Milletlerin Kültürel Temelleri: Hiyerarşi, Antlaşma ve Cumhuriyet
الأسس الثقافية للأمم: الهرمية والعهد والجمهورية
Türler
ثناء على الكتاب
نبذة عن الكتاب
تمهيد
مقدمة: الجدل النظري
1 - مفهوم الأمة وأشكالها المتنوعة
2 - الجذور العرقية والدينية
3 - المجتمع في العصور القديمة
4 - الأمم الهرمية
5 - الأمم العهدية
6 - الأمم الجمهورية
Bilinmeyen sayfa
7 - مصائر بديلة
الخاتمة
الملاحظات
المراجع
ثناء على الكتاب
نبذة عن الكتاب
تمهيد
مقدمة: الجدل النظري
1 - مفهوم الأمة وأشكالها المتنوعة
2 - الجذور العرقية والدينية
Bilinmeyen sayfa
3 - المجتمع في العصور القديمة
4 - الأمم الهرمية
5 - الأمم العهدية
6 - الأمم الجمهورية
7 - مصائر بديلة
الخاتمة
الملاحظات
المراجع
الأسس الثقافية للأمم
الأسس الثقافية للأمم
Bilinmeyen sayfa
الهرمية والعهد
والجمهورية
تأليف
أنتوني دي سميث
ترجمة
صفية مختار
مراجعة
سارة عادل
هبة عبد المولى أحمد
ثناء على الكتاب
Bilinmeyen sayfa
يظل أنتوني سميث الباحث صاحب الريادة في مجال القومية. في هذا الكتاب المهم، يلقي ضوءا جديدا على تقاليد الأمة خلال فترة ما قبل العصر الحديث؛ ويقدم تأريخا جديدا لظهور القومية.
جون هتشينسون، كلية لندن للاقتصاد
مرة أخرى يثبت سميث أنه عميد الدراسات القومية. في هذا الكتاب - المكتوب بنحو يعكس معرفته الواسعة وبأسلوب واضح، وهما أمران معتادان منه - يكشف عن مجموعة الأشكال المختلفة التي كانت تتخذها القومية عبر العصور. إن هذا الاستقصاء الذي يحدد «متى تكونت» و«كيف تشكلت» الأمم لهو عرض قوي لعلم الاجتماع التاريخي في أفضل صوره.
جون ستون، جامعة بوسطن
عمل فكري رائع، جريء ومثير ودقيق الحجة. يحدد سميث أنواعا تاريخية مختلفة من الأمم، وثقافات عامة مميزة، نشأت منذ العصور القديمة وحتى عصر العولمة، ويستعرض تراث الهرمية والعهد والجمهورية على الأمم المعاصرة، ويقدم تحليلا شائقا عن القوميات كأنواع من الدين العلماني للناس تطورت بالتوازي مع الأديان التقليدية أو بنحو مناهض لها.
مونسيرات جيبيرناو، كلية كوين ماري كوليدج، جامعة لندن
حدث تطور مهم بنشر هذا الكتاب الذي بين يديك؛ لقد دعم سميث وعمق على نحو كبير فهمنا للأمم وللقومية من خلال تحليل تاريخي لثلاثة أنماط من العلاقات الاجتماعية - الهرمية، والعهد، والجمهورية - يقر حقا الاستقلالية النسبية للثقافة. لقد أجرى التحليل باختلاف واسع النطاق وتاريخي على نحو مثير للإعجاب. إنه تحليل قوي لا يقتصر فحسب على السماح على نحو مناسب بالعديد من الأمور الغامضة والمعقدة، بل يرحب بها أيضا كما يجب أن يكون أي استقصاء جاد عن الأمم. بنشر هذا الكتاب أصبح كل الباحثين في مجال الأمم والقومية يدينون بالشكر لأنتوني سميث مرة أخرى، لكن بقدر أكبر من أي وقت مضى.
ستيفين جروسبي، جامعة كليمسون، مؤلف كتاب «القومية: مقدمة قصيرة جدا»
تخليدا لذكرى جدتي
عند قبول التراث فإنه يصبح لمن يقبلونه على القدر نفسه من الوضوح والأهمية كأي جزء آخر من أفعالهم ومعتقداتهم. إنه الماضي في حاضرهم، لكنه جزء من حاضرهم لا يعدوه أي ابتكار آخر مهما بلغ من الحداثة.
Bilinmeyen sayfa
إدوارد شيلز
يختص النوع الثاني (من الدين) بدولة واحدة فقط؛ فيمنح تلك الدولة الرعاة والآلهة الحارسة الخاصة بها. وينص القانون على عقائدها، وطقوسها، وعباداتها الظاهرية، ويعتبر كل شيء خارج الأمة الواحدة التي تتبعه كافرا، وغريبا، وبربريا، ولا تتجاوز حقوق الإنسان وواجباته مذابح معابدها.
جان جاك روسو
تمنى الرب أن تكون الأمم كيانات فردية مستقلة، كما البشر، كي تكون وسيلة للتأثير على الجنس البشري كله، ولتحقيق التناغم الضروري في العالم.
كاجيميرش برودجينيسكي
نبذة عن الكتاب
متى تنشأ الأمة؟ لقد شغلت الباحثين مؤخرا مسألة التحقيب الزمني لتاريخ الأمم والقومية منذ أن أثارها ووكر كونور عام 1990، وذلك بما تعنيه هذه المسألة من تقسيم هذا التاريخ إلى فترات واضحة ومحددة. وقد خلص إلى أن فكرة أنه من غير الوارد أن تكون الأمم الحديثة قد نشأت في وقت سابق على أواخر القرن التاسع عشر؛ تتجاوز الرؤية الحداثية التقليدية التي ترى أن الأمم والقومية ظهرت مع الثورة الفرنسية والثورة الأمريكية. إن هذا الاستنتاج يأخذ ذلك الافتراض، الذي يؤمن فيه عديد من الباحثين في أن الأمم والقوميات ظواهر سياسية ذات ثقافات جماهيرية موحدة، إلى ذروته القصوى؛ ومن ثم لا يمكننا الحديث عن الأمم والقومية إلا بداية من ظهور الحداثة - أيا كان تعريفها. وهذه الافتراضات فقط هي ما يعزم هذا الكتاب تفنيدها، وسيفند معها منظومة الفكر الحداثي بأكملها.
في كتاب «الأصول العرقية للأمم»، أوضحت أسباب اعتبار أن الأمم الحديثة تكونت، في الغالب، على أساس روابط عرقية وتوجهات موجودة من قبل. وعلى الرغم من أن وجهة النظر تلك تنطبق على عدد كبير من الحالات، فإن ثمة أمثلة كافية لحالات لعبت فيها العرقية دورا ثانويا، أو لاحقا، في نشأة الأمم الحديثة. كانت الروابط العرقية ذات أهمية مؤكدة في فترات مختلفة، مثل الشرق الأدنى القديم وفجر أوروبا الحديثة، لكن الأشكال السياسية الأخرى للمجتمع الجمعي، والهوية الجمعية مثل الدول المدن، والاتحاد القبلي، وحتى الإمبراطورية؛ أسهمت في تكوين الأمم.
لعل الأهم من ذلك أنها تركت علامة أيضا على السمات اللاحقة للأمم والقوميات، وهذا يقدم حلا للمشكلة الأولى المتمثلة في التحقيب الزمني للتاريخ؛ فبدلا من تحديد تاريخ واحد أو فترة واحدة للنشأة، تظهر أشكال تاريخية مختلفة للتصنيف التحليلي للأمم في فترات متعاقبة، تبين كل منها أنواعا مختلفة من الثقافات العامة المميزة، وتلك الثقافات بدورها متأثرة بقوة بأحد التقاليد الحضارية الأساسية الثلاثة في العصور القديمة المتمثلة في الهرمية والعهد والجمهورية المدنية. من خلال نموذج روما والإمبراطوريات والجمهوريات المدنية التي خلفتها، وكذلك من خلال المعتقدات والممارسات اليهودية والمسيحية، ظلت تلك التقاليد الثقافية محكمة قبضتها على الطبقات الأوروبية المتعلمة من إنجلترا إلى روسيا، ومن السويد إلى إسبانيا.
نتيجة لذلك، فإن المسائل المتعلقة بالتسلسل الزمني لنشأة الأمم هي أيضا في حقيقة الأمر موضوعات متعلقة بالأسس الثقافية للأمم، وب «تكون» الأمة و«تحديد تاريخ تكونها». إلا أن هذا أيضا يثير موضوع التعريف وموضوع التصور النظري؛ من ثم، يبدأ هذا الكتاب بمناقشات عن الخلفية النظرية، وتعريفات المفاهيم، والعمليات الاجتماعية والرمزية الأساسية، والموارد الثقافية لتكوين الأمم واستمراريتها. أما في بقية الكتاب، فتتوغل المناقشات في علم الاجتماع التاريخي للأمم والقومية في العالم القديم، والعصور الوسطى في أوروبا، وأوائل العصور الحديثة، والعصور الحديثة، ويختتم بنقاش عن المصائر البديلة التي تواجه الأمم المعاصرة نتيجة لشخصياتها المتعددة الجوانب في الغالب. (1) خطة الكتاب
Bilinmeyen sayfa
المقدمة:
توضح المشاكل الأولية المتمثلة في «تأريخ الأمة» في أعقاب مناقشات ووكر كونور، والنماذج النظرية الأساسية - الحداثة، وفلسفة الحكمة الخالدة، والبدائية - التي سيطرت على مجال دراسات القومية ويمكنها أن تسلط الضوء على مسألة التحقيب الزمني لتاريخ الأمم.
الفصل الأول:
هنا أحلل مشاكل التصور الحداثي للأمة، وأوضح كيف أنه مقتصر على نحو مناسب على التعامل مع جزء واحد فقط من المجال، ألا وهو «الأمة الحديثة». ومن الضروري وجود تصور أشمل للأمة؛ تصور يميز بين الأمة باعتبارها فئة تحليل عامة وبين الإحصاء الوصفي للأنماط التاريخية للأمم. ومن خلال تعريف الأمة بطريقة مثالية نموذجية يصبح من الممكن الربط بين مجموعة من الأنماط التاريخية للأمم في فترات مختلفة؛ ومن ثم نتجنب القيود التعسفية للمنظور الحداثي ونعزز فهمنا للأمم بوصفها موارد ثقافية ومجتمعات محسوسة.
الفصل الثاني:
قبل الاستطراد في بحث لعلم الاجتماع التاريخي للأمم، نحتاج إلى استكشاف العوامل الأساسية لتكوين الأمم واستمراريتها. أفضل طريقة لرؤية الأمم هي رؤيتها من منظور الأنواع السالفة للهويات الثقافية والسياسية الجمعية مثل الدول المدن، والإمبراطوريات، والاتحادات القبلية، وفوق ذلك كله، الجماعات العرقية والعرقية الدينية. إلا أنه مع تطور عمليات اجتماعية ورمزية أساسية مثل تعريف الذات، وغرس الرموز، والأقلمة، ونشر الثقافة العامة، وتوحيد القوانين والأعراف بحيث تتمكن الجماعات من الاقتراب من النموذج المثالي للأمة، وفقط من خلال موارد ثقافية معينة مثل أساطير الشعوب المختارة، وذكريات العصور الذهبية، ومثل الواجب والتضحية؛ يصبح الاحتمال قائما في أن تستمر الجماعات على مر الزمان.
