
في وئام وسلام، مثلما تتراص في أحلامنا! ونشهد التصورات الميثوبية
5
والغيبية تبتلع ببساطة تدعونا إلى العجب. كان الفكر القديم «يدرك العلاقة بين السبب والنتيجة (العلة والمعلول)، ولكنه لن يدرك ما نراه من سببية (علية) تعمل كالقانون آليا ودونما أي هوى شخصي؛ وذلك لأننا قد ابتعدنا كثيرا عن عالم التجربة المباشرة بحثا عن الأسباب الحقيقية ... إنه أعجز من أن ينسحب كل هذا الانسحاب عن الحقيقة المحسوسة. كما أنه لن يقنع بأفكارنا، فإذا بحث عن السبب، فإنه يبحث عن «من» لا عن «كيف». إنه يبحث عن إرادة ذات غرض تأتي فعلا معينا.»
6
هذا ما جعل مسألة «اللغة» كظاهرة «انبثاقية»
emergent
تنجم تلقائيا من طبيعة الاجتماع شيئا عصيا على إدراكه، بعيدا عن منال فهمه.
اللغة إذن «ظاهرة اجتماعية يتميز بها كل مجتمع إنساني. وهي ظاهرة إنسانية لا علاقة لها بالآلهة، ولم تهبط من عل، بل نشأت من أسفل، وتطورت بتطور الإنسان ذاته، ونمت بنمو حضارته.»
7
لقد اخترعت اللغة - كما يقول هيردر - «بوسائل الإنسان الخاصة، ولم تبتكر بصورة آلية بطريق التعليمات الإلهية. لم يكن الله هو الذي اخترع اللغة للإنسان، ولكن الإنسان نفسه هو الذي اضطر إلى اختراعها بطريق ممارسته قدراته الخاصة.» (3) طبيعة اللغة
ما هي العلاقة بين الكلمات والأشياء؟ بين الدال والمدلول؟ بين الألفاظ وما تشير إليه الألفاظ؟
ثمة جوابان ممكنان على هذا السؤال: الأول يقول: إن العلاقة بين الكلمة ومدلولها علاقة طبيعية ضرورية تجعل هذه الكلمة بعينها هي المقيضة للتعبير عن هذا الشيء بعينه، وهي المناسبة - دون غيرها من الأصوات الممكنة - للإشارة إلى هذا المعنى المحدد؛ وبالتالي فإن أمر الدلالة (أو التدليل
signification ) غير متروك للمصادفة أو الاعتساف. ذلك هو «المذهب الطبيعي»
naturalism
في اللغة.
والجواب الثاني يقول: إن العلاقة القائمة بين العلامات اللغوية - كالكلمات - وبين معانيها هي في عامة الأحوال مسألة «عرف» أو «اصطلاح» أو «تواطؤ» أو «مواضعة»
convention . «إن الرموز اللغوية لا تحمل قيمة ذاتية طبيعية تربطها بمدلولها في الواقع الخارجي. فليس هناك أي علاقة بين كلمة «حصان» ومكونات جسم الحصان. والعلاقة كامنة فقط عند الجماعة الإنسانية التي اصطلحت على استخدام هذه الكلمة اسما لذلك الحيوان. ومعنى هذا أن قيمة هذه الرموز اللغوية تقوم على العرف؛ أي على ذلك الاتفاق الكائن بين الأطراف التي تستخدمها في التعامل. وهذا معناه أن المؤثر والمتلقي متفقان على استخدام هذه الرموز اللغوية المركبة بقيمتها المعرفية.»
8
وليس هناك ما يحتم على كلمة
dog
أن تعني ذلك الصنف المستأنس من الكلبيات. إنما يجعل هذه الكلمة تعني ما تعنيه هو أن الناطقين بالإنجليزية يرقب بعضهم بعضا ويتوقعون فيما بينهم أن يلتزم كل منهم بالعرف المتفق عليه والذي يربط كلمة
dog
بالكلب،
9
ذلك هو «المذهب الاصطلاحي أو التواضعي»
conventionalism
في اللغة.
شغلت هذه المسألة عقول المفكرين اللغويين منذ أقدم العصور. وفي زمن الإغريق طرح هذا السؤال طرحا ناضجا، وانقسم الفلاسفة فيه بين قائل بالمذهب الطبيعي مثل هيراقليطس وكراتيلوس، وقائل بالمذهب الاصطلاحي مثل ديمقريطس وهيرموجينيس. (4) اعتباطية العلامة اللغوية
هناك أكثر من طريقة لتجزئة العالم وتقطيعه، وكل لغة من اللغات الطبيعية تقوم بذلك على نحو مختلف بعض الشيء. هذه العرفية المزدوجة لكل العلامات اللغوية هي ما يعرف حاليا ب «اعتباطية العلامة»
arbitrariness of sign ، وهو مصطلح مأثور عن فرديناند دي سوسير (1807-1913م). يقول سوسير : إن العلاقة التي تربط «الدال»
signifier
ب «المدلول»
signified
علاقة اعتباطية. ولما كنت أعني بالعلامة اللغوية النتيجة الإجمالية للربط بين الدال والمدلول، فإن بوسعي القول بإيجاز وبساطة: العلامة اللغوية علامة اعتباطية. ففكرة «الأخت»
sister
لا ترتبط بأية علاقة داخلية مع السلسلة المتتابعة من الأصوات
s-o-r
التي تستعمل كدال بالنسبة لهذه الفكرة في اللغة الفرنسية؛ إذ يمكن تمثيل هذه الفكرة باستخدام أي سلسلة أخرى من الأصوات. وأكبر دليل على ذلك هو الفروق القائمة بين اللغات، بل وجود لغات مختلفة: فللمدلول «ثور» الدال
b-o-f
على طرف من الحدود (الفرنسية-الألمانية)، و
o-k-s (ochs)
على الطرف الآخر.
10
لقد استخدم لفظ «رمز»
symbol
للدلالة على العلامة اللغوية، أو على وجه الدقة: للدلالة على ما نسميه «الدال». ولكن هناك بعض المصاعب التي تمنعنا من اتخاذه، وذلك بسبب مبدئنا الأول نفسه؛ فللرمز خاصية أنه لا يدرك دوما اعتباطيا؛ فهو ليس فارغا، بل فيه بقية من رابطة «طبيعية» بين الدال والمدلول؛ فرمز العدالة مثلا - أي الميزان - لا يمكن أن يستبدل به أي شيء آخر: دبابة مثلا أو عربة!
11
يستدعي لفظ «اعتباطية» الملاحظة التالية: فهذه الكلمة لا ينبغي أن تعطي انطباعا بأن أمر اختيار الدال متروك تماما للمتكلم (وسنرى أنه ليس بمكنة أي أحد أن يغير شيئا في علامة لغوية استتبت في مجتمع لغوي ما). إنما أعني بالاعتباطية أن العلامة اللغوية ليس لها سبب؛ أي إن العلاقة بين الدال والمدلول بها لا تقوم على أية رابطة طبيعية.
12
والاستثناء الوحيد الممكن لهذه الطبيعة الاعتباطية للعلامة اللغوية هو ما يعرف بالأونوماتوبيا
onomatopoeia
أي التسمية بالمحاكاة الصوتية، حيث تقوم بعض الكلمات بمحاكاة الأصوات التي تسميها (مثل كلمة
boom
بمنى هدير أو أزيز، وكلمة
bow-wow
بمعنى نباح).
13
غير أن دي سوسير سرعان ما يهون من شأن الأونوماتوبيا ويضعها في حجمها: «قد تتخذ الكلمات الأونوماتوبية كدليل على أن اختيار الدال ليس اعتباطيا دائما؛ غير أن الكلمات الأونوماتوبية ليست عناصر حيوية (عضوية) في بناء النظام اللغوي، ثم إن عددها أقل بكثير مما يعتقد ... كما أن أونوماتوبيتها إنما جاءت نتيجة تصادفية للتطور الصوتي فيها.»
أما الكلمات التي هي أمثلة حقيقية للعلاقة بين الصوت والمعنى، مثل:
glug-glug ،
tuik-tick
فهي قليلة العدد، فضلا عن أن اختيارها يكون عادة بصورة اعتباطية؛ لأنها محاولات تقريبية تعتمد أيضا على العرف، في محاكاة بعض الأصوات (مثال ذلك
bow-wow
في الإنجليزية يقابله
ouaoua
في الفرنسية (نباح الكلب)). ثم إن هذه الكلمات ما إن تدخل اللغة حتى تصبح إلى حد ما خاضعة للتطور اللغوي - الصوتي والصرفي إلخ - الذي تخضع له الكلمات الأخرى (مثال ذلك: كلمة
pigeon (حمام) مشتقة من اللاتينية العامية
pipio ) وهذه الكلمة بدورها مشتقة من الصوت الذي يوحي به صوت الطائر). وهذا دليل واضح على أن هذه الكلمات تفقد شيئا من صفتها الأولى؛ لكي تكسب الصفة العامة للعلامة اللغوية وهي صفة الاعتباطية (انعدام الصلة الطبيعية).
وأما ألفاظ التعجب، وهي ترتبط ارتباطا وثيقا بالكلمات الأونوماتوبية (التي توحي أصواتها بمعانيها)، ويصح عليها أيضا النقد السابق؛ فهي ليست دليلا على بطلان حجة الاعتباطية في العلامة اللغوية. وقد ينظر المرء إلى ألفاظ التعجب على أنها تعابير تلقائية للحقيقة تمليها على المتكلم القوى اللغوية الطبيعية. ولكننا نستطيع أن نبين عدم وجود علاقة ثابتة بين المدلول والدال في معظم ألفاظ التعجب؛ فما علينا إلا أن نقارن بين هذه الألفاظ في لغتين حتى نرى اختلافها من لغة إلى أخرى (فلفظة
aie!
الفرنسية يقابلها
ouch!
في الإنجليزية).
14
ثم إننا نعلم أن كثيرا من ألفاظ التعجب كانت في وقت ما كلمات لها معان محددة، لاحظ: الكلمة الفرنسية
diable (اللعنة)،
mordieu (الله) من
mort dicu (في الإنجليزية:
Zounds goodness ). إذن فالألفاظ التي توحي بمعناها وألفاظ التعجب ذات أهمية ثانوية، وأصلها الرمزي موضع خلاف.
15
وقع كثير من النحاة العرب في الغلو في خصائص اللغة، وذهب بهم إعجابهم باللغة العربية بعيدا بحيث تصوروا فيها ما لا وجود له إلا في خيالهم، وأضفوا عليها من مظاهر السحر ما لا يصح في الأذهان ولا تتصف به لغة من لغات البشر.
16
من ذلك أنهم كانوا يؤمنون إيمانا قويا بوجود «مناسبة» بين اللفظ والمعنى، أو رابطة عقلية منطقية بين الأصوات ومدلولاتها، ولا يتصورون أن الأمر يمكن أن يكون اعتباطيا مرده إلى التكرار والعادة، وأن يكون وهميا ناتجا عن التداعي وميل العقل إلى الربط والتعميم. يقول ابن جني في كتابه : «التمام في تفسير أشعار هذيل مما أغفله أبو سعيد السكري»: «وقد ذهب بعضهم إلى أن العبارات كلها إنما أوقعت على حكاية الأصوات وقت وقوع الأفعال، ولا أبعد أن يكون الأمر كذلك، ثم إنها تداخلت وضورع ببعضها بعض، ألا ترى أن الخضم لكل رطب والقضم لكل يابس، وبين الرطب واليابس ما بين الخاء والقاف من الرخاوة والصلابة ... وهذا باب إنما يصحب وينجذب لمتأمله إذا تفطن وتأتى له، ولاطفه ولم يجف عليه، ومنه قولهم: «بحثت» التراب ونحوه، وهو على ترتيب الأصوات الحادثة عنده؛ فالباء للخفقة بما يبحث به عن التراب، والحاء فيما بعد كصوت رسوب الحديدة ونحوها إذا ساخت في الأرض، والثاء لحكاية صوت ما ينبث من التراب فتأمله، فإن فيه غموضا. فأما قولهم: بحثت عن حقيقة هذا الأمر، وبحثت عن حقيقة هذه المسألة، فاستعارة للمبالغة في طلب ذلك المعنى، ولا تترك الحقيقة إلى المجاز إلا لضرب من المبالغة، ولولا ذلك لكانت الحقيقة أولى من المجاز.»
17
وفي «الخصائص»: «فإن كثيرا من هذه اللغة وجدته مضاهيا بأجراس حروفه أصوات الأفعال التي عبر بها عنها، ألا تراهم قالوا: قضم في اليابس، وخضم في الرطب؛ وذلك لقوة القاف وضعف الخاء، فجعلوا الصوت الأقوى للفعل الأقوى، والصوت الأضعف للفعل الأضعف. وكذلك قالوا: صر الجندب، فكرروا الراء لما هناك من استطالة صوته، وقالوا: صرصر البازي، فقطعوه، لما هناك من تقطيع صوته، وسموا الغراب غاق حكاية لصوته، والبط بطا حكاية لأصواتها. وقالوا: «قط الشيء» إذا قطعه عرضا، و«قده» إذا قطعه طولا؛ وذلك لأن منقطع الطاء أقصر مدة من منقطع الدال. وقالوا: «مد الحبل» و«مت إليه بقرابة» فجعلوا الدال - لأنها مجهورة - لما فيه علاج، وجعلوا التاء - لأنها مهموسة - لما لا علاج فيه.»
18
ثم يقول في الفقرة التالية عليها: «نعم، وقد يمكن أن تكون أسباب التسمية تخفى علينا لبعدها في الزمان عنا.» وهو شبيه بقول أفلاطون في كراتيلوس: «إن العصور القديمة قد ألقت عليه حجابا.» (5) التغير اللغوي
يقول فرديناند دي سوسير: «إن الزمن يغير كل شيء، إذن ليس من سبب يجعل اللغة لا تخضع لهذا القانون العام ... فاللغة لا حول لها في الدفاع عن نفسها في مواجهة القوى التي تغير من لحظة إلى أخرى العلاقة بين المدلول والدال. وهذه إحدى نتائج الطبيعة الاعتباطية للعلامة.»
19
وحيثما كان هناك جماعة بشرية تسير في الزمان فثم تغير سيعروها شاءت أم أبت. وليست اللغة من ذلك ببعيد؛ فالحق أن «الزمن إذ يفكك المدلول والدال فإنه لا يعمل في فراغ بل في مجتمع المتكلمين، فلا وجود للغة خارج الإطار الاجتماعي. وإذا نظرنا إلى اللغة ضمن الزمن وأهملنا مجتمع المتكلمين (تصور فردا لوحده يعيش عدة قرون) ربما لا نلاحظ أي تغيير؛ فالزمن إذاك لن يؤثر في اللغة. وعلى العكس من ذلك، فإذا أخذنا - بعين الاعتبار - مجتمع المتكلمين وأهملنا الزمن لما رأينا أثر القوى الاجتماعية التي تؤثر في اللغة.»
20 «التطور أمر لا مناص منه، ولا توجد لغة واحدة في العالم تقاومه. فما إن تمضي فترة من الزمن حتى تدون بعض التغييرات الواضحة. إن التغيير أمر لا بد منه، حتى إنه ليظهر في اللغات الاصطناعية (غير الطبيعية). بوسع من يخترع لغة ما أن يسيطر عليها قبل أن توضع موضع الاستخدام. ولكن ما إن تدخل في مجال الاستخدام لتحقيق الغاية التي وضعت من أجلها حتى تصبح ملكا لجميع الأفراد، فيفقد صاحبها السيطرة عليها.»
21
يقول فونت في كتابه «عناصر السيكولوجيا الشعبية»: «اللغة يستحيل أن يخلقها فرد من الأفراد. صحيح أن أفرادا قاموا باختراع الإسبرانتو وغيرها من اللغات الاصطناعية، إلا أن هذه الاختراعات كان من المستحيل تحقيقها ما لم تكن هناك لغة أصلا. بل لم تستطع أي من هذه اللغات أن تعيل نفسها، ومعظمها لم يعش إلا بفضل عناصر مستعارة من لغات طبيعية.»
22
وعن هذه اللغة الاصطناعية يقول سوسير:
23 «ولنأخذ الإسبرانتو
24
على سبيل المثال: إذا نجحت هذه اللغة ستتحرر من القيد الذي فرض عليها، فأغلب الظن أن الإسبرانتو بعد أن توضع قيد الاستخدام تدخل مرحلة من الحياة الكاملة للعلامة اللغوية. وتنتقل طبقا لقوانين تختلف تماما عن تلك التي وضعت لتلائم طبيعتها المنطقية الأولى، ولن تعود إلى هذه الطبيعة أبدا. إن الذي يقترح لغة ثابتة تستخدمها الأجيال المقبلة وتقبلها بطبيعتها الأولى، فإنه مثله كمثل الذي يضع تحت الدجاجة بيضة البط؛ فاللغة التي يخلقها هذا الرجل يجرفها - رغم صاحبها - التيار الذي يجرف بقية اللغات.»
25
يسير الزمن فتتغير حاجات الناطقين باللغة، وتتبدل الأجيال والأحوال وأشكال الحياة وأنماط التفكير وأدوات العمل ووسائط المعلومات. تتغير اللغة بتغير الحياة. تتغير الأشياء وغطاؤها الرمزي. (6) أسباب التغير اللغوي
مبدأ الاقتصاد
أي ميل الناطقين إلى التعبير المفيد بأقل مبذول من الطاقة. مثال ذلك: التخلص من الهمزة في لهجة قبائل الحجاز وفي معظم اللهجات العربية الحديثة، وانكماش «الأصوات المركبة»
diphthong ؛ فتحول نطق «يوم» إلى «يوم»، و«نوم» إلى «نوم»، و«بيت» إلى «بيت»، و«عين» إلى «عين»، واندثار الأصوات الأسنانية (الثاء والذال والظاء) في بعض اللهجات العربية الحديثة، والقضاء على التفريعات الكثيرة والأنواع المختلفة للظاهرة الواحدة في داخل اللغة. مثال ذلك: الاكتفاء بالتاء كعلامة تأنيث والاستغناء بها عن الألف المقصورة (فنقول: سلمه، عدوه، فتوه، بدلا من: سلمى، عدوى، فتوى)، وعن الألف الممدودة (فنقول: حمره، صحره، شقره، بدلا من: حمراء، صحراء، شقراء).
يشير فراي إلى أن ما درج على تسميته بالأغلاط في الاستعمال اللغوي العادي ما هو إلا محاولة لتبسيط التنظيم اللغوي باتجاه الانتفاع إلى أقصى حد من المجهود الذي يقوم به متكلم اللغة من حيث الإنتاج اللغوي، فينم الاستعمال اللغوي عن حاجة ثابتة إلى الاختصار اللغوي والدقة في التعابير والتناسب المنطقي في التركيب ...
26
مبدأ القياس
ويعني «القياس»
analogy
في اللغة ارتجال ما لم نسمعه قياسا على ما سمعناه، أو ابتكار كلمة أو تصريف من عندنا بالقياس على ما لدينا من كلمات أو تصريفات تشبهه. ويدخل القياس ضمن مبدأ «الاقتصاد» في المجهود وتخفيف العبء على الذاكرة، من خلال الحمل على الشائع المطرد وإقصاء الصيغ النادرة الشاذة وإعادة صياغتها على القاعدة المطردة؛ فتزول الاختلافات وتتوحد الظاهرة ويجري المختلف مجرى المؤتلف
leveling .
مثال ذلك: أن الأفعال الشاذة الأنجلو سكسونية قد خضعت لتأثير القياس على المطرد في الألف سنة الماضية. من ذلك أن الفعل (help) helpan
كان يصرف إلى الماضي
healp
والتصريف الثالث
holpen ، ولكن بحلول القرن الرابع عشر كان هذا الفعل منتظما على القاعدة المطردة للأفعال الإنجليزية (
help, helped, helped ).
الاتصال بلغة أخرى
من أسباب التغير في اللغة: اتصالها بلغة أخرى من خلال الغزو أو الهجرة أو التجارة. ومن أهم صور التغير في حالة احتكاك اللغات «الاقتراض»؛ فقد اقترض العرب - على سبيل المثال - ألفاظا أعجمية من لغات كثيرة، عن طريق الاشتقاق والنحت والمجاز، أو عن طريق تعريب اللفظة الأجنبية إذا كانت تدل على معنى اصطلاحي دقيق يخشى ضياعه في ثنايا اللفظ العربي.
أما ما أخذته اللغات الأخرى من العربية فلا يكاد يحصى؛ فمعظم مفردات الفارسية الحديثة عربي الأصل، ومعظم مفردات التركية عربي أو فارسي، وثلاثة أرباع مفردات الأردية عربي أو فارسي، وفي الإنجليزية الحديثة كلمات كثيرة من أصل عربي، مثل:
lemon, muslin, saffron, sherbet, syrup, sugar, camphor, candy, coffee, cotton, crimson, cumin, damask
وهي على الترتيب: الليمون، الموصلي (نسيج خاص ينسب إلى الموصل)، الزعفران، الشراب، السكر، الكافور، القنوة (عسل القصب المجمد)، القهوة، القطن، القرمزي، الكمون، الدمشقي (نسيج).
27
تغير أشكال الحياة
من أسباب التغير اللغوي تغير أشكال الحياة ومعالم الثقافة ووسائط الاتصال، وبزوغ مفاهيم جديدة تتطلب مصطلحات جديدة؛ من ذلك أن كثيرا من الألفاظ العربية قد تجردت من معانيها العامة القديمة وأصبحت تدل على معان خاصة تتصل بالعبادات والشعائر، أو شئون السياسة والإدارة والحرب، أو مصطلحات الفلسفة والكلام والفقه، أو مصطلحات النحو والصرف والعروض ... إلخ.
تأثير الكتاب والمترجمين والمجامع العلمية
للكتاب والأدباء والمترجمين أثر كبير في نهضة اللغة وتهذيبها واتساع نطاقها وزيادة ثروتها. والأمثلة على ذلك كثيرة في تاريخ الأمم. فأكبر الفضل في نهضة العربية في العصر العباسي يعود إلى العلماء والأدباء والمترجمين عن اليونانية والفارسية. لقد اقتبسوا مفردات أجنبية وطوعوها لمقتضيات العربية، فاتسع متن اللغة وازدادت مرونة وقدرة على التعبير عن العلوم والآداب. كذلك الأمر في عصر النهضة الحديثة في مصر والشام؛ إذ أفاد الكتاب والأدباء والعلماء من أساليب اللغات الأوروبية وتأثروا بها، وترجموا وعربوا الكثير من مصطلحات الأدب والعلم، ونقلوا الكثير من مذاهب الفن والأدب والفكر.
عوامل داخلية في ذات اللغة
إن بنية اللغة ذاتها - متنها وأصواتها وعناصر كلماتها ودلالاتها وقواعدها - تنطوي على خصائص تعمل هي نفسها في صورة آلية على التطور اللغوي وعلى توجيهه وجهة خاصة. إنه الطابع «الكموني» أو «المحايث»
immanent
لل «بنية»
structure
الذي ألح عليه البنيويون واضطلع جيل دولوز بتبيانه: إن كل ما يطرأ على «البنية» من أحداث أو عوارض لا يقع لها «من الخارج»، وإنما ينبع مما تنطوي عليه البنية ذاتها من ميول كامنة واتجاهات باطنة تكون هي المسئولة عن كل ما يعرض لها من تغيرات.
28 (7) أنواع التغير الدلالي
من الأمثلة النموذجية على التطور الدلالي ما حدث لكلمة «السيد»؛ فقد كانت هذه اللفظة في البداية هي متضايف
correlative
كلمة «عبد»؛ فالسيد هو من له عبد، أو هو مقابل العبد. ثم تطور استعمال كلمة «السيد» لتدل على صاحب النفوذ والسلطان. ثم أصبحت كلمة «سيد» تعني «الهاشمي»، وهي عند الإخوة الشيعة لقب للمرجع الشيعي العلمي. وفي العصر الحديث وبعد تقليص الفوارق بين الطبقات وإلغاء الألقاب أصبح الناس جميعا يلقبون ب «السيد»، وصارت الكلمة لقبا يسبق الأسماء جميعا على سبيل الاحترام والتأدب. وقد استجدت في الفترة الأخيرة كراهة معينة لاستعمال هذه الكلمة في بعض الأوساط العربية المتحفظة. (8) توسيع المعنى (التعميم)
widening/extension
وذلك نتيجة إسقاط بعض الملامح التمييزية للفظ، فيتسع «مفهومه»
intension
وتزداد «ماصدقاته»
extension ؛ أي إن معنى الكلمة يتسع ويمتد لتشمل ما لم تكن تشمله في الماضي، أمثلة ذلك:
كلمة
salary
التي تعني الراتب، وهي كلمة من أصل لاتيني كانت تعني في بدايتها القديمة حصة الجندي من الملح، ثم صارت بمرور الزمن تعني مرتب الجندي، وانتهت في زمننا الحديث إلى أن تعني أي مرتب لأي عمل.
كلمة
picture
كانت تطلق على اللوحة المرسومة، واتسع معناها الآن ليشمل أي صورة بما فيها الصورة الفوتوغرافية.
كلمة
dog
كانت قديما تعني سلالة معينة من الكلاب، وصارت الآن تشمل جميع السلالات.
كلمة
girl
كانت تعني طفلة صغيرة، وقد اتسع معناها ليشمل أيضا أي امرأة من أي عمر.
القافلة: في الأصل هي الرفقة الراجعة من السفر، ثم اتسع المعنى ليشمل رفقة السفر ذاهبة كانت أو راجعة.
29
الورد: في الأصل إتيان الماء، ثم اتسع معناها ليشمل إتيان كل شيء.
الورد: تطلق على ذلك الصنف المعروف من الأزهار، وقد اتسع معناها وصارت تطلق أيضا على كل زهر.
العربة: كانت مقصورة على العربة التي تدفع باليد أو تجرها الدواب، وصارت تشمل كل السيارات الآلية.
اللبن: كان يخص لبن الناقة والشاة وغيرهما من الدواب (أما الذي ترضعه الأم ابنها فهو لبان)، وقد تطور معنى اللبن ليشمل الناقة والشاة والمرأة المرضع التي كان يختص بها اللبان.
الرائد: في الأصل طالب الكلأ، ثم صار طالب كل حاجة رائدا.
البأس: في الأصل الحرب، ثم كثر استخدامه في كل شدة. (9) التضييق (التخصيص)
narrowing
وهو تقلص نطاق المعنى واقتصاره على شيء بعينه من بين الأشياء التي كان يشملها في الماضي، وذلك نتيجة إضافة بعض الملامح التمييزية أو المكونات الدلالية للفظ، فكلما زادت المكونات الدلالية لشيء قل عدد أفراده (كلما ضاق المفهوم قل الماصدق). والتضييق هو التغير الدلالي الأغلب في اللغة.
من أمثلة التضييق في الدلالة:
كلمة
mete
في الإنجليزية القديمة كانت تشير إلى الطعام أو الغذاء بصفة عامة، وما زال أثر المعنى العام في كلمة
sweetmeat (مربى أو حلوى). وقد ضاق معناها الآن ليخص صنفا واحدا من الطعام.
كلمة
hound
الإنجليزية كانت في الأصل تشير إلى جميع الكلاب، وقد ضاق معناها الآن ليخص نوعا بعينه منها.
كلمة
poison (سم) الإنجليزية كانت تعني «الجرعة من أي سائل».
كلمة
corpse
الإنجليزية كانت تعني ما يعنيه أصلها اللاتيني
corpus
أي «الجسم» البشري أو غير البشري حيا أو ميتا، وقد ضاق معناها ليخص جثة الإنسان الميت.
حريم: كانت في الأصل تدل على كل محرم لا يمس، ثم أصبحت تدل على النساء.
العيش: ضاق معناها لتدل على «الخبز» (في مصر)، وعلى «الأرز» (في بعض البلاد العربية).
مأتم: في الأصل تعني اجتماع الناس نساء ورجالا في الخير والشر، في الفرح والحزن. وقد ضاق معناها لتعني اجتماع النساء للموت. وهي الآن تعني اجتماع الناس في الأحزان.
طرب: كانت تعني خفة تعتري المرء في الفرح أو الحزن.
30
ثم تطور معنى الطرب وسقط منه ملمح الحزن واستبقي ملمح الفرح، وصارت الكلمة تعني الفرح فحسب، أو اهتزاز النفس للجمال من نغم أو تعبير.
وعد: كانت تستعمل في الخير والشر أيضا
النار وعدها الله الذين كفروا (الحج: 72). وقد صارت الآن تستعمل في الخير فقط، واختصت كلمة «وعيد» بالشر.
حمام: كانت تطلق على ذوات الأطواق وما أشبهها كالفواخت والقمارى واليمام والقطا. ثم ضاق معناها ليدل على ذلك النوع بعينه من الطيور.
المدام: في الأصل كل ما سكن ودام، ثم شاع استعمالها في الخمر لدوامها في الدن، أو لأنه يغلى عليها حتى تسكن. (10) التحول (النقل)
shift
أي انتقال الكلمة من مجموعة من الأحوال إلى أخرى:
كانت كلمتا «ملاحة»
navigation
و«ميناء»
port
مقصورتين على مجال السفن أو المجال البحري والنهري، وقد انتقل معناهما الآن ليشمل المجال الجوي والبري، ويمكن أن يعد هذا أيضا ضمن «التوسيع» الدلالي
widening .
كلمة
bead (خرزة) كانت في الإنجليزية القديمة
gebet
وتعني التضرع والدعاء؛ إذ كان الكهنة الكاثوليك يعدون تسبيحاتهم وأدعيتهم على حبات منظومة في خيط. ثم صارت
bead
أو
bede
في الإنجليزية الوسيطة تدل على المعنيين: دعاء، وحبات عد الأدعية.
شنب: كانت تعني جمال الثغر وصفاء الأسنان. وصارت الكلمة الآن تعني الشارب عند العامة.
السفرة: كانت تعني الطعام الذي يصنع للمسافر، وصارت تعني المائدة وما عليها من الطعام.
طول اليد: كان يكنى به عن السخاء، وصار يكنى به عن الميل إلى السرقة.
