Ömrün Vahaları: Otobiyografi: Birinci Kısım
واحات العمر: سيرة ذاتية: الجزء الأول
Türler
كانت الأساطير الرشيدية كثيرة، وكان معظمها يتخذ صورة الحوار، وبناء المشهد، تماما مثلما يحدث في روايات السلف بالفصحى (أو بالعامية) وقد أدى بعدي المكاني والزماني عن رشيد إلى استرجاع بعض هذه الأساطير وإعادة بنائها في خيالي؛ مثل أسطورة الحرب بين قبلي وبحري؛ أي الصراع على زعامة البلد بين رجال «الحي الجنوبي» ورجال «الحي الشمالي»، ولا شك عندي في أن هذه الحرب لم تقع، وأن ما حدث فعلا لم يتجاوز الصراعات المعتادة بين أهل الصناعة في الجنوب وأهل الزراعة في الشمال، وكان يرمز لتصالحهم بموكب «الأشاير» الذي يطوف البلد في يوم رؤية هلال رمضان؛ إذ يخرج من حي قبلي موكب يضم رموزا للحرف والصناعات، إما على عربات مخصوصة أو على ظهور الإبل والبغال والخيل، ثم ينضم إليهم في شارع السوق رجال يمثلون الزراعة والمنتجات الزراعية، ثم يقفون عند مبنى المحكمة حيث ينزل شخص يمثل «الخليفة» يتقدمه المنشدون، وكان الخليفة دائما ملثما، مما كان يخيفني طفلا، ووراءه بعض المحنكين (أي الذين يخفون أفواههم بمناديل كبيرة)، ثم عدد من المرابطين، وقد فسرت ذلك كله فيما بعد بأنه من تراث الفاطميين في مصر، فتلك عادات من شمال أفريقيا في الغرب، وكان الكثيرون من أهل رشيد يحملون لقب المغربي (إلى جانب الشامي والحجازي والعكاوي والتونسي ... إلخ) إلى جانب لقب مهم؛ هو لقب القاضي الذي قيل لي إنه يرجع إلى كل أسرة تولى ربها مهمة القضاء.
وسواء كانت «الأشاير» تعني الإشارة إلى بدء شهر الصوم، أو كانت تحريفا لكلمة «البشاير» (البشائر)، أو كانت كلمة دخيلة؛ فإن الموكب كان ينتهي في الشمال (في حي بحري) عند مسجد «سيدي النور» حيث يعقد مشهد تمثيلي يسأل فيه الخليفة القاضي هل رأيت الهلال؟ فيجيب بالإيجاب، وهل يسود السلام والوئام؟ وهل يؤذن منذ هذه اللحظة بحبس الشياطين؟ ومن ثم توقد المشاعل، ويصلي الناس المغرب، و«يسهرون» في انتظار صلاة العشاء، ثم ينامون ليستيقظوا في السحر لتناول السحور وانتظار الفجر! ألم يكن ذلك كله يتضمن عناصر مسرحية من لون ما؟
ومن السمات التي اختفت من رشيد الآن، بسبب التوسع العمراني، واختلاف نمط أو أنماط الحياة القديمة، الإحساس بكل غريب عن البلد. فكل قادم من خارج رشيد ينظر إليه كأنما هو «أجنبي» ولكن دون ريبة أو حذر. وكان من طقوس تدشين «الأجانب» زيارتهم لنادي الموظفين على شاطئ النيل، ثم جلوسهم على المقاهي مع أهل البلد، ولا تكتمل «مراسيم» التدشين إلا بارتداء الجلباب الرسمي «الجلابية المصرية» والصلاة في جامع المحلي (إذا كان «الأجنبي» مسلما طبعا ) مع سائر أبناء البلد! وكنت في تلك الأيام أسترجع صورا لبعض «الأجانب» الذين استوطنوا البلد ورفضوا الرحيل، على عكس ما كان الجميع من الناشئة يفعلون أو يتمنون لو فعلوا.