الفصل الثالث:
يجب أن يبدأ بحث علم الاجتماع التاريخي للأمم بالشرق الأدنى القديم. على الرغم من عدم وجود أمثلة للأمم، فإن العالم القديم كان يتميز بوجود الفئات والجماعات العرقية على نطاق واسع. وكانت العرقية متداخلة مع أشكال أخرى من الهوية السياسية والثقافية الجمعية، مثل الإمبراطوريات القديمة، والدول المدن، والاتحادات القبلية. ورغم ذلك، ففي حالات قليلة فقط - مصر القديمة، ومملكة يهوذا، وأرمينيا لاحقا - يمكننا أن نعثر حقا على مقومات الأمم. حتى في اليونان القديمة، على الرغم من كل التوجهات العرقية القوية على مستوى اليونانيين كافة وعلى مستوى «الدول المدن»، كانت الأبعاد الإقليمية والقانونية للأمة المستقلة منعدمة.
الفصل الرابع:
إلا أن العالم القديم ترك أيضا لخلفائه الأوروبيين أمرا أكثر أهمية؛ ألا وهو ثلاثة أنواع من التراث والتقاليد الثقافية المهمة، وهي: الهرمية والعهد والجمهورية، والتي تعود بالترتيب إلى بلاد الرافدين ومصر الفرعونية، ويهوذا القديمة، واليونان القديمة. كانت هذه التقاليد الثقافية - التي انتقلت عبر كل من روما الجمهورية والإمبراطورية، وكذلك عبر الكتاب المقدس والمسيحية - تشهد صحوات مستمرة في أوروبا مع محاولة ممالك العالم المسيحي إضفاء الشرعية على حكمهم وتقوية دولهم، لا سيما في دوقية موسكو وفرنسا وإنجلترا وإسبانيا. وفي أواخر العصور الوسطى، شهدنا ظهور أمم «هرمية» تراتبية أظهر فيها الحكام وطبقات النخبة في دول الغرب توجها وهوية وطنيين قويين.
Bilinmeyen sayfa
الفصل الخامس:
بحلول القرن السادس عشر، كانت ثمة أدلة كثيرة على انتشار مشاعر القومية لدى النخب في عدة دول أوروبية، بدءا من روسيا وبولندا وحتى إنجلترا وفرنسا والدنمارك. إلا أن «الطفرة» التي أدت إلى نشوء الأمم الشعبية والقوميات الأولى، حدثت في أعقاب الإصلاح البروتستانتي. وبالعودة إلى العهد القديم وعهد إسرائيل، وسع المصلحون المتطرفون، لا سيما الكالفينيين، فكرة الاختيار الإلهي لتشمل كنائس وجماعات بأكملها وأمما. في اسكتلندا وإنجلترا وهولندا، وأيضا في المدن السويسرية والمستعمرات الأمريكية، أدى تزايد ارتباط المجتمع القومي بفكرة الشعب المختار المحتمل بين البيوريتانيين إلى حشد أعداد أكبر من الأشخاص ومنحهم رؤية فعالة للخلاص الجماعي من خلال الوحدة السياسية، والحكم الذاتي، وهوية المصير. وأصبحت القوميات والأمم «العهدية» الناتجة مهودا ونماذج للأشكال العلمانية اللاحقة.
الفصل السادس:
بدلا من قطع العلاقة بكل ما حدث من قبل، تكونت الأمة «الجمهورية» العلمانية اعتمادا على تأثير وإلهام الأمم العهدية. وعلى نحو مشابه، فعلى الرغم من العلمانية الراديكالية للأمة الجمهورية، فإن قوميتها غالبا ما كانت محاكاة لطقوس الأديان التقليدية وليتورجياتها وممارساتها. وتمكنت القومية بوصفها «دينا علمانيا للشعب» أن تجمع بين ميثاق مواطنة إنساني وأرضي صرف وبين عبادة الشعب للأمة. وأثناء «مهرجانات» الاحتفاء بالثورة الفرنسية، تمكن هذا الجمع بين الروح العلمانية والروح الدينية، ممثلتين في وطنية الدول المدن القديمة المبعوثة من جديد، وفي العقود المقدسة لأساطير الاختيار الإلهي والعهد؛ من تعبئة جيوش هائلة وبث مشاعر حماسية على نطاق واسع. إن انتصار القومية الجمهورية داخل أوروبا والغرب، وفي الخارج أيضا، يعود بقدر كبير إلى أبعادها «المقدسة» والشعبية.
الفصل السابع:
على الرغم من ذلك، بدلا من التخلص من النماذج السابقة من الأمم، فإن القومية الجمهورية العلمانية تجد نفسها باستمرار في تحد مع ما تبقى من سمات ثقافية لهذه النماذج السابقة. ويتمثل ذلك في التاريخ الحديث لليونان؛ حيث واجه المشروع اليوناني الجمهوري تحديا من قبل النموذج القومي «البيزنطي»، ثم اندمج معه لاحقا، ذلك النموذج الذي كان يتكون من ذكريات هرمية (إمبراطورية) ومعتقدات عهدية أرثوذكسية يونانية بالمقدار نفسه. فعلاوة على أننا نجد آثارا للسمات الهرمية، في ملكية بريطانيا على سبيل المثال، فإن جمهوريات مثل الولايات المتحدة وإسرائيل وفرنسا ما زالت تعج بأساطير ومعتقدات نابعة من الأمم والقوميات العهدية السابقة؛ ومن ثم تقدم لكل جيل من أجيال الجماعة تواريخ عرقية ومصائر قومية بديلة. وعلى الرغم من أن هذه التقاليد الثقافية المختلفة يمكن أن تسفر عن صراع أيديولوجي داخل المجتمعات القومية، فإن تنافسها وتضافرها يمكن أيضا أن يقويا الوعي القومي، ويحافظا على نسيج الأمة.
الخاتمة:
يختتم الكتاب بملخص لما سردته عن علم الاجتماع التاريخي للأمم، ويوضح باختصار بعض الآثار الأطول أمدا التي من المحتمل أن تؤثر على الأمم والقومية في العالم المعاصر.
تمهيد
انبثق هذا الكتاب عن بحث قدمته للمؤتمر السنوي الرابع عشر لجمعية دراسة العرقية والقومية في كلية لندن للاقتصاد في أبريل 2004. وأصبح موضوع المؤتمر: «متى تنشأ الأمة؟» موضوعا لكتاب حمل الاسم نفسه، حرره الدكتور أتسوكو إيتشيجو والدكتورة جوردانا أوزيلك، اللذان نظما أيضا هذا المؤتمر البالغ النجاح. وإني لأدين لهما بوافر الشكر على تكريمهما الرائع لي عند تقاعدي، وأيضا على التحفيز المبدئي والدعم المستمر.
Bilinmeyen sayfa
إلا أنني سرعان ما وجدت أن ما بدأ كإسهام في النقاش الدائر حول تحديد تاريخ نشوء الأمم تحول إلى استقصاء أكبر عن «الشخصيات» المختلفة للأمم؛ فالأمم فريدة بطبيعة الحال - من ناحية أن أفرادها يميلون إلى اعتقاد أنها كذلك، ومن ناحية أخرى يمكننا كذلك أن نفصل السمات المتكررة في النماذج التاريخية للمجتمعات والهويات المصنفة ك «أمم» و«هويات قومية» - بوصفها مغايرة للمجتمعات والهويات الأخرى. ورغم ذلك، فإن بين طرفي النقيض المتمثلين في الخصوصية والعمومية، من الممكن أيضا اكتشاف أنماط متكررة متمثلة بوضوح شديد في أنواع معينة من الثقافات العامة للأمم. لقد وجدت أن تلك الأنماط متأثرة تأثرا قويا بالتقاليد الثقافية الراسخة التي تعود إلى العالم القديم، وأنها، في أشكالها المتغيرة، استمرت في جعل تأثيرها ملموسا، حتى في ظل عالم غاية في المدنية قائم على الاعتماد المتبادل.
من الواضح أن هذا الموضوع شاسع، ووجدت أنه من الضروري تقييد نطاقه إلى حد بالغ؛ وذلك لافتقاري إلى الكفاءة في الكثير من المجالات التاريخية؛ ولذلك ركزت على المجالات التي أحيط بها علما إلى حد بعيد - العالم القديم وأوروبا في بداية الحداثة وفي عصر الحداثة - تاركا للآخرين تناول الموضوعات المتعلقة بالفترات والحضارات التي تحظى بالقدر نفسه من الأهمية، مثل تلك المتعلقة بالشرق الأقصى. وفي هذا الصدد، فإن المقالات الواردة في كتاب «الأنماط الآسيوية من الأمم»، الذي حرره ستاين تونسين وهانز أنتلوف، ترتبط ارتباطا مهما ببعض موضوعات هذا الكتاب، في حين أن مجموعة المقالات التي حررها لين سكيلز وأوليفر تسيمر تحت عنوان «السلطة والأمة في التاريخ الأوروبي»؛ ترتبط ارتباطا مهما بالقدر نفسه بفترة العصور الوسطى.
أثناء إعداد هذا الكتاب، وجدت أنه من الضروري مراجعة أفكاري في موضوعين رئيسيين؛ يتعلق الموضوع الأول ب «الأصول العرقية» للأمم. مع الاستمرار في اعتبار العرقية والروابط العرقية أساس تكوين الأمم، فإن رؤية أشمل للأسس الحضارية للأمم أبرزت أهمية أنواع أخرى سياسية ودينية من المجتمعات والهويات؛ ينعكس ذلك في الأهمية الممنوحة لكل من «الهرمية» و«الجمهورية» باعتبارها تقاليد حضارية لها أصولها في الشرق الأدنى القديم وعالم العصور الكلاسيكية. أما الموضوع الثاني، فيتعلق بتحديد تاريخ ظهور أيديولوجية «القومية». مرة أخرى، على الرغم من التمسك برؤية أن القومية باعتبارها معتقدا نشأت في القرن الثامن عشر، فقد وجدت أن عديدا من سماتها نشأ في وقت أسبق بكثير، وبوجه أكثر تحديدا، فإنه بالنظر إلى القومية من حيث كونها برنامجا سياسيا، فإنه يمكن العثور على نوع معين من القومية الشعبية والعامية في بعض دول القرن السابع عشر، مثل إنجلترا واسكتلندا وهولندا، وربما في دول أخرى أيضا. وهذا بدوره كان يعني مراجعة التسلسل الزمني الحديث ل «القومية»، بالإضافة إلى التسلسل الزمني الحديث للأمم.