التنزه: كانت في الأصل تعني «التباعد» عن الأقذار، وأحيانا عن المياه والريف، وقد تطورت الآن لتعني البعد عن الصخب والفلوات إلى البساتين والخضر.
القطار: هو في الأصل عدد من الإبل على نسق واحد تستخدم في السفر وفي النقل. وقد تغير الآن معناها لتطور وسائل النقل. (11) الاستعمال المجازي
figurative use
وهو تحول في المعنى قائم على مماثلة أو مشابهة بين الأشياء:
كلمة
crane (كركي) وهو طائر طويل العنق، وتستعمل الآن لتعني الرافعة أيضا.
كلمة
bureau (مكتب) في الأصل تدل على نوع من نسج الصوف الغليظ، ثم أطلقت على قطعة الأثاث التي تغطى بهذا النسج، ثم على قطعة الأثاث التي تستعمل للكتابة أيا كانت، ثم على الغرفة التي تحتوي على هذه القطعة من الأثاث، ثم على الأعمال تعمل في هذه الغرفة، ثم على الأشخاص الذين يقومون بهذه الأعمال، ثم على أية مجموعة من الأشخاص تقوم بإدارة إحدى الإدارات أو الجمعيات.
31
يقول الأستاذ محمد المبارك: «ينتقل اللفظ من الدلالة الحسية (الحقيقية) إلى الدلالة المعنوية (المجازية) نتيجة كثرة الاستعمال وتأثير مرور الزمن، فاستعماله بالمعنى الجديد في بادئ الأمر عن طريق المجاز، ولكنه بعد كثرة الاستعمال وشيوعه بين الناس تذهب عنه هذه الصفة وتصبح دلالته على مدلوله الجديد حقيقة لا مجازية.»
32
ويقول د. أحمد مختار عمر: «وعادة ما يتم الانتقال المجازي بدون قصد، وبهدف سد فجوة معجمية. ويميز الاستعمال المجازي من الحقيقي للكلمة عنصر النفي الموجود في كل مجاز حي، وذلك كقولنا: رجل الكرسي ليست رجلا، وعين الإبرة ليست عينا ... وقد يحدث بمرور الوقت أن يشيع الاستعمال المجازي فيصبح للفظ معنيان، وقد يشيع المعنى المجازي على حساب المعنى الحقيقي ويقضي عليه، وميز بعضهم بين الأنواع الثلاثة الآتية للمجاز: (1)
المجاز الحي: الذي يظل في عتبة الوعي، ويثير الغرابة والدهشة عند السامع. (2)
المجاز الميت أو الحفري
fossil : وهو النوع الذي يفقد مجازيته ويكتسب الحقيقية من الألفة وكثرة التردد. (3)
المجاز النائم أو الذاوي
faded : ويحتل مكانا وسطا بين النوعين السابقين. والفرق بين المجاز الميت والمجاز النائم هو جزئيا سؤال عن درجة الوعي اللغوي.»
33
أمثلة أخرى
المجد: معناه الأصلي امتلاء بطن الدابة من العلف، ثم كثر استخدامه مجازا في الامتلاء بالكرم وطيب السمعة وبعد الصيت، وانقرض معناه الأصلي، وأصبح حقيقة في هذا المعنى المجازي.
الأفن: هو قلة لبن الناقة، وانتقل إلى نقص العقل.
الوغى: هو اختلاط الأصوات في الحرب، وانتقل إلى الحرب نفسها.
بنى الرجل على امرأته: عبارة كانت كناية عن دخوله بها؛ لأن الشاب البدوي كان إذا تزوج يبني له ولأهله خباء جديدا، وقد فقدت الآن معناها الأصلي لانقراض هذا النظام، وإن كانت لا تزال تستخدم كناية عن الزفاف.
الراوية: تعني في الأصل الجمل الذي يحمل قربة الماء. وقد صارت تعني القربة نفسها (مجاز مرسل)؛ لعلاقة المجاورة بين البعير الذي يحمل الماء في آنيته وبين الإناء المحمول.
البريد: في الأصل الدابة التي تحمل عليها الرسائل، ثم تطور مدلولها لتطلق على الرسائل المنقولة، وعلى النظم والوسائل المتخذة لهذه الغاية في العصر الحاضر.
الغفر والغفران: من الستر، وانتقل إلى الصفح عن الذنوب.
ساق الرجل إلى المرأة مهرها: كان هذا التعبير يستخدم قديما حينما كان المهر عددا من الأنعام. ولكن بعد أن تغير العرف وصار المهر نقودا أعطي الفعل معنى أوسع واحتفظ بحيويته.
34
لسان القوم (أو المتحدث باسم ...): صار يستعمل بمعنى المتكلم عن قومه أو مؤسسته على سبيل المجاز المرسل (إطلاق اسم الجزء على الكل). (12) الانحطاط الدلالي
deterioration/pejoration
هو تغير يلحق بمعنى اللفظة فيكسبها دلالة سلبية، ومن أمثلته:
كلمة
Sir
و
Lady : هي في الأصل ألقاب شرف رفيعة لا تحظى بها إلا الطبقة العليا أو من تمنحه الأمة هذا اللقب تقديرا لمكانته الاستثنائية (مثل سير كارل بوبر)؛ غير أنه شاع إطلاقها اليوم على الأشخاص العاديين نتيجة التغيرات الكبيرة الاجتماعية والسياسية التي شهدتها أوروبا في العصر الحديث.
كلمة
notorious
كانت في الأصل تعني «مشهور»، ثم انحدرت دلالتها وصارت تعني «مشهر» أي مشهور بشيء قبيح.
كلمة
dogmatic
في الأصل تعني «ذو اعتقاد راسخ»، وكانت كلمة
dogma
تعني عقيدة أو مبدأ هاديا ومرشدا. وقد انحدرت دلالتها واقتصرت على اليقين المتصلب الجازم اللاعقلاني.
كلمة
skeptic
تأتي من الكلمة اليونانية القديمة
skeptikos
التي تعني «متسائل» أو «مستعلم»
inquiring ؛ أي الشخص الذي يسأل ويلتمس الإجابات ولم يصل بعد إلى اعتقادات راسخة، ثم تغير معناها وصارت تعني «الشاك» أو «المرتاب».
حاجب: كانت تعني في الدولة الأندلسية «رئيس الوزراء»!
أفندي: تركية كانت تعني في الأصل مركزا رفيعا ومنصبا مرموقا. (13) «الارتقاء» أو «التحسن» الدلالي
melioration/amelioration
يقابل الانحطاط الدلالي الارتقاء الدلالي، حيث تكتسب اللفظة دلالة إيجابية أو يزايلها ما كان لها في الأصل من دلالة سلبية، ومن أمثلتها:
كلمة
Marshal
الإنجليزية (مشير): كلمة من أصل جرماني معناه السايس أو خادم الإصطبل أو الغلام الذي يتعهد الأفراس
mares .
كلمة
angel
كانت تدل على «الرسول» الذي يشبه «موزع البريد» في أيامنا، ثم رفع الفقهاء هذا اللفظ باستعماله للدلالة على الكائن الوسيط بين العقل الإلهي والعقل الإنساني.
35
كلمة
Knight
التي تعني الآن لقب «فارس» أو «سير»، وكانت تعبر في فروسية القرون الوسطى عن مركز مرموق، وقد انحدرت إلى اللغات الأوروبية من معنى أصلي هو «ولد خادم».
36
كلمة
minister (وزير) كانت قديما تعني «خادم» (ولا تزال تستعمل كفعل بمعنى يسعف أو يعين أو يقدم خدمة).
كلمة
wicked
بمعنى شرير أو خبيث، صارت في السياقات العامية تعني «ذكي» أو «متألق» أو كقولنا في عاميتنا: «شاطر».
كلمة
mischievous (مؤذ) فقدت كثيرا من حدتها وصارت تعني «مزعج بظرف ومرح» أو كقولنا في عاميتنا: «شقي».
كلمة
nice (لطيف) تنحدر من كلمة فرنسية قديمة بمعنى «غبي» أو «أحمق».
بيت: في الأصل هو المسكن المصنوع من الشعر، ثم صار يعني كل بيت حتى «البيت الأبيض»! (14) قل ولا تقل
ماذا يعني أن تقول في اللغة: «هذا خطأ»؟
يعني أنه لا يراعي «مستوى صوابيا»
standard of correctness
معينا كان ينبغي أن يراعيه. يقول جاردنر في كتابه: «الكلام واللغة» (1933م): «ومن أجل هذا يجب أن نسأل أنفسنا أولا: ما هي اللغة؟ ومن صاحب السلطة في وضع القواعد والأسس والاستعمالات والكلمات التي يجب التزامها وتفرض على الجميع؟ وهذه أسئلة سهلة، ولكن الإجابة عليها عسيرة؛ فهناك تقدير تقريبي للموضوع من رأيه أنه كما يقف الفرد وراء كلامه ليدافع عنه، فإن «المجتمع اللغوي» يقف أيضا من وراء اللغة عموما» ...
37
وكان السائد في الجيل الماضي اتجاه اللغويين إلى النظرة للغة نظرة معيارية صرفا: فمهمة النحو تدريس قواعد صحة الكلام، ووظيفة المعجم ليست إعطاء معاني الكلمات فقط، بل الإشارة أيضا إلى ما يجب أن تعنيه الكلمات. ولكن الاتجاه الآن يسير ضد هذا الاتجاه المعياري؛ إذ أصبحت جل المؤلفات اللغوية «تصف» الاستعمال اللغوي في صورتيه الماضية والحاضرة ... مع وضع «التغير اللغوي» في الاعتبار؛ «لأن اللغة في أي لحظة من لحظاتها ليست فقط ما هو كائن بالفعل وإنما ما سيكون في المستقبل؛ فاللغة في حركة دائمة وفي تحول دائم.»
38
لم يكن قدامى اللغويين العرب يبحثون أسباب التغير، ربما لأنهم عدوا التغير خطأ وحثوا العامة على اجتنابه، وقصروا جهدهم على تعقب الخطأ ورصده؛ بغية التحرز منه واجتنابه، في «أدب الكاتب» - على سبيل المثال - أفرد ابن قتيبة بابا بعنوان: «باب معرفة ما يضعه الناس في غير موضعه.»
39
صفوة القول: إن قدامى اللغويين لم يدرسوا التغير؛ لأنهم عدوه لحنا فدرسوا اللحن!
وحين نقول: إن السلطة اللغوية هي المجتمع اللغوي، فإنما نعني تلك «الجماعة التي تستعمل نظام الكلام بطريقة موحدة» على حد قول بلومفيلد؛ ففي كل وسط اجتماعي متجانس السكان نجد عادة أن للغة شيئا من الوحدة، بل إن لشرط أساسي لوجود اللغة أن يحرص من يتكلمونها على استخدام نفس الوسائل للتعبير؛
40
فالجماعة المتزاملة لغويا تستعمل - كما يقول فيرث - ما يتقاسمونه من تجارب مشتركة، وهم يستمسكون بهذا التماثل ويحرصون عليه؛ لأنه شرط الفهم والإفهام في بيئتهم الخاصة.
41
والأفراد يكتسبون اللغة من بيئتهم وفي عصرهم الذي عاشوا فيه؛ ومن ثم فإنهم يراعون اللغة كما تنطق في عصرهم لا كما تنطق في عصور سبقت، ولا كما ينبغي أن تنطق وفق نموذج مثالي لعصر ذهبي غيبته الأيام. اللغة في تغير مستمر، وقد يكون هذا التغير بطيئا لا يتضح إلا بمرور جيل أو أجيال، ولكنه يحدث ولا ينفيه بطء حدوثه. ونحن إذ نفترض الثبات اللغوي فإنما نفعل ذلك لدواعي التشريح والدراسة، وبغية اقتناص «حالة لغوية» سينكرونية لضرورة الرصد والتقعيد، بينما اللغة في حركة مستمرة والعرف اللغوي في تغير دائب. الثبات اللغوي إذن ليس أكثر من حيلة إجرائية ووهم عملي.
نخلص من ذلك إلى تعريف المستوى الصوابي على أنه: «مراعاة العرف اللغوي المقتصر على بيئة خاصة في زمن خاص، مع اعتبار التطور في اللغة؛ يتوافق معه نشاط المتكلم ويلاحظه الباحث بهذه الصفات.»
42
يتبع ذلك بالضرورة تغير ما يراعيه المتكلم على حسب العرف اللغوي الجديد الذي يفرض نفسه عليه كي يتوافق معه، ويترتب عليه أن مستعمل اللغة لا يطالب بغير مراعاة المستوى الصوابي في اللغة الذي اكتسبه من الجيل الذي هو أحد أفراده، ومن عرف العصر الذي عاش فيه.
43
ليس هذا الحديث دعوة إلى إلغاء القواعد والانصراف عن جهات الاختصاص اللغوي، بل دعوة إلى أن تراعي جهات الاختصاص طبيعة القواعد ومنشأها وحركتها، بحيث تأتي القواعد متفقة مع استعمال اللغة وتطورها وتبرأ من التعسف والجمود، وتأتي المقترحات الجديدة متوافقة مع طبيعة اللغة، بوصفها ظاهرة اجتماعية تخضع للعرف الاجتماعي العام والعرف اللغوي الخاص، ولا تكون محاولات دونكيشوتية تحارب في غير ميدان، ومماحكات تكد الذهن في غير طائل.
لقد توقف النحاة في تقعيداتهم عند زمن معين لا يتجاوزونه، بينما اللغة الحقيقية تمضي في سبيلها غير عابئة بهم، توقفت القواعد بينما العرف اللغوي يتغير مع الزمن، فاتسعت الفجوة بينهما وصارت هوة. هذا ما أربك الفصحى وصعب قواعدها وجعلها أشبه بلغة أجنبية في دراستها وفي استخدامها. «إن التطور اللغوي (الصوتي والصرفي والنحوي والمعجمي والدلالي) ليستتبع تغييرا في المستوى الصوابي من الناحية التاريخية كذلك، فما كان صوابا في الماضي يصبح خطأ في الوقت الحاضر، ويصبح خطأ اليوم صواب الغد إذا رأى المجتمع اللغوي أن يتبناه في الاستعمال.»
44 «وليس من حق الباحث في اللغة أن يفترض فيها التوقف عند فترة معينة أو جيل خاص أو عدة أجيال، فيجمد الدراسة ويترك عمله الحقيقي في ملاحظة اللغة الدائبة التغير، وينصرف إلى تفريعات ومماحكات وعنت ذهني عقيم لا حاجة باللغة إليه، ثم يفرض ما لاحظه عن اللغة في فترة من فتراتها على فترة أخرى أدى إليها تطورها. وهذا عكس لمهمة الدارس من الوصف إلى التحكم، ومن الملاحظة إلى المصادرة.»
45 «ولو أن الاستشهاد لم يقف عند حد على يد النحاة العرب لأمكن أن تجري دراسة اللغة على مراحل وعصور باستقراء ما يجد من النصوص إلى أيامنا هذه، ولاعتبر كل ميل غير فردي إلى مخالفة القواعد السابقة تطورا في الاستعمال اللغوي يتطلب تطورا في النظرة إلى هذه القواعد في ظل منهج وصفي لدراسة اللغة. ولكن إيقاف الاستشهاد عند حد معين جعل النحاة - وقد جفت روافد الاستقراء عندهم - يلجأون إلى ما لديهم من القواعد، فيجعلونها مادة الدراسة بدل النصوص التي أعوزهم الجديد منها، وما دامت القواعد نفسها هي الهدف وهي مادة الدراسة فلا مهرب إذن من النظرة إلى هذه القواعد باعتبارها مقاييس ومعايير من صلب المنهج، لبيان الصحيح والخطأ من التراكيب؛ أي إن المستوى الصوابي بدل أن يكون فكرة اجتماعية يراعيها المتكلم أصبح فكرة دراسية يراعيها الباحث. وبهذا توقف العمل بالمنهج الوصفي في دراسة اللغة، وأصبح لزاما علينا الآن أن ننظر إلى الدراسات اللغوية العربية باعتبارها دراسة تصف مرحلة معينة من تطور الفصحى، ولكن هذه المرحلة تشتمل في الحقيقة على مراحل، وقد كان مؤرخو الأدب أسرع إلى الاعتراف بعصور اللغة من النحاة، وكان أولى بالنحاة أن يعترفوا بهذه المراحل ويدرسوا كل واحدة منها دراسة وصفية على حدة كما فعل أصحاب تاريخ الأدب.
46
وقد أصبح لزاما علينا أيضا إذا أردنا دراسة ما جد من تطور في هذه الفصحى أن نبدأ بدراسة مرحلتنا هذه التي نعيش فيها دراسة وصفية، وأن نتطرق منها إلى ما سبقها من المراحل التاريخية التي حدثت منذ توقف الاستشهاد وأن نقطع النظر عن نفوذ هذه الدراسات القديمة على تفكيرنا، ونبدأ بالدراسة على أساس منهج وصفي يتوخى الاستقراء والتقعيد من جديد.»
47 (15) خطأ مشهور
تاريخ اللغة ليس سوى تاريخ الأخطاء اللغوية فيها!
يسبرسن
التغير «عملية» و«حالة»: «عملية»
process
ابتداع وتجديد (فردي في الأغلب) مخالف «بطبيعة حاله»
ipso facto
للعرف السائد، تتبعها «حالة»
state
يستتب فيها الطارف المستجد ويدخل متن اللغة فلا يعود جديدا وهكذا دواليك. يقول أولمان: إن التغير في اللغة يقع على مرحلتين: الأولى هي مرحلة التغير نفسه وما يطلق عليه «الابتداع والتجديد»
innovation
ويحدث هذا في الكلام الفعلي، وقد يقوم به فرد من الأفراد بإدخال عناصر جديدة في استعمال اللغة، والثانية هي مرحلة «انتشار التغير»
dissemination
بأن تتداوله الجماعة فيما بينها، وإذا حدث ذلك أصبح التغير عنصرا من عناصر نظام اللغة، ما دام قد سمح له بالاستعمال العام بين الناطقين بها؛ فالتغير يبدأ أولا فرديا بما يدخله فرد أو أفراد على نظام اللغة من استعمالات جديدة، مما ينظر إليه أولا على أنه «مخالفة» (خطأ!) لما عليه الجماعة، فإذا قدر لهذه «المخالفات» (الأخطاء!) أن تلقى قبولا من غيرهم، فإنها تأخذ الطابع الاجتماعي العام، وتصبح القاعدة التي يتبعها كل الناطقين باللغة.
48
هذا تأويل قول يسبرسن عن بعض اللغويين: «إن تاريخ اللغة ليس سوى تاريخ الأخطاء اللغوية فيها.»
49 (16) شرعية اللغة الشيوع
ومن ثم فإن عبارة «خطأ مشهور» شأنها شأن «مربع مستدير» ... تناقض ذاتي! فإذا ما وجدت الخطأ المشهور أكثر جمالا ووضوحا وإبانة، فاعلم أن شهرته مشروعة مستحقة: الجمال والوضوح والإبانة. وماذا يكون «الصواب» أكثر من ذلك؟! «خطأ مشهور» هي ذاتها خطأ مشهور!
حين تشيع مجاوزة لغوية وتنشر رايتها على الألسنة يتحول عنصرها وتتبدل صفتها وتأخذ رتبة «قاعدة»؛ قاعدة لها علينا كل ما للقاعدة من حقوق. وما كان لهذه «المخالفة» أن تبسط سلطانها لو لم تكن تقدم فكرا وتحقق وصلا وتسد فراغا وتثبت نجاعة. لقد تمت لها «المواضعة»
convention
فصارت من ثم «لغة»، ومن السفه أن نتنازل عنها بدعوى قل ولا تقل! وهل اللغة إلا «مواضعة» جدت - على رسلها - لتحقيق التواصل بعد أن كانت وسيلة التواصل فأفأة و«قاعدته» صراخا و«نحوه» صفيرا ونخيرا. هل اللغة إلا ذاك «الخروج» على الصراخ والمروق من الحبسة؟ وإذا كان الخطأ هو خروج عن المتبع وتململ عن المستقر؛ فاللغة بقضها وقضيضها هي بهذا المعنى خطأ مشهور، وإن امتاز عن غيره من الأخطاء بأنه خطأ كبير ... بحجم العالم. •••
ومن الحق أن «مذهب» المرء في منشأ اللغة يملي عليه «منهجه» في دراستها: فأنت إذا قنعت بأن اللغة عرف اجتماعي اتفاقي، فسوف تقنع في دراستها بالوصف المحايد والاستقراء السمح. أما إذا امتلأت بأنها ماهية مقدرة و«توقيف» إلهي
50
فسوف تصطنع في دراستها القاعدة الصارمة والمعيار الملزم، وسوف تتحول إلى شرطي لغوي وإرهابي نحوي!
ولكن ما احتيالك فيمن شرع في بحثه اللغوي وقد وقر في قلبه أن اللغة ماهية ثابتة وتوقيف إلهي أو وضع حكماء أو سليقة سحرية؟ إنه مدفوع بأحسن نية إلى حفظها والذود عنها ضد أي تحول أو تغير. ومدفوع إلى فرض قواعدها الموروثة بلا هوادة. ومدفوع إلى البحث عن «الحكمة» القابعة في هذه الظواهر اللغوية التي لم تأت عبثا ولم تنشأ اعتباطا. يقول السيوطي في «الاقتراح»: «إن العرب لم تبتدع اللغة العربية، وإنما هي من صنع الله سبحانه، وعلى النحاة أن تبحث عن حكمة الله فيما صنعه» (التوقيف). ويقول سيبويه: «وليس شيء يضطرون إليه إلا وهم يحاولون به وجها» (حكمة العرب).
إنما اللغة ملك مستخدميها، اللغة لمن ينطقها، لمن يتواصل بها، والصواب هو الصواب التواصلي، والتغير اللغوي نفسه ضرب من القول، يترجم البيئة القائمة، ويعكس الثقافة الراهنة، ويشفر الخبرة الجديدة. وعلى منظري اللغة أن يلاحقوا الكلمة المنطوقة ويتأقلموا معها لا العكس ... أن يصفوها لا أن يحاكموها! ولو كان شكسبير قد اتبع مبدأ قل ولا تقل لما أرفد الإنجليزية بفيض من التعبيرات الجريئة والألفاظ المبتكرة تحفظ رمقها وتجدد دماءها، مثل:
eyeball, obscene, hot-blooded, epileptic, alligator ... etc. . •••
إن فينا قوما تملكهم «إرهاب معجمي» و«سادية لغوية»، يقومون من زمن بوظيفة شرطة لغوية مولعة بتحرير المخالفات، وبلعبة قل ولا تقل، ينصبونها للتسلط والتسلي، «كفعل الهر يحترش العظايا!» ويغالون في ذلك إلى حد «تصحيح الصحيح»! يظن هؤلاء أنهم يحسنون إلى اللغة وهم يؤذونها غاية الإيذاء وينشرون فيها الفوضى والاضطراب، ويبثون في الناس اليأس من الفصحى والانصراف عنها، وها هي العربية تحتضر على أيديهم الخشنة، وليس موت اللغة سوى أن تهجر اللسان. يظن هؤلاء أنهم يصلحون اللغة وهم يهزون القارب وينخرون فيه نخرا منكرا. لقد أضلتهم القواعد (البعدية) فسلبتهم السليقة (القبلية)، وكأنا بالذيل يهز الكلب وبالعربة تتقدم الحصان.
لماذا كان العربي القديم يتكلم بسجية تعنو لها القواعد وتأتي بعدها ووراءها وعلى قدها، حتى لقد شرع السماع وأصبح الذوق قواعد، بينما قلبنا نحن الآية وبدأنا بالقواعد نتحنث في محرابها ونطوع لها الذوق، حتى ضجر الناس من العربية، وانفضوا عن الخطأ والصواب، وفقدوا الذوق والقواعد؟! •••
إن اللغة لفي سيرورة دائمة وتحول دائب، وهناك ألف سبب يلح على الألفاظ أن تخرج من جلدها وتكتسي معاني جديدة غير ذات صلة بمعناها القديم. وما دامت اللغة في تغير مستمر فمن الطبيعي أن تواكبها في ذلك علوم اللغة المنوط بها رصد الظاهرة اللغوية وضبط حركتها، وأن يكون نهج العلوم اللغوية توترا محسوبا بين «المعيارية» و«الوصفية»: معيارية تصون اللغة من التحلل والانهيار، ووصفية تفتح لها آفاقا للتطور والارتقاء.
51
الفصل السابع
الماهوية في علم التصنيف1
يمكننا تحديد عام 1543م كبداية للثورة العلمية الحديثة، حيث نشر عمل كوبرنيكوس في الفلك وعمل فيزاليوس في التشريح، وخلال أقل من مائة عام بلغت الفيزياء الكلاسيكية موسم إثمارها في كتاب نيوتن «المبادئ»
، بينما لم يتم أي إنجاز نظري في البيولوجيا يضارع إنجازات الفيزياء. ولم تبلغ البيولوجيا سن الرشد حتى مجيء القرن التاسع عشر مع أعمال داروين ولا مارك في التطور، وأعمال مندل في الوراثة، وباستير في البكتريا، وشليدن وغيره في نظرية الخلية. أما في علم التصنيف
taxonomy
فكان مسير الثورة العلمية أبطأ حتى من ذلك. ورغم بعض تقدم حققه كارولوس لينيوس وجون راي في ميثودولوجيا علم التصنيف فهما لم يقدما إسهامات مهمة لنظرية التصنيف كما ابتكرها أرسطو. وبينما تخلفت البيولوجيا عن الفيزياء في التخلص من التأثير السكولائي فقد تخلف علم التصنيف وراء غيره من العلوم البيولوجية في هذا الشأن. وعلى العكس من الرأي الشائع؛ فإن هذه العملية في الحقيقة أبعد ما تكون عن التمام. والآن فقط يبلغ علم التصنيف مرحلة من النضج تضاهي نضج الفيزياء منذ 300 عام مضت، أو تضاهي غيره من العلوم البيولوجية منذ خمسين أو مائة عام. فما السبب؟
يجيب كارل بوبر عن هذا السؤال بقوله: «يمكن فيما أرى أن نجمل تطور الفكر منذ أرسطو بأن نقول: إنه بقدر استخدام كل تخصص لمنهج أرسطو في التعريف فقد ظل هذا التخصص موقوفا في حالة من الحشو اللفظي الفارغ والإسكولائية العقيمة، وإن العلوم المختلفة قد حققت درجة من التقدم بقدر ما تمكنت من التخلص من منهج البحث الماهوي .»
2
لا تصدق هذه العبارة في أي من العلوم بقدر ما تصدق في علم التصنيف؛ ذلك أن أهمية التعريف لا تتجلى في أي علم قدر تجليها في علم التصنيف. فليس في أي علم من الحشو اللفظي الفارغ حول معنى لفظة قدر ما في علم التصنيف من حشو عن معنى لفظة «نوع»
species ؛ غير أن داروين قد وضع حدا لذلك فيما يفترض. يقول داروين نفسه في تعليقه على هذه الخلافات التي لا نهاية لها: «عندما يعترف عند الكافة بالآراء التي قدمتها في هذا العمل سيكون بوسعنا أن نتنبأ بأنه ستكون ثمة ثورة كبيرة في التاريخ الطبيعي. سيكون بوسع علماء تصنيف الأحياء أن يمضوا في جهودهم كما الآن، ولكنهم لن ينتابهم على الدوام ذلك الظل من الشك فيما إذا كان هذا الشكل أو ذاك نوعا حقيقيا. وهذا - وأنا على ثقة وأتحدث عن خبرة - انفراج ليس بالهين.»
3
لقد أصبحت آراء داروين عن تطور الأنواع مسلما بها بعامة. ثمة ثورة كبيرة حدثت في التاريخ الطبيعي (التصنيف الفيلوجيني)، ولكن شبح نزعة الماهية ظل ينتاب عالم التصنيف. يقول إرنست ماير على سبيل المثال: «إنها لمفارقة عجيبة أن كثيرا جدا من علماء التصنيف لا يزالون يلتزمون بتصور للأنواع إستاتيكي صارم، بالرغم من أنهم يسلمون طوعا بوجود التطور.»
4
ومرة ثانية: «إنها لمفارقة عجيبة في تاريخ البيولوجيا أن إعادة اكتشاف قوانين مندل أدى إلى تصور للأنواع لدى التجريبيين أكثر بعدا عن الواقع مما كان سابقا.»
5
فمع اكتشاف أهم نظريتين في البيولوجيا كان المرء حقيقا أن يتوقع لشيء أساسي مثل وحدة التصنيف أن يقع في منظور أكثر وضوحا لا أن يصبح أكثر ضبابية. في المرحلة الأولى يسلم علماء التصنيف بأن الأنواع تتطور، ولكنهم يجدون تحديد أسماء الأنواع وفقا لذلك أمرا غير ممكن. وفي المرحلة الثانية يسلمون بوجود استمرارية جينية بين أعضاء نوع ما ولكنهم ينكرون أي واقع للنوع. وقد اجتمع الاثنان ليسهما في استمرار مشكلة الأنواع.
وكما بين كين
A. J. Cain
6
فإن تأويل مفارقات ماير يكمن في وجود بقية من نزعة الماهية لم يتم إقصاؤها تماما من علم التصنيف. هذه الأثارة الماهوية هي المسئولة عن تمسك علماء التصنيف بما يمكن أن نسميه على التقريب «مفهوم ثبات الأنواع»، وهو بدوره مسئول عن وجود أنواع في التصنيف عارية عن الواقع. ثمة بالطبع أسباب أخرى حملت علماء التصنيف على التمسك بفخاخ التعريف الأرسطي، وهي - في الغالب - نفس الأسباب التي أدت بأرسطو في الأساس إلى ابتكار منظومته؛ فالمصنف إذ يجد نفسه بإزاء خليط من الصور المتباينة عليه أن يقسمها؛ فإن بوسعه أن يبسط مهمته تبسيطا كبيرا إذا ما زعم أن خواص معينة هي خواص «جوهرية/ماهوية» للتعريف؛ غير أن فعله هذا لن يعدو كونه «زعما»؛ إذ إن أسماء الأصانيف لا يمكن تعريفها في حدود خصائص جوهرية دون تزييف كبير لن ينطلي على أقل الباحثين نقدية وأقلهم معرفة بالكائنات الجاري تصنيفها.
