Ömrün Vahaları: Otobiyografi: Birinci Kısım
واحات العمر: سيرة ذاتية: الجزء الأول
Türler
كانت المشكلة على المستوى الشخصي المحض تتمثل في الخروج من مصر، فلم يكن مسموحا لأحد كما ذكرت (باستثناء الضباط) بالسفر إلى الخارج، وكان استخراج جواز سفر حلما بعيد المنال، وأذكر أنني كنت عائدا ذات مرة من الإسكندرية بعد تجديد تأجيل التجنيد وظفري بشهادة التأجيل، حين التقيت بشاب عراقي كان قد تخرج في جامعة القاهرة وسافر وتنقل بعد ذلك في ربوع الدنيا، فجعل يحدثني عما رأى وسمع، وعندما علم بأن الخروج من مصر يتطلب موافقة شخصية من رئيس الوزراء قال لي إن ذلك لو حدث في العراق لأحدث ثورة، ولكنني تذرعت بالجبن (سيد الأخلاق في تلك الأيام) وقلت له إن الظروف التي نمر بها عسيرة، وتقتضي الحذر!
كان لي عدد من الأصدقاء في الجامعة الذين حصلوا على إجازة دراسية أو بعثات رسمية، وكانوا يحاولون محاولات مستميتة الحصول على توقيع علي صبري. وكانت الوساطات تتراوح بين «المعارف» وبين أصحاب النفوذ في الجيش، وذكر لنا أحدهم أن أنور السادات رئيس مجلس الأمة تربطه صلة صداقة عميقة بالأستاذ محمد عبد السلام الزيات، وهو الأخ الأكبر للدكتورة لطيفة الزيات زوجة الدكتور رشاد رشدي، وإذن فلا بأس من الوصول إليه عن هذا الطريق وإقناعه بمخاطبة علي صبري. وقرر سمير سرحان ألا يترك الفرصة السانحة، فذهبنا بخطاب توصية من الزيات إلى مجلس الأمة، حيث قابلني أحد خريجي قسم اللغة الإنجليزية وهو الأستاذ الشوربجي الذي كان يعمل سكرتيرا لأنور السادات، وفوجئنا بالترحيب الذي لقيناه! وبعد تبادل الأحاديث الطريفة عن دمياط (بلد الزيات) وعن رشيد (بلدي) وعن كفر كلا الباب (بلد سمير سرحان، بالقرب من طنطا)، سألنا أنور السادات عن غايتنا، فأوضحنا له أن وزير التعليم قد وافق على سفرنا إلى الخارج، وأننا في انتظار تأشيرة الخروج، وسأل باقتضاب: «ورقكم عند مين؟» ومرت ثوان شابها التوتر ثم قال سمير ببسمة رقيقة: «في مكتب رئيس الوزراء.» وفجأة اربد وجه السادات وقال أو أصدر صوتا غامضا هو: «آه». ومرت ثوان أخرى لم نتبادل فيها الحديث، ثم ابتسم السادات ثانيا وقال: «إن شاء الله خير .. يفعل الله ما يشاء .. مع السلامة.» ونهضنا.
وقال لي سمير ونحن ننحرف في شارع القصر العيني «الواسطة
failure !» وضحكت ضحكة مكتومة. لم أعرف تفسيرا للتغير الذي أصاب ملامح أنور السادات عندما سمع ذكر علي صبري. ولكنني سمعت فيما بعد أنهما لم يكونا على وفاق. وكان الحديث - مجرد الحديث - في هذه الأمور يعرض الإنسان للخطر، فكنا نتجنبه قدر الطاقة، وعلى أي حال، كانت هناك «واسطة» أخرى عن طريق لطفي الخولي هي كمال الدين رفعت، وكان يشاع عنه أنه «منظر» الثورة؛ أي صاحب «النظرية الاشتراكية المفقودة» والتي كان الوسط الأدبي يقول إن محمد عودة ما يزال يبحث عنها! وقررنا الذهاب إليه في مقر عمله بالوزارة المركزية، في مصر الجديدة بالقرب من جروبي روكسي. وفعلا حصلنا على موعد وذهبنا، وكان ذلك في مايو 1964م، ولم يكن الجو حارا لأنني ما زلت أذكر النسائم الباردة التي استمتعنا بها فيما بعد ونحن نحتسي الشاي في جروبي.
لم يتوقف كمال الدين رفعت عن الحديث ساعة أو بعض ساعة، وكان الواضح أنه يستعرض معلوماته أمامنا إما لإبهارنا، باعتبارنا في الجامعة، أو لتأكيد الصورة التي شاعت عنه وهو أنه قارئ ممتاز. والحق أنني شخصيا بهرت بسعة اطلاعه، وإحاطته بشتى نظريات الفكر السياسي المعاصر، أما سمير فكان يحاول أن يقرأ ما بين السطور، وكان من آن لآخر يبدي تعليقا مقتضبا يتضمن الرضا عما يقوله المتحدث، ثم ما لبث أن حول دفة الحوار بسلاسة إلى أهمية العلم، وقال كأنما يبدي ملاحظة عابرة - أو كأنما لم يكن يعرض صلب القضية التي جئنا من أجلها: «احنا عندنا بعثة ومنتظرين السفر للدكتوراه» وهلل كمال رفعت قائلا: «برافو! حتسافروا إمتى؟» وقال سمير: «لما الورق يتمضي» فقال كمال: «مضاه الوزير؟» وأومأنا. فعاد الصمت. ثم قال سمير في صوت حذر: «ناقص رئيس الوزراء». وتظاهر كمال رفعت بالبحث عن التليفون، وترتيب بعض الأوراق، ثم قال: «آه .. يعني على الإمضا؟ لا .. بسيطة .. بكرة يتمضي!» ثم نهض فنهضنا. وانتهت المقابلة.