تتأكد هذه الرؤية بمحورية فكرة الميثاق الغليظ أو العهد الغليظ، وهو نوع من الالتزام أقوى وأكثر استمرارية من العقد المعتاد. لطالما كان حلف اليمين والمواثيق العامة مرتبطين بفكرة الأمة الشعبية وتاريخها، ولهذا السبب يتحدث كثير من الطبقات المتعلمة عن نماذج العهد والميثاق في العالم اليوناني الروماني القديم وفي العهد القديم. ومن هنا كان اختيار مجلس أوصياء أمستردام لموضوع أسطورة باتافيا ذات الأصول الهولندية للقصر الملكي في أمستردام، ولوحة «مؤامرة كلاديوس سيفيليس» ضد الرومان عام 70 قبل الميلاد للرسام رامبرانت الناتجة عن هذا الاختيار؛ على الرغم من أن لوحة رامبرانت الواقعية والمشعة بالضوء هذه لم تنل استحسانا، وسرعان ما أنزلت ومزقت، ولم يتبق منها في وقتنا الحاضر سوى قطعة معروضة في متحف استوكهولم القومي، ومخطط لتصميم اللوحة بالكامل في ميونخ. على الرغم من ذلك كله، تنقل تلك القطعة المتبقية من لوحة رامبرانت الرائعة لمحة خافتة عن ميثاق غليظ من العصور القديمة أبرمه المشاركون فيه لمقاومة الحكم الأجنبي وتحرير بلادهم، مثلما فعل الهولنديون المعاصرون قبل عدة سنوات.
يتمحور الحديث في بقية الكتاب على علم الاجتماع التاريخي للأمم والقومية، إلا أن هذا أثار حتما موضوعات معقدة متعلقة بالتعريف والنموذج النظري. في الواقع، من المستبعد أن تؤلف كتابا عن القومية لا يثير هذه الموضوعات بشكل أو بآخر؛ لذلك، حاولت تناول هذه الموضوعات في المقدمة وفي أول فصلين، فوضحت وصفي الخاص لما أصبح معروفا باسم منظور «الرمزية العرقية». أرى أن مثل هذا المنظور مكمل مفيد ومصحح للمعتقد الحداثي السائد، لكنه ليس نظرية بأي حال من الأحوال؛ لذلك جعلت النقاش مقتصرا على الفصل الثاني. ونظرا أيضا لأن الهدف من الكتاب هو تقديم سرد اجتماعي تاريخي لنشأة وتكون أنواع مختلفة من الأمم، فقد جعلت النقد، باستثناء الاختلاف المبدئي مع المفهوم الحداثي للأمة، في أدنى مستوى ممكن، لا سيما في الملاحظات.
أتوجه بعميق ووافر الشكر إلى الباحثين، وأخص بالذكر منهم ووكر كونور لتحفيزه المستمر وحجته السديدة، بالإضافة إلى لطفه الكبير. وأود أن أعبر عن امتناني لجون هتشينسون على نقاشاته الكثيرة المثيرة وعلى دعمه المستمر. وأدين بالشكر أيضا لطلاب الدراسات العليا السابقين وطلاب جمعية دراسة العرقية والقومية، بالإضافة إلى أصدقائي في فريق التحرير في دورية الأمم والقومية «نيشنز آند ناشوناليزم»، على الاهتمام، وأخص بالشكر سيتا بيرصاد على مساعدتها الدائمة. وأتقدم بعظيم الامتنان بصفة خاصة لزوجتي، ديانا، لدعمها المستمر في الأوقات العصيبة الكثيرة، وإلى جوشوا على البهجة البالغة التي يمدنا بها.
أتحمل وحدي مسئولية الآراء التي عبرت عنها في هذا الكتاب، وكذلك الأخطاء والسهو.
أنتوني دي سميث
لندن
مقدمة: الجدل النظري
Bilinmeyen sayfa
الهدف من هذا الكتاب مزدوج؛ فهو يرمي إلى تتبع الأسس الثقافية للأمم في فترات مختلفة من التاريخ عن طريق تحليل عملياتها الاجتماعية والرمزية ومصادرها الثقافية، بالإضافة إلى تسليط الضوء على بعض المسائل المعقدة المتمثلة في تعريف «الأمة» وتحديد تاريخ ظهورها. وهاتان المسألتان مرتبطتان ارتباطا وثيقا؛ لأن كلتيهما تتعلق بموضوع أكثر جوهرية يتمثل في إمكانية الحديث عن وجود مفهوم واحد للأمة، وإذا كان الأمر كذلك، فكيف يرتبط ذلك المفهوم بالأشكال المتعددة للأمة في فترات مختلفة من التاريخ.
سأوضح أن أنماط المجتمع القومي تعتمد على تقاليد ثقافية معينة نابعة من العصور القديمة التي كونت الأخلاقيات وحس الهوية القومية لدى أفرادها. بيد أننا قبل أن نتمكن من استعراض تلك التقاليد نحتاج إلى التركيز على مسألتي تعريف الأمة والتحقيب الزمني لتاريخها. وهاتان المسألتان، بدوريهما، جزء لا يتجزأ من مناهج نظرية مختلفة؛ لذلك، في هذه المقدمة، سوف أوضح أولا في اقتضاب المناهج الأساسية في هذا المجال وحلولها لإشكالية «تأريخ ظهور الأمة». وسيمثل هذا مدخلا لموضوعين أساسيين، هما: تعريف فئة «الأمة»، والتكوين الاجتماعي للأشكال التاريخية للأمم. وهذا بدوره سوف يسمح لنا بالبدء في إجراء دراسة علم اجتماع تاريخي على تكوين المجتمعات القومية واستمرارها، في فترات مختلفة من التاريخ.
تعد مقالة ووكر كونور القصيرة التي نشرت عام 1990 تحت عنوان «متى تنشأ الأمة؟» نقطة انطلاق جيدة؛ إذ قال في هذه المقالة إن الباحثين طالما ركزوا على سؤال «ما الأمة؟» لكنهم أهملوا سؤالا عل القدر نفسه من الأهمية والإثارة، ألا وهو «متى تنشأ الأمة؟» حتى لو كان السؤال الأول له الأسبقية منطقيا، فإنه في حد ذاته، باعتباره تعريفا لمفهوم الأمة، لا يمكنه حسم إشكالية تحديد الوقت الذي تكونت فيه أمم بعينها. بالإضافة إلى ذلك، تطلب هذا الأمر بيانات تاريخية وأيضا نموذجا أو نظرية لتكون الأمة. وقدم كونور كلا من تعريف الأمة والنموذج الذي يوضح، على أقل تقدير، كيفية تكون الأمم الحديثة.
1
يرى ووكر كونور أن الأمم جماعات عرقية تتمتع بوعي ذاتي حقيقي. وتشكل الأمة أكبر جماعة مؤسسة على اعتقاد أفرادها أن بينهم صلات قرابة تعود إلى سلف مشترك. إن احتمالية عدم وجود صلة قرابة تعود إلى سلف مشترك فيما بينهم، أو احتمالية نشوئهم أيضا من سلالات عرقية مختلفة، كما هي الحال في أغلب الأحيان؛ من الاحتماليات غير المطروحة من الأساس. إنه ليس تاريخا وقائعيا، بل تاريخ محسوس يشمل عملية تكوين الأمم؛ ولهذا السبب يشبه القوميون المعاصرون الأمة بأسرة كبيرة، ولهذا السبب فإن توسلهم ب «صلة الدم» يثير دائما تعاطف أعضاء الأمة. كيف تتكون الأمة من أساسها العرقي؟ يرى كونور أن هذه العملية قد تكون مطولة للغاية؛ لأن الأمم تنشأ على مراحل. إلا أن التحديث (التحول إلى الحداثة) يعمل محفزا قويا يسرع من هذه العملية؛ نظرا لأنه يجعل الكثير من الجماعات يتواصل عن كثب وبانتظام، بالإضافة إلى أنه منذ الثورة الفرنسية حرضت أفكار السيادة الشعبية واعتبار حكم الأجنبي حكما غير شرعي جماعات عرقية متعاقبة على التطلع إلى تكوين أمم مستقلة. رغم ذلك، لا يمكننا حقا الحديث عن نشوء أمم إلا بعد أن يكون لدى غالبية أعضائها وعي بمن يكونون ومن لا يكونون، والأهم من ذلك أن يكون لديهم شعور بالانتماء إلى الأمة وأن يشتركوا في حياتها. ومن منظور الديمقراطية، يكون معنى ما سبق أننا لا يمكننا الحديث عن أمة قبل أن يمنح غالبية أفرادها حق التصويت كأحد حقوق المواطنة، وهذا أمر لم يشرع حدوثه إلا مع نهاية القرن التاسع عشر أو بداية القرن العشرين. وقد تكون الجماعات العرقية «من ثوابت التاريخ»، وموجودة في كل حقبة، لكن الأمم القائمة أمم حديثة، وقريبة العهد تماما.
2 (1) الحداثة
يتوافق تأريخ كونور لظهور الأمم مع التاريخ الذي حدده غالبية الباحثين في الوقت الحاضر، هؤلاء الباحثون الذين من الممكن أن يطلق عليهم «حداثيون» لهذا السبب. من منظور الحداثيين، فإن كلا من الأمم والقوميات قريبة العهد وحديثة، وكلتاهما ثمرة «التحديث». ويختلفون بطبيعة الحال في الأسباب الدقيقة التي تجعل الأمم قريبة العهد وحديثة؛ فالبعض يبحث عن الأسباب في الرأسمالية الصناعية، والبعض الآخر يبحث عن الأسباب في نشأة الدولة المركزية المحنكة، وغيرهم يبحث عن الأسباب رغم ذلك في طبيعة وسائل الإعلام الحديثة والتعليم العلماني. إلا أن ما يهمني في هذا الصدد ليس أسبابهم، بل طريقة تقسيمهم للفترات والافتراضات التصنيفية التي أرخوا تكون الأمم على أساسها.
3
من منظور الحداثيين، فإن الأمم لا توجد ولا يمكن أن توجد قبل نشأة الحداثة، أيا كان تعريف الحداثة. وهذا يعني من الناحية العملية أننا لا نستطيع الحديث عن الأمم أو القومية قبل أواخر القرن الثامن عشر، وليس قبل ذلك. وحسب ما ذكره إرنست جيلنر، فمن غير الممكن أن تكون الأمم قد ظهرت قبل فجر الحداثة. في المجتمعات التي يطلق عليها المجتمعات «الماهرة في الزراعة»، كانت قلة نخبوية تحكم قاعدة هائلة من منتجي الطعام، وكانت الثقافة المكتوبة لهذه النخب مختلفة تماما عن الثقافات الكثيرة «المتدنية» والشفهية والعامية لعوام الفلاحين. ولم يكن لدى النخب رغبة في نشر ثقافتهم، ولا اهتمام بذلك، وحتى رجال الدين الذين كان لديهم اهتمام بنشر الثقافة كانوا يفتقرون إلى وسائل القيام بذلك. لم يخلق الحاجة إلى «الثقافات الرفيعة» المكتوبة المتخصصة التي يجعلها جيلنر مناظرة لظهور الأمم إلا سهولة الحركة والنقل التي تتطلبها المجتمعات الصناعية.
4
Bilinmeyen sayfa
بالنسبة إلى الحداثيين الآخرين، أمثال جون بروييه وإريك هوبزبوم، فقد كان لدى العوام في فترة ما قبل الحداثة ولاء محلي وديني صرف. وعلى أحسن تقدير، من الممكن أن نصف بعض مجتمعاتهم بأنها مجتمعات «قومية بدائية». إلا أنه - كما يحاول هوبزبوم أن يوضح - لم يكن يوجد رابط حتمي بين تلك المجتمعات المحلية أو اللغوية أو الدينية وبين الأمم الإقليمية الحديثة. ليس بإمكاننا التفكير في احتمالية وجود صلة في العصور السابقة بأي هوية قومية حديثة، باستثناء تلك الحالات القليلة التي كان بها علاقة مستمرة على نحو ما بدولة أو كنيسة في العصور الوسطى. لكن في العموم، لم يكن من الممكن انتقال كتلة السكان وشعورهم بالولاء لمجتمعات قومية أوسع نطاقا إلا مع نشأة الدولة الحديثة والتحضر والنمو الاقتصادي.
