Ömrün Vahaları: Otobiyografi: Birinci Kısım
واحات العمر: سيرة ذاتية: الجزء الأول
Türler
واتضح في اليوم التالي أن قريب الوزير كان قد عثر على تلك الفتاة في شارع كلوت بك، وهو الشارع الذي كانت له شهرته أيام البغاء الرسمي، وبعد إلغاء البغاء اختفت الصورة طبعا، وإن كانت الفنادق الرخيصة ما تزال قائمة، وكان بعض الذين كانوا يعملون في ذلك المجال البغيض، من رجال ونساء، ما يزالون في قيد الحياة، ولم يكن الإلغاء قد مر عليه أكثر من 12 سنة، ومن المحال في تلك السنوات أن يتغير وجه الحياة تغيرا جذريا. وهكذا صاحبها الفتى، أو اصطحبها، بعد أن أخبرته أنها هاربة من أهلها في الصعيد، وتبحث عن مأوى في القاهرة، وجاء بها إلى العوامة حيث أعلن للجميع أنه يحبها ولن يسمح لأحد بالاقتراب منها، ويبدو أنها كانت كاذبة لأنها خرجت واتصلت تليفونيا بأهلها (إما في القاهرة أو في الصعيد)، وعندما حضر الوالدان قالت لهما إن علي سليم هو الذي «تزوجها» وهو حبيبها، ولم أعرف لماذا اختارته دون سواه، ومن ثم كان النقاش الذي شهدته ذلك المساء يدور حول اختيار أحد الحلين المتاحين: إما القتل (بسكين حامية أحضرها الوالد خصيصا)، وإما الزواج رسميا. وكان الاختيار الثاني أهون الشرين، وهو حل على مرارته لعلي سليم أقل إيلاما من حد السكين. ومن ثم تمت مراسم الزواج، في الليلة نفسها، وبات علي معرسا بعروسه الصغيرة. وكنا على أبواب رمضان، وعندما دخل شهر الصوم، التزم الجميع بالصمت، وكان من المشاهد المألوفة رؤية العريس يحمل طبقا من الفول وبعض حزم الجرجير والطورشي (كلمة فارسية محضة) عائدا في ساعة الإفطار إلى العوامة.
ولم أتابع أخبار الزواج بعد ذلك، وتوقفت عن دفع اشتراكي في إيجار العوامة، وانهمكت في الانتهاء من ترجماتي بعد أن قنعت بالعودة إلى كازينور على شاطئ النيل في الجيزة، بل كنت أتحاشى المرور أمام العوامة؛ خوفا وخجلا، ولم يلبث علي سليم أن اختفى وانقطعت أخباره.
ولكن الدافع على الاستقلال بمكان أعمل فيه وحيدا كان ما يزال ملحا، فكنت أتطلع إلى الشقق الخالية وبي حسرة؛ فأقل إيجار ستة جنيهات، وتجهيز الشقة يتكلف الكثير، ومع انقضاء الشتاء وحلول الربيع، برزت بوادر تغيير كتب لها أن تظل معي إلى الأبد.
ظهر في أبريل 1961م كتاب «الرجل الأبيض في مفترق الطرق» وهو أول كتاب يحمل اسمي باعتباري المترجم وإلى جانبه اسم عثمان نوية (رحمه الله) باعتباره المراجع، وكان يعمل في مكتب أمين شاكر، وهو ضابط قيل إنه مدير مكتب جمال عبد الناصر، أو أحد مديري مكاتبه، وكان يشرف على إصدار المجلات التي يحررها رشاد رشدي، وكان قد كون جمعية وهمية اسمها جمعية الوعي القومي لا تضم أحدا من أعضائها، ولكنها تحصل على مخصصات سخية لنشر الكتب (من رئاسة الجمهورية طبعا). أما عثمان نوية فكان مترجما فحلا، جزل العبارة ناصع البيان، وكان مكتبه ملتقى لكثير من أساتذة العربية الذين ارتادوا دراسة علم اللغة الحديث، مثل الدكتور تمام حسان، وكثير من المترجمين المبتدئين الذين قضوا فترة التجنيد في ذلك المكتب، واستطاع أحدهم وهو من خريجي قسم اللغة الإنجليزية (واسمه عبد العزيز عليوة) أن يلتحق فيما بعد بالسلك الدبلوماسي.