لقد أغفل المصنفون الأوائل هذا التوتر بين الواقع والنظرية إغفالا كبيرا؛ لأنهم لم يفهموا بوضوح منطق التعريف الأرسطي، ولأنه حتى العلماء لديهم ما يجعلهم لا يلحظون ما يتعارض مع فروضهم الفلسفية المسبقة. ليس غرضنا الآن على كل حال تبيان أن التعريف الأرسطي كان مسئولا عن عجز المصنفين عن تعريف أسماء الأصانيف
taxa
بطريقة ملائمة (وإن كان هذا صحيحا بالتأكيد)، بل تبيان أن التعريف الأرسطي مسئول عن عجز المصنفين عن تعريف «النوع»
species
على نحو قويم. إن توزع الخواص فعليا بين الكائنات قد دفع المصنفين في النهاية إلى التخلي عن التعريفات الأرسطية لأسماء الأصانيف
taxa
وليس ثمة توتر مماثل يدفعهم للتخلي عن محاولاتهم لتعريف «الأنواع»
species
بالطريقة الأرسطية؛ غير أن التعريف الأرسطي متخبط بالنسبة للأنواع
species
مثلما هو متخبط بالنسبة للأصانيف
taxa . •••
يعرف بوبر نزعة الماهية كما يلي: «استخدم اسم «الماهوية المنهجية»
methodological essentialism
لتعين الرأي الذي اتخذه أفلاطون وكثيرون من تابعيه، والقائل بأن مهمة المعرفة الخالصة أو «العلم» هي أن يكتشف ويصف الطبيعة الحقيقية للأشياء؛ أي الواقع الخفي أو الماهية.» يعود إلى أفلاطون ذلك الاعتقاد العجيب بأن ماهية الأشياء المحسة يمكن أن توجد في أشياء أخرى أكثر واقعية في أسلافها أو صورها. وإذا كان كثيرون من الماهويين المنهجيين - مثل أرسطو - لم يتبعوه تماما في تحديد هذا، فجميعهم متفق مع أفلاطون في تحديد مهمة المعرفة الخالصة على أنها اكتشاف الطبيعة الخفية للأشياء، أو صورها، أو ماهيتها، وجميعهم أيضا متفق مع أفلاطون في القول بأن هذه الماهيات قد تكتشف أو تدرك بمساعدة الحدس الفكري، وبأن لكل ماهية اسما مناسبا لها هو الاسم الذي يطلق على كل من الأشياء المحسة، وبأن الماهية قد توصف في كلمات، وهم يطلقون على وصف ماهية شيء من الأشياء «تعريفا»
a definition .
7
وقد أصبح يطلق على هذا الموقف في علم التصنيف «علم الأنماط»
typology . ثمة ثلاثة معتقدات لعلم الأنماط: (1) الإقرار الأنطولوجي بوجود الصور. (2) الإقرار الميثودولوجي بأن مهمة التصنيف كعلم هي أن يدرك ماهيات الأنواع. (3) الإقرار المنطقي المتعلق بالتعريف. إن علينا أن نميز هذه المعتقدات المنفصلة الثلاثة إذا شئنا أن نجتنب اجتراح عبارات مثل تلك التي تتهم داروين ولامارك بأنهما من «علماء الأنماط». لقد كانا عالمي أنماط بمعنى أنهما احتفظا بجزء من العنصر الثالث للماهوية؛ أي منطق التعريف الأرسطي، وليس بأي معنى آخر. يقول بوبر: «وفقا لنزعة الماهية (وبخاصة في صيغتها الأرسطية) فإن التعريف هو ترديد الماهية الداخلية أو طبيعة الشيء. وهو في الوقت نفسه يذكر معنى لفظة، معنى الاسم الذي يسمي الماهية.»
8
يذهب أرسطو إلى أن هناك ثلاثة أشياء يمكن أن تعرف عن أي كيان (كائن): ماهيته وتعريفه واسمه. الاسم يسمي الماهية، والتعريف يقدم وصفا جامعا تاما للماهية. الاسم إذن هو اسم الكيان والتعريف وصف له. «يعتبر أرسطو أن الحد يعرف بأنه اسم لماهية الشيء، والصيغة المعرفة بأنها وصف الماهية. وهو يؤكد أن الصيغة المعرفة يجب أن تقدم وصفا جامعا للماهية أو للخواص الجوهرية (الماهوية) للشيء المعني.»
9
وبغض النظر عن كل ما قيل عن الماهيات، فإن ما يدعو إليه أرسطو - إذا استخدمنا المصطلح الحديث - هو التعريف بالخواص المرتبطة بالاقتران والتي إذا أخذت متفرقة فكل منها «ضروري»
necessary
وإذا أخذت مجتمعة فهي «كافية»
sufficient . مثال ذلك: أن كون الشيء شكلا مغلقا مستويا ثلاثي الأضلاع هو ضروري وكاف لكونه مثلثا. مثل هذا الضرب من التعريف ملائم - كما هو معلوم - لتعريف الصور الأزلية. ولكنه ليس ملائما تماما لتعريف أسماء الأنواع التي تتطور ، أو لتعريف «النوع»
species
نفسه؛ ورغم ذلك فإن هذا الضرب من التعريف هو بعينه ما افترض أنه التعريف المسموح به حتى عهد قريب. لقد كانت نظرية التطور بالضرورة تحديا للإقرار الأنطولوجي بأن الأنواع كصور موجودة. ومن الواضح تماما أنها كانت أيضا تحديا للإقرار الميثودولوجي. فإذا لم يكن ثمة صور فلن يمكن أن تكون مهمة علم التصنيف أن يدركها. ولكن لنظرية التطور نتيجة ثالثة بالنسبة لعلم التصنيف، وهذه النتيجة الثالثة هي ما لم يره داروين وأتباعه. لقد تعين التخلي عن التعريف الأرسطي لأسماء الأنواع وللأنواع، وأمكن لعلماء الأنماط التغاضي عن التوزع الفوضوي للخواص بين الكائنات الحية في واقع الحال، وعن تنوع طرق التكاثر المستعملة لإبقاء النوع. أما علماء التطور فلم يمكنهم التغاضي. (1) التعريف الأرسطي والتطور
كان علماء التصنيف منذ البداية يهدفون إلى شيئين: تعريف ل «النوع»
species
من شأنه أن يفضي إلى أنواع حقيقية، ومبدأ موحد من شأنه أن يفضي إلى تصنيف طبيعي. تتضح الحماسة التي بحث بها علماء التصنيف عن مثل هذا المبدأ الموحد في الاقتباس التالي للينوس: «لقد جهدت طويلا لكي أجده، وقد اكتشفت أشياء كثيرة ولكني لم أتمكن من العثور عليه، وسوف أستمر في البحث عنه ما حييت.»
10
وقد عثر التصنيفيون أخيرا على مبدئهم الموحد في نظرية التطور؛ فالتصنيف الطبيعي هو ذلك التصنيف الذي «مثل» الفيلوجينيا (تطور النوع) بمعنى ما من المعاني.
11
تلقى بعض التصنيفيين البرنامج الفيلوجيني بحماسة في الترحيب لا يضارعها إلا حماسة غيرهم في الرفض. من الواضح لماذا عارض علماء الأنماط التصنيف الفيلوجيني؛ غير أن التصنيف الفيلوجيني لقي معارضة أيضا من التصنيفين الذين قبلوا نظرية التطور، ولكنهم أنكروا أي صلة لهم بعلم التصنيف. أصبحت هذه المجموعة الأخيرة تعرف باسم التقسيميين
classificationists ، ونظراؤهم المحدثون هم التصنيفيون العدديون
numerical taxonomists . وتفسير موقف التقسيميين الأوائل يمكننا أن نجده أيضا في العنصر الثالث للماهوية. فرغم أن جميع الفيلوجينيين الأوائل ومعظم التقسيميين هجروا التقريرين الأولين للماهوية فكلا الطرفين لم يهجر التعريف الأرسطي.
بسبب التطور أحس علماء التصنيف بأنهم بإزاء ورطة؛ فإذا تقبلوا نظرية التطور بوصفها المبدأ الموحد لتقسيم طبيعي، فإن عليهم أن يتخلوا عن أي أمل في أن يكون لديهم يوما نوع طبيعي. وإذا شاءوا التمسك بأنواع حقيقية فإن عليهم أن يتخلوا عن أي أمل في أن يكون لديهم يوما تقسيم طبيعي. بوسعنا أن نرى الأساس المنطقي وراء هذه المعضلة في الاقتباسات التالية من لامارك وليل وداروين. يقول لامارك على سبيل المثال: «إن ذلك الشطر من عمل العلماء الطبيعيين المتعلق بتحديد ما يسميه المرء «نوعا» يزداد اختلالا يوما بعد يوم؛ أي يصبح أكثر تعقدا وأكثر اضطرابا؛ لأنه يجري في الافتراض السائد عالميا تقريبا بأن منتجات الطبيعة تشكل أنواعا متميزة دوما بخصائص لا تتغير، ووجودها قديم قدم الطبيعة نفسها.»
12
لقد خلص لامارك عندئذ بأنه ما دامت الأنواع لا يمكن تحديدها بقائمة ثابتة من الخصائص فإنها لا يمكن أن تكون حقيقية، ويرد ليل بقوله: «إذا كانت الأنواع غير حقيقية فالنتائج الواضحة لذلك مزعجة: فالتغير غير المحدود يصبح ممكنا بل ضروريا، ولن يعود للأنواع حدود دقيقة، وسيصبح التقسيم ممارسة اعتباطية خالصة، وسيجوز لأي نوع أن يتحول بسهولة إلى نوع آخر.»
13
وبصيغة أخرى فإن الأساس الوحيد للتقسيم الطبيعي هو نظرية التطور، ولكن وفقا لنظرية التطور فإن الأنواع تنشأ بالتدريج ويتغير النوع منها إلى نوع آخر. فإذا كانت الأنواع قد تطورت بهذا التدريج فإنها لا يمكن أن تحد بواسطة خاصة فردة أو مجموعة من الخواص. وإذا كانت الأنواع لا يمكن أن تحد فإن أسماء الأنواع إذن لا يمكن أن تعرف بالطريقة التقليدية. وإذا كانت أسماء الأنواع لا يمكن أن تحد بالطريقة التقليدية فإنها، إذن، لا يمكن أن تعرف على الإطلاق. وإذا كانت لا يمكن أن تعرف على الإطلاق فالأنواع إذن لا يمكن أن تكون حقيقية (واقعية). وإذا كانت الأنواع غير حقيقية فإن «النوع»
species ، إذن ليس له سند (مرجع/مشار إليه) والتصنيف أمر عشوائي تماما.
ثمة عناصر من نفس الحجة يمكن أن نجدها في كتابات علماء التصنيف المحدثين. يقول كين
A. J. Cain
مثلا ما يلي: «ولكن عندما تتاح سلسلة جيدة فإن الأشكال التي تبدو نوعا جيدا في أي وقت معين تصبح غير محددة ما دامت هي مراحل متعاقبة في خط تطوري واحد تتداخل بسلاسة بعضها في بعض ...»
14
وبمرور الزمن تتغير باستمرار وتتحول بالتدريج إلى نوعين جديدين بدون أي انقطاع مفاجئ يمكن أن يستخدم كحد معين. وتعد حدود الأنواع التحتية والأنواع داخل جنس ما اعتباطية بنفس القدر؛ إذ ليس ثمة سبب لأن تضع قطعا في سلسلة ممتدة عند نقطة معينة دون غيرها. ويخلص كين إلى أن المشكلة لا حل لها. ويقول سيمبسون
G. G. Simpson : «من المؤكد أن خط النسب يجب أن يقطع إلى قطع لأغراض التصنيف. وهذا التقطيع يجب أن يكون اعتباطيا ... لأنه ليس ثمة طريقة غير اعتباطية لتقسيم خط ممتد ...»
15
ورغم كل المثالب المذكورة الخاصة بال «نوع» يقول كين: إن الأنواع كخطوط عرقية «أقل اصطناعا وأقل ذاتية وأقل اعتباطية من أي رتبة أخرى.»
16
ويقول ماير: «إن الأنواع وحدة مهمة في التطور وفي الإيكولوجيا وفي العلوم السلوكية وفي البيولوجيا التطبيقية
17 ... إن لها دلالة بيولوجية محددة جدا.»
18
ويقول سيمبسون: «مثل هذه التقسيمات الفرعية الاعتباطية لا تنتج بالضرورة أصانيف «غير واقعية» أو «غير طبيعية» ... ولكي نوضح ذلك بمماثلة بسيطة ولكن كافية للتفسير فإن قطعة من السلك تتدرج لونيا من الأزرق مثلا عند أحد الأطراف إلى الأخضر عند الطرف الآخر، فإن قطع هذا السلك إلى شطرين هو فعل اعتباطي، ولكن الجزأين الناتجين هما قسمان واقعيان تماما من السلك يوجدان كجزأين طبيعيين من الكل قبل أن يفصلا.»
19
من الواضح تماما أن علماء التصنيف ما زالوا يعتقدون بأن ثمة مشكلة للنوع، وفي القلب من هذه المشكلة فكرة التعريف، تلك الفكرة الفاترة بيولوجيا الحاسمة منطقيا. (2) أسماء الأصانيف بوصفها مفاهيم عنقودية
cluster concepts
لم يصل العلماء إلى اتفاق حول هذه الأسئلة خلال القرنين السابقين رغم وفرة الجهود المبذولة. ويقول ماير: إن المرء ليشعر بأن ثمة سببا خفيا وراء هذا الاختلاف الكثير. من أسباب عدم التوصل إلى اتفاق في هذا الشأن أن علماء التقسيم وعلماء الفيلوجينيا يختلفون في الغرض من التصنيف؛ فالزمرة الأولى تريد أن تكون وحدة التقسيم هي وحدة التعرف، والأخرى تريدها أن تكون وحدة التطور. ولكن هناك أيضا سببا خبيئا لهذا الاختلاف الكثير، وهو قابلية كل من الطرفين من التصنيفيين للتأثر بالتعريف الأرسطي. من دلائل خطأ التعريف الأرسطي تلك النتيجة التي وصل إليها ماير وجميع التصنيفيين الآخرين تقريبا الذين تناولوا مشكلة النوع، وهي أنه «ربما يكون سبب الاختلاف هو حقيقة أن هناك أكثر من صنف من «النوع»، وأنه يلزمنا تعريف مختلف لكل من هذين «النوعين».»
20
وأفضل طريقة لكشف تأثير التعريف الأرسطي على علماء التصنيف هي أن نبحث تعريف نوع من الحدود هجر التصنيفيون بسببه التعريف الأرسطي بالفعل؛ وهو تعريف أسماء التصانيف
taxa . نحن ندرك الآن ببساطة ما أدركه أدانسون منذ مائتي عام تقريبا من أن أسماء الأصانيف لا يمكن أن تعرف بواسطة مجموعات من الخواص الضرورية حين تؤخذ فرادى والكافية حين تؤخذ مجتمعة؛ ذلك أنه قلما تكون أي خاصة ذات أي قيمة تصنيفية موزعة بين أعضاء أي أصنوفة
taxon
على نحو جامع مانع معا؛ فالخواص التي تستخدم لتعريف أسماء الأصانيف لا تخضع لحدود تصنيفية (لا تحترم حدودا تصنيفية). مثال ذلك: هل النصف حبليات داخلة في شعبة الحبليات أم هي شعبة مستقلة؟ ليس ثمة بين الخواص المستخدمة لتعريف «الحبليات»
chordate
ما هو ضروري وكاف معا، فإذا كانت النصف حبليات متضمنة داخل الحبليات فإن قليلا من الخواص هو الذي تمتلكه الحبليات بشكل حصري، مثل: حبل ظهري، حبل عصبي أجوف ظهري، جهاز عضلي قسامي، هيكل داخلي من غضروف أو عظم، وجهاز دوري مغلق. ولكن عندئذ لا يكون بين الخواص ما هو موجود بشكل جامع، ربما يكون شق الخيشوم أقرب شيء لأن يكون موزعا بشكل جامع، ومع ذلك فإن بعض نصف الحبليات لا يمتلك أي شيء يمت لشق الخيشوم من قريب أو بعيد. فإذا لم ندخل نصف الحبليات من جهة أخرى في الحبليات، فإن كثيرا من الخواص المعرفة يصبح ممتلكا للحبليات بشكل جامع، مثل: حبل ظهري، حبل عصبي أجوف ظهري، وشقوق خيشومية، ولكن عندئذ ستصبح كثير من الخواص التي كانت ممتلكة حصريا للحبليات غير حصرية، مثل: حبل عصبي أجوف ظهري. الخاصة الوحيدة التي تمتلكها الحبليات بشكل جامع مانع هو الحبل الظهري، وإن كانت بعض الفقاريات وحبليات الذيل تمتلك واحدا في طور الجنين أو اليرقة فحسب. وحتى لو أخذنا الأشكال الحالية فقط بالاعتبار فإن التعريف الأرسطي ببساطة لن يجدي.
جرى العرف على أن تعد لفظة ما معرفة على نحو صريح إذا - وفقط إذا - أمكن إعطاء مجموعة من الخواص بحيث تكون كل خاصة على حدة ضرورية وتكون المجموعة الكلية للخواص كافية إذ تؤخذ مجتمعة. من ذلك أن الأعزب هو: الإنسان البالغ الذكر الذي لم يتزوج قط، فإذا كانت
A
كلمة مطلوبا تعريفها و
d ،
c ،
b ،
a
خواص، فإن البنية المنطقية لهذا التعريف هي
ADF a. b. c. d ، يمكن للألفاظ أن تعرف أيضا بالفصل دون انتهاك لروح التعريف الأرسطي. من ذلك أن ال
sibling
هو أخو المرء أو أخته، وال
uncle
هو أخو والد المرء أو أخو أمه أو زوج إحدى عماته أو خالاته. والبنية المنطقية لمثل هذا التعريف هي:
ADF aVbVcVd ، في هذا التعريف الفصلي كل خاصة كافية على حدة وامتلاك واحدة على الأقل من الخواص كاف.
ومع ذلك فكل من هذين الصنفين من التعريف ليس صالحا لتعريف أسماء الأصانيف؛ وبالتالي لتحديد الأصانيف. وسواء من وجهة نظر التصنيف الفيلوجيني أو العددي، فإن أسماء الأصانيف لا يمكن أن تعرف إلا بواسطة مجموعات من الخواص المتغيرة المشاركة إحصائيا والمنتظمة في تعريفات فصلية طويلة إلى غير نهاية. والبنية المنطقية لمثل هذا التعريف هي:
ADF a. b. c. dVb. c. d. eVa. c. d. f and so on . ليس ثمة - في العادة - خاصة معينة أو مجموعة من الخواص ضرورية، ولا أي مجموعة عددية كافية. من أمثلة ذلك في الخطاب العادي لكلمة لا يمكن تعريفها إلا بهذه الطريقة كلمة «ليمون». يتضمن وصف الليمونة خواص من قبيل: ثمرة لنوع معين من الأشجار، لها طعم حامض، بيضية الشكل ... إلخ. لا شيء من هذه الخواص ضروري، حيث إن الفاكهة قد تفتقر لأي واحدة منها وتبقى ليمونة. ثمة مجموعات عديدة ومختلفة ولكن متداخلة من الخواص هي وفقا لذلك كافية.
21
في تعريفهم لأسماء الأصانيف كمفاهيم عنقودية
cluster concepts
تبنى علماء التصنيف (سواء أدركوا ذلك أم لا) موقفا فلسفيا جديدا ومثيرا للجدل بعض الشيء. لقد هجروا القسمة الثنائية البسيطة بين العلاقات التحليلية والتركيبية في التعريف. لقد جرى العرف بأن الخاصة المعرفة إما أن تكون مرتبطة تحليليا باللفظة التي تعرفها أو لا تكون. وليس ثمة وسط في ذلك. وفقا لإحدى صيغ الموقف الجديد فإن «أي خاصة مرتبطة بأخرى بحيث لا يكون ثمة معنى لأن ننكر انطباقها ستسمى مرتبطة تحليليا بها. مثال ذلك ارتباط ال
brotherhood
بال
siblinghood . أما الخاصة التي لا تفي بهذا المتطلب ولكنها رغم ذلك حقيقة بأن تدخل في أي تفسير دقيق لمعنى اللفظة ستسمى مرتبطة معياريا بها. وأي ارتباطات أخرى غير ذلك ستسمى تركيبية.»
22
إن الخواص التي تقع في تعريف أسماء الأصانيف (مع استثناءات نادرة) كلها مرتبطة معياريا، وهي ليست مرتبطة تحليليا؛ لأن أي فرد أو أي مجتمع أفراد يمكن أن يفتقر إلى خاصة أو بضع خواص ويبقى مع ذلك عضوا في الأصنوفة؛ غير أنها ليست مجرد خواص تحليلية؛ لأنها الخواص الوحيدة المستخدمة في التعريفات.
في تسمية خواص معينة «خواص معيارية» ثمة قوانين متضمنة. في حالة التصنيف الفيلوجيني فإن هذه القوانين هي قوانين النظرية التطورية والنظرية الجينية. تحدد هاتان النظريتان أي الخواص هي خواص معيارية وما مدى أهمية كل خاصة للتعريف. في العادة يعارض أنصار التعريف الأرسطي وأنصار التمييز الحاد البسيط «تحليلي/تركيبي» محاولات تعريف الألفاظ كمفاهيم عنقودية، وذلك بإحدى نقلتين: فهم يدعون أن مثل هذه الألفاظ «تستخدم بطريقة غائمة من جانب المستخدمين العرضيين، ولكن (1) هؤلاء المستخدمين يمكن في العادة إقناعهم بقبول شروط ضرورية وكافية معينة على أنها تحليلية ورفض الروابط الأخرى على أنها تركيبية. و(2) ينبغي أن يستبدل بالمفهوم الغائم مفهوم أكثر تحديدا يمكن أن يعرف بالطريقة التقليدية.»
23
كلا هذين البديلين غير قابل للتطبيق في حالة أسماء الأصانيف. فمن المؤكد أن علماء التصنيف لا يستخدمون أسماء الأصانيف عرضا، ولا يمكنهم أن يقبلوا شروطا ضرورية وكافية معينة على أنها تحليلية حتى لو أرادوا ذلك، مثلما بين مثال الحبليات. ولا هو بإمكانهم أن يستبدلوا بأسماء الأصانيف التي بحوزتهم الآن أسماء أكثر تحديدا وتبقى وافية بأغراض التصنيف الفيلويجيني. مثال ذلك: أن جميع - وفقط - الفقاريات وحبليات الرأس وحبليات الذيل تمتلك حبلا ظهريا في وقت ما من نموها الإنتوجيني؛ وليس ثمة خاصة أخرى هي متغير مشارك لهذه الخاصة. ورغم ذلك فإن أصنوفة «حبليات الظهر»
notochordata
يمكن أن تتكون بجعل امتلاك حبل ظهري شرطا ضروريا وكافيا معا. ومن جهة أخرى فإن الفقاريات وحبليات الظهر وحبليات الذيل والإنتيروبنيوست والبتيروبرانش (وكلاهما من النصف حبليات) وإكينوديرم منقرض تمتلك شقوقا خيشومية في وقت معين من نموها الأنتوجيني. وليس ثمة خاصة أخرى هي متغير مشارك لهذه الخاصة. فإذا جعلنا امتلاك شقوق خيشومية شرطا ضروريا وكافيا معا لأمكن لأصنوفة «خيشوميات» أن تعرف تقليديا. ولكن التعريفات السابقة لا تعدو أن تكون ذلك الصنف من التعريف لأسماء الأصانيف الذي جهد علماء التصنيف المحدوثون لتجنبه. وسواء جعل التصنيف ليكون مفيدا فحسب (موقف التصنيف العددي) أو مفيدا ودالا أيضا من الوجهة الفيلوجينية (الموقف الفيلوجيني) فإن أسماء الأصانيف لا يمكن أن تعرف إلا بواسطة مجموعات من الخواص المتغيرة المشاركة إحصائيا.
تتصف جميع أمثلة المفاهيم العنقودية المقدمة حتى الآن بخصيصة ثانية. بعد تقديم بنود عديدة من الفصل فإن التعريف ينتهي بتعبير «إلخ» أو «وهكذا». لا يعود السبب في ذلك في حالة معظم أسماء الأصانيف إلى أن قائمة الفصل طويلة جدا ولا إلى أنها معروفة جدا، بل إلى أن القائمة لا يمكن أن تكتمل؛ فهي قائمة تطول إلى غير نهاية. هذه اللانهائية ليست مؤذية لأغراض التصنيف الفيلوجيني بل جوهرية.
ليس قبل أن تتوقف الأنواع عن التطور، الأنواع التي يجب أن نميز بعضها من بعض، يمكننا أن نقرر أي الخواص كاف (وما عددها) لتمييزها مرة وإلى الأبد؛ فقليل جدا من الخواص - على سبيل المثال - تكفي لتمييز الإنسان الحديث عن أية أنواع أخرى. ورغم ذلك فإذا ما شرع نوع من القردة في التطور عبر نفس الخطوط التي قطعها الإنسان واكتسب خواص مساوية، فإن تعريف ال
Homo sapiens
سوف يتعين أن يمتد لكي يستبعد هذا الشكل الجديد إذا كان لل
Homo sapiens
أن يبقى أحادي الجذر. وحتى إذا أراد أحد علماء التصنيف فإنه يعجز عن تقديم هذه الخواص التمييزية مقدما. ولكن حتى يقع مثل هذا الحادث البعيد الاحتمال، فليس ثمة سبب لتعقيد التعريف. ليس بوسع علماء التصنيف أن يكونوا جاهزين مقدما لجميع الطوارئ. وكل ما يلزمهم هو أن يستوعبوا الطوارئ التي تبزغ بالفعل عندما تبزغ.
وفي حالة الأنواع المنقرضة تماما، فإن من الممكن، من حيث المبدأ على الأقل، أن نعرف أسماء هذه الأنواع مرة وإلى الأبد إذا ما توافر سجل حفري للنوع المعني وجيرانه من الأصانيف. فإذا كان السجل الحفري غير كامل، فإن تعريف اسم نوع منقرض ما يتعين تغييره إذا ما تم اكتشاف حفريات لأنواع شبيهة. وهكذا فإن لتعريفات أسماء الأصانيف - كمفاهيم عنقودية - خصيصة أخرى، فإنها على خلاف التعريفات التقليدية لا يمكن أن تكون معزولة إلى الأبد عن الاكتشافات الإمبيريقية، وكلما تراكم مزيد من الأدلة سيكون من المتعين أن تتغير لكي تستوعب هذه الأدلة.
الفصل الثامن
الماهوية الجينية
الماهوية الجينية
genetic essentialism
هي النظرة الردية إلى الكائنات البشرية على أنها كائنات تكمن ماهيتها في جيناتها. ويمكن وصف قيمتها بلغة علم الوراثة. وترتبط الماهوية الجينية ارتباطا وثيقا ب «الحتمية الجينية»
genetic determinism ، وهي الاعتقاد بأن سلوك الإنسان تحدده مسبقا بنيته الجينية، وأن سمات الشخص هي شيء دائم وقابل للتنبؤ ومحتم منذ الإخصاب ومبيت في جبلته البدنية، ولا يؤثر فيه السياق الاجتماعي تأثيرا يذكر. يقول جيمس واطسون - أحد مكتشفي الحلزون المزدوج للدنا
DNA : «لقد درجنا على الاعتقاد بأن مستقبلنا مكتوب في النجوم. أما الآن فقد عرفنا أنه مكتوب في جيناتنا.»
الحق أن هذا الحديث شديد الخطر باهظ التبعات فادح العواقب؛ إذ لو صحت الحتمية الجينية لانقلب بناؤنا النظري (بل المؤسساتي) - الخلقي والاجتماعي والسياسي والجنائي - رأسا على عقب، وانتفت حرية الإرادة والمسئولية الفردية والاجتماعية والجنائية، وجاز البطش حيث ينبغي التسامح، والتساهل حيث ينبغي الحزم؛ إلى غير ذلك مما سيأتي ذكره بتفصيل مناسب.
يفضي التفكير الماهوي إلى تحيزات معرفية شديدة حين يتعلق الأمر بالحديث عن الجينات وصلتها الوثيقة بسلوك ما أو حالة أو فصيل اجتماعي. يؤدي الفهم المبتسر لدور الجينات في إحداث شتى الحالات البشرية إلى مجموعة من التصورات حول هذه الحالات، فتدرك على أنها:
ثابتة لا تتغير.
حتمية لا احتمالية.
ذات علة محددة.
متجانسة ومنمازة عن غيرها.
طبيعية
natural ؛ أي «هكذا خلقت» (الأمر الذي يؤدي إلى «مغالطة المذهب الطبيعي»
naturalistic fallacy ؛ أي القول بأن الخير يقوم على أساس طبيعي وأن القيمة تستخلص من الواقع وأن ما ينبغي أن يكون يستخلص مما هو كائن).
1
ثمة بالطبع حالات نادرة يكون فيها التفسير الجيني وجيها ومقبولا ومتفردا، حيث يطلق عليه «التفسير الجيني القوي»
strong genetic explanation ؛ غير أن الناس تميل إلى أن تنسب إلى العامل الجيني تأثيرا أكبر من تأثير العوامل الأخرى في حالات «التفسير الجيني الضعيف»
weak genetic explanation ، ينظر الناس إلى العنصر - على سبيل المثال - والجنوسة (الجندر)، والتوجه الجنسي والإجرام والمرض العقلي والسمنة، بعدسات ماهوية، فيرونها في صورة محرفة لا ترصد حقيقتها رصدا أمينا، تظاهرهم في ذلك وسائل الإعلام التي تنقل إليهم الكشوف الجينية الجديدة بطريقة تحيد عن الحقيقة وتميل إلى المبالغة والتهويل والإثارة والفرقعة الإعلامية الهستيرية.
