فإذا تركنا ذلك إلى سواه رأيناهم يعظمون الجن ويمجدونهم، وقد دفعتهم إلى ذلك صحاريهم وجبالهم التي كثيرا ما يضلون فيها أسابيع كاملة؛ فيتمثلون رؤية هذه العوالم الغريبة، ويقوي في نفوسهم هذه التصورات ما يكابدونه فيها من ألم الجوع والعطش، وما يحتملونه من شمس الصحراء المحرقة، وهوائها اللافح، وسوافها المهلكة، هذا إلى ما يعانونه من تقلبات الجو الفجائية، حتى ليصل بهم الروع إلى حد أن يتخيلوا أنهم يسمعون أصوات الجن ويبصرون ذواتهم في أشكال عدة وعلى صور شتى، منها السخيف ومنها المعجب،
7
وكانوا يعتقدون بأن أجسامهم تشغل جزءا من الفضاء - كما تشغله أجسامنا - وأنهم ينتشرون، ولكنهم يختلفون عنا في تكوينهم؛ لأن أجسامهم مخلوقة من النار أو الهواء،
8
ومن ثم لا تراها العين الإنسانية إلا شذوذا، وفي قدرتهم أن يأتوا كثيرا من ضروب الشر والخير، ومن كانوا كذلك فقد وجب عليهم أن يتحببوا إليهم ويمجدوهم ويقدسوهم. ومما سهل عليهم الوصول إلى تحقيق هذه الغاية اعتقادهم أن لكل جني موطنا خاصا به، فهذا في حجر، وذلك في نصب، وثالث في شجرة.
9
وكانت تجمع قبيلة - أو عدة قبائل أحيانا - على تمجيد جني بعينه، وتكل العناية به إلى أسرة بعينها منوط بها أمر رعايته وتلبية رغباته، وكانت هذه الفئة تقوم بحراسته وتعظيم شأنه؛ سواء في الحجر أو الشجرة، أو الصورة التي تمثله، كما تؤدي له حقه من المراسم الكهنوتية؛ والطقوس الدينية التي تقيمها في محرابه، وربما سمع لذلك النصب صوت - كما يحدث ذلك في كثير من الأحيان - ومن الواضح أن الكهنة القائمين بحراسة الوثن قد مرنوا بالحيلة على إحداث تلك الأصوات لإيهام الناس أنها تتكلم - وكان لكل منها صوت خاص به يميزه عن غيره - وكان العرب يعدون ذلك من الخوارق والمعجزات التي يعزونها إلى أوثانهم.
كذلك كانت تحرص كل قبيلة على صنمها، وتشيد بذكره وتفرده بأقصى ما تستطيع من حب؛ لأنها ترى فيه نوعا من الملكية. وكان الكهان ينضحون عنه، ولا ينون في طلب القرابين لذلك النصب، وإن كانوا - على الحقيقة - يطلبونها لأنفسهم ويجرون المغانم لهم باسم الله تعالى.
هذا ما نستطيع أن نستخلصه بسهولة من القرآن وأقوال المفسرين على وجه الإجمال، على أن أحد المؤرخين الذين تخصصوا في درس ترجمة حياة النبي يعزون ذلك إلى قبيلة «خولان» وحدها، وهي التي كانت تقطن اليمن في ناحية منه تعرف باسمها.
وكان من عادتهم، حين تقدم القرابين إلى الآلهة - وهي من البر أو الفصال
Bilinmeyen sayfa