وغداة ظهور الكتاب ذهبت إلى مكتب عثمان نوية لأحصل على بعض النسخ وعلى الأجر أيضا، وقابلني بالبشر والترحاب وقال لي لقد أعددت الاستمارة الخاصة بالدفع، وسوف تحصل على النقود من الخزينة في الطابق الأرضي. ودخل بالاستمارة التي كانت تقدر الأجر بأربعين جنيها (160 صفحة) وهو تقدير مجحف، فإذا كانت الكلمة بمليمين، كان ينبغي أن أتقاضى 66 قرشا لا 25 قرشا، وعندما هممت بالاعتراض همس قائلا: «احمد ربنا!» ولكنه عندما عاد بالاستمارة بعد توقيعها وجدت أن أمين شاكر قد خفض المبلغ الكلي إلى 25 جنيها! ومعنى هذا أن الكلمة قد حسبت بنصف مليم تقريبا، ولم أعترض هذه المرة وهبطت إلى الطابق الأرضي وحصلت على المال وانصرفت.
وفي غمار فرحتي بالنقود نسيت الظلم، وانطلقت في طول القاهرة وعرضها أنفق ذات اليمين وذات الشمال، وانتهى اليوم والأيام التالية وأنا أحلم بتكوين ثروة، وساعدني على ذلك إعجاب الأساتذة ممن قرءوا الكتاب بأسلوبه السلس، وسرعان ما جاءتني العروض بترجمة المزيد من الكتب، فعرض علي الدكتور عز الدين فريد، وكان مستشارا ثقافيا لمؤسسة فرانكلين ودار الجمهورية للطبع والنشر، ترجمة رواية «حد الموسى» لسومرست موم، وقرأتها فوجدتها بالغة الطول حافلة بالمغامرات الجنسية؛ مما يجعل ترجمتها عسيرة بل وشبه مستحيلة، ورأيت أن الجهد المبذول في تلافي العبارات الصريحة لا يقابله أجر مادي واضح، ثم عرض علي رياض أباظة مسئول الترجمة في مؤسسة فرانكلين، بناء على توصية من عثمان نوية، ترجمة أشياء أخرى، وكنت ما أزال أعمل في ترجمة «درايدن» التي كلفني بها مجدي وهبة، فكان عملي بالترجمة لا يكاد يتوقف.
وكان من بين من تخرجوا آنذاك عبد العزيز حمودة في عام 1960م (الدكتور) وعايدة الشعراوي 1961م (الدكتورة) اللذان عملا مدرسين للغة الإنجليزية بالقسم، مع الذين سبق ذكرهم من خريجي عامي 1957م و1958م. وكان عبد العزيز مجدا ومجتهدا، وكان أمين الشريف الأستاذ الذي انتدب لتدريس الترجمة في العام التالي لتخريجي معجبا به وبغيره من النبهاء مثل أحمد عبد الوهاب الغمراوي (الدكتور) رحمه الله، وجانيت وهبة سوريال عطية (الدكتورة) التي أصبحت من خيرة المترجمين إلى الإنجليزية هذه الأيام، وهي تعمل أستاذا في قسم اللغة الإنجليزية بجامعة عين شمس. كما تخرج شاب نابه عام 1960م اسمه أحمد كمال الدين عبد الحميد، عمل في الإذاعة هو الآخر ثم عين مدرسا للغة الإنجليزية بالقسم. وباختصار كان عام 1961م يشهد تغيرا هائلا في عدة مجالات؛ فعلى مستوى العمل الأكاديمي كان القسم يزخر بالشباب، وعلى مستوى الدولة كانت بعض الصعاب قد بدأت تلوح في الأفق؛ إذ برزت خلافات بين القيادة المصرية للجمهورية الموحدة التي تضم مصر وسوريا، وكان اسمها الجمهورية العربية المتحدة، وبين القيادات المحلية السورية، وبدأت بعض الأحلام في اكتساب ثوب واقعي، مثل بناء الجيش القوي وبناء القاعدة الصناعية، وبدا أن اهتمامات الناس بدأت تختلف؛ فكان نبض «الشارع المصري»، كما يقولون، ساخنا دفاقا ووضعت القيادة السياسية كتابا اسمه ميثاق العمل الوطني، ودعت إلى تشكيل مؤتمر شعبي يكون بديلا في دولة «الكفاية والعدل» عن أشكال التمثيل البرلماني الغربية؛ أي صورة الديمقراطية الغربية، وكانت الفكرة أن يكون مبنيا على أساس تمثيل «القاعدة الشعبية» أي مشاركة الجميع في الحزب الوحيد آنذاك، وهو الاتحاد الاشتراكي لقوى الشعب العاملة، كما كان يسمى، وقال جمال عبد الناصر في إحدى خطبه في صيف 1961م «دقت ساعة العمل الثوري»، فتحولت إلى نشيد جميل ينشده عبد الوهاب، وأصبحت الإذاعة منبرا لأعذب الأحاديث عن الكفاية والعدل والتصور الجديد للمجتمع، وهو تصور بديع مثالي، لخصته أغاني العبقري الراحل صلاح جاهين، مثل «صورة» و«بالأحضان»، وأغاني أم كلثوم مثل «ثوار»، وغير ذلك من إبداعات كبار الموسيقيين، وعلى رأسهم عبد الوهاب والسنباطي.