يبدو أن الجينات تسير كل شيء في هذه الحياة. يرث البشر جينات تحدد لهم صفاتهم الجسمية ومواقفهم السياسية وميولهم الدينية وسماتهم الشخصية واهتماماتهم المهنية ومخاوفهم الشخصية.
2
كما أن تحليل الدنا يمكن أن ينبئنا - بشيء من الدقة - أين نشأ بعض أسلافنا، ومدى احتمال أن نصاب ببعض الأمراض. إنه ليكون مثيرا حقا أن نعرف شيئا عن لبنات البناء المادية بداخلنا، والتي تجعلنا، فيما يبدو، ما نحن (أو بتعبير آخر «تشكل ماهيتنا»).
يؤثر الخطاب الجيني بحد ذاته على الطريقة التي ننظر بها إلى أنفسنا وإلى الأشياء، ويدعم ماهويتنا السيكولوجية القائمة سلفا، وتؤثر ماهويتنا السيكولوجية الصميمة في الطريقة التي نتلقى بها الكشوف الجينية الجديدة، وتصبها في قالبها. بذلك تنشأ حلقة خبيثة من التدعيم والتحريف يصعب الفكاك منها. ومن شأن التحيز الماهوي الجيني أن يدعم التنميط
stereotyping
والتعصب العرقي والجنسي. وقد وجد في تيار اليوجينا
eugenics (تحسين النسل) - بشتى تطبيقاته - مراغما كثيرا لممارسة دوره وترسيخ ذاته . (1) الماهوية السيكولوجية
تميل الناس إلى أن تماهي
essentialize
كيانات معينة تصادفها في الحياة، فتدرك الفئات «الطبيعية» من قبيل المعادن والمواد الكيميائية والكائنات الحية بصفة خاصة، على أن هناك طبيعة أساسية تحتية تجعلها ما هي. وتتجلى الماهوية السيكولوجية لدى الناس عندما تدرك طبيعة أولية أو «ماهية» غائرة وغير منظورة، وهي العلة التي تجعل الكيانات الطبيعية ما هي؛ إذ تولد الخصائص المشتركة الظاهرة لأعضاء فئة معينة من الكيانات؛ فماهية القطة على سبيل المثال تتسبب في أن تكون لها شوارب وفراء ناعم ومخالب حادة وميل إلى أن تخرخر عندما تكون راضية. إن الماهية تضبط الخصائص المنظورة ولكنها لا تحدد بها؛ فقد تتغير الخصائص الملاحظة لأعضاء فئة ما (قطط بدون شعر مثلا) دون أن يتضمن ذلك تغيرا في ماهية هؤلاء الأعضاء.
3
من العناصر المحددة للماهية تلك العلاقة العلية بين الماهية والخصائص المتوقعة. ومنها عنصر الثبات؛ فماهية القطة من المفترض أنها لا تتغير حتى إذا تحولت السمات الملاحظة بفعل تغيرات جسمية أو بيئية مباشرة كأن يحلق شعرها أو يجرى لها تغيير جراحي.
تشير ماهية النوع الطبيعي إلى أن أعضاء فئة هذا النوع تدرك على أنها متجانسة فيما بينها ومتميزة عن أعضاء الفئات الأخرى. ثمة شيء ما يجعل القطط جميعا تدرك على أنها قطط وعلى أنها متميزة عن بقية أنواع الحيوانات. إن الماهية الفريدة المستترة لكل فئة تقدم للمدرك «إمكانا استقرائيا»
inductive potential
لكي يقيم استدلالات فسيولوجية وسلوكية محددة تتعلق بأعضاء فئة معينة.
4
يستند الناس إلى الماهيات لكي يفهموا طبيعة الأنواع، بل إنهم - فضلا عن ذلك - يضعون أحكاما ماهوية إذا أرادوا أن يفهموا سلوك الجماعات الاجتماعية. إن شرائح من قبيل العنصر
race ، والجنوسة
gender - رغم أنها من اصطناع البشر - لتتناولها نزعة الماهية بنفس الطريقة التي تتناولها بها الأنواع الطبيعية. من ذلك أن جيل وهوايت (2001م) وجدا أن الجماعات القبلية المنغولية يطبقون هذه الفرضية الكشفية فينظرون إلى البطون القبلية على أن لها قدرات فطرية متفاوتة، ويعتقدون أن هذه القدرات لا تتبدل حتى لدى الأشخاص الذين يتبنون عند ولادتهم وينشئون في كنف جماعات أخرى .
5
يدرك الناس أعضاء الجماعات الاجتماعية على أنهم يشكلون فئات متجانسة وثابتة، ويسبغون عليهم أوصافا نمطية لا تتبدل، ويطلق على هذه العملية «التنميط»
stereotyping .
ورغم أن ماهية أي فئة هي شيء باطن غير منظور فإن من المفترض أنها السبب من وراء خصائص يتصف بها أعضاء هذه الفئة، بعض هذه الخصائص معروف وبعضها لما يزل بانتظار الكشف. هذه الطبيعة الخفية والملغزة للماهية لا تنال من أهميتها عند الناس ولا تقلل من استخدامهم لهذا البناء الذهني المجرد، وهم يتغلبون على هذه الصعوبة باستخدام
essence placeholder (ماسك مكان الماهية/محل الماهية)، وهو ما يتيح لهم أن يستقوا استدلالات علية من الماهية إلى الخصائص الملاحظة دون الحاجة إلى إعطاء الماهية وصفا ماديا قد يحدها، وقد يحول دون إجراء استدلالات ماهوية عن ما هو غير مكتشف بعد. ونحن نرى أن «الجينات» (أو على الأقل الطريقة التي يتصورها بها عامة الناس) تعمل كماسك مكان لهذه الماهية المتخيلة، وهو ما يفسر لنا الطرائق التي يستجيب بها الأفراد عندما يتلقون معلومات جينية عن الناس. (2) الماهوية الجينية
ثمة مكون هام للماهوية السيكولوجية، وهو فكرة «الإمكان الفطري»
innate potential . إن العضوية في نوع من الأنواع تفرض على خصائص الأعضاء ضوابط معينة؛ ذلك أن الماهية تنحدر خلال النسل البيولوجي. ترتبط الماهية الثابتة بالفطرية من جهة، وترتبط الفطرية بالجينات من جهة أخرى، مما يشير إلى أن الخصائص الملاحظة لجماعة ما يفترض أنها تقوم على أساس جيني مشترك.
تتماثل العناصر المقومة للماهوية السيكولوجية (ثابتة، أساسية، متجانسة، منمازة، طبيعية) مع التصور العامي الشائع عن الجينات. يومئ هذا التشابه إلى أن الأعضاء المشتركين في بنية جينية محددة مشتركون أيضا في ماهيتهم. هكذا تعمل الجينات في فهم الناس عمل «ماسك مكان الماهية»، وتتيح لهم أن يستدلوا على قدراتهم وميولهم وقدرات غيرهم وميولهم بناء على جينات مشتركة مفترضة. يطلق على هذا الميل إلى استنتاج خصائص شخص ما وتصرفاته كشيء يقوم على بنيته الجينية مصطلح «الماهوية الجينية». يصوغ نلكن وليندي هذا المعنى بقولهما: «ترد الماهوية الجينية النفس إلى كيان جزيئي؛ إذ تساوي بين الكائنات الإنسانية بكل تعقيداتها الاجتماعية والتاريخية والأخلاقية وبين جيناتها.»
6
ما إن يتلقف الناس خبرا عن أساس جيني لأي شيء حتى تستيقظ تحيزاتهم الماهوية السيكولوجية وتضفي على هذا الشيء صفة الثبات والدوام والحتمية، بمعزل عن التأثيرات البيئية والحرية الشخصية والاختيار الفردي، فما دام الجين موجودا فالمآل متوقع والمصير محتوم. وما دام الجين موجودا فالحالة موجودة، وما دام غائبا فالحالة مستبعدة، ولا وزن هنالك لأية عوامل أنتوجينية أو بيئية أو خبروية.
من شأن الماهوية الجينية أن تحمل الناس على أن يتصوروا الجماعات المشتركة في الأساس الجيني على أنها «متجانسة» و«منمازة» (عن غيرها)، وكأن الحالة الجينية والجماعة مشتركتان في الحدود؛ فجميع أعضاء الجماعة المشتركين في الماهية الجينية لديهم نفس الصفة. وهذه الصفة تغيب بالضرورة عن أولئك الذين لا يشاركون في الأساس الجيني التحتي.
كما أن العلل الجينية تدفع الناس إلى تصور نتائجها على أنها «طبيعية»
natural ، الأمر الذي قد يستحث «مغالطة المذهب الطبيعي» (أي أن تستمد خواص أخلاقية (خير، حق، ... إلخ) من خواص طبيعية (طويل، أخضر، ...) أو أن تستمد «ما ينبغي أن يكون» من «ما هو كائن»). إن النزوع الذي نراه «طبيعيا» سيكون عندنا أكثر قبولا من الذي نراه «غير طبيعي». من ذلك أن الجنسية المثلية سينظر إليها - إن تبين لها أساس جيني - نظرة أكثر إيجابية مما إذا كانت اختيارا حياتيا إراديا حرا.
هكذا تشكل الماهوية الجينية عدسات أشبه بالمنشور ننظر من خلالها إلى الأشياء فيتشوه فهمنا لها. إن التحيز الماهوي الجيني كفيل بأن يغير رؤيتنا للأشياء، وأن يجعلنا نقيم الأمور تقييما مختلفا عن تقييمنا لها إذا لم تكن مرتبطة عندنا بأي أساس جيني. (3) هل الماهوية الجينية غير معقولة؟
نحن نسلم بأن الماهوية تعكس استجابة متحيزة - وغير مرغوبة في الأغلب - لما نتلقاه من معلومات جينية. ولكن للمرء أن يتساءل: ألا يمكن أن تعتبر مثل هذه الاستجابة عقلانية؟ أليس من المعقول أن معرفة المرء بالأساس الجيني التحتي لحالة ما ينبغي أن تدفعه إلى أن يستنتج أن الحالة محتمة، وأن لها سببا محددا وأنها متجانسة وطبيعية ؟ مثال ذلك: أنه إذا كان لشخص ما سلسلة من عدد كاف من تتابعات مكرورة من ثلاث قواعد
CAG
في الموضع الصحيح في نهاية كروموزوم 4، فإنها سوف تنتج مرض هنتنجتون ما لم تمت قبل الأوان لسبب آخر. بل إن بداية حدوث الأعراض يمكن التنبؤ بها بناء على عدد التتابعات المكرورة في الكروموزوم. وبجميع المقاييس فإن مرض هنتنجتون محتم، وذو سبب محدد ومتجانس وطبيعي، وتصوره بهذه السبل الجبرية هو تصور وجيه وهو الطريقة الصحيحة لفهمه.
على أن الجينات تؤثر في الأنماط الظاهرية
phenotypes
بطرق مختلفة. من ناحية يمكن للجينات أن تؤثر في الأنماط الظاهرية من خلال مسالك بيوكيميائية كبرى يمكن أن تقاس وتفهم، وهو ما يطلق عليه توركهايمر (1998م) «التفسيرات الجينية القوية». هكذا الأمر في حالة الأمراض الوحيدة الجين
monogenic
والحالات التي تشمل عددا صغيرا من الجينات. في مثل هذه الحالات يبدو معقولا حقا أن نتصورها محتمة وذات سبب واحد ومتجانسة وطبيعية، كنتيجة لمعرفتنا بأساسها الجيني التحتي. ومن جهة أخرى فإن التفسير الجيني القوى يبدو أنه يمثل الاستثناء أكثر مما يمثل القاعدة. لا تشكل الأمراض الوحيدة الجين إلا حوالي 2٪ من الأمراض ذات الأساس الجيني.
7
والقاعدة هي أن جينات عديدة تتشارك، ويزيد الأمر تعقيدا أن نفس الأليل
allele
يمكن أن يعبر عنه على أنحاء مختلفة بحسب العوارض البيئية. يذكر كرافت وهنتر بمعرض تلخيص الأدلة المؤيدة للتنبؤ بالخطر المرضي على أساس الجينات أن «الكثير - وليس القليل - من أليلات الخطر مسئولة عن أغلب الخطر الموروث لكل مرض شائع.»
8
إن العلاقات بين الجينوتايب (النمط الجيني) والفينوتايب (النمط الظاهري) يمكن أن تكون بالغة التعقيد، حيث تنبثق الأنماط الجينية كنتيجة لتفاعل متبادل لجينات عديدة عندما تتوافر ظروف بيئية معينة، وحيث يمكن للجينات أن تحدد أي البيئات يسعى إليها الشخص ومن ثم يتأثر بها، مثل هذه العلاقات المعقدة تتحدى أي جواب ماهوي.
يستخدم تركهايمر تعبير «تفسير جيني ضعيف» ليشير به إلى تلك الحالات المعلوم أن لها أساسا جينيا (
i.e. heritability > 0 )؛ غير أن الآليات التي تنقله غير معروفة إلى حد كبير أو غير قابلة للمعرفة. إن أغلب الطرائق التي ترتبط بها الجينات بالحالات البشرية يمكن أن توصف بأنها تفسيرات جينية ضعيفة. وإن كل السلوكات البشرية تقريبا مورثة (بما فيها التصويت الانتخابي والتدخين والطلاق) وإن كانت المسالك الجينية التحتية لها غير يسيرة. وكلما ضعفت الرابطة بين الجينات والحالات كانت الاستجابة الماهوية أكثر لا معقولية.
وحيث إن الجينات تؤثر في الأنماط الظاهرية في الأغلب الأعم بطريق التفسيرات الضعيفة (برفع تقديرات الخطر، بزيادة القابلية، برفع الاحتمالات) فإن الاستجابات الماهوية للترابطات الجينية كثيرا ما تكون غير ملائمة. ورغم ذلك - وكما يحاج هينشو وستير في معرض حديثهما عن الوصمة والأمراض النفسية - فعندما يعزو الناس حالة ما إلى أساس جيني فإنهم كثيرا ما يغفلون منظورات أخرى مثل مدى تلاؤم الشخص مع البيئة، أو كيف أثر نمو الشخص في نشوء حالته؛ أي إن الغزو الجيني كثيرا ما يمنح أولوية فوق الضروب الأخرى من العزو بالنسبة للظواهر. توجد هذه التعقيدات في معظم الظواهر البشرية التي تتفاعل فيها الطبيعة والتنشئة. وبسبب تعقد التفاعل بين الطبيعة والتنشئة يستسهل الناس تبني التفسير الجيني القوي على حساب الأسباب البيئية والخبروية أو التفاعلية بين الجينات والبيئة. ليس هذا نكرانا للدور الجيني بل للمبالغة فيه.
9 (4) فهم العامة لعلم الوراثة
مما يعقد المصاعب الخاصة بالتفكير العقلاني حول التفسيرات الجينية أن معرفة الناس بعامة عن علم الوراثة هي معرفة محدودة (في بحث لاني وآخرين (2004م) مثلا تبين أن نصف المشاركين في الدراسة لا يعلمون أن الجينات تقع في الخلايا!) ولكن رغم فهمهم المحدود للجينات فإن الناس لا تتورع عن إسداء تفسيرات جينية لسلوك الآخرين بشكل تلقائي عفوي. يصدق ذلك حتى على الأطفال؛ فقد بينت دراسة هيمان وجلمان (2000م) أن الأطفال يستدعون الجينات بشكل صريح لتفسير سلوك الآخرين رغم انعدام فهمهم تقريبا لعلم الوراثة.
يستقي عامة الناس معلوماتهم الجينية من وسائل الإعلام، والإعلام لا يقدم إلا تبسيطات مخلة توحي بتفسيرات جينية قوية للظواهر تتجاوب مع الفهم الحدسي (والخاطئ) للعامة عن الجينات، وهو فهم مشبع بالحتمية الجينية ويؤثر بشدة في فهمهم للآخرين ولأنفسهم. مثل هذه التحيزات الماهوية الجينية هي ما يقبع من وراء ظاهرتي: «التنميط»
stereotyping
و«التمييز»
discrimination
بجميع تجلياتهما: في العنصر، والجنوسة (الجندر)، والتوجه الجنسي، والإجرام، والمرض العقلي، والسمنة ... إلخ.
تكشف لنا كثير من البحوث أن الناس تبدي النزعة الماهوية عندما تكون بصدد تقييم الجماعات الأخرى، وتشتد تحيزاتهم الماهوية عندما يدركون الجماعات على أنها تشارك في بنية جينية عامة، الأمر الذي يقدم أرضا خصبة لنمو التحيز والتنميط. ينظر الناس إلى أعضاء الجماعات المختلفة على أنها تشترك في ملامح فطرية وثابتة ومحددة للجماعة تتسبب في سلوكاتهم وخصائصهم المميزة، وأن بعض هذه الملامح المحددة ذات منشأ جيني.
وقد بينت دراسة باستيان وهسلام 2006م أن هناك ارتباطا بين العزو الجيني والتنميط؛ فقد وجد أن «مقياس الأساس البيولوجي للماهوية»
10
يرتبط ارتباطا موجبا مع درجة تصديق الناس على شتى ضروب التنميط الخاصة بشتى الجماعات الاجتماعية. لقد تبين أن الميل إلى تفسير السلوك في حدود بيولوجية هو من أقوى الخصال التي تنبئ بالتنميط. كذلك الأمر في «مقياس الاعتقاد في الحتمية الجينية» (الذي يتضمن بنودا من قبيل: «مصير كل شخص يقبع في جيناته»)، فهو يرتبط ارتباطا موجبا مع التحيز والتنميط العنصري السلبي والنزعة القومية والنزعة الوظيفية.
11
وبالمجمل فإن أولئك الذين ينظرون إلى الجماعات البشرية على أنها تشترك في ماهية جينية عامة هم أميل إلى اعتناق اعتقادات تنميطية عن تلك الجماعات. (5) الماهوية الجينية والعنصر والإثنية
يعد العنصر
race
والإثنية - ربما بدرجة أقل - اثنين من التصنيفات الاجتماعية العتيدة. ونحن لا تعوزنا الأدلة على أن الناس يولون عنصر الناس وإثنيتهم أهمية هائلة. وقد قام الباحثون في السيكولوجيا بدراسة دور هذين البناءين بالنسبة لقطاع عريض من الظواهر، مثل: التنميطات والتحيز والإدراكات داخل الجماعة وخارج الجماعة والهوية والقدرات والآليات المعرفية المرتبطة.
وفي ترسيمه لصورة الشخصية المتحيزة أشار جوردون ألبورت 1954م إلى أن الاعتقاد في الماهية له قوة عجيبة على تخليد الآراء العنصرية المتحيزة لدى الناس. «ثمة ماهية يهودية متأصلة في كل يهودي»: «الروح الشرقية»، «الدم الزنجي»، «آرية هتلر»، «العبقرية الخاصة لأمريكا»، «الإنسان الفرنسي المنطقي»، «الإنسان اللاتيني المشبوب العاطفة»؛ كل أولئك يمثل اعتقادا في الماهية. ثمة «مانا» (قوة طبيعية مجسدة) سرية - للخير أو الشر - تقيم في الجماعة، ويشارك فيها جميع أعضائها.
12
ونحن نحاج بأن الناس كثيرا ما تتصور الجينات على أنها تتبطن هذه «المانا»، ومن شأن ذلك أن يعزز طائفة من ردود الأفعال (البغيضة في الأغلب).
هل ثمة أساس جيني للعنصر؟ ذاك سؤال قد خضع لتمحيص علمي مكثف. ورغم أن غالبية المجتمع العلمي والرابطات السياسية الدولية تؤكد عدم وجود أساس بيولوجي لمفهوم العنصر، بمعنى أن التنوع داخل لعنصر أوضح بكثير جدا من التنوع بين العناصر، فما زال الناس يستخدمون العنصر كأمارة بيولوجية لعمل استدلالات. إن استخدام الناس للتصنيفات العنصرية المستلهمة للجينات يماثل استخدام التصنيفات القائمة على الأنواع
species
في أنها تضم الأفراد في فئات تصنيفية منمازة
discrete
طبيعية ثابتة ضرورية.
13
وقد ارتبط هذا الإدراك الماهوي للعنصر بالتشابهات الجينية المدركة بين أعضاء هذه الجماعات.
وقد أجريت أبحاث حديثة لدراسة تأثير العزو الجيني في إدراك الفروق العنصرية والإثنية. قام بعض الباحثين بدراسة كيف ترتبط الاعتقادات حول الفروق الجينية بين العناصر بالتحيز والتمييز. فقد قام جاياراتني وآخرون - على سبيل المثال - بدراسة العزو الجيني المتعلق بالعنصر والخاص بالأمريكيين البيض. وقد قاموا بتقدير العزو الجيني للفروق العنصرية عن طريق قياس كم شخصا صدقوا على دور الجينات في تشييد فروق عنصرية في الذكاء وفي الدافعية للنجاح، وفي العنف، فوجدوا أن الأشخاص الأكثر عزوا جينيا قد حصلوا على درجات أعلى على مقاييس العنصرية التقليدية (مثل الاستجابة السلبية من جانب والد أبيض تجاه زواج ابنه أو ابنته من شخص أسود) والعنصرية الحديثة (مثل الاعتقاد بأن السود أنفسهم مسئولون عن سوء حالهم).
14
لقد صيغ الذكاء في حدود ماهوية قوية كما لم يصغ أي بناء سيكولوجي آخر. في عام 1934م عرف أحد الباحثين الأوائل في الذكاء، هو سير سيريل بيرت، عرف الذكاء بأنه «قدرة فكرية إجمالية ... موروثة، لا تعود إلى التعليم أو التدريب ... ولا تتأثر بالاجتهاد أو الحماس، وتدخل في كل ما نفعله أو نقوله أو نفكر فيه.»
15
كان التوكيد على الأساس الوراثي للذكاء واضحا في النشأة الأولى لاختبار الذكاء. وكان هذا الاختبار حقا مكونا حاسما من مكونات حركة تحسين النسل (اليوجينيا) في بدايات القرن العشرين. مثال ذلك: أن واقعة حصول الأمريكيين السود على درجات أقل من البيض في اختبارات الذكاء قد فسرها بعض الباحثين على أنها تشير إلى أنه لا أمل في تحسين الأداء الأكاديمي بين السود.
وفي تاريخ أحدث قال جيمس واطسون - الحائز على نوبل لاكتشافه البنية اللولبية المزدوجة للدنا - في مقابلة للندن سنداي تايمز: إنه «حزين من الأعماق حول مستقبل أفريقيا»؛ لأن «كل سياساتنا الاجتماعية قائمة على واقعة أن ذكاءهم مساو لذكائنا، بينما الاختبارات تقول غير ذلك في الحقيقة»؛ أي إن المكون الموروث من الذكاء كثيرا ما تم تفسيره على أنه يثبت أن الإمكانات الفكرية للناس ولكل أجناس البشر تقع دون منال أي تأثير بيئي أو تعليمي.
ثمة مغالطتان أساسيتان في هذه الاستنتاجات، وكلتاهما تعكس بشكل ما سطوة الماهوية الجينية التي لا تقاوم: الأولى هي فكرة أن التقديرات الوراثية المحسوبة داخل الجماعات يفترض أنها تثبت أن الفروق بين الجماعات تعود إلى الجينات المفترضة التي تتبطن الوراثة. تعكس هذه المغالطة كيف يفترض أن الجينات التي تتبطن السمات الوراثية هي العامل الوحيد (أي إنها تمثل سببا محددا) وراء كل من اختلاف الأفراد واختلاف الجماعات في النمط الظاهري (الفينوتايب). ويبين البحث العلمي - مبرهنا على جاذبية هذه المغالطة - أن الأشخاص الذين يستخدمون التفسيرات الجينية للفروق الفردية هم من الأرجح أيضا أن يستخدموا الجينات لتفسير الفروق المدركة بين الجماعات في نفس السمة.
16
والمغالطة الثانية هي أن قابلية سمة ما للوراثة من المفترض أن تدل على أن هذه السمة لا يمكن أن تعدلها عناصر بيئية؛ أي إن النمط الظاهري يرى على أنه مآل مقدر سلفا وثابت للنمط الجيني التحتي (وغير المتبين رغم ذلك). ولكن موروثية أي سمة بالطبع لا تقول أي شيء عن قابليتها للتعديل. إن تفسير الموروثية بهذه الطرق الخاطئة (وفي مجالات أخرى بالإضافة إلى العنصر والذكاء) - حتى من جانب بعض علماء الوراثة السلوكية والباحثين في الذكاء - ليؤكد كيف تتجاوب مثل هذه الحجج مع التحيزات الماهوية للناس. كثيرا ما ينظر الناس إلى الذكاء في حدود ماهوية بوصفه نتاجا لسبب أساسي (النمط الجيني) مشترك في الحدود مع عنصر الفرد، وما إن تثار هذه التحيزات الماهوية حتى يركز الناس انتباههم - حصريا تقريبا - على الأساس الجيني التحتي المدرك؛ وبذلك يغمطون حق التأثيرات البيئية في الذكاء. (7) الماهوية الجينية والجندر (الجنوسة)
إذا كان الجنس
sex
محددا جينيا فالجنوسة
gender
بناء اجتماعي
social construct
يضم عناصر بيولوجية مثل: الأعضاء الجنسية، وعناصر اجتماعية مثل: الأدوار الاجتماعية الملائمة. ولعل الجنوسة هي أكثر التصنيفات الاجتماعية تعرضا للماهوية؛ فقد وجد ميلر 2006م في دراسة لأربعين تصنيفا اجتماعيا مختلفا أن الجنوسة كانت أكثرها احتمالا أن تدرك بنفس الطريقة التي تدرك بها الأنواع الطبيعية. إن أطفالا في الرابعة من العمر يستخدمون الجنوسة كتصنيف ثري الاستدلال يمكنهم من أن يستمدوا نتائج بخصوص السلوكات البشرية، حتى إذا ناقضت مشعرات تصنيفية أخرى مثل المظهر والبيئة. وهكذا كلما ورد إلى الذهن أفكار ماهوية عن الجنوسة ينظر الناس إلى خصائصها على أنها فطرية وثابتة وناتجة عن سبب واحد وغير متداخلة.
يشير عدد من الدراسات الارتباطية إلى أن النظرة الماهوية للجنوسة ترتبط مع الإدراك العالي للفروق الجنسية، وأنه كلما كان الشخص أميل إلى اعتبار فروق الجنوسة نتاجا لعلل جينية كان أميل أيضا إلى النظر إلى الجنسين على أنهما متمايزان.
يشير البحث التجريبي إلى أن النظرة الماهوية للجنوسة تفضي إلى التنميط؛ ففي دراسة بريسكول ولافرانس 2004م قام المشاركون بقراءة أحد مقالين مصطنعين يدعي كل منهما أن القدرة على التعرف على النباتات تختلف بحسب الجندر. يقدم أحد المقالين تفسيرا جينيا لهذا الفرق، ويقدم المقال الآخر تفسيرا اجتماعيا ثقافيا. وقد أسفر البحث عن أن الذين قرءوا التفسير الجيني للفروق الجندرية كانوا أميل إلى الاعتقاد بأن الشخص لا يمكنه أن يتغير، وأميل إلى التصديق بقوة على التنميطات الجندرية (أي عزو سمات ذكورية نمطية للرجل المتوسط وسمات أنثوية نمطية للمرأة المتوسطة)، وذلك بالمقارنة بأولئك الذين اطلعوا على تفسير اجتماعي ثقافي. يبرز هذا البحث كيف يمكن للنظرة الماهوية الجينية أن تؤدي إلى اعتقادات سببية محددة؛ فإذا كانت الجينات تتبطن جانبا من الفروق الجنسية (أي التعرف على النباتات) فهي أيضا السبب الجوهري للسمات الأنثوية والذكورية الأخرى.
17
وفي بحث آخر استطلع دارنيمرد وهايني 2006م كيف يؤثر التفسير الجيني لتفوق الذكور في الرياضيات على أداء النساء في هذا المجال.
18
ثمة دعاوي بحثية بوجود أساس جيني للتفوق المزعوم للذكور في الرياضيات. وقد أشار لورنس سمرز 2005م - وهو عندئذ رئيس جامعة هارفرد - أن نسبة الرجال الذين يتمتعون بملكة رياضية متأصلة هي أكبر من نسبة النساء. فكيف يمكن للتعرض لهذه المزاعم أن يؤثر على الأداء الفعلي للإناث في الرياضيات؟ استخدم ستيل وأرونسون 1995م إطار «خطر التنميط»
stereotype threat (حيث يؤدي أعضاء الجماعات المنمطة أداء أسوأ في المهام المنمطة عندما تبرز عضويتهم في الجماعة)، وعرضا المشاركين الإناث لإحدى المناورات الأربع الآتية: (1) ادعاء بأن ليس ثمة فروق جنسية في الأداء الرياضياتي. (2) شيء يذكرهن بجنسهن. (3) ادعاء بأن الفروق الجنسية في الرياضيات لها أساس جيني (وبخاصة الزعم الكاذب بأن الرجال يفوقون النساء بمقدار 5٪). (4) ادعاء بأن الفروق الجنسية في الرياضيات (فرق الخمسة بالمائة) لها أساس خبروي. أشارت النتائج - بالتساوق مع البحوث السابقة عن خطر التنميط - إلى أن تذكير النساء بجنسهن جعل أداءهن في الاختبار الرياضي اللاحق أسوأ من اللائي عرفن أنه ليس ثمة فروق جنسية في الرياضيات. ومن الطريف بصفة خاصة أن أولئك اللواتي علمن بدعوى الأساس الجيني في الرياضيات جاء أداؤهن الرياضياتي مساويا في تدنيه لأداء أولئك اللواتي كن يتذكرن أنوثتهن. يومئ ذلك إلى أن فهم النساء الأصلي لحكاية التدني في الرياضيات يتصل بفرق جيني بين الرجال والنساء. أما أولئك اللواتي أخبرن بأن الفروق الجنسية في الرياضيات تعود إلى أسباب خبروية، فهن - في المقابل - لم يظهرن أي أمارة لخطر التنميط. تشير هذه النتائج إلى أن الميول الطبيعية تجاه الرؤية الماهوية الجينية للجندر يمكن أن تبطلها - في بعض المواقف - تفسيرات خبروية صريحة.