5
في حقيقة الأمر، إذا أردنا البحث عن الأسباب المباشرة لتوقيت نشوء الأمم، فإن بحثنا يجب ألا يتجاوز النخبة المثقفة القومية. إن القوميين هم من يخلقون الأمم، وليس العكس، كما يقول جيلنر، مثلما كان التنوير - وفقا لما ذكره إيلي كيدوري - هو ما شكل الثقافة العلمانية للأمم وأسفر عن النخبة المثقفة المقلدة والمتفاعلة في أنحاء أوروبا أولا ثم حول العالم. وهذا يمثل نقطة التحول في تاريخ القومية. ونظرا لأن التنوير خلق خارج البلاد التي نشأ فيها جيلا من الشباب المنعزل والمحبط - «رجالا مهمشين» - شعروا بأن الرفض الأرستقراطي أو الاستعماري حرمهم فرصهم في وظيفة ومكانة قيمتين متوافقتين مع تعليمهم العلماني؛ ومن ثم أدت حالة السخط الناجمة عن ذلك إلى أن يبحثوا في القومية عن حل سياسي يمتد لآلاف السنين. وكانت النتيجة مناشدات من موجات متعاقبة من المفكرين القوميين ل «جماعاتهم» التي يشاركهم أفرادها نفس الثقافة من أجل تكوين الأمة السياسية التي يكون للمفكرين في ظلها دور قيادي مضمون. لم تتمكن تلك المناشدات من البدء في إثارة العوام إلا بعد الثورة الفرنسية، بداية بالرومانسيين في ألمانيا، وهو ما سيرجع مجددا تاريخ تكون الأمم إلى القرن التاسع عشر.
6
يتضمن تحليل بينيدكت أندرسون لدور «رأسمالية الطباعة» في نشأة الأمم والقومية إشارة لرؤية مشابهة عن تاريخ تكون الأمم وطريقة تكونها. يرى أندرسون أن الاتحاد بين الطباعة والرأسمالية في إنتاج الكتب ربما بدأ في أواخر القرن الخامس عشر. إلا أن دخول أعداد كبيرة من الناس إلى معترك السياسة، وتمكنهم من البدء في «تخيل» الأمة باعتبارها تضامنا له حدود وسيادة ويضم طبقات مختلفة، لم يكن إلا في القرن الثامن عشر، مع الإنتاج الشامل للصحف (مطبوعات اليوم الواحد). وساعدهم في ذلك حدوث ثورة في تصوراتنا عن الزمن؛ إذ تحول من إدراك سابق مسيحاني كوني للزمن قبل ظهور الحداثة، فأصبحنا الآن نرى أن الزمن يتحرك حركة خطية، من خلال «زمن فارغ متجانس» يقاس بالساعة والتقويم.
7 (2) فلسفة الحكمة الخالدة الجديدة
بطبيعة الحال، فإن هذه الحداثة الواثقة لا يشترك فيها العالم أجمع؛ فمثلما عارض الحداثيون عقيدة ما قبل الحرب السابقة التي مالت إلى اعتبار الأمم، إن لم تكن القومية، خالدة ومتكررة في كل حقبة تاريخية وفي كل قارة، فقد شن تيار صاعد من مؤرخي فلسفة الحكمة الخالدة الجديدة، لا سيما في بريطانيا، هجوما مضادا قويا على افتراضات الحداثيين.
وقد طرح الراحل أدريان هستنجز حجتهم العامة بمنتهى الإقناع؛ فقد أوضح أننا يمكن أن نجد الأمم نابعة عن عرقيات شفهية موجودة منتشرة، لكنها متغيرة، نتجت بدورها عن تقديم أعمال أدبية مكتوبة باللغة العامية؛ ذلك أن الأدب يثبت اللهجة العامية، ويحدد الجمهور القارئ أو الأمة القارئة لها. في الحقيقة، يزعم هستنجز أن الأمم والقوميات كانت سائدة في العالم المسيحي. وكان ذلك نتيجة لسمتين من سمات المسيحية؛ تمثلت السمة الأولى في أن المسيحية، على النقيض من الأديان الأخرى، سمحت باستخدام اللغات والترجمات العامية. بينما تمثلت السمة الثانية في أن المسيحية تبنت العهد القديم بسرده لنموذج أمة وحدوي في إسرائيل القديمة؛ نموذج مزج الأرض بالشعب باللغة بالدين.
8
بالنسبة إلى هستنجز، وكذلك بالنسبة إلى باتريك ورمالد، وجون جيلينجهام، وحتى سوزان رينولدز، توجد أدلة كافية، لا سيما في حالة إنجلترا، لتقويض الزعم القائل بأن الأمم وكذلك القومية ناتجتان عن «الحداثة». وعلى الرغم من أنهم قد يختلفون في التاريخ المحدد الذي نشأت فيه الأمة الإنجليزية، فإنهم جميعهم يتفقون على أن تحديد أواخر القرن الثامن عشر أو التاسع عشر كتاريخ لظهور الأمة يعد تاريخا متأخرا جدا؛ ذلك أن إحساسا قويا بالهوية القومية وجد قبل ذلك بفترة طويلة في إنجلترا، وربما أيضا في اسكتلندا وأيرلندا وربما ويلز، وفي الحالة الإنجليزية، كان ذلك الإحساس بالقومية واضح المعالم في إنجلترا في أواخر العهد النورماني والعصور الوسطى بداية من القرنين الثالث عشر والرابع عشر على أقل تقدير وما بعدهما، إن لم يكن واضح المعالم مع أواخر الفترة الأنجلوساكسونية بالفعل. بالنسبة إلى مؤيدي فكرة ظهور الأمة في العصور الوسطى، فإن المصادر واضحة إلى حد بعيد؛ فمصطلح «أمة» كان مستخدما على نطاق واسع في العصور الوسطى، ليس فقط في المجالس الكنسية ولفيف الطلاب في الجامعات، بل أيضا في الوثائق القانونية والكنسية، والمراسيم الملكية وقصص الرحلات، وأيضا في المراسلات العامة. وحقا، كانت كل هذه الأعمال نتاج قلة نخبوية؛ إذ لم يترك السواد الأعظم من الناس، الفلاحون الأميون والمعزولون، أي سجلات مكتوبة. ورغم ذلك، كم عدد السجلات التي تركها الفلاحون في القرن التاسع عشر، ذلك القرن الذي يمثل ذروة التكون السريع للأمم، وفقا لمعظم الحداثيين؟
Bilinmeyen sayfa
9
هذا يعيدنا إلى الزعم الأساسي لووكر كونور الذي يقول إن الأمم والقومية «ظواهر جماهيرية»، وإنه نظرا لأن جماعات الفلاحين في حقب ما قبل الحداثة كانت أمية و«صامتة»، فلا مجال للحديث عن وجود أمم في الفترات التي سبقت دخول الفلاحين المعترك السياسي للأمة، وذلك لم يحدث في حالة الأمم الحالية إلا مع نهاية القرن التاسع عشر؛ يقر كونور باحتمالية وجود أمم في فترات سابقة من التاريخ نظرا لوجود أدلة كافية على ذلك. ثمة العديد من الردود على حجة كونور. بداية، إن غياب الدليل ليس كدليل الغياب، وحجة عدم وجود الوثائق تكون في الغالب سلاحا ذا حدين. بالنسبة إلى أتباع فلسفة الحكمة الخالدة الجديدة، فإن هذا الصمت يمكن أن يفسر إما على أنه قبول، أو تسليم، من جانب الفلاحين بروابطهم العرقية أو الوطنية، أو على أنه افتقار تام للشعور بالانتماء الوطني. علاوة على ذلك، فإننا إذا زعمنا، مثلما فعل كونور، أن «تصورات النخب عن الأمة في أغلب الأحيان لا تبلغ العوام»، فإن هذا الزعم يتجاوز ما لدينا من أدلة، ويوحي بأن معرفتنا بمعتقدات العوام في فترة ما قبل الحداثة تفوق معرفة النخب المعاصرة لها. في هذا الزمن السحيق، لا يمكننا ببساطة أن نجزم بما إذا كان عوام الفلاحين في العصور الوسطى أو ما قبلها يشاركون النخب في تصوراتهم. ومثل هذه الحجج العامة لا تسمح لنا باستنتاج أن السواد الأعظم من الفلاحين لم يستطيعوا امتلاك، أو لم يمتلكوا، هذا النوع من المشاعر العرقية أو حتى الوطنية في أزمنة بعينها.
10
كخيار بديل، فإنه من الممكن التشكيك في علاقة شعور عوام الفلاحين بتأريخ نشأة الأمة؛ إذ يمكن على النحو نفسه أن نزعم أنه نظرا لغياب الفلاحين من التاريخ والسياسة في معظم الحقب، فإن مسألة ما إذا كان الفلاحون قد حملوا مشاعر أو أفكارا تجاه الأمة، وماهية تلك المشاعر أو الأفكار، غير ذات أهمية إلى حد بعيد؛ فالثقافات والسياسات تكونها الأقليات التي تكون في العادة نخبة من نوع ما أو آخر. كل ما يهم هو ضرورة أن يشعر عدد كبير من الناس خارج نطاق الطبقة الحاكمة بأنهم ينتمون إلى أمة معينة، كي يقال إن تلك الأمة موجودة. من ناحية أخرى، يمكننا أيضا الإشارة إلى حقيقة أننا نعرف بالفعل بعض الأمور عن المعتقدات الأعم ل «بعض» الفلاحين في أوقات متعددة، مثل ميلهم إلى النهوض دفاعا عن الدين، مثلما حدث في فونديه عام 1793، أو إعجابهم بذكريات فيلهلم تل في حرب الفلاحين السويسريين عام 1653؛ ومن ثم، إذا لم يكن الفلاحون «صامتين» دائما، فإنه يجب أن نحذر من أن نرفض مسبقا «اعتمادا على استنتاج مفترض» احتمال أن بعضهم ربما شعر بنوع من الارتباط ب «جماعة عرقية» أو أمة محلية جامعة كما كانت الحال على نحو واضح في القبائل الإسرائيلية القديمة في أزمان مختلفة، أو بين الأعداد المتزايدة لسكان الوادي السويسريين ، على الرغم من احتفاظهم بالولاء لكانتوناتهم.
11
مرة أخرى، من الممكن معارضة فكرة أن الأمم والقومية «ظواهر جماهيرية» من خلال تذكر أن معظم القوميات، أيا كانت طريقة تعبيرها عن دعواها، كانت على نحو واضح شئونا خاصة بأقليات حتى وقت كبير من القرن العشرين. على سبيل المثال، يمكن أن نحصي عدد القوميين عند متاريس ثورات ربيع الأمم التي اندلعت عام 1848 بالمئات على أفضل تقدير، كما أن جل أعمال العنف السياسي المرتكبة في جزر البلقان - على سبيل المثال - في أوائل القرن العشرين ارتكبتها كوادر قليلة مخلصة من القوميين المتحمسين. أما فيما يخص الأمم نفسها، فعلى الرغم من أنه وفقا لنظرية الأمم، كل عضو مواطن أو ينبغي أن يكون مواطنا، فإن هذا الشرط في كثير من الحالات لم يكن مستوفى إلا في بعض أماكن دون غيرها، وفي العقود الأخيرة. ومن الناحية العملية، نحن على استعداد للتحدث عن أمم موجودة قبل تجسدها الجماهيري بوقت طويل، وما نشير إليه غالبا هو دخول «الطبقات الوسطى» الأكثر ثراء إلى المعترك السياسي، وهذا أمر يمكن أن يعود إلى القرن السابع عشر في أجزاء من أوروبا الغربية. وهذا اتجاه آخر للحجج سأعود إليه.
