186
ويثوب إليهما الهدوء قليلا قليلا، ويستسقيانه فيأبى عليهما. واستحضر في نفسه الشاة الجذعة التي لا عهد لضرعها باللبن، ثم رأى ضرعها يحفل،
187
ورأى اللبن يشخب منه في تلك الصخرة الجوفاء. ثم استحضر ذوق ذلك اللبن الذي شربه، فلم يذكر أنه شرب مثله قط، وحاول أن يذكر ذلك الكلام الذي دعا به الرجل ذو النظر المطمئن وهو يمسح ضرع الشاة فلم يذكر منه شيئا؛ فهاله ذلك، ورابه من نفسه كلها ريب،
188
فلم يحرص قط على شيء حرصه على أن يحفظ ذلك الكلام، وكان عهده بنفسه ألا يسمع شيئا إلا استقر في قلبه كأنه نقش فيه نقشا، فيقول الفتى لنفسه: إن لهذا الرجل ذي النظر المطمئن وصاحبه وكلامه لشأنا.
وقد طال مكث الفتى بهذا المكان ساكتا ساكنا يدير طرفه من حوله، ثم يقلب طرفه في السماء لا يكاد يفكر في شيء، أو لا يكاد يحقق شيئا مما يفكر فيه، وإنما يرى في نفسه أول الأمر، ثم من حوله بعد ذلك، صورة الرجل المطمئن معتقلا شاته تلك ماسحا ضرعها متكلما بذلك الكلام الذي سمعه ولم يعقله، والذي يحاول أن يذكره فلا يجد إلى ذكره سبيلا.
وينصرف الفتى عن مكانه ذاك حين تقدم الليل، ولكنه لا يعود إلى مكة، وإنما يهيم فيما حوله من الأرض مستأنسا إلى وحشته حريصا على وحدته، لا يحس جهدا ولا تعبا ولا حاجة إلى النوم، ولا يحس ظمأ ولا جوعا، وإنما يجد في فمه ذوق اللبن، ويرى في عينه صورة ذلك الرجل المطمئن الوادع، ويسمع في أذنيه صوت ذلك الرجل ممتلئا عذبا يجري بكلامه ذاك الذي لا يذكره كما يجري الينبوع الرقيق الصافي بالعذب الزلال. وأنفق الفتى ليلته تلك لم يظله سقف ولم يئوه مضجع، حتى إذا تجلت شمس النهار عاد إلى مكة حين يغدو منها الرعيان. ولم يستقر قراره حتى عرف ذلك الرجل المطمئن وصاحبه، ومكانهما فيسعى حتى يجد محمدا رسول الله، فإذا دنا منه ألقى النبي إليه نظرة مطمئنة، وابتسم له، والفتى يدنو منه حتى يبلغه، ثم يجلس بين يديه، ثم يقول له في صوت رقيق يضطرب اضطرابا خفيا: علمني من هذا الكلام الذي سمعته منك أمس.
قال النبي مبتسما له: إنك غلام معلم. ومنذ ذلك الوقت، استقر في نفس الفتى أنه لم يخلق لنفسه ولا لأهله ولا لغنيمات عقبة بن أبي معيط، وإنما خلق ليلزم محمدا هذا الأمين، فيسمع منه ويحفظ عنه ويدعو بدعوته.
وكان الفتى خفيفا نحيفا، دقيق الجسم سريع الحركة عظيم النشاط، فلم يكد يلزم رسول الله أياما ويسمع منه ويحفظ ما قال حتى رأته قريش في أنحاء مكة متنقلا بذكر محمد وكلامه يذيعه في كل وجه، ويفشيه في كل مجلس، ويتحدث به في كل مكان. وكان لخفته وسرعته مصدر عناء لقريش، تراه في هذا المكان فلا تكاد تهم به حتى تنظر فإذا هو قد استخفى وانتقل إلى مكان آخر، لا يدرون كيف انتقل إليه، فكان المتتبعون للنبي وأصحابه يرون هذا الفتى في كل مكان، ولا يكادون يظفرون به مع ذلك في أي مكان! حتى قال أبو جهل ذات يوم: ما ضقت بأحد من أصحاب محمد كما أضيق بهذا الفتى الهذلي، أراه في كل وجه مذيعا دعوة محمد، مفسدا بها قلوب الناس، ولا أجد لي عليه سبيلا، ولو قد ظفرت به لما أبقيت عليه.
Bilinmeyen sayfa