وبالمثل - في دراسة أخرى - قرأت المشاركات إما مقالا يناصر النظرية البيولوجية للجندر وإما مقالا يؤيد نظرية اجتماعية للجندر. فكانت النتائج أن أولئك اللاتي قرأن النظرية البيولوجية صدقن على الصفات الأنثوية التقليدية (مثل الحياء، الأنوثة، نعومة الحديث) بدرجة أقوى من أولئك اللاتي قرأن النظرية الاجتماعية.
19
مجمل القول أن الناس تميل بطبيعتها إلى إدراك الفروق الجندرية إدراكا ماهويا جينيا؛ أي على أنها حتمية محددة السبب متجانسة طبيعية. وتشير بعض الأبحاث إلى أن تبيان التأثيرات البيئية على الفروق الجندرية يمكن أن تخفض الميول التنميطية لدى الناس، وتشير بالتالي إلى طريقة ممكنة لمحاربة الماهوية الجينية.
وبينما يمثل العنصر والجندر تصنيفات اجتماعية تتأسس عضوية المرء فيها لحظة الميلاد وتبقى ثابتة لا خلاف عليها (مع بعض الاستثناءات المهمة مثل المتحولين)؛ فإن هناك تصنيفات اجتماعية لا تكون واضحة لحظة الميلاد. وفي بعض الحالات - مثل التوجه الجنسي والإجرام والسمنة - ثمة مظاهر سلوكية متصاحبة تدخل فيها الإرادة على نحو ما وتشكل سببا منافسا لغيره من الأسباب. وثمة تصنيفات أخرى - مثل المرض العقلي - من الممكن ألا يقع فيها المرء إلا في مرحلة لاحقة من العمر كأن يصاب بالفصام. يختلف العنصر والجندر عن هذه التصنيفات الفئوية الأخرى في أنهما قلما يدركهما الناس كشيء يخضع للإرادة الشخصية، وهم في ذلك متأثرون بالتحيزات الماهوية الجينية كما قلنا آنفا. (8) الماهوية الجينية والتوجه الجنسي
ثمة تصنيف فئوي اجتماعي طالما ارتبط بالجينات، وهو «التوجه الجنسي»
sexual orientation . في القرن التاسع عشر أشار عدد من العلماء - من بينهم ك. م. بنكارت وباول مورو - بأن التوجه الجنسي شيء مورث، وقد كان المنشأ الجيني للتوجه الجنسي محل نقاش طويل خلال القرن العشرين، واكتسب مصداقية جديدة عندما ادعى هامر وآخرون
20 (1993م) أنهم اكتشفوا أمارة جينية (
Xq28 ) تتسبب جزئيا في الجنسية المثلية في الذكور. جذب هذا البحث انتباه وسائل الإعلام بشدة، وأصبحت العلامة الجينية (وهي تضم مائة جين) تسمى
gay gene
على الرغم من إخفاق المختبرات الأخرى في أن تكرر نتائج هذا البحث.
تتالت بعد ذلك عشرات المقالات وأثارت نقاشا لعواقب هذا الكشف. وعلى الرغم من أن البحث بحد ذاته كان مصوغا بعناية بوصفه كشفا مبدئيا لعلامة جينية قد تضم جينات تضطلع بالتوجه الجنسي لدى الرجال؛ فإن الكثير من المقالات الصحفية بينت أن هذه النتيجة المكتشفة تشير إلى أن الناس ليس لها خيار في تبني أسلوب حياة مثلي. وركزت مقالات أخرى على هموم يوجينية مثل الإجهاض الانتقائي للأجنة «المشبوهة» والاختبارات التشخيصية المصممة للتعرف على مثل هذه الأجنة. وكلتا الاستجابتين تؤكد أن علاقة علية ثابتة بين الجينات والجنسية المثلية قد عرفت. إن نفس النوع من الاستجابات الماهوية لم ينتج مثلا عن مقولة التحليل النفسي بأن الأم المستبدة والأب المنفصل البارد مسئولان عن نشأة الميول المثلية في الطفل، رغم أن التحكم الواعي للرضع في هذه الألوان من السلوك الوالدي ليس أقوى من تحكمهم في جيناتهم. وهذا - مرة ثانية - دليل على أن الحجج الجينية تؤدي إلى ردود أفعال مختلفة كيفيا عما تؤدي إليه الحجج البيئية.
يترتب على فرضية الأساس الجيني للمثلية أن المثلي مغلوب على أمره، ولا يد له في توجهه الجنسي، ولا سلطان له على ميوله المثلية؛ ومن ثم فلا محل للومه وتقريعه والتمييز ضده. وقد كان هذا هو الواقع في كثير من الأحيان؛ فإدراك الأساس الجيني للمثلية من شأنه أن يؤدي إلى تقييمات إيجابية للمثليين.
هذه العلاقة بين إدراك الأساس الجيني وبين التسامح تجاه المثليين تبين كيف يمكن أن تؤدي الماهوية الجينية إلى «مغالطة المذهب الطبيعي» في بعض المجالات، وفي مناخ سياسي ما زال فيه بعض الناس يعتقدون أن المثليين «يختارون» أسلوب حياة «لا أخلاقيا»؛ فإن معرفة أساس جيني للتوجه الجنسي لا يدفع الناس فحسب إلى اعتبار التوجه الجنسي شيئا منفصلا ومحتما بسبب محدد، بل يدفعهم أيضا إلى خفض تحيزهم ضد المثليين. فمن الواضح أن السلوكيات ذات المضامين الأخلاقية تفقد سطوتها الأخلاقية إذا نظر الناس إليها كشيء يتجاوز إرادة الفرد. فما إن تربط حالة موصومة أخلاقيا بحالة جسدية (مثل الاستعداد الجيني) حتى يراها الناس كحالة خارج السيطرة ؛ مما قد يؤدي إلى تعزيز مشاعر التعاطف مع أعضاء هذه الفئة، ويفضي إلى كف الملام والاستهجان. هكذا نرى أن الحجج الجينية قد تخفف التقييمات السلبية في بعض المجالات. ولعل هذا أن يكون ملمحا إيجابيا ممكنا للماهوية الجينية؛ غير أن على المرء أن يضع باعتباره أن السياقات السياسية دينامية، وأن ما يؤخذ اليوم على أنه مخفف إيجابي للتعصب تجاه المثليين قد يتخذ يوما ما ذريعة لممارسات يوجينية.
21 (9) الماهوية الجينية والإجرام
ثمة صلة مشهودة بين الجينات والإجرام تم تسجيلها في كثير من الحالات الإجرامية الشهيرة، ونهضت كدعامة كبرى لحركة اليوجينيا في النصف الأول من القرن العشرين. وما فتئ المنشأ الجيني للإجرام منذ ذلك الوقت يتحلى بقوة إقناعية. وفي عام 1965م نشر بحث يشير إلى أن السلوك الإجرامي قد يكون مرتبطا بشذوذ كروموزومي، ولقي صدى إعلاميا واسعا.
22
وقد وجد جاكوب وزملاؤه عددا غير عادي من الذكور لديهم كروموزوم
Y
زائد (
XYY ) بين نزلاء الإصلاحيات في أسكتلندا، وأومأ إلى أن هذا الشذوذ «يؤهل حامليه للسلوك العدواني الزائد». وقد اندلع الاهتمام الشعبي وتوالت المناقشات حول سؤال المسئولية (الملومية، استحقاق اللوم
culpability ) والاختيار عند هؤلاء «الحاملين»
carriers . وسرعان ما بدأ الباحثون يرفضون فكرة أن الكروموزوم
Y
الزائد مرتبط بالعدوانية، مؤكدين وجود أخطاء ميثودولوجية واستدلالات متحيزة في دراسة جاكوب وزملائه. ورغم رفض النتيجة الأصلية للبحث فقد ظل هناك ربط عام واضح بين هذا الشذوذ الكروموزومي والإجرام بعد بضعة عقود.
والحقيقة أنه لا توجد حتى الآن أبحاث إمبيريقية حاشدة تكشف أساسا جينيا للسلوك الإجرامي رغم أن الاهتمام العلمي بهذا الارتباط لا يزال قويا؛ غير أن الاعتقاد في الأساس الجيني للإجرام هو اعتقاد شائع (مثال ذلك: أن 62٪ من الأمريكيين البيض يعتقدون أن الميول الإجرامية هي شيء جيني، على الأقل جزئيا). وهذه الاعتقادات من الأهمية بمكان؛ بسبب متضمناتها القانونية بصفة خاصة؛ فالأساس الجيني للسلوك المضاد للمجتمع يمكن أن يؤدي إلى مغالطة المذهب الطبيعي وإلى النظر إلى فاعل الجريمة على أنه فاقد للتحكم في نفسه؛ وبالتالي غير ملوم. ورغم أن السلوك الإجرامي الفعلي نفسه لن يدرك أقل سلبية عندما يعزى إلى الجينات (المجتمع مثلا لا يمكن أن يطيق الاغتصاب بغض النظر عن أسبابه التحتية) فإن فاعل الجريمة قد ينظر إليه نظرة أكثر تعاطفا إذا كان سلوكه يرى كشيء خارج عن سيطرته.
من التصورات الأساسية لدى السلك القضائي ولدى عامة الناس على حد سواء أن المسئولية الجنائية تستند إلى النية الإجرامية، والاختيار الحر (الإرادة)، وقدرة المرء على التحكم في أفعاله. يقيم القضاة والمحلفون ما يسمى «العقل المذنب»
guilty mind/mens rea ؛ أي العنصر القصدي العمدي في الجريمة. وفي غياب هذا العنصر قد يتلقى المتهم عقوبة مخففة أو حتى البراءة. إن العلاقة الحتمية الواضحة بين الجينات تنقص من إدراكنا لمسئولية الفاعل الإجرامي وامتلاكه لأفعاله، وقد تجعل سلوكه يبدو لنا خارجا عن إرادته وسيطرته. من الأمثلة الطريفة لذلك ما حدث في المحكمة العليا بكاليفورنيا لحالتين متماثلتين للغاية، لمحاميين متهمين باختلاس أموال زبائنهم يواجهان عقوبة الشطب (من جداول المحامين). لم ينكر أي من المحاميين التهمة، وعزا كلاهما الأمر إلى تناول الكحول كسبب قريب لسلوكه الشائن؛ غير أن أحد المحاميين حاج بأن لديه استعدادا جينيا للكحولية، ووجدت المحكمة حجج التخفيف لدى صاحب الاستعداد الجيني أكثر قبولا، فوضع تحت المراقبة وسمح له بالاستمرار في ممارسة عمله، بينما شطب المحامي الآخر من سلك المحامين.
23
ثمة مجموعة أخرى من الأبحاث أجريت لدراسة كيف يرتبط الاعتقاد في الحتمية بالسلوك غير الأخلاقي (بغض النظر عن الأساس الجيني للسلوك ذاته). قسم المشاركون إلى قسمين: قسم قرأ مقالا محايدا وقسم قرأ مقالا ينكر وجود الإرادة الحرة («فنحن في النهاية حواسيب بيولوجية صممها التطور وشيدتها الجينات وبرمجتها البيئة»). عندئذ أتيح للمشاركين بطريقة معينة فرصة للغش في مهمة أوكلت إليهم من أجل مكسبهم الشخصي. كانت النتيجة أن المشاركين الذين قرءوا المقالات الحتمية ارتكبوا الغش أكثر من أولئك الذين قرءوا مقالات محايدة. ورغم أنه من غير الواضح ما إذا كانت المقالات الحتمية قد أثرت بسبب تبيان دور الجينات، فإنها تثبت العلاقة بين الاعتقادات القدرية والسلوك غير الأخلاقي.
24
صفوة القول: إن الاعتقاد في الأساس الجيني للسلوك الإجرامي يخفف من تقييم ملومية الفاعل وسيطرته على أفعاله. وما زالت الأدلة المباشرة على الأساس الجيني للسلوك الإجرامي محدودة نوعا ما، وإن ظل هناك احتمال بأن تكتشف أبحاث المستقبل ارتباطات جينية أكثر مما لدينا ، وأن تكتشف تفاعلات بين الجينات والبيئة، ورغم ذلك فقد يكون استخدام حجة: «إن جيناتي جعلتني أفعل ذلك» دفاعا قضائيا محدودا؛ ذلك أنه قد يكون سلاحا ذا حدين، فنقص سيطرة المرء على سلوكه قد يخفف من الملومية المدركة؛ غير أنه في الوقت نفسه يدعم تصور الثبات وصعوبة التغير، فإن كان غير مسئول فهو خطر على المجتمع وقمين بأن يكرر فعلته إذا ترك طليقا! (10) الماهوية الجينية والمرض العقلي
من الملاحظ منذ القدم أن الأمراض العقلية «تجري في عائلات». وقد كان انتشار هذه الأمراض من بين الاهتمامات الرئيسية لحركة اليوجينيا في القرن الماضي. ورغم الأدلة الكثيرة على العنصر الوراثي الجوهري في انتقال المرض العقلي فإن الحالات التي تعتمد على بضعة جينات تقتصر على زملات (متلازمات) نادرة وبعض أمراض بيوكيميائية معينة (مثل زملة كوهن
Cohen’s syndrome ، ومرض ويلسون
Wilson’s disease ). أما عامة الأمراض النفسية فالانتقال الجيني فيها أمر معقد ويتضمن عددا هائلا من الجينات.
تختلف نظرة الناس إلى المرض العقلي حين يدركونه كمرض جيني عنها حين يدركونه كمرض ذي أساس اجتماعي بيئي. وبالنظر إلى أن المرض العقلي قد يتضمن أمورا أخلاقية فإن العزو الجيني قد يثير مغالطة المذهب الطبيعي، ويقلل إدراكنا للفاعلية الإرادية فيه؛ ومن ثم يثير التعاطف تجاه المصابين به. إن من البين المتواتر أن الناس تميل إلى التعاطف مع الحالة المحددة بيولوجيا (واعتبارها لا إرادية وتبرئة صاحبها من المسئولية والملومية) أكثر من تعاطفها مع الحالة المحددة اجتماعيا وثقافيا وبيئيا؛ ومن ثم فإن من ينظرون إلى المرض العقلي على أنه مرض جيني وراثي يميلون إلى إعفاء المريض من المسئولية عن أفعاله، وإلى توقع مآل سيئ للحالة، وإلى اتخاذ مسافة من المرضى والتوجس من خطورتهم. وفي كل ذلك تفعل التحيزات الماهوية فعلها وتحمل الناس على تصور المرض العقلي كتصنيف ثابت لا يتغير، وناتج عن سبب محدد ومتجانس ومنفصل وطبيعي.
أما النظرة العلمية الحصيفة التي تضع الأمر في نصابه وترى إلى المرض العقلي كنتاج لتفاعل البيولوجيا والبيئة - الطبيعة والتنشئة - فمن شأنها أن تخفف من التحيزات الماهوية وترى الأشياء على ما هي عليه.
وصفوة القول - سواء بخصوص العنصر والجندر من جهة أو بخصوص التوجه الجنسي والإجرام والمرض العقلي من جهة أخرى: إن الحجج التي تدعم الأساس الجيني تثير استجابات أكثر قدرية مما تثيره الحجج التي تدعم العوامل الخبروية. يبدي الناس تحيزا عندما يعلمون أن أعضاء الجماعات الإثنية/العنصرية يختلفون في جيناتهم، وتؤدي النساء أداء أكثر تدنيا في الرياضيات عندما يسمعن أن الرجال يمتلكون جينات رياضية، وينال المثليون تسامحا أكثر إذا قيل: إن هناك جينات للتوجه الجنسي، ويقل اللوم على المجرمين إذا كان ثمة جينات تتعلق بإجرامهم، وتعد الأمراض العقلية أكثر خطورة إذا كان ثمة جينات ضالعة فيها، ويأكل الناس كعكا أكثر إذا علموا أن هناك جينات للسمنة.
عندما ينظر إلى أعضاء جماعة اجتماعية معينة على أنهم مرتبطون جينيا فإنهم يدركون ككيان ثابت وله علة محددة، ومتجانس، وطبيعي. ومثل هذه الإدراكات يمكن أن تفضي إلى التنميط والتحيز، وبخاصة إذا كانت العضوية في الفئة الاجتماعية كائنة منذ الولادة وثابتة إلى حد كبير، كما في حالة العنصر والجندر. ومع ذلك فعندما ترتبط العضوية في فئة ارتباطا وثيقا بمظاهر سلوكية (مثل المثلية والسمنة والإجرام) فإن إدراك الإرادة قد يقل ويقل معه إدراك مسئولية العضو في فئة موصومة، وينتج عن ذلك تعاطف مع العضو وتخفيف الإدانة. كما أن إدراك طبيعية الأمر الناجمة عن إدراك السبب الجيني قد يحفز مغالطة المذهب الطبيعي التي من شأنها أن تحسن التقييمات السلبية.
وجدير بالذكر أن الأبحاث الجينية السلوكية تشير إلى أن أغلب السلوك هو وراثي بدرجة ما؛ مما يومئ إلى أن هذه الألوان من التحيز الماهوي الجيني قد تظهر في كل المجالات تقريبا التي يمكن فيها تبيان العنصر الوراثي. مثال ذلك: أنه يبدو محتملا أن التحيزات الماهوية الجينية قد تتجلى أيضا في كيف ينظر الناس إلى الكحولية أو السلوكيات الإدمانية الأخرى، أو كيف يتصورون شدة الأمراض ومآلها، أو كيف يتصورون مختلف أنواع السمات والاتجاهات والقدرات. وقد يكشف البحث في المستقبل مجالات أخرى يؤثر فيها العزو الجيني تأثيرا غير منضبط على أفكار الناس وسلوكهم.
ورغم أن الجينات تؤثر في معظم مصائر الحياة على نحو احتمالي؛ إذ يعتمد «التعبير الجيني»
gene expression
على وجود متغيرات بيئية معينة، وإذ تتفاعل الجينات مع جينات غيرها؛ فإن الناس عندما يواجهون حججا جينية تنشط تحيزاتهم الماهوية، وقد تنتهي بهم إلى أن يروا تلك المصائر بطرائق مختلفة اختلافا بعيدا. إن الجينات - كما يتصورها عامة الناس على الأقل - يمكن أن تقدم تفسيرا ماديا مكينا لسؤال: «لماذا يسلك الناس بالطريقة التي يسلكون بها؟» (11) الماهوية الجينية والخطاب الشعبي
يتعرض الناس عديمو التمرس الرسمي بعلم الوراثة لحجج تتعلق بالصفات الوراثية للبشر. وقد ظلوا يتعرضون لذلك طيلة قرون. وسوف نتناول فيما يلي كيف يتفاعل الحديث في الجينات مع تحيزات الناس الماهوية الجينية، سواء في الماضي في الخطاب الدائر حول حركة اليوجينيا (تحسين النسل) وما يتصل بها من سياسات عامة، أو في الأزمنة المعاصرة في التصورات العامة عن البحث الجيني. (12) الماهوية الجينية والأفكار اليوجينية
تتجلى قوة التحيزات الماهوية الجينية في تكرار صعود الأيديولوجيات اليوجينية عبر التاريخ. ونحن نؤكد أن هذه الأيديولوجيات تترتب مباشرة على الأساليب التي يدرك بها الناس الأسس الجينية على أنها ثابتة ومتجانسة وأساسية للشخصية الإنسانية. وما دامت الجينات ترى على أنها مكمن العلية، فإنه ينتج عن ذلك أن الجهود الرامية لتحسين البشرية سوف تتركز على تحسين الجينات أو «جميعة الجينات»
gene pool
بصفة أعم. ونحن نتوقع أن الأيديولوجيات اليوجينية سوف تبقى في صعود ما بقيت الناس تحاول دمج رؤيتها للعالم الاجتماعي بما تتلقاه من الكشوف الجينية المتعلقة بالخصائص البشرية. وفيما يلي نصف باختصار طريق اليوجينيا وكيف ترتبط بالماهوية الجينية.
كان أول تناول لليوجينيا في التراث الغربي واضحا في دعوة أفلاطون للحكام (الحراس) إلى تحسين الدولة عن طريق التحكم في التناسل البشري (على أنه أدرك أن من المهم أن تبقى هذه السياسة خفية عن عامة السكان). يعني ذلك أنه كان من المفهوم أن الناس تمتلك ماهية قابلة للوراثة تختلف كيفيا بين الأفراد، رغم أن آليات هذه الوراثية لم تكن مفهومة بعد، يترتب منطقيا على هذه المقدمة أن من يريد أن يحسن البشرية فإن عليه أن يستنبت هذه الماهية الوراثية في الأجيال القادمة.
وقد تكررت في التاريخ محاولة وضع برامج لتحسين أمة أو عنصر؛ غير أن هذه الرغبة في تحسين الذرية والخلف كانت تفتقر إلى أي أساس علمي، إلى أن صدر كتاب دارون «أصل الأنواع». وكانت الصلة بين قول دارون بالسمات الوراثية المتفاوتة في الصلاحية وبين الرغبة في تحسين ماهية الجنس البشري لافتة لا يمكن إغفالها. وها هو سير فرنسيس جالتون
Francis Galton - عم دارون - يقترح أن نستخدم مفهوم الانتخاب الاصطناعي لتحسين الجنس البشري. وما لبثت أفكار جالتون مستخدمة استعارات ونتائج علمية من بحوث تربية الحيوان، تثير اهتماما متزايدا من المجتمع العلمي في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وانتشرت - في التربة الخصبة لتحيزات الناس الماهوية الجينية - في العالم الصناعي انتشار النار في الهشيم.
لم يقتصر إغراء الأيديولوجيات اليوجينية على ذوي الفهم المحدود للوراثة أو الجينات. فقد اعتنق بعض من أبرز علماء العصر الأفكار والممارسات اليوجينية بحذافيرها، من بينهم كارل بيرسون ولوثر بربانك ورونالد فيشر، ولحق بهم أيضا وجوه بارزة مثل ألكسندر جراهام بل وجورج برناردشو وتيودور روزفلت، جمعتهم رغبتهم في تحسين نوعية «الجيرم بلازم» البشري.
في هذا الوقت المبكر لم يكن علم الوراثة متميزا عن اليوجينيا، فعلى سبيل المثال فإن هيئة التحرير المؤسسة للمجلة الأمريكية لعلم الوراثة قد صدقت على حركة اليوجينيا. واندفعت تنظيمات جديدة مثل رابطة اليوجينيا الأمريكية وتنظيم الأبوة في تمجيد الأيديولوجيات اليوجينية، بينما كانت رابطة التربية الأمريكية تتحالف معها.
25
وقد وصلت الدعاية اليوجينية حتى إلى المعارض المحلية في قارات عدة، حيث تم تشجيع اليوجينيا الإيجابية عن طريق المباريات التي قدمت ميداليات إلى العائلات والأزواج والرضع الأكثر لياقة يوجينية. وقلما شهد العالم فكرة علمية تلقى مثل هذا الرواج الشعبي ، الذي يشهد كم تجاوبت الأيديولوجيات اليوجينية مع التحيزات الماهوية للناس.
كانت نهاية الجاذبية الواسعة لحركة اليوجينيا سريعة إلى حد ما، ولكن من المهم أن نلاحظ أن أفول الحركة لم يكن بسبب مآخذ علمية بالدرجة الأولى (وإن تنامت انتقادات النظريات اليوجينية بالفعل طوال الثلاثينيات من القرن العشرين). إنما كان الموت المفاجئ لحركة اليوجينيا نتيجة لتنامي الفهم والامتعاض تجاه اللاإنسانية التي تستلزمها السياسات اليوجينية.
في أمريكا الشمالية تأثرت بعض السياسات بالأيديولوجية اليوجينية وما يزعم أنه «معطيات علمية». فقانون الهجرة الأمريكي لعام 1924م خفض حصص الهجرة من البلاد التي يزعم أن مواطنيها لديهم درجات كبيرة من القصور الموروث في الذكاء والأخلاق. وبحلول الأعوام الأولى من القرن العشرين كانت معظم الولايات في أمريكا قد شرعت تحديدات للزواج على المتخلفين عقليا لأسباب يوجينية صريحة، وامتدت هذه التحديدات إلى تحديدات على الزواج بين-العنصري
interracial . أعقبت ذلك محاولات لتحديد النسل من خلال التعقيم. وقد شرعت 22 ولاية التعقيم القسري، فنتج عن ذلك حوالي 20000 حالة تعقيم قانوني في أواسط الثلاثينيات. وشرعت كندا بالمثل تعقيمات إجبارية في ولايتين.
وقد خفت رعب السياسات اليوجينية بأمريكا الشمالية في النهاية إثر صعود الاشتراكية القومية في أوروبا واعتناقها المعلن للأيديولوجيات العنصرية اليوجينية. فرض النازيون تحديدات على الزواج، تبعتها برامج تعقيم بحجم غير مسبوق بلغت ذروتها في الإبادة المنظمة للعناصر غير المرغوب فيها (مثل اليهود، الغجر، المعاقين، المثليين). وقد كان حجم المذبحة التي ارتكبها النازيون هو الذي ألهم عامة الناس والأغلبية الساحقة للمجتمع العلمي أن يرفض الأيديولوجية اليوجينية بأكثر مما فعل أي تفنيد علمي على الإطلاق، من الواضح أن هناك أسبابا كثيرة وراء صعود اليوجينيا، ولكننا نؤكد أن هذه الأهوال ما كانت لتحدث لولا أن فكرة تحسين الجميعة الجينية راقت قطاعا عريضا من السكان؛ لأن المنطق الذي تقوم عليه قد تجاوب مع تحيزات الناس الماهوية الجينية.
ورغم كل هذه الارتباطات السلبية العميقة لدى الكثيرين عن اليوجينيا فقد استمر التقدم الملحوظ في البحث الجيني، واضطرنا إلى أن ننظر في طرائق جديدة لتحسين حياة الناس. لقد أدى الفهم المتنامي للجينات من حيث التعرف عليها وتناولها إلى فتوحات علمية جديدة مثل التدخل الغذائي لعلاج اضطرابات وحيدة الجين مثل الفينيل كيتونوريا
phenylketonuria ، والاستئصال الوقائي للثدي لحاملات الأليلات المرتبطة بسرطان الثدي، والعلاج الجيني التجريبي لأمراض مثل نقص المناعة، والتشخيص الجيني المسبق لأمراض مثل
Tay-Sachs
في الأجنة ... إلخ. وجه الأمر هنا أن الناس عندما تفهم الجينات كسبب تحتي لمآلات الحياة فإنها ترغب غالبا في التحكم في جيناتها بحيث تحسن تلك المآلات.
من الحق أن مثل هذه التقنيات الجينية ذات فائدة هائلة في تحسين حياة الناس؛ غير أننا نلفت النظر هنا إلى كلفة لهذه الفتوحات قلما التفت إليها أحد: لقد دعمت التحيزات الماهوية لدى الناس وألقت في روعهم أن مصدر مشكلات الحياة ومصدر حلها يقبع في جيناتهم، وزينت لسير فرنسيس كريك
F. Crick
أن يقول: «لا يحق لجنين أن يعلن إنسانا حتى يمر باختبارات معينة تخص هباته الجينية.» إن تحيزاتنا الماهوية الجينية تزين لنا أن نرى إلى الجينات على أنها الحل النهائي للمشكلات الاجتماعية، وأن تحسين حياتنا يجعل الأولوية للبحث التقني الجيني على غيره من ضروب التدخل، تلك الضروب التي قد يثبت أنها أكثر تأثيرا وأقل كلفة. وكما لاحظ هورويتز «فإن التركيز على الجينات يصرف الانتباه عن جهود تغيير البيئة إلى جهود تغيير الجينات المعيبة.» إن تحيزاتنا الماهوية تسحرنا بنداء الحلول الجينية لمشكلات الحياة.
26
لقد كانت اليوجينيا والتحسين الجيني نزغا أضل كثيرا من حسني النية، ودفعهم إلى ارتكاب وتبرير كثير من الأفعال الشائنة في أوائل القرن العشرين في جهد ضال لتحسين الجنس البشري. (13) الماهوية الجينية والتصور الشعبي للبحث الجيني
يسترعي البحث المتعلق بالجينات انتباها كبيرا من وسائل الإعلام. ومثلما هو الحال مع التقارير العلمية الأخرى يتم تبسيط الظواهر العلمية المعقدة وصعبة الفهم للمستمعين؛ غير أن التبسيط في حالة التقارير الجينية تبلغ الحد الذي قد يضل كثيرا من القراء عن فهم الظاهرة. إن أغلب الناس لا يستقي معلوماته عن الجينات إلا من وسائل الإعلام؛ ومن ثم كان من المهم النظر في كيفية توصيل هذه المعلومات. وقد قام كونراد 1977م بدراسة علمية، درس فيها بتفصيل كبير كيف تسهم وسائل الإعلام في دعم الحتمية الجينية، فقد بين عددا من التحيزات في عملية توصيل النتائج العلمية الجينية تبدو بها الجينات مضطلعة بدور أكثر محورية وحتمية مما تقوله البيانات العلمية في حقيقة الأمر؛ فالنتائج البحثية المؤيدة (للدور السببي المباشر للجينات في إحداث الأمراض والسلوكات) تحظى بتغطية إعلامية أكبر بكثير من النتائج المفندة اللاحقة وهي كثيرة الحدوث في الأبحاث الجينية بشكل خاص؛
27
الأمر الذي يؤدي إلى تضخم انطباع الحتمية الجينية دون وجه حق. يذهب كونراد 2002م إلى أن الإعلام ما فتئ يقدم صورة مفرطة التبسيط للبحث الجيني. وحين تنعت الظاهرة ب
OGOD (one gene, one disease) ؛ أي جين واحد مرض واحد، فإنها تتخذ علاقة «واحد لواحد» حتمية بين جين محدد ومرض أو سمة محددة، وتشير إلى «تفسير جيني قوي». هكذا تنعت الظواهر الجينية في عناوين الإعلام: «اكتشف الباحثون جينا للمثلية»، أو «جينا للتطور»، أو ما هو أسوأ بعد: «اكتشفوا جين المثلية»، أو «جين التطور». إنهم بذلك يقدمون صيغة مفرطة التبسيط للنتائج الأصلية، أو حتى يقدمون تمثيلا زائفا للبينة (مثلا: لم يتوصل إلى «جين مثلي» على الإطلاق). ورغم أن علاقات واحد لواحد هذه موجودة فعلا في الأمراض الوحيدة الجين (مثل التليف الكيسي
cystic fibrosis ) فإنها تمثل شريحة صغيرة للغاية من الأمراض، ومن أبعد الاحتمالات أن تكون السمات السيكولوجية نتاج بضعة جينات. إن ظواهر «جين واحد مرض واحد»، وإن كانت تتجاوب بشدة مع تحيزات الناس الماهوية الجينية، هي من الندرة بمكان.