12
إن مسألة «المشاركة الجماهيرية» ليست إلا إحدى مسائل عديدة تفصل الحداثيين عن أتباع فلسفة الحكمة الخالدة الجديدة. ومن المسائل الأخرى مسألة الاستمرارية المؤسسية. وحتى الحداثيون أمثال إريك هوبزبوم، كما رأينا، على استعداد لإضفاء قيمة على فرضية أنه في حالات قليلة - تتمثل في روسيا وصربيا وإنجلترا وفرنسا حسبما يذكر هوبزبوم - كان يوجد أساس للدولة القومية الحديثة في فترة ما قبل الحداثة؛ لأنها استطاعت احتضان الاستمرارية المؤسسية للدولة أو الكنيسة أو كلتيهما منذ العصور الوسطى، وعلى نحو أكثر تحديدا فإن هوبزبوم مستعد، نتيجة لذلك، للتحدث عن إمكانية وجود شعور بالوطنية تجاه أسرة تيودور المالكة في إنجلترا. بالنسبة إلى جون بروييه أيضا، فإن استمرارية المؤسسات تلك من الممكن أن تمثل أساسا ما قبل حداثي للأمم الحداثية، لكن هذا أمر استثنائي. وفي العموم، يؤكد بروييه، أن الهوية خارج الوسائط المؤسسية (التي يزعم أن معظمها حديث) «مشرذمة ومتقطعة ومراوغة بمقتضى الحال.» وفيما يخص الهوية العرقية في فترة ما قبل الحداثة، فإن «دورها ضئيل فيما يتعلق بالتجسد المؤسسي إذا تجاوزنا المستوى المحلي.»
13
في الحقيقة، حسبما يميل مؤرخو العصور الوسطى إلى الإشارة، كان يوجد قدر كبير من الاستمرارية المؤسسية في حقب ما قبل الحداثة، وبعضها كان مرتبطا بالعرق والدين. على سبيل المثال، لفتت سوزان رينولدز الانتباه إلى العديد من «الممالك» البربرية التي خلفت الإمبراطورية الكارولينجية في أوروبا الغربية، ووصفتها بأنها مجتمعات يجمعها القانون والتقاليد والنسب، ومرتبطة بالبيت الحاكم وسلالته؛ مشيرة إلى الأنجلوساكسونيين، والفرنجة، والقوط الغربيين، والنورمانديين، والساكسونيين. أصبحت أساطير النسب، التي تشير عادة إلى إينياس الطروادي أو إلى نوح، مهمة كمسوغات تكسب الشرعية لمزاعم الانتساب إلى سلالة الزعماء البربريين وعائلاتهم. إلا أنه على النقيض من فترة ما بعد الإمبراطورية الرومانية السابقة، التي شهدت عمليات سياسية وعرقية أكثر تغيرا، فإن القرن العاشر وما بعده شهد عملية تأصل سياسي وعرقي، وبدايات تلك الانقسامات العرقية السياسية التي أسفرت لاحقا عن الدول القومية القائمة على العرق في أوروبا الغربية. وعلى الرغم من أن سوزان رينولدز تفضل استخدام مصطلح «ممالك» بدلا من «أمم» معتبرة أن من المحتمل جدا إساءة التفسير الغائي للمصطلح الأخير ودمج أفكار العصور الوسطى بالتصورات الحديثة المألوفة إلى حد بعيد عن الأمة، فإنه واضح أنها وغيرها من مؤرخي العصور الوسطى يشيرون إلى أشكال من الاستمرارية العرقية السياسية، التي قد تمثل أو لا تمثل أساسا للدول القومية اللاحقة. يشبه ذلك - إلى حد ما - الحال مع تحليل جوسيب إيوبيرا للنطاقات الجغرافية والإدارية لبريطانيا، وبلاد الغال، وجيرمانيا، وإيطاليا، وهسبانيا في العصور الوسطى. ذلك أنه على الرغم من تأكيد إيوبيرا على الطبيعة المؤقتة - بل الوهمية - لما قد يبدو أنه استمراريات قومية في تلك النطاقات، فإنه لا يألو جهدا أيضا ليوضح أن القوميات الحديثة «جذورها متأصلة في ماضي العصور الوسطى، حتى إذا وجد احتمال أن تكون روابطها بذلك الماضي معقدة وملتوية على الأغلب.»
Bilinmeyen sayfa
14
توجد نقطة إضافية: إن مصطلح «مؤسسة» قد لا يشير فقط إلى الأشكال الاقتصادية والسياسية والقانونية المألوفة لنا في العالم الحديث، بل أيضا إلى الأشكال الثقافية التي حللها جون أرمسترونج في كتابه الرائد عن العرقية في الإسلام والمسيحية في العصور الوسطى، ويتمثل جانب من تلك الأشكال في أساليب الحياة، والارتباط ب «الوطن»، و«الأساطير المحركة» الإمبراطورية، والأنماط واللغة والتعليم الخاصة بالحضر، والمؤسسة الدينية والطقوس الدينية، والتقاليد الفنية. وهذا يعني أن تصور المؤسسات لدى الحداثيين أمثال جون بروييه وإريك هوبزبوم مقيد جدا، ويحتاج إلى أن يشمل أي مجموعة من الأدوار المتبادلة القائمة على توقعات عرفية وثقافية نمطية.
15
الأمر الثالث الذي يفرق الحداثيين عن أتباع فلسفة الحكمة الخالدة الجديدة يتعلق بدور الدين. بالنسبة إلى كثير من الحداثيين، فإن الدين فئة متبقية في العالم الحديث، ومرتبطة بطريقة عكسية بالأمم والقومية. حتى بينيدكت أندرسون، الذي بدأ بالتوضيح غير المباشر لأهمية الأمة باعتبارها طائفة تقوم على فضيلة كامنة قادرة على أن تظل خالدة ولا يطويها النسيان، يدير ظهره للدين كمتغير تفسيري. ومع تطوير حجته، يصبح من الواضح أن الدين لا يمكن أن يلعب دورا في أمر يمثل في نهاية المطاف تفسيرا ثقافيا للقومية قائما على أساس مادي.
16
الآن، على الرغم من أن الرؤية الحداثية الضيقة لدور الدين قد تكشف عن تفسير معين للثورتين الفرنسية والأمريكية، وكذلك تأثير أطروحة العلمنة التي سادت عقود ما بعد الحرب، فإنه لا يمكن أن يمثل دليلا على مكان الدين في حقب ما قبل الحداثة ذات التكوين العرقي والقومي، أو على الإحياء الحديث ل «القوميات الدينية» خارج الغرب وداخله. في كلتا الحالتين، لعب الدين و«المقدسات» دورا حيويا، ومن المستحيل فهم معاني الأمم والقومية دون فهم الروابط بين الموضوعات الدينية المتكررة والطقوس الدينية وبين الأساطير والذكريات والرموز العرقية والقومية اللاحقة. ومن الواضح أنه لا يكفي أن نقول إن الأمم والقوميات نشأت من رحم الأنظمة الثقافية الدينية العظيمة في عالم العصور الوسطى، ومناهضة لها. يجب أن ندرك تعقيد العلاقات المستمرة بين الأديان وأشكال المقدسات من ناحية، والرموز والذكريات والتقاليد القومية من ناحية أخرى، والطرق التي من خلالها ما زالت الأمم المعاصرة ممزوجة بالمعاني المقدسة. وهذا موضوع آخر سأعود لتناوله في الفصول القادمة. (3) البدائية
على غرار الحداثيين، يسعى أتباع فلسفة الحكمة الخالدة الجديدة إلى بناء حججهم وأطروحاتهم على أساس الدليل التاريخي، ويحذرون التفسيرات التي تقدم مستويات شرح أخرى أبسط كثيرا. حتى الروايات الأكثر تعميما من بين رواياتهم، مثل اعتقاد هستنجز أنه يوجد أساس مسيحي للأمم والقومية، تظل على مستويات التفسير من منظوري التاريخ وعلم الاجتماع. رغم ذلك، يرى آخرون أن هذا التكتم المنهجي لا يمكن أن يتوافق مع الانتشار الواسع للموضوعات التي تثيرها العرقية والقومية وقوتها الصرفة، ولا سيما تلك الموضوعات التي يثيرها السؤال الذي يتجنبه الحداثيون، المتمثل في السبب الذي يجعل كثيرا من الأشخاص، ولو على نحو نسبي، على استعداد للتضحية بأنفسهم حتى يومنا الحاضر من أجل الأمة، مثلما كانوا على استعداد للتضحية بأنفسهم من أجل دينهم.
يكمن الجواب عن هذا السؤال في مفهوم «البدائية». كان إدوارد شيلز هو من قدم هذا المفهوم من الأساس، وقد حدد أنواعا مختلفة من الروابط - الشخصية والمقدسة والمدنية والبدائية، ثم تولى فكرة الروابط البدائية كليفورد جيرتس، الذي سعى لتفسير سبب المشاكل التي تؤرق الدول الجديدة في أفريقيا وآسيا من ناحية الصراع بين رغباتهم في نظام فعال عقلاني يقوم على «الروابط المدنية» وبين انشقاقاتهم المستمرة وارتباطاتهم «البدائية» ب «مسلمات» اجتماعية وثقافية معينة - متعلقة بالقرابة والعرق والدين والعادات واللغة والأرض؛ مما أسفر عن انقسام الكيانات السياسية الجديدة انقساما تاما. كان جيرتس نفسه حريصا على التأكيد على أن الأفراد هم من نسبوا إلى مثل هذه الروابط البدائية صفات ملزمة ومسيطرة وأقوى وأجل كثيرا من أن يمكن وصفها. إلا أن هذا لم يمنع بعض النقاد من انتقاد «البدائية» (وهو مصطلح لم يستخدمه جيرتس مطلقا) باعتبارها تمويها غير اجتماعي للتفاعلات بين البشر.
17
رد ستيفين جروسبي مدافعا عن شيلز وجيرتس، وكان جروسبي حاول أن يبني منهجا ل «الروابط البدائية» يقوم على أساس معتقدات البشر وإدراكهم للخواص المعززة للحياة التي تختص بها سمات ثابتة معينة تميز حالتهم. يرى جروسبي أن اثنتين من تلك السمات ضروريتان، وهما: القرابة والأرض، وربما تكون الأرض ضرورية أكثر من القرابة، نظرا للاعتقاد الشائع المتعلق بصفات الأرض ومنتجاتها التي تدعم الحياة وتحافظ عليها. بالنسبة إلى جروسبي، فإن المجموعات العرقية والقوميات موجودة «بسبب وجود تقاليد عقائدية وفعلية متعلقة بالأشياء البدائية مثل السمات البيولوجية والموقع الإقليمي بصفة خاصة»؛ ومن ثم، فإن «الأسرة، والموقع، و«قوم» المرء وعشيرته يصنع كل منها الحياة وينقلها ويحفظها.» لهذا السبب، يخلع البشر صفة القداسة على الأشياء البدائية، ولهذا السبب ضحوا في الماضي وما زالوا يضحون بحياتهم من أجل الأسرة والأمة. ويسعى جروسبي إلى توضيح أن مثل هذه الخواص لا تزال جوهرية إلى وقتنا الحاضر؛ ومن ثم يمكننا أن نتحدث عن عنصر البدائية المستمر حتى في المجتمعات الحديثة المعقدة، وهذا العنصر من الحماقة أن نغفل عنه، ومن الضلال السعي إلى تفكيكه.
