أينصفه عدوه الذي يرى كل حسنة من حسناته، ومفخرة من مفاخره سيئة يلومه عليها، وجريمة يندد بها؟! أينصفه حاسده وهو يرى في نجاحه أكبر نكبة تحيق به وتضيع آماله، ولا يرضى عنه إلا إذا تساوى معه في العجز والفشل؟!
إن العيب الذي يؤخذ على الصديق هو أن يغفل عن تنبيه صديقه إلى مواطن الضعف والزلل، وهو جدير - إذ يفعل ذلك - بأن يسجل له مغتبطا المزايا الباهرة التي يراها فيه، وإنما يعاب على الصديق أن تغطي الصداقة على عيوب صديقه فلا يراها، وهو جدير أن يكون لصديقه مرآة صافية تريه محاسنه وعيوبه - على السواء - «فإن المرء لا يرى عيب نفسه» كما يقولون. بقيت ثمة ملاحظة لا أرى بدا من الإفضاء بها إلى القارئ؛ وهي أن الصداقة التي تجر إلى الإعجاب غير الإعجاب الذي يجر إلى الصداقة، وأنا ممن يعجبون بالرجل أولا ثم يصاحبونه؛ فإعجابي بمزاياه الباهرة هو أساس صداقتي معه وليست صداقتي معه هي أساس إعجابي به، فإذا سجلت لصديقي شيئا من ميزاته فإنما أسجل رأيي فيه الذي ارتأيته قبل أن أتخذه لي صديقا وصاحبا وأخا، ثم لم أتحول عن هذا الرأي بعد مصاحبته. وهذه كلمة لا بد من الإفضاء بها إلى من يخلطون بين واجبات الصداقة وواجبات النقد الأدبي النزيه الذي يحترم الأصول الفنية.
وإنا لنسجل على أنفسنا التقصير والعقوق إذا لم نشد بعبقرية شاعر فذ وأديب متفنن ألمعي، لا لذنب إلا لأنه من معاصرينا، تاركين لأعقابنا الاعتراف له بحسناته في الوقت الذي لا ينفع أدبنا العصري هذا الاعتراف بعد أن عققنا أدبه وتغاضينا عن حسناته.
وإذا كان أدباؤنا الممتازون الذين حرموا نفوسهم كل لذات الحياة ومبهجاتها - في سبيل إنهاض الأدب، وخدمة اللغة والعلم والفن جميعا - لا يجدون منا كلمة إنصاف، ولا يرون إلا جحودا ونكرانا للجميل، فما أجدرنا حينئذ بلقب غير هذا اللقب السامي - لقب الأديب - الذي يرى أول واجباته انتصار الأديب للأديب «وفرحة الأديب بالأديب!»، ويدين بقول أبي تمام:
أو نختلف يوما يؤلف بيننا
أدب أقمناه مقام الوالد
وإني لأكون ساخرا بنفسي وبالقراء معا إذا حسبت أن إلمامة موجزة كهذه تكفي لتحليل أبي شادي، والتنويه بفضله على العربية وعلى الأدب وعلى العلم وعلى الفن، وقد أبلى في كل هذه جميعا بلاء حسنا، وكان الرائد الجريء، وهذا ما يعترف له به النقاد قبل مريديه، وما ظنك برجل أيسر إنتاجه أكبر وأجدى مما أنتجه أي فرد من خصومه الزارين عليه المتظاهرين بتحقير جهده الفذ؟! ما بالك برجل يكون أيسر تآليفه عدة أوبرات يختط بها - في الشعر العربي - طريقا واضحة ميسرة معبدة غير ملتوية ولا معوجة مما أكبره أعلام المستشرقين؟!
ولو استطاع أحد خصومه أن ينظم واحدة من هذه الأوبرات العديدة - «كإحسان» و«الآلهة» و«أردشير» و«الزباء» و«بنت الصحراء» و«إخناتون» - لكانت بيضة الديك، ولملأ الدنيا بها فخرا ومباهاة!
ثم يكون من آثاره تآليفه القيمة في علم النحالة (apiculture)
التي خدم بها اللغة والعلم والاقتصاد الزراعي معا، واشتهرت عالميا، وكتاب «الطبيب والمعمل » - في زهاء ألف صفحة - يطوع فيه الألفاظ العربية تطويعا لم يسبقه إليه غيره من أساطين فن الطب إلى الآن:
Bilinmeyen sayfa