قليلة هي الأبحاث السيكولوجية التي تبحث - بشكل مباشر - تأثيرات التعرض لتقارير الإعلام في الجينات على اتجاهات الناس. واستثناء لذلك أجريت دراسة استكشفت استجابات الأمهات للتقارير الإعلامية عن بحث جهير ادعى أن أداء الأولاد فاق أداء البنات (من نفس المستوى التعليمي) في الرياضيات. بعد ثلاثة أشهر من التغطية الإعلامية الأولى للبحث جمع إكلس وجاكوب 1986م بيانات أشارت إلى أن الأمهات اللاتي لم يعلمن بذلك (uninformed mothers)
لم يجدن اختلافا في تقييمات القدرة الرياضية لأطفالهن. أما الأمهات اللاتي قرأن عن هذا البحث (misinformed mothers)
فقد رأين أن بناتهن أقل قدرة في الرياضيات، وأنهن سيجدن فيها مصاعب أكبر، وأن عليهن بذلك جهد أكبر في الرياضيات. وفضلا عن ذلك فقد بدا أن اعتقادات الأمهات عن مصاعب بناتهن الرياضياتية قد كان لها أثر في زيادة قلق البنات في الرياضيات؛ وبالتالي كان منبئا قويا بأدائهن الرياضياتي ونيتهن أخذ مجموعات تقوية في الرياضيات.
28
ومجمل القول: إن التعرض لحجج جينية بخصوص الفروق الجنسية في الأداء الرياضياتي قد أثر على موقف البنات وسلوكهن أيضا تجاه الرياضيات. ويبقى أن نبحث أيضا في مدى تأثير التغطية الإعلامية لضروب أخرى من النتائج الجينية على موقف الناس وسلوكهم.
29
غير أن الإفراط في تبسيط الأبحاث الجينية لا يلام عليه الإعلام وحده؛ فالحق أن الباحثين أنفسهم قد يتنافسون في حب الظهور الإعلامي، وقد تدفعهم الرغبة في جذب اهتمام الوكالات الممولة لأبحاثهم وإغرائهم بالمتضمنات الممكنة لأبحاثهم، فيتواطئون مع هيئة العلاقات العامة لمؤسساتهم على وضع تقارير تشارك تقارير الإعلام في تبسيطاتها وفي إخفاقاتها اللاحقة.
تتسم تغطية البحث الجيني بأشياء تتجاوب مع التحيزات الماهوية للناس؛ فالعلماء أولا ينعتون الجينات التي يدرسونها بطرائق توحي بعلاقة «جين واحد مرض واحد»، بحيث إن توصيف الجينات كثيرا ما يومئ إلى احتمال بإصابة حامليه أكبر من واقع الحال. مثال ذلك:
في حالة «سرطان الثدي 1» (
BRC1 ) فإن الأليل الشاذ يرتبط بخطر أكبر بسرطان الثدي؛ غير أن هذا يقدر بنحو 5٪ فقط من حالات سرطان الثدي.
71٪ من حاملي الأليل الخاص بما يسمى «جين ألزهيمر» (
APOE e4 ) لا يصابون بمرض ألزهيمر على الإطلاق. كما أن 44٪ من المصابين بالمرض لا يحملون أليل
APOE e4 . كما أن هذا الأليل أقل ارتباطا بالمرض في بعض الشعوب (مثل الشعب الهيسباني والأمريكيين الأفارقة) منه في شعوب أخرى (مثل اليابانيين).
30
إن الأسماء الشائعة لهذه الجينات لا تعكس هذا الدور المتواضع؛ والقراء من ثم خليقون أن يستنتجوا أن الجينات تلعب دورا في الأمراض أكثر محورية مما تفعل في حقيقة الأمر.
وهناك ثيمة شائعة أخرى حافزة للماهوية كثيرا ما تظهر في المناقشات العلمية لعلم الوراثة، وهي استخدام استعارات
metaphors
ماهوية لوصف الجينوم البشري. لقد وصف «مشروع الجينوم البشري» على أنه البحث عن «ماهية الحياة» أو «الكأس المقدسة»
Holly Grail
التي ستمكننا من فهم البشرية. تقدم هذه التوصيفات إشارة صريحة إلى الجينوم بوصفه نوعا من الطبعة الزرقاء المتبطنة للطبيعة البشرية. بوسع هذه الاستعارات أن تغلب القارئ على أمره، فبالنظر إلى أن الناس كثيرا ما تفهم التصورات وتدرك المفاهيم من خلال الاستعارات، فقد تفضي بالناس إلى أن تتصور أن الجينات تضطلع بدور جبري.
وثيمة ثالثة شائعة تحفز الماهوية هي أن الجينات أحيانا ما تعطى شكلا من الفاعلية الإرادية؛ مما يفضي إلى تصورها كيانات واعية تجرد الشخص من إرادته. توصف الجينات بأنها «أنانية» أو «محركة العرائس»، أو تسبغ عليها رغبات واعية (مثل: «الجينات تريد كذا»). حين يستخدم هذا كلون من الاختزال الشعري فإنه لا يختلف عن قولنا: «كانت الغيوم غاضبة في ذلك اليوم»؛ غير أن استخدام مثل هذه المصطلحات عند شرح الجينات يغير موقع الوعي والضبط
locus of control
في تصورنا ويعزله داخل الجينات. تسهم هذه الظاهرة في التعبيرات الماهوية في الأحاديث العامة حول علم الوراثة.
وبالإجمال، تلعب اللغة دورا مهما في الطريقة التي نفكر بها. إن الصياغة الماهوية المنيعة للمعلومات المتعلقة بارتباطات النمط الجيني والنمط الظاهري قد تلعب دورا محوريا في ترسيخ الماهوية الجينية. وفي الوقت نفسه تؤدي الانحيازات الماهوية الجينية بالعلماء والمعلقين على حد سواء إلى اختصار بحثهم مستخدمين أوصافا
OGOD
مفرطة في التبسيط، وترسيمات ذات إرادة فاعلة واستعارات ماهوية تتسم جميعا بالتبسيط المخل. تشير هذه المراجعات التجريبية السابقة إلى أن مثل هذه الانحرافات في طريقة توصيل البحث الجيني قد تكون لها نتائج سلبية متعددة. والمحصلة أن الأشخاص الذين يستمدون معرفتهم عن الجينات من خلال الإعلام حريون أن يدركوا التأثيرات الجينية بطريقة حتمية ثابتة وخاطئة في الصميم. (14) كيف نحد من اعتناق الناس للماهوية الجينية
رأينا فيما سبق كيف أن الماهوية الجينية مكينة ومتغلغلة وذات عواقب سلبية شتى. فهل ثمة طريقة نخفض بها هذه التحيزات؟ هل يمكننا أن نحمل الناس على أن تتفهم كيف أن التعليل الجيني لمآل ما لا يعني بالضرورة أن المآل ثابت ومتجانس وطبيعي وذو سبب محدد؟ كيف نحد من اعتناق الناس للماهوية الجينية؟
من الاستراتيجيات التي من شأنها أن تضعف الحتمية الجينية أن نلفت انتباه الناس إلى العلاقات التفاعلية بين الجينات والبيئة. من ذلك أن ووكر وريد 2002م وجدا أن الناس تكون تقييما أكثر إيجابية للفصام عندما يتلقون تفسيرا تفاعليا بين الجينات والبيئة من تقييمهم عندما يتلقون تفسيرا جينيا خالصا. يشير هذا إلى أن البحث الجيني يمكن أن يوصل بطريقة تضعف التحيزات الماهوية، وذلك حين يتضمن تفسيرات جينية ضعيفة (كمقابل للتفسيرات الجينية القوية).
31
ولعل الماهوية الجينية أن تضعف كلما أمكننا تبيان تعقد العلاقات بين النمط الجيني والنمط الظاهري. قلما يتفهم الناس أن التعبيرات الجينية احتمالية وتحكمها الخبرات والتفاعلات مع الجينات الأخرى، وقلما يتفهمون كيف يمكن للجينات أن تؤثر في طرائق تفاعلنا معها؛ ومن ثم كيف تشكلها بيئاتنا. كما أن معظم الناس ربما لا يدرون الدور الذي تلعبه العوامل «التخليقية المتعاقبة»
epigenetic
في نشوء السمات والأمراض المعقدة. ربما لو وصل للناس تعقد وثراء العلاقات بين الجينات ومآلاتها لاستجابوا للتقارير الجينية بطرائق أقل حتمية. صحيح أن ذلك قد يستعصي على فهم الناس، ولكن عدم الفهم على كل حال خير من الفهم الخاطئ. إن الحجج العلمية كثيرا ما تكون معقدة وقلما يتاح فهمها لمن هو خارج حلقة الباحثين. معظم الناس مثلا لا يفهمون نظرية الأوتار (في الفيزياء)؛ غير أنهم لا يسيرون حياتهم وفق الاعتقاد الخاطئ بأنهم يفهمون الفكرة العامة للنظرية أو يتخذون قراراتهم الحياتية بناء على فهمهم الخاطئ.
تبدو التدخلات التعليمية من هذا النوع ملائمة جدا أثناء فصول العلم في المدرسة المتوسطة والعليا. في هذه السن لا يبدي المراهقون عزوا طبيعيا قويا كالذي يبديه الأطفال الأصغر،
32
ولا يكون أوان الحتمية الجينية للبالغين قد حل بعد، وينبغي خفض التوكيد على أمثلة الظواهر أحادية الجين، مثل تجارب بازلاء مندل التي تشير إلى تفسير جيني قوي، مقترنا بتوكيد عال على تفاعلات الجين والبيئة، تمهيدا لتعزيز فهم الناس للتفسيرات الجينية الضعيفة.
وعلى الباحثين في علم الوراثة أن يتوخوا الحذر من إضفاء الصيغة الماهوية على نتائجهم في تصريحاتهم الصحفية. وعلى وسائل الإعلام بدورها أن تتحمل مسئوليتها في هذا الشأن.
وحيث إن الناس تميل إلى ارتكاب مغالطة المذهب الطبيعي عندما تتأمل حالات ذات أساس جيني ومتضمنات أخلاقية، فإن تذكيرهم بهذه المغالطة أثناء تعلم أساس جيني لسمة بشرية قمين أن يقلل التفكير الماهوي. كما أن التحيزات الماهوية يمكن إخمادها بأن يكون عرض البحث الجيني مصاحبا بمفندات تلقي الضوء على الطرق اللاحتمية في علاقة الجينات بمآلات الحياة. مثل هذه الضروب من صياغة الرسائل قد تساعد في تحصين الناس من شحن التحيزات الماهوية. وسوف يلقي البحث المستقبلي في تأثيرات صياغة الرسائل وصياغة الماهوية الجينية الضوء على هذا الموضوع الهام.
مجمل
يميل الناس بطبعهم إلى تفسير عوالمهم الاجتماعية وإضفاء معنى عليها. يصادف الناس في حياتهم تنوعا بشريا كبيرا، وفي محاولتهم إضفاء معنى على كل ذلك فإنهم يتأثرون بتفسيرين سببيين على الأقل:
التفسير الطبيعي الفطري.
والتفسير البيئي.
وخلال السياقات المختلفة والعصور المتعاقبة يتراوح البندول ميلا بين هذين التفسيرين؛ غير أن المؤشرات تدل على أن البندول في المجتمعات الغربية المعاصرة يميل تجاه التفسير الطبيعي الفطري، يعززه الحماس الذي توصل به وسائل الإعلام كشوف الجينوم. ثمة أدلة ضافية اليوم في مجالات شتى - مثل: العنصر، الجندر، التوجه الجنسي، الإجرام، المرض العقلي، السمنة - على وجود علاقات علية بين الجينات وهذه التصنيفات الفئوية؛ غير أن السمة الغالبة على تصور الناس لهذه العلاقات أنه يتجاوز البينة العلمية، ويأخذ التفسير الجيني الضعيف مأخذ التفسير الجيني القوي، ويعزو قدرة سحرية للجين على تشكيل خصائص الفرد والجماعة، ويغفل العناصر الاجتماعية الثقافية والبيئية. ما إن ينظر الناس في فكرة أن الجينات ذات صلة لفهم بعض الحالات البشرية حتى يندفعوا إلى اعتبار أن المكون الوراثي هو الملمح الجوهري للحالة مبالغين في تقدير تأثيره العلي. وما إن نصوغ الجينات على أنها علة المشكلة حتى نكب على فكرة أن الجينات ستكون هي الحل، وأن الهندسة الجينية أو السياسات اليوجينية تعدنا بالكثير.
والحق أن البحث الجيني لا يزال يقدم نتائج مهمة ومثيرة، قد تسهم هذه النتائج في النهاية في زيادة جودة الحياة من جهات عديدة: زيادة إنتاج الغذاء بواسطة المحاصيل المعدلة جينيا، تحسين الصحة من خلال العلاجات الجينية ... إلخ. ولكن من الجهة الأخرى فإن الكشوف الجينية - بالطريقة التي توصل بها إلى عامة الناس من جانب وسائل الإعلام - تميل إلى إثارة التحيزات الماهوية، ودعم الأفكار الجبرية، وصرف الاهتمام عن دور البيئة في تشكيل السلوك الإنساني، وعن إدراك حجم الإرادة الفردية والاختيار الحر.
فرغم أهمية البحث الجيني التي لا شك فيها، فإن اتخاذ خطوات حثيثة للحد من الأفكار والسلوكات البغيضة التي لازمت دراسة الجينات حتى الآن ملازمة الكلب؛ سيكون فرضا واجبا علينا حتى نحقق الآمال الكبرى التي نعلقها على هذا البحث. (15) تذييل البروكرستية السياسية، سليلة نزعة الماهية
البروكرستية
هي أية نزعة إلى «فرض القوالب» على الأشياء (أو الأشخاص أو النصوص ...) أو لي الحقائق وتشويه المعطيات وتلفيق البيانات لكي تنسجم قسرا مع مخطط ذهني مسبق. إنه القولبة الجبرية والتطابق المعتسف والانسجام المبيت.
والبروكرستية السياسية هي أية نزعة إلى صب المواطنين جميعا في قالب واحد، تعميما للخير والتماسا للعدالة. تتجذر البروكرستية السياسية في «مذهب الماهية»
essentialism
الفلسفي. وهو الرأي القائل بأن «للأشياء خصائص ماهوية»
de re essential properties ؛ أي خواص ضرورية بمعزل عن تصنيفاتنا وتعريفاتنا، للإنسان من ثم ماهية حقيقية تميزه عن غيره من الكائنات؛ قد تكون هذه الماهية هي الروح العاقلة (الإنسان حيوان عاقل)، وقد تكون هي الميل إلى الحياة في تجمعات مدنية (الإنسان حيوان مدني) ... إلخ. المهم أن هناك ماهية ثابتة محددة للإنسان بها يكون إنسانا وبدونها يكون أي شيء آخر. هناك «مثال أفلاطوني» أو «صورة»
eidos
أو «فكرة»
idea
أزلية للإنسان ينبغي على الإنسان الحقيقي الأرضي أن يسعى إلى تجسيدها ويقترب منها.
كل أولئك أفكار ميتافيزيقية مأمونة، لا ضير أن يتداولها الفلاسفة فيما بينهم ويختلفوا حولها على مقاعدهم النظرية الوثيرة. يبدأ الخطر - رغم ذلك - حين تقع مثل هذه الأفكار في أيدي (أو بالأحرى رءوس) السياسيين أولي البأس وذوي القدرة على استخدامها في الواقع الحي ووضعها موضع التنفيذ. حين يقع للطاغية «المثالي»
idealist
تصور واضح عما تكونه الطبيعة البشرية، فقد يرى نفسه مضطرا إلى فرضها بالقوة على رعاياه وصبهم في قالبها ضربة لازب، وسحق كل من تحدثه نفسه بالتمرد على هذا القالب الأزلي الواحد.
هكذا ينشأ ما يسميه أنتوني فلو
Antony Flew - مؤلف كتاب «سياسة بروكرست» - ب «البروكرستية الاشتراكية»
socialist Procrusteanism
أو «العدالة المحافظة»
conservative justice . إنها ضرب من اليوتوبيا الاجتماعية تريد أن تفرض التجانس على الناس، وتفرض المساواة المطلقة على المواطنين، فتأخذ من البعض وتعطي البعض الآخر حتى يعتدل الميزان.
33
إن أنتوني فلو هو بمثابة «ثيسيوس معاصر» يريد أن يحطم البروكرستية بأن يكشف زيفها وتهافتها ويفضح طبيعتها المؤذية المظلمة ويخرجها إلى وضح النهار؛ الأمر هنا ليس مجرد مبدأ شخصي يدعو إليه من يدعو بالحكمة والموعظة الحسنة، أو ربما بتقديم مثال في التضحية والبر (على طريقة ليو تولستوي مثلا)؛ ولكنه منهج سياسي وإداري يراد فرضه على نطاق هائل بقوة الآلة الحكومية الجبارة.
لم يقف جنون البروكرستيين السياسيين عند حد:
فمنهم من لم يقنع بإعادة توزيع الثروة على الأفراد بالعدل والقسطاس، فذهب إلى ضرورة تحطيم «نظام الأسرة»: منبع التفاوت بين الناس ومعقل اللامساواة وحصنها الحصين.
ومنهم من ذهب إلى ضرورة فرض «المساواة المعرفية»
cognitive equality ؛ فلا ينبغي أن «يعرف» شخص أكثر مما يعرف الآخرون.
بل ذهب بعضهم إلى ضرورة «تحسين النسل» (اليوجينيا
eugenics ) لاجتثاث التفاوت من المنبع ... من البيولوجيا.
من السخرية أن البروكرستية يمكن أن تبلغ مأربها وتشفي صدرها ب «المساواة في الجهل» بقدر ما تشفيه ب «المساواة في العلم»، وأن تقضي وطرها بالإساءة بقدر ما تقضيه بالإحسان. إن مذهب المساواة هو عماد الرفاه وعماد الضنك أيضا ما لم يستبدل به مبدأ آخر من مبادئ الواجب.
والحق أن النظم الشمولية - بمختلف تجلياتها وشتى تمثلاتها - ترتكز على عقيدة ماهوية غائرة. إن لديها مفهوما راسخا لما يكونه الإنسان، وما يكونه خير الإنسان، وتريد أن تفرضه على الجميع بآلية شاملة تستحق النقد وتطمس الاختلاف.
الفصل التاسع
الماهوية وتقسيم الاضطرابات النفسية
مما لا شك فيه أن إدخال المعايير التشخيصية الصريحة والتقسيمات المرضية القائمة على قاعدة - مثل تقسيم ال
DSM
و
ICD - كان له عميق الأثر في الممارسة الطبنفسية من وجوه عديدة:
فقد مكنت الممارسين من تحقيق اتفاق تشخيصي أفضل، ومن تحسين التواصل فيما بينهم.
وساعدت العمل البحثي إذ قدمت معايير وأدوات تشخيصية أكثر دقة.
وساعدت عملية التدريس فأصبح يستند الآن إلى منظومة مرجعية دولية تقدم لغة عالمية مشتركة.
ومن خلال اطلاع الجمهور على المعايير التشخيصية المستخدمة لدى ممتهني الصحة النفسية، فقد حسنت التواصل مع متلقي الخدمة النفسية ومقدميها والمجتمع بعامة.
غير أن هذه المزايا المقدرة ينبغي ألا تعمينا عن العيوب وعن أوجه القصور في التقسيمات المرضية المعاصرة؛ فالطب النفسي اليوم في تحول دائب، والكشوف الجديدة في علم الأعصاب والجينات قمينة أن تتحدى عاجلا الكثير من دعائمه النظرية الحالية، وبخاصة تلك التي تتعلق بالتسبيب وبتعريف الاضطرابات النفسية، والعلاجات الجديدة التي تستهدف منظومات وظيفية بعينها في الدماغ سوف تتطلب منه تقسيما أفضل تمييزا للشرائح الإكلينيكية المستفيدة.
في ضوء ذلك أخذ يتضح لنا كل يوم أن «صدق»
validity
المفاهيم التشخيصية المودعة بإجلال في التقسيمات المعاصرة للاضطرابات النفسية لا يمكن أن تؤخذ على علاتها. إن علينا اليوم - وقد حققنا درجة جيدة من «ثبات» (عول)
reliability
التشخيصات - أن نلتفت إلى مشكلة «الصدق».
1
فالثبات ليس غاية المراد في العمل العلمي. «الثبات» ليس شرطا كافيا
sufficient condition
ل «الصدق»، والثبات لا يضمن الصدق (مثلما نميل إلى الاعتقاد)؛ فليس ما يمنع أن يكون شيء ما خاطئا على نحو «ثابت»، افترض أن ميزانا يبتعد مؤشره عن الصفر بخمسة كيلوجرامات. إنني سأسجل وزني عليه دائما بزيادة خمسة كيلوجرامات عن الحقيقة. فهل القياس متسق؟ نعم، ولكنه اتساق الخطأ. وهل القياس صحيح؟ كلا. إنه غير صحيح على نحو ثابت، إنه خاطئ ثابت الخطأ.
من أجل ذلك هناك الآن دعوة واسعة النطاق بأن دليلنا التشخيصي لن يكون أفضل من سابقيه ما لم تتحسن درجة «صدق» مفاهيمه التشخيصية، وحبذا لو قيمنا صدق كل تشخيص وأدرجنا له درجة صدق صريحة في الدليل تبين إلى أي مدى تم التحقق من هذا الصدق. (1) معايير تأسيس صدق التشخيصات
أدرج روبنز وجوز
Rubins & Guze
2 (1970م) خمسة معايير هي: (1)
الوصف الإكلينيكي (مثل الأعراض والخصائص الديموغرافية والعوامل المرسبة). (2)
الدراسات المختبرية (مثل الاختبارات السيكولوجية والأشعة واستقصاءات ما بعد الوفاة). (3)
المعايير المميزة للاضطراب عن الاضطرابات الأخرى. (4)
دراسات المتابعة (متضمنة الأدلة على ثبات التشخيص أو تجانسه عبر الزمن). (5)
دراسات العائلة (لإثبات تواتر وجود الاضطراب المفترض في العائلة).
استخدم روبنز وجوز هذه المعايير الخمسة لكي يثبتا أن الفصام ذا المآل الجيد ليس ضربا خفيفا من الفصام، بل هو مرض مختلف. وقد أفضى ذلك لاحقا إلى التمييز في ال
DSM III
بين الفصام والاضطراب الفصامي الشكل
schizophreniform disorder .
ثم جاء كندلر
Kendler (1990م) وتوسع في هذه القائمة مميزا بين ثلاثة أصناف من معايير الصدق:
معايير سابقة: مثل التواتر في العائلات والشخصية قبل المرض والعوامل الديموغرافية والعوامل المرسبة.
معايير متزامنة: مثل الاختبارات السيكولوجية والاختبارات البيولوجية.
معايير تنبؤية: مثل ثبات التشخيص عبر الزمن، الأداء الإجمالي عبر الزمن، معدلات الانتكاس والشفاء، الاستجابة للعلاج.
واستخدم كندلر هذه المعايير الموسعة لكي يثبت أن البارانويا قد تكون زملة منفصلة وليس نوعا فرعيا من الفصام.
3 (2) الافتراض الضمني بوجود «كيان مرضي»
disease entity
كان الحصفاء من الممارسين على وعي منذ زمن طويل بأن الفئات
categories
التشخيصية هي مجرد تصورات، مبررة فقط بقدر ما تقدم إطارا مفيدا لتنظيم وتفسير تعقد الخبرة الإكلينيكية؛ لكي نستمد منه استدلالات عن مآل الاضطرابات ولكي يرشد قراراتنا العلاجية. ولكن المؤسف أنه ما إن يعم استخدام مفهوم تشخيصي - مثل «الفصام» أو «زملة حرب الخليج» - حتى يناله «التشييء»
reification ؛ أي يتم اعتباره كيانا واقعيا يقبع من وراء أعراض المريض ويفسرها ولا يصح الشك في صدقه.
و«التشييء»
4
خطأ عام في التفكير: لقد برع البشر في خلق تصورات مجردة تساعدهم في تصنيف حشود غفيرة من الأشياء العيانية. ومن سوء الحظ أن هذه العملية يمكن أن تمضي أيضا في الاتجاه العكسي، فيعامل المفهوم المجرد كما لو كان شيئا واقعيا. ورغم أن واضعي الدليل التشخيصي للاضطرابات النفسية (DSM)
وغيره من الاضطرابات حريصون على الإشارة إلى أنه «ليس ثمة افتراض بأن كل فئة
category
تشخيصية للاضطراب النفسي هي كيان منفصل تماما وذو حدود مطلقة تفصله عن بقية الاضطرابات النفسية أو عن السواء»؛ رغم ذلك فإن مجرد إدراج التصور التشخيصي في مجموعة مصطلحات رسمية وتزويده بتعريف مركب دقيق ينزع إلى حفز هذا التشييء الماكر.
لقد كان روبنز وجوز وكندلر - الذين اقترحوا معايير الصدق المذكورة آنفا - يفترضون ضمنا أن الاضطرابات النفسية كيانات منفصلة قائمة بذاتها. أما احتمال أن الاضطرابات قد يندمج أحدها بالآخر بدون حد طبيعي فيما بينهما فهو ببساطة شيء لم يخطر لهم. لقد ظنوا مثلا أن انتشار الاضطراب بين الأقارب دليل على أن هذا الاضطراب كيان صادق، في حين أن هذا الكشف يتوافق بنفس الدرجة مع وجود متصل
continuum
من التغيرات. ويبدو أن إمكان وجود انتشار
prevalence
عال لأكثر من اضطراب واحد في أقارب المريض لم يخطر لهم. وقد ظنوا أن محدودية النجاح في التنبؤ بمآل الاضطرابات وتداخل نتائج الدراسات العائلية يدلان على أن معايير الفصل (بين الفصام ذي المآل الجيد والفصام ذي المآل السيئ) بحاجة إلى مزيد من التحسين، ولم يدر بخلدهم أن النتائج ربما قد حدثت بسبب عدم وجود حد طبيعي بينهما، وهي واقعة جديرة بأن تعثر جميع محاولات التحسين القائمة على تهذيب المعايير التشخيصية.
وقد قام الكثيرون بمحاولات عديدة لإثبات وجود حدود طبيعية بين الزملات المرضية المتقاربة أو بين زملة شائعة مثل الاكتئاب الجسيم، وبين السواء (إما بتحديد منطقة خلاء
zone of rarity
أو بكشف علاقة غير خطية بين صورة الأعراض وبين متغير مؤيد مثل المآل أو الوراثية)، ولكن أغلب هذه المحاولات باءت بالفشل.
كما بينت مسوح عديدة لعامة السكان أن أقل فروق في تعريف الزملات الفردة (مثل الاكتئاب الجسيم) قد يؤدي إلى فروق كبيرة في درجة الانتشار المسجلة. وهذا يعني أن الحد الذي يرسمه التعريف لا يناظر نطاق خلاء طبيعيا؛ أي لا يمثل «تخما»
boundary
واقعيا حقيقيا.
وقد تبين في الوقت ذاته أن العديد من الجينات المختلفة يسهم في سببيات
etiology
أغلب الزملات الطبنفسية، وأن بعض هذه الجينات هي عوامل خطر ضالعة في تسبيب زملات يفترض أنها غير متقاربة. كما أن العديد من الزملات الأخرى في ال
DSM/ICD
تتواتر لدى أقارب مرضى الفصام أو الاضطراب الوجداني؛ الأمر الذي أفضى إلى مفهوم اضطرابات «الطيف الفصامي والطيف الوجداني»
schizophrenia spectrum and affective spectrum . وقد وجد أيضا أن الخلل الجيني نفسه قد يؤدي إلى زملات طبنفسية متباينة. مثال ذلك: أن 3 من مواضع الاستهداف المزعومة المرتبطة بالاضطراب ثنائي القطبية (على الكروموزوم 13، 18، 22) تسهم أيضا فيما يبدو في تسبيب الفصام.
5
وفضلا عن ذلك فإن الأساس الجيني لاضطراب القلق المعمم مطابق تقريبا للأساس الجيني للاكتئاب الجسيم.
6
والأساس الجيني للفصام يضم - فيما يبدو - طيفا من الاضطرابات الأخرى تشمل اضطراب الشخصية فصامية النمط واضطراب الشخصية البارانويدية وحتى الاضطراب الوجداني الذهاني.
7
ويبدو أن مثل هذا التداخل في القابلية الجينية لزملات نحسبها متباعدة هو القاعدة وليس الاستثناء.
وقد وجد أن العوامل البيئية الواحدة تفضي باحتمالات متساوية إلى زملات متباينة عديدة. مثال ذلك: أن الإيذاء الجسدي والجنسي والإهمال في الطفولة يؤدي إلى الاستهداف لكل من القلق والاكتئاب في مرحلة الرشد؛ والإيذاء الجنسي قد يؤدي إلى الاستهداف للشره العصبي (النهام) وأيضا إلى الاعتماد على الكحول وسائر المواد.
8 (3) التحرر المتزايد من وهم فرضية «الكيان المرضي»
رغم شيوع لفظة «مرض»
disease
في كل من الخطاب الطبي والخطاب العام؛ فإن هذه اللفظة في الحقيقة ليس لها تعريف خال من الالتباس ويقبله الجميع، وإن كانت الغالبية تبتلع الوهم المريح القائل بأننا جميعا نعرف ما تعنيه هذه اللفظة.