Bilinmeyen sayfa
18
حقيقي أن «البدائية» «في حد ذاتها» لا يمكن أن تخبرنا إلا بالقليل عن أصول الأمم وشكلها الثقافي (على الرغم من أنها تشرح عمليات التكون العرقي والتفكك العرقي). وندرك ذلك عندما نتأمل عمل «بيير فان دن بيرج» الأكثر راديكالية من بين من شرحوا وجهة النظر تلك. على الرغم من أنه حاول مؤخرا الإجابة عن سؤال أصل «الأمم»، فإنه يصوغ نظريته الأساسية المتعلقة بدوافع التناسل الجينية على المستوى البيولوجي، وتضم النظرية كل مجموعات القرابة الممتدة. علاوة على ذلك، نظرا لأن هذه المقاربة متعلقة بالأفراد، فإنها تؤدي إلى صرف الانتباه عن الأسئلة التاريخية الأسمى حول تكوين الأمم. ومع ذلك، يخصص فان دن بيرج كذلك جزءا للثقافة، في صورة علامات مثل الملبس واللون والكلام، وهذه العلامات تميز بين الأجناس والجماعات العرقية، وتقدم أدلة على القرابة الجينية، وتصاحبها أساطير سلف السلالة التي يزعم أنها تعكس خطوط نسب فعلية. على الرغم من ذلك، فإنه يعبر عن نظريته الأساسية من ناحية سمات بيولوجية مثل زواج الأقارب، ومحاباة الأقارب، و«الأهلية الشاملة»، والإجابات عن الأسئلة المتعلقة بأصول «الأمم» وأنماطها هي عامة بالضرورة ومأخوذة من عوامل خارجية إضافية مثل ظهور الدولة.
19
يتمثل الإسهام الفريد الذي قدمه أتباع الفلسفة البدائية في تركيز انتباهنا على الحماس والشغف الذي تثيره في أغلب الأحيان العرقية والقومية؛ هذان الأمران اللذان يفشل الحداثيون في مواجهتهما حتى عند إدانتهم لهما. من ناحية أخرى، تترك البدائية أسئلة أخرى مثل تلك المتعلقة بوقت نشوء الأمم وطابعها دون جواب، بالإضافة إلى أن تركيزها الضيق الأفق وإصرارها العام على أن العرقية والأمة توجد «ببساطة» في الطبيعة البشرية؛ يحولان دون إجراء تحليل تاريخي يهتم على نحو أكبر بأسباب وتاريخ تكون الأمم وشكلها.
20
يمثل العمل التاريخي لستيفين جروسبي استثناء لهذا التعميم. إن أبحاثه الأكاديمية المتعلقة بوجود «الجنسية» في العالم القديم، لا سيما في إسرائيل القديمة، التي سوف أتناولها بمزيد من التفصيل لاحقا، تكشف كيف يمكن للاهتمام بالروابط البدائية أن يكون مصدر إلهام، وتوضيحا لتحليل تاريخ مفصل لأمثلة واقعية، متعلقة في هذه الحالة بالجماعات العرقية والجنسيات في الشرق الأدنى القديم. في رأي جروسبي، فإن «الجنسية» (كما يفضل أن يطلق عليها) واحدة من فئات تحليلية عديدة، بالإضافة إلى الإمبراطورية، والدولة المدينة، والاتحاد القبلي. وعلينا أن نفرق جيدا بينها وبين تلك الفئات الأخرى، من الناحية العامة ومن ناحية السياق الواقعي الغامض - في الغالب - للشرق الأدنى القديم. في هذا الصدد، يوضح جروسبي نقطة جوهرية يمكن أن تمثل دليلا وتحذيرا - من تأكيدات الحداثيين العقائدية وناقديهم - بقدر ما تذكرنا بالصعوبات الكامنة المتعلقة بربط تصنيفاتنا وتعريفاتنا بالأدلة المأخوذة من الهويات الثقافية الجمعية في سجلاتنا التاريخية، والتي غالبا ما تكون أدلة ضئيلة؛ وذلك لأن من بين أهدافه الأساسية في أبحاثه في التاريخ وعلم الاجتماع توضيح الحقيقة المتمثلة في أنه حتى في العالم المعاصر تكون الحدود التي تفصل بين تصنيفات الدراسات التي تجرى على الجماعات التاريخية المتنوعة قابلة للاختراق. ويعبر عن هذا قائلا: «نادرا ما تتلاءم الجماعة بدقة مع فئة تحليلية معينة. وهذا الأمر لا ينطبق فقط على جماعات العصور القديمة، بل على الدولة القومية الحديثة أيضا.»
21
خاتمة
يعيدنا هذا مرة أخرى إلى موضوع التعريف الذي لا مفر منه؛ إذ يبدو أنه عند محاولة تقديم إجابة لسؤال: «متى تنشأ الأمة؟» ذلك السؤال الذي يبدو بريئا، فتح ووكر كونور الباب لإجراء مزيد من الأبحاث المتعلقة بعدد هائل من المسائل، وهي مسائل متعلقة بموارد النخب، ومشاركة العوام، والاستمرارية المؤسسية، والدين، والمقدسات، والبدائية، والأقاليم. لكن لعل المسألة الأصعب من بين هذه المسائل هي تلك المتعلقة بالتصنيفات والتعريفات نفسها التي نوظفها، وعلاقتها غير المؤكدة بالجماعات التي نسعى إلى دراستها. وهذا يعني أننا لا يمكننا التهرب من المسألة المألوفة المتمثلة في تحديد مفهوم الأمة. إن سؤال «متى تنشأ الأمة؟» في حد ذاته يتطلب محاولة سابقة لحل السؤال المعقد والمألوف الخاص بعلم الاجتماع المتمثل في «ما الأمة؟» عندها فقط يمكننا أن نلتفت إلى الموضوع المحوري المتعلق بالظروف التي نشأت الأمم في ظلها، وندرس التقاليد الثقافية التي شكلت ظهورها.
الفصل الأول
Bilinmeyen sayfa
مفهوم الأمة وأشكالها المتنوعة
قبل الشروع في دراسة موضوعية لعلم الاجتماع التاريخي للأمم والقومية، يجب أن يكون لدينا أولا فكرة واضحة عن الموضوعات التي ندرسها. ثانيا: ينبغي علينا دراسة العمليات الاجتماعية والموارد الثقافية لتكون الأمم واستمراريتها. ثالثا: تتطلب مسألة أمم ما قبل الحداثة نظرة تاريخية عميقة ودراسة ثقافية في علم أنساب الأمم تعود إلى الشرق الأدنى القديم والعالم الكلاسيكي، إذا كنا سنقيم التقاليد التي تكونت من خلالها أنواع مختلفة من الهويات القومية في أوائل العصر الحديث. تلك إذن مهام كل فصل من الفصول الثلاثة القادمة.
يرى التصور الحداثي للأمة أنها الشكل السياسي الأساسي للمجتمع البشري الحديث. بالنسبة إلى معظم الحداثيين، فإن الأمة تتصف بما يلي: (1)
إقليم واضح المعالم، ذو مركز ثابت وحدود مرسومة بوضوح ومراقبة. (2)
نظام قانوني موحد، ومؤسسات قانونية مشتركة داخل إقليم معين، تخلق مجتمعا قانونيا وسياسيا. (3)
مشاركة من قبل كل الأعضاء أو «المواطنين» في الحياة الاجتماعية وسياسات الأمة. (4)
ثقافة عامة جماهيرية تنشر من خلال نظام تعليمي جماعي موحد عام. (5)
حكم ذاتي جماعي راسخ في دولة إقليمية ذات سيادة لأمة معينة. (6)
عضوية الأمة في نظام «دولي» لمجتمع الأمم. (7)
إقرار شرعية الأمة ، إن لم يكن خلقها، من خلال أيديولوجية القومية.
Bilinmeyen sayfa
هذا، بطبيعة الحال، نوع خالص أو مثالي لتصور الأمة الذي تتشابه معه أمثلة بعينها، ويمثل معيارا للأمة في حالات محددة. وعلى هذا النحو، أصبح تقريبا وعلى نحو مسلم به «المعيار» الحاسم الذي يمثل أي تصور آخر غيره انحرافا عنه.
1 (1) مشاكل التصور الحداثي
إلا أن الاستقصاء بمزيد من الكثب يكشف أن التصور الحداثي للأمة ذو خصوصية تاريخية. وعلى هذا النحو، فإنه يتعلق فقط بشكل واحد من الأشكال التاريخية للمفهوم، وهو «الأمة الحديثة». وهذا يعني أنه شكل مختلف معين من المفهوم العام للأمة، له سماته الاستثنائية، التي قد يشترك في بعضها فقط أنواع أخرى أو أشكال مختلفة من المفهوم العام.
هل يمكن أن نكون أكثر تحديدا فيما يخص أصل النوع المثالي ل «الأمة الحديثة»؟ إن إلقاء نظرة على سماته البارزة - الإقليمية، والوحدة القانونية، والمشاركة، والثقافة الجماهيرية والتعليم الجماعي، والسيادة، وغيرها - يضع هذا التصور مباشرة فيما يطلق عليه التقليد «الإقليمي المدني» لأوروبا الغربية وأمريكا الشمالية في القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر. لم يصبح تصور الأمة الذي تميز بالثقافة المدنية العقلانية لعصر التنوير - لا سيما المرحلة الأخيرة منه المتعلقة بالاختيار ما بين الأسلوب «الأسبرطي» وأسلوب «الكلاسيكية الحديثة» المرتبطة بالفلاسفة روسو وديدرو وديفيد - شائعا إلا في عصر الثورات والحروب النابليونية. وكما وثق هانز كون منذ سنوات عديدة، فإن هذا التصور للأمة ازدهر أساسا في تلك الأجزاء من العالم التي تولت فيها الطبقة البرجوازية القوية مهمة الإطاحة بالحكم الملكي المتوارث والامتياز الأرستقراطي من أجل «الأمة». ليس هذا هو نوع الأمة المتخيلة، ولا حتى المكونة، في أجزاء أخرى كثيرة من العالم، كانت فيها تلك الظروف الاجتماعية أقل اكتمالا أو غائبة تماما.