لم يكن من الممكن الانعزال عن الإحساس بأن مصر تشهد تحولا تاريخيا، وإن كنا نسمع في الدهاليز شائعات كثيرة، كان الشعب يتناقلها دون أن تصل إلى أجهزة الإعلام أبدا، وبحلول يوليو 1961م وقع حدث بالغ الأهمية، وهو صدور قوانين يوليو الاشتراكية، التي حددت مسار العمل الوطني في طريق جديد يعطي للدولة حق امتلاك «أدوات الإنتاج» مما استدعى الاستيلاء على مصانع ومتاجر الرأسماليين جميعا، ووضع أموال جميع من يملكون أسهما أو سندات أو نقودا سائلة في البنوك «تحت الحراسة»؛ أي إيكال إدارتها للدولة ومنح أصحابها مرتبات تكفي لبقائهم في قيد الحياة، ونشرت صحيفة الأهرام صفحات كاملة بأسماء من يملكون مثل هذه «الأصول الاقتصادية»، وكان رد الفعل بين الفقراء مضمونا، وهو الحسد والغيظ و«الحقد»، بينما كان رد الفعل بين الآخرين غير معروف، خصوصا أساتذة الاقتصاد ورجال الفكر السياسي، فكان الشك ينتاب هؤلاء إزاء سلامة استيلاء «الحكومة» على أموال الشعب بحجة إعادتها للشعب.
ولما كنت أنتمي إلى أسرة من التجار والصناع، فقد أضير بعض أفراد أسرتي ممن «سلبت» أصولهم الاقتصادية مثل مضارب الأرز والمطاحن والمخابز (مطحن زوج عمتي، ومضرب زوج خالتي)، أو مثل المتجر الذي كان يملكه خالي عبد الحليم بدر الدين، وفي الجامعة كانت الصدمة الحقيقية هي تلك التي تلقاها الدكتور مجدي وهبة؛ إذ أصبح لا يملك التصرف في أمواله، وبطبيعة الحال لم أعد آمل أن أحصل على باقي أتعابي من ترجمة درايدن، ولكنني واصلت العمل في الترجمة حتى اكتملت، وتخرج في ذلك الصيف سمير سرحان (الدكتور)، وفاز بالمركز الأول على دفعته، وسرعان ما قبل العمل مدرسا في مدرسة زراعية في بنها، كانت تقتضي منه أن يستيقظ في السادسة صباحا لإدراك القطار، ثم العودة في الظهيرة إلينا - أي إلى الشلة القديمة - لكي نخطط آمالنا وأحلامنا.
كان سمير سرحان «دينامو» بمعنى الكلمة، طاقة جبارة مبدعة، يلتقط الأفكار بسرعة ويحيلها إلى مشروعات بسرعة أكبر، وكان إلى جانب موهبته الفنية شعلة من الذكاء، ولكنه لم يكن يتردد في مخاطبة من هم أكبر منه سنا بأسمائهم المجردة، ومخاطبة (الدكتور) دون ذكر اللقب، مما كنت أدهش له ولا أقدر عليه! وتحولت لقاءاتنا بسرعة إلى خطط عملية للكتابة في الإذاعة، وكان خريف 1961م هو خريف ازدهار إبداعنا الإذاعي - الذي كان يضم التمثيليات والأحاديث وملخصات الكتب - وكان يطمح في بداية ذلك الخريف في التعيين في القسم، ولا غرو؛ فهو أول الدفعة، ولكن ذلك كان يقتضي إقناع رشاد رشدي، فذهبت إلى رشاد رشدي ذات مساء وطرحت عليه القضية العامة، فأدرك مرماي وقال لي «من تعني؟» فذكرت له سمير، فقال: أخشى أن يكون شيوعيا، فأكدت له أنه ترجم كتاب «سبعة أفواه» (وهو مجموعة قصص لمكسيم جوركي وآخرين) من باب كسب الرزق فحسب، دون إيمان بذلك المذهب السياسي، فبدأ سمير العمل معنا في قسم اللغة الإنجليزية، وتوثقت صداقتنا فكنا لا نفترق، إلا في الصباح أثناء وجوده في بنها؛ إذ لم تكن إجراءات تعيينه قد تمت بعد. أما في المساء فقد كانت لنا جلساتنا العلمية والأدبية، فكان يدرس السنة التمهيدية للماجستير، وكنت أنا أقرأ شعر وردزورث بنهم، وبعد الانتهاء ربما خرجنا للسير مسافات طويلة نناقش فيها المستقبل.
Bilinmeyen sayfa