أدرج ألبرت وزملاؤه
Albert et al. (1988م)
9
ستة تصورات عامة عما تكونه الحالات التي قد يقال إنها تشكل «مرضا»، تتراوح من «الاسمية»
nominalism
والنظريات النسبية الاجتماعية (أي إن شيئا ما يعد «مرضا» إذا سماه المجتمع أو مهنة ما في المجتمع بهذا الاسم) والمثالية الاجتماعية (التقصير عن بلوغ مثال اجتماعي للصحة التامة)، إلى المفاهيم الإحصائية المعيارية من الوجهة الاجتماعية (الانحراف عن «السواء»
normality
المعرف إحصائيا)، ومفهوم «واقعية المرض»
disease realism (الحيود الثابت موضوعيا عن الأداء البيولوجي التكيفي). وقد تبنى ألبرت وزملاؤه هذا النموذج الأخير على أنه الأكثر ملاءمة للوضع الحالي للطب، فأكدوا أن الأعراض والعلامات الإكلينيكية لا تشكل المرض، وأننا لا يمكننا أن نقول: إننا اكتشفنا المرض حقا (واقعيا) إلا إذا تعرفنا بوضوح على الآليات العلية لهذا المرض.
ورغم أن كلا من هذه المفاهيم العامة للمرض قد استخدم في الطب النفسي في وقت من الأوقات فإن نموذج «واقعية المرض» (في صيغتيه البيولوجية والسيكودينامية كلتيهما) هو الذي ساد منذ نهاية القرن التاسع عشر. وقد ظل كربلين
Kraepelin (وهو نصير مخلص ل «واقعية المرض») زمنا طويلا يعتقد أن «العته المبكر»
dementia praecox
وجنون الهوس الاكتئابي - المعرفين عن طريق الملاحظة الجاهدة لأعراضهما وعلاماتهما - يمثلان نوعين متمايزين من المرض الدماغي سوف تكتشف الباثولوجيا العصبية والسيكولوجيا التجريبية وعلم الوراثة آلياتهما العلية في النهاية. وبالرغم من ذلك فقد تخلى كربلين أخيرا عن فرضية أن هذين الاضطرابين كيانان مرضيان متمايزان، واقترح بدلا من ذلك نموذجا «بعديا»
dimensional
في الصميم. وفي نفس الوقت تقريبا كتب ياسبرز أن فكرة الكيان المرضي
disease entity
هي في الحقيقة فكرة بالمعنى الكانتي للكلمة: تصور لهدف لا يمكن المرء الوصول إليه ولكنه يشير - مع ذلك - إلى طريق للبحث المثمر، ويقدم توجها «صادقا»
valid
لبحوث إمبيريقية معينة. وأضاف عندئذ أنه بالرغم من أن «فكرة الكيانات المرضية قد أصبحت التوجه المثمر لبحوث الطب النفسي الخاص فإن الكيانات المرضية الفعلية لا وجود لها.»
10
يتصل هذا الحديث بالجدل الدائر حاليا بخصوص التقسيم المرضي في الطب النفسي من وجهين: الأول: أن مفهوم الكيانات المرضية المنفصلة ومفهوم الأبعاد (متصل التغير) ليسا سبيلين متخارجين (ينفي أحدهما الآخر) لتصور الاضطرابات الطبنفسية، فكلاهما متوافق مع نموذج عتبة في «تصور» المرض
threshold model of disease ، وقد يقدم تفسيرا للقطع المتباينة أو حتى المتداخلة من المراضة الطبنفسية. والثاني: أن الظواهر السطحية للمرض النفسي (أي مجموعة الأعراض والعلامات والمسار والمآل) لا تقدم أساسا مضمونا لتقرير صدق الفئة التشخيصية أو العنوان التشخيصي، بمعنى رسم آلية بيولوجية محددة ضرورية وكافية.
وقد قدم عديد من المعلقين المطلعين أدلة تومئ إلى أنه لا توجد حدود طبيعية بين الاضطراب النفسي المدرك وبين السواء أو الصحة. واقترح ويديجر وكلارك
Widiger and Clark
11 (2000م) أن التفاوت في الأعراض الطبنفسية قد يمثل بواسطة «وساد منظم لأبعاد من مجموعات أعراض» أفضل مما يمثل بمجموعة من الفئات التصنيفية
categories
المنفصلة. ويذهب كلونينجر
Cloninger
12 (1999م) بقوة إلى أن «ليس هناك دليل إمبيريقي لحدود طبيعية بين الزملات الكبرى»، وأنه «لم يجد أحد قط مجموعة أعراض أو علامات أو اختبارات تفصل الاضطرابات النفسية تماما إلى فئات غير متداخلة»، وأن «المقاربة القاطيغورية مغلوطة في الصميم».
ويشكو جينسبرج وزملاؤه
Ginsburg et al. (1996م) - وقد أحبطوا من فشل عقدين من البحث المضني لكشف أي جينات تتبطن الاضطرابات الطبنفسية - أن «التقسيم المرضي الحالي المتضمن في ال
DSM IV
لا يحدد أنماطا ظاهرية
phenotypes
من أجل البحث الجيني.»
13
وتمثل المراضة المتصاحبة
comorbidity
مشكلة إضافية تزداد إلحاحا كلما تكشف امتدادها الكامل عن طريق الدراسات الاجتماعية
community studies . وقد قال سوليفان وكندلر
Sullivan and Kendler (1998م): إن مقياس المراضة المتصاحبة بين الاكتئاب الجسيم ومختلف اضطرابات القلق وزملات الإدمان لا يتسق مع النظرة التقليدية إلى هذه الاضطرابات الطبنفسية على أنها كيانات مرضية متمايزة.
14
والحق أن تقسيماتنا المرضية التي نحفظها بإجلال قد فشلت في أن تقدم لنا أي استبصارات كبرى في سببيات أي من الزملات الرئيسية.
تراكمت هذه الضروب من الفشل والإحباط فأدت بألن فرنسيس - رئيس الحملة التي أنتجت ال
DSM IV - وهيلين إجر
Helen Egger
إلى تعليق حزين (على أنه ذو بصيرة، ربما، واستشفاف) بأننا في الطب النفسي «نمر بالمرحلة الفلكية التدويرية التي كان فيها علم الفلك قبل كوبرنيقوس، وكانت فيها البيولوجيا قبل دارون. لا شك أن نسقنا الوصفي الحالي المعقد وغير الأنيق
inelegant
سوف يستبدل به نماذج أكثر «بساطة»
simplicity
15
و«أناقة»
elegance .
16
نحن نتفهم هذا الإحباط في ضوء فشل التقسيم الجديد الثوري الذي يقدمه ال
DSM III
وما تلاه في أن يفضي إلى استبصارات كبرى في سببيات أي من الزملات الرئيسية؛ غير أن هذا الإحباط قد لا يكون له ما يبرره حتى الآن، فرغم تنامي الافتراض (على الأقل داخل مجتمع البحث العلمي) بأن أغلب الاضطرابات الطبنفسية المدركة حاليا ليست كيانات مرضية؛ فإن هذا الاعتقاد لم تتم البرهنة عليه قط؛ لأن البرهنة على ذلك تتطلب أنماطا من البحث لم نبلغ إليها حتى الآن. (4) تطبيق مفهوم الصدق على التشخيصات
إذا كان تفاوت الأعراض الطبنفسية هو حقا شيء متصل ولا يتكتل في تجمعات ذات حدود بينة، وإذا كانت أغلب الفئات التشخيصية لا تعدو أن تكون مواضع اعتسافية في فضاء متعدد الأبعاد، فإن من الصعب أن نرى كيف يمكن أن تعد هذه الفئات التشخيصية «صادقة» بصفة مشروعة. ومن جهة أخرى فإن ثمة قلة من الفئات التشخيصية في الطب النفسي مقبولة بالإجماع كفئات صادقة. وأغلب هذه الفئات يسمي أسباب التخلف العقلي أو العته: زملة داون، الفينيل كيتونوريا، مرض هنتنجتون، مرض جاكوب كروتسفيلد»؛ ومن ثم يقترح روبرت كندل وأسين جبلنسكي
R. Kendell and A. Jablensky
17 (2003م) أن الفئة التشخيصية توصف بالصدق إذا توافر فيها أحد الشرطين التاليين: (1)
إذا كانت الفئة تعرف زملة ثبت أنها كيان واقعي منفصل عن الزملات المجاورة وعن السواء بواسطة منطقة خلاء
zone of rarity (حد طبيعي).
18 (2)
إذا كانت الخصائص التعريفية للفئة التشخيصية أكثر أساسية؛ أي إذا كانت الفئة معرفة بواسطة خلل فيزيولوجي أو تشريحي أو هستولوجي أو كروموزومي أو جزيئي.
فزملة داون تعرف بوجود كروموزوم 21 إضافي.
ومرض هنتنجتون يعرف بوجود جين شاذ في كروموزوم 4.
ومرض جاكوب كروتسفيلد يعرف بهستولوجيا مميزة (اعتلال دماغي إسفنجي الشكل) يمكن تفرقته عن بقية الأمراض المخية.
والحق أن وجود حدود واضحة أو فروق كيفية عند مستوى الخصائص المعرفة أهم من السببيات (etiology)
لتقرير صدق الفئة التشخيصية، وذلك للأسباب التالية: (1)
أن فهم السببيات ليس «كل أو لا شيء»، وكثيرا ما يتفتح بالتدريج أو يبزغ على مراحل مع اتضاح شبكة معقدة من الأحداث المتفاعلة. (2)
قد يكون الحد واضحا أو ثابتا قبل معرفة السبب التحتي بزمن طويل. (3)
معظم الاضطرابات النفسية (وبعض الاضطرابات النيورولوجية مثل الصعر
torticollis
والصداع النصفي وخلل التوتر المشوه
dystonia deformans ) ما زالت تعرف بواسطة زملاتها الإكلينيكية؛ لأن سببياتها ما زالت مجهولة إلى حد كبير. إن لدينا سببا وجيها لقبول أي زملة مجهولة السبب كفئة صادقة إذا ما ثبت أن مثل هذه الزملة منفصلة عن الزملات المجاورة بواسطة «منطقة خلاء»؛ فمثل هذا الدليل على وجود حد طبيعي يومئ بقوة (وإن لم يبرهن) إلى أن سببيات هذه الزملة تختلف عن سببيات جيرانها، ومن شأن هذا الدليل أن يعمل كحافز قوي على البحث العلمي من أجل تبيان سببيات الزملات.
هكذا كان مسار العلم الطبي. ولكن ما دام الكثير من تصوراتنا الحالية الخاصة بالزملات الطبنفسية لا تعكس انقطاعات أصلية في تغير الأعراض، فمن المستبعد أن تبقى بعد الاستكشاف الناجح لأساسها البيولوجي. لقد بقيت زملة داون ومرض هنتنجتون بعد اكتشاف أساسهما البيولوجي؛ لأنهما كانا قائمين على انقطاع حقيقي في الأعراض والعلامات. أما تقسيمنا الطبنفسي فلا يفي بهذا الشرط؛ ومن ثم فسوف يتم التخلي عنه عاجلا أم آجلا وتبني تقسيم «بعدي»
dimensional
بدلا منه. إن جميع الفئات التصنيفية الموجودة سوف تختفي؛ لأنها «غير صادقة»
invalid ، وسوف تحل محلها مجموعة من الأبعاد
dimensions ، وسوف تنتقل الأسئلة حينئذ إلى تلك الأبعاد:
كم بعدا هناك؟
ما هي هذه الأبعاد؟
هل هذه الأبعاد بدورها «صادقة»
valid ؟
قلما يستخدم «نطاق الخلاء» (منطقة الخلاء) في تقسيم الاضطرابات الطبية الأخرى؛ لأن كل الأمراض في أفرع الطب الأخرى معرفة على مستوى أكثر أساسية من زملاتها، ومميز أحدها من الآخر بفروق جيدة التأسيس في الباثولوجيا والسببيات. وهذا هو السبب في أن مسألة «صدق» التشخيص هناك قلما تطرح وقلما تناقش برغم أن كثيرا من الأمراض في الطب تتشارك في زملات متشابهة للغاية:
فكثير من الحميات المعدية تتشارك في زملة أعراض هي ارتفاع الحرارة والوهن والتعرق والصداع والطفح الجلدي واضطراب الجهاز الهضمي؛ غير أن الجراثيم المسببة - المتباينة والتي يمكن تمييزها - هي خصائص تعريفية حاسمة.
وقد يتمثل كل من الدرن الرئوي
pulmonary tuberculosis
والسرطان القصبي
bronchial carcinoma
في صورة إكلينيكية متماثلة تماما؛ غير أنهما أيضا متمايزان تماما حين نعاين عصيات ونعاين هيستوباثولوجيا السرطان.
أما الطب النفسي الآن فهو بعيد عن مثل هذا اليقين التشخيصي. الطب النفسي الآن في نفس الوضع الذي كان عليه معظم الطب منذ 200 عام، حيث كان مضطرا بعد إلى تعريف معظم اضطراباته بواسطة زملاتها؛ ومن ثم فما دام الطب النفسي مضطرا إلى التمييز بين اضطراباته بواسطة التمييز بين زملات فإن «صدق» المفاهيم التشخيصية يظل أمرا مهما في الطب النفسي. وإن استخدام نطاقات الخلاء لتأسيس «صدق» التشخيصات هو أفضل استراتيجية متاحة لنا في المرحلة الحالية من تطور الطب النفسي.
جدوى التشخيصات
قلنا: إن معظم الاضطرابات الطبنفسية الحالية - بما فيها الفصام - لا يمكن أن توصف بأنها فئات تصنيفية «صادقة»
valid ؛ غير أن هذا لا يعني بحال أنها غير ذات نفع أو جدوى. ويقال للعنوان التشخيصي: إنه نافع أو مجد إذا كان يقدم معلومات معتبرة عن التنبؤ (التكهن/الإنذار)
prognosis
والمآل المرجح للعلاج، و/أو قضايا قابلة للاختبار عن الملازمات
correlates
البيولوجية والاجتماعية.
بهذا التصور للجدوى ينبغي أن نقول: إن كثيرا من مفاهيمنا النوزولوجية (الخاصة بتصنيف الأمراض) الحالية مفيدة للممارسين الإكلينيكيين إلى أقصى حد؛ إنهم ببساطة لا يستطيعون الاستغناء عنها؛ فهي تمدهم بمعلومات قيمة للغاية عن احتمالات الشفاء والانتكاس والتدهور والعجز الاجتماعي، وترشد قراراتهم العلاجية، وتزودهم بمعلومات ثرية عن المرضى المماثلين لمرضاهم عبر العالم: صورة أعراضهم وشخصياتهم قبل المرض وخلفياتهم العائلية وتحولاتهم بمرور الزمن ونتائج التجارب الإكلينيكية لعلاجات بديلة عديدة والبحث في سببيات الزملة، كل هذه معلومات مفيدة ولا غنى عنها أحيانا، سواء كانت الفئة التشخيصية المعنية صادقة أم لا.
وهناك فرق آخر بين «الصدق»
validity
و«الجدوى»
utility ؛ فالصدق خاصية ثابتة للفئة التشخيصية (الفئة - من حيث المبدأ - هي إما صادقة أو غير صادقة) وصدقها لا يعتمد على السياق. أما الجدوى فليست خاصية «كل أو لا شيء»، بل خاصية متدرجة تعتمد جزئيا على السياق
context-specific :
فالفصام قد يكون مفهوما قيما للغاية للأطباء النفسيين الممارسين، ولكنه قليل الجدوى للمحامي الجنائي أو للعالم الذي يستكشف الأساس الجيني للذهان.
والاضطراب الوجداني ثنائي القطبية قد يكون مفهوما بالغ النفع في وحدة حالات حادة بمستشفى (حيث تميز بين الحالات الذهانية التي تتطلب علاجا دوائيا طويل الأمد والحالات التي لا تتطلب ذلك)، ولكنه مفهوم أقل نفعا في برنامج تأهيلي.
اضطراب الشخصية الحدية مفهوم مفيد لكثير من العلاجات النفيسة، ولكن ليس مفيدا لكثير من الأطباء النفسيين ذوي التوجه البيولوجي.
وهناك فرق ثالث هو أن التعريفات البديلة العديدة للمفهوم التشخيصي الواحد لا يمكن أن تكون جميعا صادقة، ولكنها يمكن أن تكون جميعا مجدية في سياقات مختلفة ؛ فتعريف ال
DSM IV
للفصام مفيد بصفة خاصة في التنبؤ بالمآل؛ إذ ينطوي على درجة ما من الإزمان. ولكن تعريفا أكثر اتساعا بكثير بحيث يضم طيفا متنوعا هو أنفع في حصر زملة ذات قابلية وراثية عالية.
متضمنات ذلك في البحث العلمي
منذ مجيء ال
DSM III (1980م) والنسخة البحثية لل
ICD 10 (1993م) صار الباحثون تحت ضغط من المنظمات الممولة ومحرري الدوريات العلمية لكي يستخدموا التعريفات والمعايير الرسمية ويلتزموا بها في أبحاثهم، وقد حققوا بذلك ثباتا (عولا)
reliability
ودقة كبيرين لموضوعهم، وتمكنوا من تكرار تجارب غيرهم متى شاءوا.
وعلى الرغم من ذلك فإن التمسك العبودي بتعريفات ومعايير الزملات الخاصة بال
DSM
و
ICD
تشكل عائقا حقيقيا لتقدم العمل البحثي في أنحاء خاصة مثل السببيات والجينيات ... إلخ. وما دامت هذه الفئات التصنيفية غير صادقة بالأساس فإن لدينا ما يدعونا إلى استخدام معايير مغايرة تماما (مثل عرض محوري واحد، حد أدنى على مقياس ما، خلل معرفي معين، خلل نيوروفيزيولوجي أو فارماكولوجي). حقا إن إحباط أهل البحث العلمي (في الجينات والسيكولوجيا والطب النفسي) من المنظومة الزملاتية المعاصرة له وجاهته ومبرراته.
كما أن ضغط الهيئات الممولة ومحرري الدوريات وإصرارهم على استخدام التعريف «الرسمي» لزملة لم يثبت «صدقها» هو أمر لا مسوغ له، ويشير إلى أن الاعتبارات السياسية والاجتماعية والقضائية تقحم نفسها عنوة على ما ينبغي أن يكون قرارا علميا خالصا.
إذن رغم فوائد الالتزام بالتعريفات الرسمية فإن على الباحثين أن يكونوا أحرارا في استخدام تعريف آخر من أجل إطلاق العمل البحثي في مجالات كثيرة، ومن أجل التغلب على عيوب التعريف القياسي على أقل تقدير.
تعليق
لقد طالما سلم القائمون على الطب النفسي والسيكولوجيا بأن هدف أي نسق نوزولوجي هو «تقطيع الطبيعة من مفاصلها»، يتضمن هذا أن ثمة مفصلا وأن المرء لا ينشر في العظم. ولكن إذا لم يكن ثمة حدود طبيعية بين الزملات النوزولوجية فمن يدرينا حقا أننا لا ننشر في العظم؟
إن تقطيعنا (في مجال الطب النفسي) قد يكون أكثر رعونة حتى من ذلك، يذكر كورنينج
Corning (1986م) مثالا على التقسيم بمجرد تشابه المظهر، فيذكر ما فعله طفله ذو الستة أعوام بمكتبه عندما تركه فيه بعد الظهر ليرأس اجتماعا مهما: عاد كورنينج إلى مكتبه بعد الاجتماع ليجد أن طفله قد «أعاد ترتيب نظام الملفات» في المكتب؛ فجمع الملفات البنية تجميعا أنيقا في كومة على الأرضية. وكذا الحال مع الملفات الأخرى. وقد نزع الطفل الوثائق الموجودة في كل ملف ووضعها في الكومات المناسبة لها (في نظره)؛ فالأوراق الصفراء ذات القطع المعين وضعت في كومة، والبيضاء ذات الشكل المعين في كومة، والكراسات الصفراء ذات القطع المعين في كومة، والأوراق البيضاء المطبوع عليها في كومة ... وهكذا. وعندما عاد الأب وجد طفله يعلنه مفتخرا أنه «سوى له فوضى المكتب».
يومئ كورنينج أن تقسيم طفله مماثل للتقسيم الطبنفسي، حيث يأخذ تحليل قائم على مظاهر خارجية مكان تحليل للفئات من جهة المعلومات التي تتضمنها.
19
إن ال
DSM
و
ICD
تقسيمان فئويان (قاطيغوريان)؛ غير أنه من حيث المبدأ يمكن للتنوع في أعراض الاضطراب النفسي أن يمثل بواسطة مجموعة من «الأبعاد»
dimensions
وليس ب «فئات تصنيفية»
categories
متعددة.
وإذا كانت تقسيمات المرض في أفرع الطب الأخرى قاطيغورية كلها بلا استثناء، فذلك لأن: (1) من الخصائص الأساسية للذهنية البشرية والمطمورة في الأسماء العامة (اسم الجنس)
generic nouns
في لغة الحياة اليومية، تمييز الفئات التصنيفية للأشياء (الكراسي، الأحصنة، الكواكب ... إلخ). (2) قد تم التسليم تقليديا بأن معظم الأمراض هي كيانات متمايزة.
وقد درج الأطباء النفسيون في الماضي على افتراض أن الاضطرابات النفسية هي أيضا كيانات متمايزة منفصل أحدها عن الآخر: إما بمجموعة محددة من الأعراض، وإما بسببيات محددة ثابتة (وقد ثبت ذلك حقا بالنسبة لحالات قليلة مثل: زملة داون، الفينيل كيتونوريا، مرض ألزهيمر، مرض جاكوب كروتسفيلد).
إلا أنه في العشرين عاما الماضية تزايد التشكيك في فرضية الكيان المرضي مع تراكم الأدلة بأن الاضطرابات المرضية، مثل: الاكتئاب الجسيم واضطرابات القلق والفصام والاضطراب ثنائي القطبية ... يلتحم خفية أحدها بالآخر وأحدها بالسواء. وفضلا عن ذلك فإن العوامل الجينية والبيئية المتبطنة لهذه الزملات هي في الأغلب «غير محددة»
non-specific .
لقد بات واضحا يوما بعد يوم أن ليس هناك شيء من قبيل الحدود الطبيعية بين الزملات الكبرى، وأن المقاربة القاطيغورية مغلوطة بالأساس؛ الأمر الذي حمل الممارسين والباحثين المستنيرين على اقتراح مقاربة «بعدية»
dimensional ؛ أي القول بأن تفاوت الأعراض الطبنفسية قد يمثل بواسطة الأبعاد أفضل مما يمثل بواسطة مجموعة من الفئات التصنيفية، وبخاصة في مجال سمات الشخصية، وقد لاحظ الفيلسوف همبل
Hempel
منذ أكثر من نصف قرن أن معظم العلوم يبدأ بتقسيم قاطيغوري لموضوعه ولكنه في الغالب يستعيض عنه بالأبعاد عندما يتيسر له قياس أكثر دقة.
مزايا تأسيس التقسيمات القادمة على الأبعاد
من شأن ذلك أن تختفي مشكلة المرضى الذين يستوفون معايير فئتين أو أكثر من الفئات التصنيفية في الوقت نفسه، أو الذين يقفون على الحدود بين فئتين متجاورتين.
وأن تزول الحاجة «البروكرستية» إلى لي أعراض المريض الفرد لكي تنسجم قسرا مع تصور نمطي مسبق.
وأن يتيح توصيل معلومات مفيدة أكثر من ذي قبل، ويدخل واقعية جديدة في افتراضات الممارسين عن طبيعة الاضطرابات النفسية.
مساوئ تأسيس التقسيمات المرضية على أبعاد (1)
لقد تعود الممارسون الإكلينيكيون على التفكير بلغة الفئات التصنيفية التشخيصية
diagnostic categories . إنهم يفكرون بلغة القاطيغوري، وكثير من معرفتهم الإكلينيكية مخزونة بهذا الفورمات، ومعظم المعرفة القائمة عن أسباب الأمراض النفسية وصورتها الإكلينيكية وعلاجها والتنبؤ بمسارها قد استفيدت ونظمت مرتبطة بهذه الفئات التصنيفية. (2)
اتخاذ القرارات الفورية والمناسبة عن علاج المرضى الأفراد يكون أيسر بكثير إذا أمكن وضع المريض على نحو وثيق داخل فئة تشخيصية منه إذا وضع في نقطة ما في فضاء متعدد الأبعاد.
بالنظر إلى هذه الأسباب وإلى عدم توافر نسق بعدي ناضج في الوقت الحالي ربما يكون من الابتسار أن نندفع إلى وضع تقسيم نوزولوجي قائم كله على الأبعاد. إن من الحصافة أن نقصر استخدام الأبعاد في الوقت الحالي على مجالات محدودة، مثل اضطرابات الشخصية، وأن نختبر جدوى هذا الاستخدام بالمقارنة بالمدخل القاطيغوري. فإذا ما تبين لنا أن النظام البعدي للشخصية يعمل جيدا وأنه مقبول من جانب الممارسين، فقد يكون من الملائم آنذاك أن نستكشف جدوى المقاربات البعدية في مجالات أخرى مثل الذهان واضطرابات المزاج.
الاضطرابات النفسية «أنواع عملية»
في ورقة علمية متميزة بعنوان «الاضطرابات الطبنفسية ليست أنواعا طبيعية» يتبنى بيتر زاتشار
20 (2000م) الإبستمولوجيا البراجماتية المضادة للماهوية، ويخلص إلى أن الاضطرابات الطبنفسية، شأنها شأن كل شيء آخر، ليست أنواعا طبيعية. ينتقد زاتشار الفكرة الماهوية القائلة بأن الاضطرابات الطبنفسية ينبغي تصورها على أنها أنواع طبيعية تتحدد تماما بالإحالة إلى خواصها الباطنة، وإلا فإنها تكون فئات تصنيفية اعتباطية.
يقول زاتشار إن تصور الاضطرابات الطبنفسية على أنها كيانات مسيجة في الطبيعة هو تصور لا يتسق مع فهم الطب للمرض وفهم البيولوجيا التطورية للنوع
Species . وعلى النقيض من ذلك يدفع زتشار بمفهوم «الأنواع العملية»
، وهي أنماط مستقرة تعرف على مستويات متفاوتة من الصدق
Validity
والثبات
Reliability ، ويذهب إلى أن هذا التفكير اللاماهوي هو أكثر اتساقا مع وجهة النظر العلمية إلى العالم.
إن من الخطأ أن نفهم اللزمات الطبنفسية على أنها فئات تصنيفية محددة بحدود ولها شروط داخلية، ضرورية وكافية، لتشخيصها؛ فهذه طريقة غير صائبة في النظر إلى أي شيء، لأنها تصادر بأننا ننظر إليه كما بعين إله، وبأن هناك وصفا دقيقا واحدا لما يكونه هذا الشيء في الواقع، بمعزل عن الطريقة التي نتصوره بها. وعلى الأطباء النفسيين أن يكفوا عن مثل هذه النظرة سواء تبنوا النموذج الطبي أو النموذج السيكومتري (الخاص بالقياس النفسي). إنما تتخذ الاضطرابات الطبنفسية متصلا
Continuum
من «الأنواع العملية»، وأفضل طريقة لتصورها هي الطريقة البراجماتية.
و«العقار»
Drug
أو «الدواء»، كما يصفه جورنشتاين
Gorenstein
21 (1992م)، مثال جيد للنوع العملي. فالدواء فئة تصنيفية عليا تصف الدور الذي تضطلع به مجموعات متباينة من المركبات الكيميائية في الممارسة الطبية. تتضمن الأدوية «مطهرات الحلق، وخافضات الكولستيرول، وبخاخات الأنف، وراخيات العضلات، والمضادات الحيوية، والحفاضات الملطفة للطفح الجلدي». الكثير من شتى ضروب المركبات يمكن أن تكون دواء. إذن كون الشيء دواء ليس خاصة باطنة متأصلة لأي مادة كيميائية، بل هو «خاصة علائقية»
Relational Property . يرى جورنشتاين أن المرض النفسي نوع عملي من هذا الصنف.
والأنواع العملية غائمة مهوشة
Fuzzy
بدرجة أكبر من الأنواع الطبيعية، ولكنها ليست اعتباطية . ويتطلب تقسيم الأنواع العملية، إذ تحدد سيكومتريا، معايير متوازنة تغير قيمها في السياقات المختلفة. ونتيجة لذلك فليس ثمة «ثبات»
Reliability
تام للأنواع العملية. ويمكن تصورها كائنة على «متصل»
Continuum
وبعضها أعلى ثباتا من بعض.
يذهب زاتشار إلى أن ال
DSM
نفسه لا يقوم على النموذج التقليدي للفئات التشخيصية بل على نموذج «النمط البدني للفئات»
، وهي محاولة لتبين كيف يصنف البشر بالفعل الأشياء والمفاهيم، وتستند إلى عمل عالمة النفس إليانور روش، س. ميرفيس
Eleanor Rosch and C Mervis
22 (1975م)، وهي طريقة مضادة للماهوية بشدة. تقتضي الفئات التقليدية (الأنواع الطبيعية) أن تكون للفئة تخوم محددة؛ بحيث إن شيئا ما إما أن يكون عضوا في الفئة أو لا يكون (المريخ إما كوكب أو لا، والشكل إما مثلث أو مربع ... ولا يمكن أن يكون الاثنين معا). وللفئات التقليدية أيضا مجموعة من الخواص الضرورية والكافية التي تعرفها. ويعد تعريف أرسطو للإنسان بأنه «حيوان عاقل» مثالا للتفيئة التقليدية. وهكذا يعبر حد «حيوان عاقل» عن ماهية ما يعنيه أن يكون شيء ما إنسانا. وبهذه الوجهة من الرأي فإن أي شخص استطاع أن يقرأ كتاب الطبيعة فقد أمكنه أن يعرف ماذا يكون شيء ما حقا وصدقا.