2
الآن، إذا كان مفهوم «الأمة الحديثة» وسماته الاستثنائية مستمدا من ظروف القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر في الغرب، فإن النموذج المثالي الحداثي متحيز حتما؛ لأنه يشير إلى نوع فرعي محدد من المفهوم العمومي للأمة، وهو نوع «الأمة الحديثة»، وإلى نوع واحد فقط من القومية ، وهو نوع القومية الإقليمية المدنية. وهذا يعني أن نسخة معينة من مفهوم عام تمثل النطاق الكامل من الأفكار التي يشملها ذلك المفهوم؛ نسخة تحمل كل سمات الثقافة الخاصة بزمان ومكان معينين. وهذا يعني أيضا أن التأكيد على حداثة الأمة ليس إلا إطنابا، وهو إطناب يستبعد أي تعريف منافس للأمة يخرج عن إطار الحداثة والغرب. لقد أصبح التصور الغربي للأمة «الحديثة» مقياسا لإدراكنا مفهوم الأمة «في حد ذاتها»؛ مما أسفر عن جعل كل التصورات الأخرى غير مشروعة.
بعيدا عن الأسباب المنهجية، فإن ثمة عددا من الأسباب التي تستوجب رفض مثل هذا الشرط التعسفي. في المقام الأول، مصطلح أمة باللاتينية «ناشيو» مشتق في نهاية الأمر من فعل «ناشي» الذي يعني «يولد»، ولمعنى هذا المصطلح تاريخ طويل، إن لم يكن معقدا، يعود إلى قدماء الإغريق والرومان. وكما رأينا، له استخدامه الذي لم يكن مقتصرا على طلاب في جامعات العصور الوسطى يوصفون بناء على موقعهم الجغرافي، أو على أساقفة مجتمعين في المجالس الكنسية ولدوا في أجزاء مختلفة من العالم المسيحي. إنه مستمد من ترجمة الفولجاتا اللاتينية للعهد القديم والعهد الجديد، ومن كتابات آباء الكنيسة الذين جعلوا اليهود والمسيحيين في مواجهة مع الأمم الأخرى الذين يطلق عليهم في مجملهم «تا إثني» وتعني الأمميين. استخدمت الإغريقية القديمة نفسها مصطلح «إثنوس» لكل أنواع الجماعات المشتركة في صفات متشابهة (وليس البشر فقط)، لكن المؤلفين أمثال هيرودوت استخدموا أحيانا المصطلح الشبيه «جينوس». وفي هذا الصدد، لم نكن مختلفين عن اليهود القدماء، الذين استخدموا في العموم مصطلح «آم» للإشارة إلى أنفسهم - آم إسرائيل - واستخدموا مصطلح «جوي» للإشارة إلى الشعوب الأخرى، لكن هذا النمط لم يكن متسقا إلى حد بعيد. كان الرومان أكثر اتساقا؛ إذ خصوا أنفسهم بتسمية «بوبيولوس رومانوس» - وتعني الشعب الروماني - وخصصوا المصطلح الأقل أهمية «ناشيو» - ويعني أمة - للإشارة إلى غيرهم، لا سيما القبائل البربرية البعيدة. إلا أنه مع الوقت أصبحت كلمة «ناشيو» تشير إلى كل الشعوب، بما فيهم قوم المرء وعشيرته. لا يمكننا اعتبار استخدامات ما قبل الحداثة لكلمة «ناشيو»/أمة استخدامات خاصة بوصف الأجناس البشرية على نحو صرف؛ فهي على النقيض من المفهوم السياسي للاستخدام الحديث؛ لأن هذا لا يمثل على نحو كاف مجموعة حالات العالم القديم وعالم العصور الوسطى التي جمعت بين كلا الاستخدامين، بداية من إسرائيل القديمة. على الرغم من أن معاني المصطلحات تمر غالبا بتغيير كبير مع تعاقب الأزمنة، فإننا ما زلنا عاجزين عن صرف النظر بسهولة عن التاريخ الطويل للاستخدامين السابقين للمصطلح قبل ظهور الحداثة.
3
تتعلق مشكلة أخرى بالتصور الحداثي ل «أمة العوام». لقد تناولنا ذلك جزئيا فيما يتعلق بفرضية ووكر كونور التي تقول إن مشاركة العوام في حياة الأمة هي معيار وجودها؛ ومن ثم، في ظل الحكم الديمقراطي، فإنه توجد حاجة إلى منح حق التصويت لأغلبية السكان كشرط لوصفها بالأمة. إلا أن الأمر يتجاوز هذا الموضوع بعينه. يعتبر الحداثيون أمثال كارل دويتش، وإرنست جيلنر، ومايكل مان «أمة العوام» الشكل الأصلي فقط للأمة؛ ونتيجة لذلك يتعاملون مع الأمة على أنها ظاهرة حديثة تماما. وبطبيعة الحال، فإن واضعي النظريات مؤهلون على نحو تام لوصف ظاهرة معينة - «أمة العوام» في هذه الحالة - بأنها «الحقيقة» السياسية الوحيدة، واعتبار كل نسخة أخرى ثانوية وغير حقيقية، إن لم تكن مضلة. إلا أنه إذا استطاع مؤرخو العصور الوسطى إظهار الأساس التاريخي والأهمية التاريخية للنسخ الأخرى، وهذه بالضبط نقطة محل بحث من قبل أتباع فلسفة الحكمة الخالدة الجديدة، فإن موقف الحداثيين يصبح مرة أخرى متعسفا ومقيدا على نحو غير ضروري. وهذا ينطبق أيضا على الزعم الأضعف القائل إن أمة العوام الحديثة هي النسخة «الأكثر تطورا» للأمة، وأن كل النسخ الأخرى ناقصة إلى حد ما، هل هذا يعني أننا لا يمكننا التفكير في أنواع أخرى من الأمم استبعد منها العوام؟ على أي حال، حتى وقت طويل في الحقبة المعاصرة قليل من الأمم المعروفة يمكن وصفه بأنه «أمم عوام»؛ لأن أعضاء كثيرين من سكانها، لا سيما الطبقة العاملة والنساء والأقليات العرقية، ظلوا فعليا مستبعدين من ممارسة الحقوق المدنية والسياسية؛ لذلك، يجب على الأقل أن نكون مستعدين لقبول احتمالية وجود أنواع أخرى من «الأمم» بعيدا عن «أمم العوام».
4
Bilinmeyen sayfa
ثمة مشكلة أخرى تنبع من التأكيد الحداثي الشائع القائل إن الأمم ناتجة عن القوميات (بمساعدة الدولة أو دون مساعدتها)، ونظرا لأن «القومية»، باعتبارها حركة أيديولوجية، لم تظهر قبل القرن الثامن عشر، فالأمم لا بد أن تكون حديثة أيضا. إلا أننا حتى لو قبلنا أن القومية، باعتبارها أيديولوجية منهجية، لم تظهر قبل القرن الثامن عشر، فإن افتراض أن القوميين فقط هم من يكونون الأمم هو افتراض مشكوك فيه، وهذا صحيح حتى لو عرفنا حركة القومية «الأيديولوجية»، بالإضافة إلى الأيديولوجيات الأخرى بمصطلحات «حداثية» نسبيا، وأعتقد أننا يجب أن نفعل ذلك فقط من أجل تجنب الخلط بينها وبين مفاهيم أكثر عمومية مثل مفهوم «الحس الوطني» أو مفهوم «الوعي الوطني».
الآن، عند قول «القومية» فإنني أقصد «حركة أيديولوجية للحصول على الاستقلال الذاتي والوحدة والهوية والحفاظ عليها نيابة عن سكان يعتقد بعض أفراد منهم أنهم يكونون أمة فعلية أو محتملة.» وبالمثل، أعتقد أننا نستطيع تحديد «عقيدة أساسية» للقومية؛ أي مجموعة مبادئ عامة يتمسك بها القوميون، على النحو الآتي: (1)
العالم مقسم إلى أمم، لكل منها تاريخها، ومصيرها، وشخصيتها. (2)
الأمة هي المصدر الوحيد للسلطة السياسية. (3)
من أجل الحرية لا بد أن ينتمي كل فرد إلى الأمة ويمنحها ولاء أساسيا. (4)
يجب أن تمتلك الأمم أقصى قدر من الاستقلال الذاتي والتعبير عن الذات. (5)
العالم العادل والسلمي يجب أن يكون قائما على تعددية من الأمم الحرة.
على هذا النحو، لم يتبن الكتاب والمفكرون في أوروبا الغربية وأوروبا الوسطى من روسو وهيردر إلى فيشته وماتسيني أيديولوجيات «القومية» إلا في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر؛ ومن ثم، فإن القومية مذهب حديث، والعلامة الأيديولوجية المميزة لتلك الحداثة تكمن في الافتراضات الحديثة نسبيا المتعلقة بالاستقلال السياسي والأصالة التي يقوم عليها هذا المذهب، وطريقة تضافرها مع الأنثروبولوجيا السياسية.
5
إلا أن هذا لا يجعلنا ننكر أن بعض عناصر ذلك المذهب تعود إلى أبعد من ذلك بكثير. على سبيل المثال، كانت أفكار الأمة والمجاملات الدولية حاضرة بوضوح في مجمع كونستانس عام 1415، ويمكننا العثور على الكثير من الإشارات إلى الأمم وعلاقاتها في قرون سابقة، تعود إلى العصر القديم، حتى لو كان تفسيرها يمثل مشاكل خطيرة. هذا يعني أن بعض التصورات عن الأمة تسبق بعدة قرون ظهور القومية وتفسيراتها الخاصة للأمة؛ ونتيجة لذلك فإن مفهوم الأمة لا يمكن أن يكون مشتقا ببساطة من أيديولوجية «القومية». إن قصر مفهوم الأمة وممارسته على عصر القومية، واعتبارهما من نتائج هذه الأيديولوجية الحديثة، هو مرة أخرى تعسف وتقييد زائد عن الحد.
Bilinmeyen sayfa
6
إلا أن أخطر عيوب النوع المثالي الحداثي ل «الأمة الحديثة» قد يكون التعصب العرقي المتأصل. وقد أدرك كثير من أصحاب النظرية هذا الأمر بطبيعة الحال. ورغم ذلك، فقد استمروا في التعامل مع النوع الإقليمي المدني من الأمة الحديثة وقوميتها على أنها المعيار، واعتبروا الأنواع الأخرى انحرافات. وكان هذا هو أساس تقسيم القوميات إلى «غربية» و«غير غربية» المذكور سابقا الذي قدمه هانز كون ولاقى احتفاء. القوميات غير الغربية، على النقيض من نظائرها العقلانية، المستنيرة، الليبرالية، تميل إلى أن تكون عضوية، وصاخبة، وسلطوية، وصوفية غالبا، وتلك مظاهر تقليدية لنخبة مثقفة ضعيفة ومعزولة. وكان من بين المنظرين الذين اتبعوا تقسيم كوهن جون كل من بلاميناتس، وهيو سيتون واتسون، ومايكل إيجناتياف، وكثير غيرهم ممن يرون أن الفرق الشائع بين القوميات «المدنية» والقوميات «العرقية» يتضمن هذا التقليد المعياري.