وعندما دخلنا جروبي لم نتبادل أي حديث. جلسنا نشرب الشاي في صمت. وكان الجو جميلا والزهور رائعة الألوان، وشغلني منظر الطريق الذي تظلله الأشجار، وعربات المترو التي تقف أمام المقهى ثم تستأنف المسير، وجمال الفتيات اللائي يدخلن ويخرجن من جروبي محملات بالحلوى والفطائر، وعندما دفعنا الحساب (عشرة قروش) وخرجنا كانت الساعة قد قاربت الواحدة ظهرا. وقال لي سمير إنه لا بد أن يسجل حديثا في الإذاعة في ذلك اليوم عند عبد المنعم الحفني (في برنامج ركن السودان - ولم أكن قد سمعته في حياتي)، واقترح علي أن نذهب معا؛ فربما كان هناك مجال لتسجيل حديث لي أنا أيضا.
كان أسلوب سمير سرحان في التصدي للمشاكل يبهرني ويحيرني. كيف استطاع أن ينسى كل ما قاله كمال رفعت هكذا، وأن يلقي بالمشكلة خلف ظهره، وأن يفكر في الإذاعة وعبد المنعم الحفني؟ وكنت أجد في ذلك راحة كبرى، وأحاول أن أوطن النفس على تقبله؛ ولذلك ذهبت معه إلى عبد المنعم، وعرض عليه سمير فكرة تقديمي لحديث في نفس البرنامج، فوافق على الفور، ودخلنا الاستوديو، وقرأ سمير الحديث، ثم دخلت بعده وسجلت الحديث دون نص مكتوب، وهمس لي عبد المنعم أنني لا بد أن أقدم نصا في المرة القادمة؛ حتى لا يتعرض هو للمساءلة، واصطحبنا إلى الدور الأرضي حيث وقعنا العقود ومضينا إلى الخزينة وتقاضى كل منا خمسة جنيهات ونصفا، وخرجنا لنبحث عن أفخر مطاعم العاصمة لتناول الغداء!
وعندما التقينا ثانيا في المساء سألنا رشاد رشدي عن نتيجة مقابلة كمال الدين رفعت، وقال له سمير إنه وعدنا خيرا، فلم يعقب؛ فقد كان ما يزال مهموما بموضوع مسرحيته والهجوم عليها، ولكن فاروق عبد الوهاب قال له ملاحظة أبهجته، وهي أن مشهد «مجلس المهندسين» يمكن أن يتحول إلى مسرحية قصيرة من نوع مسرح العبث. وهنا قص علينا قصة هذا المشهد، وكيف أنه استقاه من جلسة حقيقية لمجلس كلية الآداب. ولذلك قصة.
كنت في عطلة الصيف عام 1958م أقرأ باستفاضة عن وليم بليك؛ لأن أحمد مختار الجمال كان مكلفا بكتابة برنامج إذاعي للبرنامج الثاني عن ذلك الشاعر، فأتى إلي ببعض المراجع وقال لي: «أنت طالب مجتهد ومترجم الشعر! حضر المادة العلمية وسوف أحولها أنا إلى برنامج إذاعي جذاب.» وعكفت على أهم مرجع في رأيي وهو كتاب جاكوب برونوفسكي عن بليك، فانتهيت منه وترجمت بعض قصائده نظما (ونشرت بعضها فيما بعد في كتاب فن الترجمة 1992م) ثم قرأت ما يقوله ف. ل. لوكاس عن «سقوط وانهيار المثل الأعلى الرومانسي»، وأعددت المادة اللازمة، ثم وجدت وسط «المراجع» كتيبا بالإنجليزية من تأليف الدكتور شوقي السكري بعنوان «وليم بليك»، فقلت فلأر ما يقوله مصري معاصر، من باب الفائدة.
وعندما فتحت الكتيب وجدت الفقرة الأولى منقولة بالكامل من الفصل الخامس من كتاب برونوفسكي، فاغتظت. وكلما مضيت في القراءة وجدت المزيد من الفقرات المنقولة، ولكنني قلت إنه كتيب لمساعدة الطلبة وليس بحثا علميا، ولكنني عندما قرأت الأبيات التي يستشهد بها وجدتها من تأليف وردزورث، وكنت أحفظها عن ظهر قلب، وسبق لي أن ترجمتها! وأصبت بخيبة أمل في هذا الأستاذ الذي كان ما فتئ يتفاخر بعلمه ويشكو من ظلمه في القسم!
Bilinmeyen sayfa