وعلى النقيض من الفئات التقليدية فإن فئات «نموذج النمط البدني» لها «حدود غائمة»؛ ومن ثم فليس واضحا دائما من يكون ومن لا يكون عضوا في الفئة. وبعض الأعضاء أكثر نموذجية من غيرهم كأعضاء في الفئة. من ذلك أن العصفور أكثر نموذجية كنمط بدئي للطيور من النعامة، وعرش الملك أكثر نموذجية ككرسي من جوال حبوب. ولأية فئة معينة من هذا الصنف هناك أمثلة نموذجية (العصفور طائر) وأمثلة غير نموذجية (الحوت من الثدييات) وأمثلة بين بين (مسند الكتب جزء من الأثاث). كما أن فئات نموذج النمط البدني ليس لها شروط ضرورية وكافية تعرف العضوية فيها. فأعضاء هذه الفئة لا يلزمهم أن يشاركوا في جميع الخواص، وإنما يشاركون في «تشابه عائلي»
Family
. يعني ذلك أن ثمة معايير بديلة لوضع الشيء في فئة. فالمرضى يشخصون في ال
DSM
بقدر ما يطابقون مجموعة من المعايير، ولكن ليس ثمة معيار واحد (أو مجموعة معايير) ضروري وكاف. وتسمى هذه الطريقة استراتيجية المعيار المتعدد الخصائص
، وهي صيغة من نموذج «النمط البدئي». وتنظم مجموعات المعايير المتعددة الخصائص بحيث تدرج المعايير الأكثر نموذجية أولا. وكما لاحظ ويديجر وفرانسيس
Widiger and Francis
23 (1994م) هناك 93 طريقة مختلفة للإيفاء بمعايير تشخيص المريض كاضطراب الشخصية الحدية في
DSM-III-R ، و848 طريقة مختلفة للإيفاء بمعايير اضطراب الشخصية المضادة للمجتمع. إن زملة اضطراب الشخصية المضادة للمجتمع هي عائلة من أنواع الشخصية وليست نوعا منفصلا واحدا.
ولكي يهدئ زاتشار من روع أصحاب الصرامة العقلية من القراء ممن لا يلمون بتفاصيل البراجماتية يقول إن غياب معايير مطلقة لا يترك الممارسين مع مبدأ «كله ماشي»
anything goes ؛ فالمعايير لا تزال تفعل فعلا يتجاوز الهوى الشخصي. من ذلك أنه بالرغم من أن معايير الفصام والشخصية الحدية تعد في طبيعتها ذات نمط بدني (حيث توجد حالات نموذجية لكل منهما وحالات بينية) فما زال هناك فرق بين الفصام والشخصية الحدية. ورغم أن المشخصين لا يمكنهم تقديم مجموعة واحدة من الشروط الضرورية والكافية (معا) لتشخيص الفصام فلا يزال بالإمكان تميز الفصام عن غيره من الاضطرابات. كما أن بوسعنا أن نقدم الكثير من الأسباب لقولنا إن «اضطراب الشخصية العنصرية» ليس اضطرابا طبنفسيا مشروعا دون أن يضطرنا ذلك إلى القول بأننا نقطع الطبيعة من المفاصل. كلا، إن مبدأ «كله ماشي» ليس خيارا مطروحا.
الإبستمولوجيا البراجماتية
تذهب البراجماتية إلى أن النظريات والنماذج أدوات تساعدنا في أن نبحر خلال العالم. وصدق هذه النظريات يكمن في نفعها العملي. والبراجماتيون، شأنهم شأن العلماء الطبيعيين، منفتحون على احتمال أن نموذجا أفضل يمكن دائما أن يطور. وهذا يقيهم من الاعتقاد السهل بأن فئاتهم تناظر مباشرة حال الأشياء كما هي عليه واقعيا. وأفضل تصور للنماذج أن نعتبرها «وصفات»
؛ أي أدوات ممكنة لفهم العالم، لا «أوصافا»
Descriptions ؛ أي عبارات جازمة عما يكونه العالم على الحقيقة. يتسق هذا الصنف من اللاماهوية البراجماتية أيضا مع القضايا الثلاث التالية من لاكوف
Lakoff
24 (1987م):
ثمة عالم خارج الكائنات البشرية.
العالم هو، بطريقة ما، سبب معرفتنا.
بعض المنظومات الاعتقادية أفضل من غيرها.
النموذج الطبي مضاد للماهوية
كان التقسيم ولا يزال واحدا من أهم المشكلات في الطب النفسي. وهو يتضمن تقرير أي الزملات ينبغي على الأطباء النفسيين أن يشخصوها ويعالجوها. يود أنصار النموذج البيوطبي أن يعرفوا الزملات مثلا تعرف الزملات الأخرى في الطب:
فتشمل الخطوة الأولى تحليلا إكلينيكيا، حيث يلاحظ أن علامات وأعراضا شتى تحدث معا بطريقة تشير إلى أن في الأمر شيئا يعمل أكثر من الصدفة. هكذا يومئ تزامن التهاب الحلق وسيولة الأنف والصداع واحتقان الصدر إلى زملة مندمجة، تصنف على أنها «الزكام»
Common Cold . يسمى هذا بالمظهر الإكلينيكي للمرض.
والخطوة التالية أن نصف مسار المرض، فنجد أن احتقان الحلق قد يظهر أولا ويزول، ثم يحدث احتقان الجيوب الأنفية متمثلا في تصريف أصفر، يتبعه تصريف شفاف عندما يصبح الشخص غير معد. وعند نقطة ما في العملية ينشأ احتقان الصدر وقد يلبث أسابيع. والشفاء تلقائي.
في هذا النموذج تكون للزملات سببيات مشتركة وبالتالي علاج مشترك. أما وصف الآليات الجسمية لإنتاج الزملة فهو لب لباب النموذج البيوطبي. وما إن يتضح أن ثمة مثل هذه الآليات يطلق على الزملات «أمراضا» وتصور تقليديا على أنها أنواع طبيعية.
إذا كانت الزملات الطبنفسية أنواعا طبيعية فقد تساعدنا المتغيرات البيولوجية، مثل المدونات الجينية والاستجابة الدوائية، في فصل واقعها المتبطن لها. يفترض بعض الأطباء النفسيين وبعض السيكولوجيين أنه ما دامت الأمراض الجسمية هي الواقع الوطيد العلم الطب فإنه لكي نكون صائبين علميا فإن علينا أن نفهم الاكتئاب والفصام على أنهما مرضان جسميان. وهما كمرضين لا بد أن لهما عمليات باثولوجية تحتية. مثال ذلك أن الاضطراب الطبنفسي «الخزل العام»
General Paresis
الذي كان وبائيا في يوم ما يمكن أن تتفاوت فيه الصورة الإكلينيكية من زملة بارانويدية إلى زملة اكتئابية إلى زملة عظمة، غير أن العملية الباثولوجية التحتية هي نفسها.
25
والعملية الباثولوجية التحتية هي زهري غير معالج
Untreated Syphilis . ووجود البكتريا الملتوية
Spirochete
ضروري وكاف لتشخيص الزهري.
يرى ستاتس
Staats (1991م) أن من خصائص العلم الناضج والموحد هو القدرة على أن يرى كيف أن الظواهر المتباينة سطحيا هي في الحقيقة مظاهر لنفس الظواهر، تجليات مثلا لعملية باثولوجية تحتية. إن تفسير الفصام والاكتئاب مثلما تم تفسير الخزل العام هو هدف هام بالنسبة للنموذج البيوطبي.
ورغم أن فكرة أن تصور الزملات كأمراض سوف يساعد أهل الصحة النفسية في اكتشاف الأنواع الطبنفسية، فإن الأمراض لا يمكن أن تتصور فقط على أنها كيانات جسمية منفصلة. وفيما يلي سنتفحص مفهوم النوع
Species
ونبين أن علماء البيولوجيا التطورية يرفضون فكرة الحدود المطلقة بين الأنواع. فإذا كانت الأمراض والأنواع لا تعتبر أنواعا طبيعية فالاضطرابات الطبنفسية أيضا ينبغي ألا تعتبر أنواعا طبيعية.
يقول روث وكرول
Roth and Kroll
26 (1986م):
هكذا، مثلا، ليس كل من يتعرض للدرن (السل) يصاب بالمرض في صورته التامة. تعتمد حالة جهاز المناعة على التكوين الجيني للمضيف
host ، وحالته الغذائية، والعدوى الفيروسية التي قد تؤدي إلى زملة نقص المناعة، والتعرض السابق لجراثيم ميكروبية مشابهة، وحالة الإجهاد، وحالة القلق، ومستوى المعنويات ووجود اكتئاب، وتغيرات حياتية كبرى مستجدة، وغير ذلك من العوامل السيكولوجية.
عصيات الدرن شرط ضروري ولكن ليس كافيا لمرض الدرن. توجد العدوى في المضيف، وتنتج العمليات المرضية من التفاعل بين العدوى والمضيف. إنها خواص «علائقية»
Relational
لا خواص باطنة صميمة. ويبين والاس
Wallace (1991م) أن اللاماهوية تتعلق بالعلاج أيضا. فيلاحظ أنه رغم أن الأمراض المعدية هي الأمراض الأكثر ارتكازا فسيولوجيا في علم الطب فإن:
نفس العدوى في مريضين مختلفين قد لا تستجيب لنفس المضاد الحيوي أو مضاد الفيروس.
العدوى الجرثومية المختلفة قد تستجيب لنفس الدواء. ينبغي أن تؤدي بنا ملاحظات والاس إلى الشك في دعاوي بعض الأطباء النفسيين البيولوجيين القائلة بأن كل اضطراب يستجيب للدواء المضاد للاكتئاب لا بد أن يكون تنوعا من نفس الاضطراب.
27
لا يمكن تعريف الأنواع العملية تعريفا تاما في حدود خواصها الباطنة، ومن ثم فإن المعايير الخارجية ضالعة في تعريفها. ويذكر جورنشتاين
Gorenstein (1992م) أننا نخطئ إذ نخلط بين مسألة الأساس البيولوجي لزملات مثل الفصام والشخصية الحدية وبين السؤال عما إذا كانت هذه الزملات أمراضا. فإثبات أن لها أساسا بيولوجيا ليس برهانا على أنها أمراض، مثلما أن إثبات وجود أساس بيولوجي للانبساط
Extroversion
ليس برهانا على أنه مرض. ذلك أن صفة «مرض» تنطوي على تقييم اجتماعي بسوء التكيف، وهي مشكلة مختلفة عن مشكلة تقرير ما إذا كان الفصام موجودا. إن ادعاء أن شخصا ما فيه مرض يعني في الحقيقة أن ثمة شيئا ما غير صحيح ويحتاج إلى أن يعالج. والأمراض، شأنها شأن جميع الأنواع العملية، لا يمكن تعريفها بالتمام بالنظر إلى خواصها الباطنة.
ومثال آخر على دور المعايير الخارجية في تعريف الأنواع العملية هو موقف رابطة الطب النفسي الأمريكية إذ أعادت تصنيف الجنسية المثلية من انحراف جنسي باثولوجي إلى تنوع سوي في التوجه الجنسي. فنحن (في الغرب) لا نزال ننظر إلى المثلية كنوع من السلوك له أساس بيولوجي ولكننا لا نراه مرضا سيء التكيف. بل إن المثليين ليتخذون الأساس البيولوجي للمثلية كدليل على أنهم أسوياء. منذ ثلاثين عاما كان كشف أساس بيولوجي قمينا أن يعد تأييدا لوجود حقيقي لمرض ما. ولكن إذا كان المجتمع لا يريد أن يسمي المثلية مرضا يحتاج إلى أن يعالج فإن أساسها الجيني لن يسمى مرضا.
من الاستراتيجيات الواعدة التي اتخذت لإنقاذ نموذج الفئة التصنيفية
Category
التقليدي أن نستبدل بمفهوم «المرض» مفهوم «الاضطراب». يعرف ويكفيلد
Wakefield (1992م) الاضطراب النفسي على أنه «عسر وظيفي ضار». تشير لفظة «ضار» إلى واقعة أن الحالة لها عواقب سلبية على الشخص، تشمل نقصان الهناءة، معرفة بواسطة القيم والمعاني الاجتماعية. ويشير تعبير «عسر وظيفي» إلى واقعة أن شيئا ما غير حسن قد لحق بآلية داخلية، فلم تعد تعمل بالطريقة التي كانت قد صممت لكي تعمل بها.
28
يتماشى تعريف ويكفيلد مع نموذج الفئة التصنيفية التقليدي في أن «فشل التصميم» و«الضرر» هما، مجتمعين، ضروريان وكافيان لتسمية حالة معينة اضطرابا، حيث فشل التصميم هو العملية الباثولوجية التحتية. يعرف ويكفيلد العسر الوظيفي مثلما كان الفلاسفة التوماويون (أتباع توما الأكويني) يعرفون «الشر»، على أنه حرمان-غياب شيء كان ينبغي أن يكون هناك. إنه ليس «كيانا»
Entity . والتحدي الأكبر في استخدام هذا النموذج هو في تقرير ما الذي ينبغي أن يكون هناك.
يقول بيتر زاتشار إنه غير مقتنع بأن مفهوم ويكفيلد عن العسر الوظيفي الضار مطروح على أنه نوع طبيعي؛ لأن معيار الضرر لا يشير إلى خواص داخلية أو باطنة. فللضرر عند ويكفيلد يعني سيئ التكيف. وما دام سوء التكيف جزءا من معنى الاضطرابات الطبنفسية فإن تعريف الاضطرابات الطبنفسية على أنها مماهية لحالة داخلية ثابتة سيكون غير كاف . لأنه بدلا من تعريف التكيف بوجود سمات ثابتة باطنة، يعرف التكيف بأنه أيما شيء يضفي ميزة تنافسية. فإذا ما تغيرت البيئة المحلية فإن ما يعد تكيفيا يتغير، بحيث إن السمات التكيفية في مواقف معينة قد تكون غير تكيفية في مواقف أخرى. مثال ذلك أنك إن كنت في حالة سيكولوجية من التوجس لأنك تعتقد أن المافيا تحاول أن تقتلك فإن حالتك تعد تكيفية إذا كنت مرشدا للحكومة والمافيا تحاول فعلا أن تقتلك. وهذه الحالة السيكولوجية نفسها تكون سيئة التوافق إذا كنت في «ضلال»
Delusion
والمافيا لا تحاول قتلك. مثل هذه الحالات لديها ما يسميه الفلاسفة «مضمون ضيق»، ولا يمكن تقدير نصيبها من التكيفية بمعزل عن شروط خارجية، وبخاصة المعايير والممارسات الاجتماعية.
حتى فشل التصميم لا يمكن أن يفهم بالإشارة إلى الخواص الداخلية وحدها، بل ينبغي أن نسأل أية بيئة تلك التي يهدف التصميم إلى التكيف معها. إنما يعمل الانتخاب الطبيعي على تفاعلات بين الكائن الحي والبيئة. وإن آليات داخلية واحدة قد تشكل فشلا تصميميا لنوع فرعي
Subspecies
وكفاءة تصميمية لنوع فرعي آخر، بحسب تاريخهما التطوري. فشل التصميم إذن ليس نوعا طبيعيا يتحدد بالنظر فقط إلى خواص داخلية ثابتة.
أنواع الكائنات
Species
ليست أنواعا طبيعية
قد يفيدك، إذا بدا لك النموذج اللاماهوي متساهلا ذهنيا أكثر من اللازم، أن تعلم أن وجود الأنواع الطبيعية مشكوك فيه أيضا في علم الحيوان وعلم الحفريات. يقول هول
Hull (1989م) مثلا إن الأنواع تجريدات إحصائية وليست ماهيات:
قلما يتمكن المرء في أية نقطة زمنية أن يكشف مجموعة من السمات يمتلكها جميع أعضاء نوع ما ولا يمتلكها أي أعضاء في بعض الأنواع الأخرى. وفضلا عن ذلك فإن أعضاء الأجيال المتتابعة لنفس النوع تتصف عادة بمجموعة سمات مختلفة اختلافا طفيفا.
29
إن فكرة التطور نفسها مضادة لفكرة وجود ماهيات ثابتة، أو بنية باطنة ثابتة تحدد جميع أعضاء النوع. لم يعد البيولوجيون يعتبرون علاقة «الفرد-النوع»
individual-species
مماثلة لعلاقة «العضو-الفئة»
member-class
حيث ينتمي الأعضاء للفئة بسبب اشتراكهم في خواص عامة (مشتركة)، وإنما ينظرون إليها على أنها أقرب إلى علاقة «الخلية-المتعضي»
cell-organism
حيث الخلايا الفردة تشيد متعضيا أكبر. وبدلا من لفظة
Organism
فإنهم يتبعون دارون في استخدام لفظة
(السكان/ مجتمع الأفراد). يعرف دارون الأنواع في حدود سكان من أفراد متفردة وليس من أفراد يشتركون في ماهية عامة. و«السكان» منظومة جينية وسلوكية وإيكولوجية يتنافس أعضاؤها فيما بينهم ويتنافسون ككل مع أعضاء الأنواع الأخرى. بهذا الفهم لا تعود الفروق الفردية قصورات أو اختلالات أو مصادفات كما يحلو للماهوي تسميتها، وإنما الفروق الفردية شيء محوري في فهم الطبيعة السائلة للأنواع على المدى الطويل.
ارفع مزايا التقسيم قدر المستطاع وعوض عيوبه
إذا كان فلاسفة البيولوجيا على صواب فينبغي أن يكون منظرو النموذج الطبي قادرين على اقتراح منظومات تصنيفية بديلة لتعريف الزملات، وقد يكون لدى كل منظومة مجموعات مختلفة من الزملات. تنشأ المخططات التصنيفية على مستويات مختلفة من التحليل، متضمنة (على سبيل المثال لا الحصر) المستوى الجيني، المستوى النيوروكيميائي، المستوى التشريحي، المستوى الاجتماعي الثقافي. وقد لا تكون هذه المخططات متشاكلة (يماثل أحدها الآخر في الشكل). وسيكون لكل تصنيف «صدق»
Validity
لأغراض معينة، ولكن لا يمكن أن يسمى أي منها التصنيف الحق.
يفضل البعض النماذج «البعدية» التي تم اكتشافها بالقياس النفسي، وينتقدون النماذج «القاطيغورية» المكتشفة إكلينيكيا لأنها عندهم «بناءات افتراضية»، و«اعتباطية»، و«فئات غير حادثة طبيعيا». يؤكد هؤلاء أن مشكلة المراضة المصاحبة
Comorbility
في ال
DSM
غير مقبولة في منظومة يفترض أنها مكونة من كيانات منفصلة. يومئ هذا النقد إلى أن أبعادهم القائمة على نموذج العوامل الخمسة للشخصية بريء من هذا العيب وأنه سوف يقطع الطبيعة، بطريقة ما، من مفاصلها. فهل هذا صحيح؟
الحق أن هناك ما يدعونا إلى القول بأن مناهج القياس النفسي لكشف الأبعاد السيكولوجية لا تقطع الطبيعة من مفاصلها. صحيح أنه ما إن يتم تعديد بارامترات معينة حتى تبزغ حلول ثابتة نسبيا، ولكن غير البارامترات وسوف تظهر، ربما، حلول مختلفة. ومن البديهي أننا في تقطيع الطبيعة ينبغي ألا نجد مفاصل مختلفة كلما غيرنا السكاكين! وحين ننظر في الأمر تحت عنوان «الواقعية العلمية في مقابل المذهب الأداتي»
Scientific Realism vs Instrumentalism
فإن النماذج البعدية لا تفي هي ذاتها بالمعايير التي يستخدمها أنصارها لرفض النماذج القاطيغورية.
كما أن تسمية العوامل تتطلب أحكاما ذاتية إلى حد كبير. من ذلك أن عامل «حي الضمير»
Conscientious
في نموذج الأبعاد الخمسة للشخصية يمكن أيضا تسميته عامل «يعتمد عليه»، أو «مسئول»، أو «مدقق»، أو «ملتزم»، أو حتى «متزلف»! (مثلما قال لي مرة شاب متمرد من مرضاي). ليست هذه مجرد مترادفات: إنه أشبه بوصف شخص ما بأنه «مرن» مقابل وصفه بأنه «رخو»، أو «متصلب» مقابل «صارم». فللألفاظ المختلفة ظلال مختلفة؛ وليست هذه بأنواع طبيعية.
كما أن ثمة خلطا بين العامل والمقياس المشتق من العامل. إن المقاييس ليست عوامل؛ إن هي إلا بناءات مريحة عمليا.
في أوائل التسعينيات، أثناء وضع ال
DSM IV
اقترحت الأبعاد الخمسة كبديل لفئات اضطراب الشخصية. يقيس ال
NEO-PI
30
خمس سمات: العصابية
Neuroticism ، الانبساطية
Extroversion ، الانفتاح
Openness ، الضمير (الحي)
Conscientiousness ، القبول
Agreeableness . تسمى هذه «الخمس الكبار»، لأنها ظهرت في برامج بحثية كبرى عديدة من التحليل العاملي عبر السنين. وفي مراجعتها لبداياتها التصورية يدعي ماكري وكوستا
McCrae and Costa (1990م) أن ال
NEO-PI
قائم على أوصاف الشخصية الموجودة في اللغات الطبيعية، والتي يسميانها «الحكمة الشعبية»
Folk Wisdom . وهما يدعيان أن جميع السمات الهامة قد تم اختزانها في اللغات الطبيعية عبر القرون؛ ويستخدمان أدلة على اتساق العوامل عبر الثقافات لكي يخلصا إلى أنهما قد كشفا البنية العمومية (العالمية) للشخصية.
مثل هذا القول لن يلقى القبول من جميع الفلاسفة والسيكولوجيين. مثال ذلك أن ألفرد نورث هويتهد (1938م)، فيما يسميه «مغالطة المعجم المكتمل»
Fallacy of the Perfect
، ينتقد الفكرة الخبيثة القائلة بأن «البشر قد خطر لوعيهم جميع الأفكار الأساسية القابلة للتطبيق في خبرتهم .»
الحق أن الخمس الكبار (عند ماكري وكوستا) كانت قبل ذلك «الثلاث الكبار» عندهما (العصابية، الانبساطية، الانفتاح)، ثم قررا فيما بعد أن بنية الشخصية تغيرت وأضافا عاملين هما الضمير والانفتاح، وليس من المستبعد إن شاء أحد التحسين أن يتغير النموذج مرة أخرى.
نموذج اللاتشخيص عند منينجر
من السخرية أن التقسيم البعدي شبيه غاية الشبه بالنموذج المضاد للتشخيص
anti-diagnostic model
عند كارل منينجر
Karl Menninger
الذي ذهب إلى أن الفئات التصنيفية في الكتب الدراسية لا يمكن أن تساعدنا حقا في فهم مشكلات الناس، وأن علينا، بدلا من ذلك، أن نفكر بلغة المقاييس والمساطر: فمن يقع عند إحدى نهايتي المقياس سيكون «سيء التوافق»، ومن يقع عند النهاية المقابلة يكون «متوافقا»، وما إن يدخل الناس في مجال سيء التوافق حتى يفترض أن يساعدهم أهل الصحة النفسية في اكتشاف كيف يحققون قدرا أكبر من حس «السواء».
31
تتطابق هذه التوصية بانسجام مع اقتراح ويديجر
Widiger (1994م) بأن يشرع الممارسون الصحيون بتقدير درجة سوء التوافق ثم يقرروا موقع الشخص على الأبعاد الأساسية للشخصية لكي يفهموا طبيعة سوء التوافق عنده.
يدعي منينجر أن علينا، بدلا من استخدام حالات ثابتة تسمى «كيانات مرضية»، أن نفكر بلغة المواقع المتبدلة على مقاييس متعددة للأداء الوظيفي للشخصية. وفي تواز مثير مع الكريبلينية الجديدة يطلق منينجر على هذه الوجهة من الرأي اسم الجاكسونية الجديدة، نسبة إلى هجلينج جاكسون. وهو يعني بذلك تركيزا على التمييز الكمي (البعدي) بدلا من التمييز الفئوي (القاطيغوري) بين الأنواع المختلفة من المرض النفسي. إن ما يقترح أنصار الاتجاه البعدي الجدد إضافته للطب النفسي الجاكسوني الجديد هو نموذج مؤسس علميا للأداء الوظيفي للشخصية.
سمات الشخصية ذات الأساس الجيني ليست أنواعا طبيعية
قد يقع مفكرو القياس النفسي أيضا، شأنهم شأن بعض الأطباء، في الخلط بين وجود أساس بيولوجي لشيء ما وكون هذا الشيء نوعا طبيعيا. مثال ذلك أن ليكين وتيليجين
Lykken and Tellegen (1996م) يذهبان إلى أن البناءات الشعبية من قبيل السلبية، والسعادة، والإيثار، لها أساس بيولوجي/جيني.
32 (كما تشير ساندرا سكار
Sandra Scar (1987م) إلى أن 24-40٪ منا تفاوت الشخصية ينجم من الوراثة).
33
وبالنظر إلى هذه الكشوف قد يخلص السيكولوجيون إلى أن بعض السمات النفسية موجودة واقعيا كأنواع طبيعية.
ولكن، أولا: فكرة أن السمات التي لها أساس بيولوجي هي السمات الموجودة واقعيا هي فكرة ينبغي أن تكون مزدراة كتحصيل حاصل عند كل مفكر مادي؛ فجميع الحالات المعرفية أو العاطفية لا يمكن أن توجد دون أدمغة. ووفقا للأطروحة المادية «الدماغ بوصفه قواما»
brain-as-substrate
فإن كل حالة سيكولوجية لها ضرب ما من الأساس الجيني. فالسبب في أن الصخرة، مثلا، لا يمكن أن تكتب أو تحب هو أنها لا تمتلك أساسا بيولوجيا للاكتئاب أو للحساب. إن أي سمة (مثل الانبساطية) أو حالة معرفية انفعالية (مثل الاكتئاب) توجد بسبب الاستعداد البيولوجي، وكل جانب من جوانب السيكولوجيا البشرية لها أساس بيولوجي.
ثانيا: أن تقول إن شيئا ما له أساس جيني لا يعني أن هذا الشيء كيان منفصل على مستوى الدنا
DNA . فمثلا السمات الأخرى من مثل التقليدية، التدين، الهناءة، الجنوح، الثبات الانفعالي، قوة الأنا، ومدة مشاهدة التليفزيون ... قد تبين أن لها أيضا أساسا جينيا. ولسنا نظن أن أسلافنا طوروا جينا لمدة مشاهدة التليفزيون! فالميول للاستجابة للاحتمالات التي تقدمها ثقافة المرء لم تتطور وفي البال هذه الاحتمالات.
بالنسبة لمشاهدة التليفزيون يحتمل أن يكون هناك أساس جيني، برنامج تخليق بروتين يخلق جهارا عصبيا ذا استعداد معرفي وجداني يبدأ عملية تفضي في النهاية إلى شخص يكثر مشاهدة التليفزيون إن واتته الفرصة؛ غير أن النقطة النهائية في العملية ليست أساسا بيولوجيا. ويصدق الشيء نفسه بالنسبة لسمات الشخصية، فهي نواتج نهائية ولا يمكن أن ترد إلى معايير باطنة ضرورية وكافية. قد تكون الجينيات ضرورية كبادئة عمليات، ولكنها ليست أسبابا كافية لأغلب السمات.
عندما ننظر إلى سمة ما (مثل الانبساطية) أو زملة ما (مثل الاضطراب ثنائي القطبية) فإن التغاير المتصاحب
Covariation ، السيكولوجي والسلوكي والبيولوجي، يعكس نوعا ما من التنظيم المترابط باتساق شديد بحيث يمكننا القول بأن ثمة شيئا ما هناك، ولا يمكننا البتة رده إلى تغاير متصاحب بيولوجي فقط. ليس ثمة خواص باطنة تجعل السمات والزملات ما هي. السمات والزملات أنواع عملية.
خلاصة
ليس ثمة شروط باطنة للأشياء، ضرورية وكافية، تجعلها شيئا ما كالكرسي. الكراسي ليست أنوعا طبيعية. ولدينا أيضا أسباب كثيرة لرفض الاعتقاد بأن الزملات، والأمراض، وأنواع الأحياء، وسمات الشخصية، أنواع طبيعية. هذه خاصة لأي منظومة فئوية (قاطيغورية) يمكن أيضا أن تعتبر متصلة أو بعدية
Dimensional
لا النموذج الطبي التقليدي ومناهجه لفصل المرض، ولا المقاربة الرياضية للسيكولوجي في التصنيف، نجحت في فصل ما يمكن أن يسمى «أنواعا طبيعية». صحيح أن كليهما اكتشف أنماطا ثابتة هي أكثر من مجرد اختراعات؛ غير أن فكرة واقع باطن منفصل، قابل للتحديد باستخدام التجريب البيولوجي والتحليل الإحصائي المعقد وحدهما هي فكرة مغلوطة. إنا يلزمنا الكثير جدا من المتغيرات والدلائل الأخرى لكي نفرد الأنماط، ومن شأن تبني مناهج أخرى أو أولويات برهانية أخرى أن يغير الأنماط التي تجدها.
يعرض ميهل
Meehl
34 (1986م) مزايا تصور الفئات التشخيصية على أنها مفاهيم مفتوحة، ويعتبر أي استراتيجية أخرى «موبقة علميا»
Scientifically Malignant . فالواقع سيكون دائما أعقد مما تحصره فئاتنا التصنيفية
Categories . فمهما كنا محددين في تعريف اضطرابات مثل الفصام، فسوف يكون علينا دائما أن نعترف باستثناءات، بحالات لا تطابق النموذج. وكلما زاد تحديد المعايير ازادت الاستثناءات التي يمكن توقعها. بوسعنا تجنب مشكلة الاستثناءات باستخدام تعريفات أوسع، ولكن من شأن ذلك أن يقلل الثبات (العول)
Reliability . ليس ثمة ما يسوغ تصور فئاتنا التصنيفية على أنها أنواع طبيعية؛ أي على أنها مفاهيم مطلقة مغلقة. وإنه لأدعم للانفتاح العلمي على الدليل
evidence
أن نعتبر الفئات التصنيفية
Categories
الطبنفسية أنواعا عملية لا أنواعا طبيعية.
Bilinmeyen sayfa