إن ديانة العرب التي ألفوها لم تكن مهيمنة على نفوسهم ومشاعرهم ، بل كانت ضعيفة الأثر قليلة الخطر، ولكنها كانت دين سوادهم على كل حال، فإذا كان من الحق علينا أن نعترف أن المستنيرين منهم لم يؤمنوا بتلك الأرباب، فمن الحق علينا أن نقرر أيضا أن عدم إيمانهم بها لم يكن كافيا للقضاء عليها.
والحق أن أحدا لم يكن مضطرا إلى العقيدة، فقد كان البدو لا يبالون أن يسخروا حتى من أربابهم التي يعبدونها، ولا يترددون في إلحاق الأذى والضرر بها بقلوب جد مغتبطة، بيد أن القضاء - بعد كل هذه الاعتبارات - على عبادة كان يدين بها أجدادهم وآباؤهم من قبل، كان يثير في نفوسهم كبرياءهم القومي، أنفة من أن يتركوا دين أسلافهم الذين كانوا يفردونهم بكل إجلال وإكبار.
وجماع القول أن الديانة كانت في نظر العربي القديم - كما هي في نظر البدو في أيامنا هذه - أمرا لا خطر له؛ وآية ذلك أن شعراء الجاهلية لا نكاد نراهم يذكرون دينا أو عقيدة في أشعارهم، ولو فتشنا أناشيدهم لم نر فيها - إذا استثنينا أسماء الآلهة، وبعض الشعائر المختلفة - إلا عبارات مقتضبة لا تكاد تعثر فيها على ذكر لعبادتهم القديمة.
لقد عاش العرب للحياة الحاضرة، ولم يشغلوا أذهانهم بشيء من مسائل ما وراء الطبيعة، وكان مؤمنوهم يتابعونهم في ذلك الشعور ويصدرون عنه.
ومع كل هذه الاعتبارات، فقد وجدت لهذه القاعدة شواذ - شأن كل قاعدة - فإن وجود جماعات شتى من متألهي العرب الذين يدينون بوحدانية الله، وإن اختلفت وجهاتهم، وتباينت نحلهم - لتدين بعضهم باليهودية أو المسيحية - كان أمرا له خطره عند العرب، وله أثره في نفوسهم، إذ كان أولئك المتألهون لا يفتئون يبثون عقائدهم فيمن حولهم من العرب. (10) الحنيفية
ومن ثم رأينا في أواخر القرن السادس الميلادي لبعض الشعراء دلائل وآثارا لإيمان عميق بوحدانية الله، ورأينا منهم شعورا يقظا بالنبعة المترتبة على ما تصنعه أيديهم من خير أو شر، وهذه الفئة - التي ترى هذا الرأي - هي طائفة الحنفاء،
31
وقد كانوا في شتى الأنحاء لا تربطهم أية آصرة ولا تضمهم مذهب بعينه. كما تفعل الصابئة المنتسبون إلى إبراهيم الذين كانوا يسمون أنفسهم الحنفاء أيضا!
وكان لهاتين الطائفتين - من الحنفاء - رأى واحد في رفض اليهودية والمسيحية معا والاعتراف بدين إبراهيم، وإبراهيم هذا - الذي عرفوه من اليهود والنصارى - هو الأصل الذي ينسبون إليه، فهو والد جدهم إسماعيل، وهو الذي بنى الكعبة في مكة.
وكانت شريعة الحنفاء سمحة رشيدة، واضحة المحجة، سهلة الإقناع لهؤلاء العرب العمليين، وهي في جوهرها صالحة لأن تكون دين العرب قاطبة، ولم يكن ينقصها - لبلوغ هذه الغاية - إلا أن تكون عقيدة ثابتة مستقرة، وأن تكون لها هيئة روحية ذات سيادة دينية، وأن تكون منزلة من السماء، أو تفهم على أنها كذلك. •••
Bilinmeyen sayfa