وكنت في عام 1960م كثير التردد على عبد اللطيف الجمال الذي كان قد انتهى تقريبا من رسالة الماجستير، وبدأ ينشد الرزق في الترجمة، فصحبني ذات يوم إلى مبنى قيادة الثورة، حيث كان الدكتور رشاد رشدي يعمل رئيسا لتحرير مجلة عربية اسمها بناء الوطن، ومجلة إنجليزية اسمها «ذا أراب ريفيو»، وكنا آنذاك لا نتحدث إلا عن القومية العربية وعن أمجاد الوحدة، ولا نكاد نعرف ما يدور في سوريا، بل كنا نلتقي مع أبناء الشام في كل مكان، وكنا نعشق اللهجة السورية (وما نزال)، وأذكر يوما كنت في زيارة الجمال وكان ريفيا من إحدى قرى المنوفية، بينما كانت سمية أحمد مختار الجمال من دمياط، فقابلت تاجرا سوريا يقيم في الشقة المجاورة، وكان يبحث عن طبيب لوالدته المريضة، فاصطحبته إلى أحد الأطباء، وأنا أشعر كأن أقاصيص كتاب «الأغاني» قد بعثت من جديد!
كانت غربته في القاهرة مثل غربة أي قاهري أو سكندري في رشيد، وسرعان ما توطدت بيننا الصداقة فكان يأتي إلى زيارة عبد اللطيف الجمال، وكان يحكي لنا عن الحياة في دير الزور (حيث تقيم أسرته الكبيرة) فأحس بالتناقض الشديد بين الحياة الريفية البدوية فيها وحياة العاصمة، وسرعان ما اكتسب بيننا لقب الديري (لا الشامي)، وكانت قصصه ممتعة، وإن كانت تتميز بخشونة الطبع والجد الشديد، وربما كان ذلك سبب إعجابه بميلي أنا والجمال إلى الضحك وإطلاق النكات، ووجدت نفسي ذات يوم أكتب تمثيلية للإذاعة عن «الزيارة» (هكذا كان عنوانها)، وفرح بها مصطفى أبو حطب (الذي كان تخرج في قسم اللغة الإنجليزية وحصل أيضا على دبلوم معهد التمثيل)، وكانت المشكلة عند إخراج المسرحية هي محاكاة لهجته «الديرية»، فصحبته إلى دار الإذاعة، حيث تحدث طويلا مع المخرج، وانصرفنا بعد أمسية ممتعة!
وبدأت أترجم إلى الإنجليزية في مجلد رشاد رشدي، وكان سخيا، يدفع عشرين جنيها في القصة المترجمة، أو في الموضوع المترجم، ووجدت أن العمل بالترجمة أجدى علي من قرض الشعر، فذهبت إلى الدكتور شكري عياد في منزله القديم في العجوزة، وأعطيته مجموعة كبيرة من شعري، ووعدني بقراءتها وحدد لي موعدا بعد أيام. وعندما زرته في الموعد المحدد كان يرتدي جلباب المنزل ويقرأ قصصا رومانية مترجمة إلى الفرنسية، فوضعها جانبا وقال لي: «أنا لا أنصحك بترك الشعر، ولماذا تخاف من صلاح عبد الصبور أو من حجازي؟ لكل شاعر مذهبه وقراؤه! وأنا لم أتوقف عن كتابة القصة القصيرة، دون اعتبار للمكسب المادي، وبالأمس أرسل لي رشاد رشدي شيكا بعشرة جنيهات؛ ثمنا لقصة ترجمت إلى الإنجليزية ونشرت لديه في المجلة!» وتذكرت أسئلة عبد اللطيف الجمال لي في بعض الكلمات العربية في قصة شكري عياد وعنوانها «الكوالنجي» - أذكر منها «ملامح حادة» إذ كان يريد ترجمتها بعبارة
angular
وكنت أفضل
sharp (صفة ل
features ) وما زلت حائرا أيهما أدق وأيهما أقرب إلى مقصد الكاتب، وكان شكري عياد قد وضع علامة «ع» أمام كل خروج عن البحر؛ إذ كان لا يرضى لي أن أمزج البحور في تلك المرحلة المبكرة من كتابة الشعر، ونبهني إلى ضرورة الوعي بالقارئ؛ فمعظم قرائي ممن يعرفون أصول النظم، ولا داعي لاستعدائهم بأي خروج عن الأصول في هذه القصائد الأولى.
Bilinmeyen sayfa