7
الآن، على الرغم من أن هؤلاء المنظرين قد يعترفون بأن القوميات «العرقية» تتشارك مع القوميات «المدنية» في بعض سمات مثل الارتباطات الجماعية ب «الوطن»، بالإضافة إلى مثل الاستقلال الذاتي والمواطنة بالنسبة إلى «الشعب»، فإنهم يسلطون الضوء أيضا على اختلافات كبيرة جدا. في النسخة «العرقية» من القومية، تعتبر الأمة ممتلكة لما يلي: (1)
روابط النسب: على نحو أكثر تحديدا، هي روابط مفترضة بسلالة عرقية تعود عبر الأجيال إلى سلف مشترك واحد أو أكثر؛ ومن ثم وجود عضوية في الأمة من ناحية الأصل المفترض. (2)
ثقافة محلية: ثقافة ليست عامة ومميزة فحسب، بل أيضا أصيلة في الأرض والشعب من ناحية اللغة والتقاليد والدين والفنون. (3)
تاريخ للسكان الأصليين: إيمان بفضائل التاريخ الأصلي وتفسيره الخاص لتاريخ الأمة ومكانتها في العالم. (4)
الحشد الشعبي: إيمان بأصالة «الشعب» وطاقته وقيمه، والحاجة إلى إثارة الشعب وتحفيزه لخلق ثقافة وطنية وكيان سياسي وطني حقا.
هذا يدل على أن الأمة، من منظور القوميين العرقيين، موجودة بالفعل عند ظهور كل من الحداثة والقومية في شكل جماعات عرقية قائمة من قبل متاحة وجاهزة لدفعها إلى عالم الأمم السياسية، إن جاز التعبير؛ لذلك، في ظل نظرة أتباع فلسفة الحكمة الخالدة الحديثة على سبيل المثال، فإن الأمة العربية، المنحدرة من قبائل تتحدث العربية في شبه الجزيرة العربية، استمرت عبر التاريخ، على الأقل منذ وقت النبي، وتظهر السمات التقليدية للأمة «العرقية» المتمثلة في روابط الأصل النسبي المفترض، وثقافة محلية أصلية تقليدية (أبرزها الثقافة العربية القرآنية)، وتاريخ عرقي عربي أصيل، ومثال «العرب» المسلمين الذين يحتذى بهم بوصفهم مصدر الحكمة والفضيلة والذين يجب تعبئتهم فحسب من أجل تحقيق الاستقلال السياسي. في هذه الحالة والحالات المشابهة، نشهد فشل الحداثة في تضمين هذا التصور العرقي للأمة المختلف كثيرا، وهذا الفشل بدوره نابع من رفضها النظري لأي ربط ضروري بين العرقية والأمة.
8 (2) الفئة والوصف
Bilinmeyen sayfa
من المشاكل الرئيسية للتصور الحداثي فشله في إدراك أن مصطلح «الأمة» يستخدم بطريقتين مختلفتين تماما؛ فهو، من ناحية، يدل على فئة تحليلية تميز بين الأمة وغيرها من فئات الهوية الثقافية الجمعية الأخرى المشابهة، ومن ناحية أخرى، يستخدم باعتباره مصطلحا وصفيا يعدد سمات نوع تاريخي من المجتمع البشري. ويزيد من صعوبة هذه المشكلة حقيقة أن النوع التاريخي من المجتمع البشري الذي يدل عليه مصطلح «الأمة» إما ثقافي أو سياسي أو كلاهما، وهذا يعني أنه يصف نوعا من المجتمعات البشرية يعتقد أنه يملك هوية ثقافية جمعية أو هوية سياسية جمعية، أو كلتيهما.
9
بالطبع لا يوجد شيء غير صحيح في استخدام مصطلحات مثل «الأمة» لوصف سمات أنواع معينة من المجتمع التاريخي. بل تنشأ المشكلة عندما يقيد الوصف على نحو تعسفي نطاق الأمثلة التي يمكن إدراجها تحت النوع المثالي للأمة الذي يعتبر فئة تحليلية. وبطبيعة الحال، فإن تحديد إلى أي مدى تبلغ خطورة هذا العيب هو مسألة خاضعة للتقدير الشخصي. إلا أنني أعتقد أن معظم الحداثيين، من منطلق موقفهم النظري، قد بالغوا في التوجه نحو التقييد التعسفي وغير الضروري للمصطلح. فلو أنهم اكتفوا بوصف مجموعة فرعية من الفئة العامة للأمة، أي «الأمة الحديثة»، لما وجدت مشكلة. إلا أنهم يواصلون التأكيد على أن هذه المجموعة الفرعية تمثل الكل، وهنا يصبح المصطلح التاريخي الوصفي متداخلا مع فئة تحليلية عامة. وهذا لا يعني تبني منهج فلسفة الحكمة الخالدة الجديدة الذي قد يصعب علينا التمييز بين النوع القومي وغيره من أنواع الهوية الثقافية أو السياسية الجمعية الأخرى، أو تحديد أمثلة المجتمعات والهويات التي تندرج تحت وصف «قومي». وهذه هي بالضبط نوعيات الفروق التي قد يمكننا تمييزها من خلال محاولة إبقاء «الأمة» باعتبارها فئة تحليلية منفصلة عن استخدامها كمصطلح وصفي.
10
نظرا للتبعات المعقدة لمفهوم الأمة، فإن فصل الفئة التحليلية عن الوصف التاريخي للأمة ليس بالمهمة السهلة؛ فالاستخدام الوصفي للمصطلح سيكون ضروريا كي نعدد سمات الأنواع الفرعية المختلفة للأمة باعتبارها فئة عامة. إلا أننا قبل الشروع في هذا الوصف التاريخي نحتاج إلى فهم واضح للأمة باعتبارها فئة تحليلية عامة مختلفة عن الفئات الأخرى ذات الصلة.
ومن ثم، فالخطوة الأولى هي تحديد مفهوم الأمة في إطار نموذجي مثالي؛ ومن ثم إدراك الطبيعة الثابتة للفئة التحليلية بصفتها نموذجا مثاليا يتجاوز الحدود التاريخية. في هذا الصدد، يمثل مصطلح «أمة» فئة تحليلية تقوم على عمليات اجتماعية عامة «يمكن» من الناحية النظرية أن تتمثل في أي فترة من فترات التاريخ. من خلال التمييز بين الأمة باعتبارها فئة تحليلية وفئات الهوية الجمعية الأخرى، يمكن أن نتجنب وصف كل أنواع المجتمعات والهويات بأنها «أمم». وفي الوقت نفسه، يتيح هذا الإجراء فرصة لتخليص فئة الأمة هذه من القيود غير الضرورية، وتتيح إمكانية العثور على أمثلة للأمة قبل العصر الحديث وخارج نطاق الغرب، إذا أشارت الأدلة إلى ذلك؛ ومن ثم، فإن مفهوم الأمة، مثل مفهوم الجماعة الدينية والانتماء العرقي، يجب أن يعامل في المقام الأول كفئة تحليلية عامة، من الممكن تطبيقها من الناحية النظرية على كل القارات وكل الفترات التاريخية. من ناحية أخرى، فإن مضمون «الأمة»، كنوع تاريخي من المجتمعات البشرية، ممثل في سمات محددة لأنواعها الفرعية، سوف يختلف باختلاف السياق التاريخي. فمع كل حقبة يمكننا أن نتوقع اختلافات مهمة في سمات الأمم، لكنها سوف تتفق رغم ذلك مع النوع الأساسي للفئة. ونظرا لأن النموذج المثالي للأمة يمثل في الوقت نفسه فئة تحليلية قائمة على عمليات اجتماعية عامة، وأيضا نوعا تاريخيا من المجتمعات البشرية يتميز إما بهوية ثقافية جمعية أو هوية سياسية جمعية أو كلتيهما معا، فمن المحتم أن يكون هذا النموذج المثالي من الأمة معقدا وإشكاليا؛ ولهذا السبب يكون بناؤه مهمة صعبة محاطة بالشكوك، ويتضمن بالضرورة عنصرا اشتراطيا.
11
من هذا المنطلق، أقدم التعريف النموذجي المثالي التالي ل «الأمة»؛ إنها «مجتمع بشري له تسمية وتعريف ذاتي، يبني أفراده أساطير وذكريات ورموزا وقيما وتقاليد مشتركة، ويقطنون موطنا تاريخيا يتماهون معه، ويخلقون ثقافة عامة مميزة وينشرونها، ويلتزمون بأعراف وقوانين عامة مشتركة.» وعلى نحو مشابه، من الممكن أن نعرف «الهوية القومية» بأنها «إعادة إنتاج وإعادة تفسير مستمرتان لنمط القيم، والرموز، والذكريات، والأساطير، والتقاليد التي تكون التراث المميز للأمم، وتماهي الأفراد مع ذلك النمط وذلك التراث.»
12
ثمة ثلاثة افتراضات هي التي أدت إلى اختيار سمات النموذج المثالي؛ الافتراض الأول هو: محورية العمليات الاجتماعية والمصادر الرمزية في تكوين الأمم واستمراريتها، ومنحها شخصيتها المميزة والمرنة. الافتراض الثاني هو: أن كثيرا من سمات النموذج المثالي مشتق من رموز، وتقاليد، وأساطير عرقية، وعرقية دينية سابقة، وأن الذكريات المشتركة بين السكان لا بد أن تكون متشابهة أو مترابطة. وكلا الافتراضين معا يجيبان عن سؤال: «ما الأمة؟» أي ما الشخصية الفريدة للأمة التاريخية؟ أما الافتراض الثالث، فهو أن تلك العمليات الاجتماعية والمصادر الرمزية، رغم خضوعها للتغيير الدوري، فإن صداها يمكن أن يتردد بين الجماعة السكانية على مدار فترات طويلة من الزمن. وهذا يعني أن تحليلنا لتكون الأمم واستمرارها يتطلب، كما بين جون أرمسترونج جيدا، دراسة تدقيقية للعمليات الاجتماعية والرمزية عبر الحقب التاريخية المتعاقبة على «المدى الطويل».
Bilinmeyen sayfa
13
إن الإصرار على تحليل العناصر الاجتماعية والثقافية على المدى الطويل يعني، في المقام الأول، معاملة الأمم على نحو منفصل عن «القومية»، وأن تكوين الأمم ينبغي أن يدرس بمعزل عن نشأة الحركة الأيديولوجية المتمثلة في القومية. ثانيا: من خلال الجمع بين الماضي (التاريخ)، والحاضر، والمستقبل (المصير)، يصبح الطريق مفتوحا أمام تحليل طويل المدى لظاهرتي العرقية والقومية عبر حقب مختلفة. وهذا بدوره قد يشير إلى طرق مختلفة يمكن من خلالها ربط السمات الاجتماعية والثقافية ل «العرقيات» (الجماعات العرقية) والأمم.
توجد ثلاث طرق أساسية يمكن من خلالها تحقيق هذه الروابط. أوضح هذه الطرق، وهي الطريقة التي ينتهجها معظم مؤرخي الأمم والدول، هي من خلال «استمرارية» الشكل، إن لم يكن المضمون. في هذا الصدد، نتحدث عادة عن الروابط بين مجتمعات العصور الوسطى (نادرا ما تكون مجتمعات العصور القديمة) وبين «الأمم الحديثة». وكما سنرى، حتى مؤرخو مجتمعات العصور الوسطى والقديمة يميلون إلى قياس مستوى «الأمة» بمقياس خصائص «الدولة الحديثة»؛ وذلك فقط من أجل إنكار وجود الأمم في فترة تلك المجتمعات. يتضمن هذا نوعا آخر من «القومية الاسترجاعية»، وفيها يعتبر الماضي مرآة للحاضر كما يقول بروس روتليدج؛ ومن ثم، فالطريقة العادية لزعم استمرارية أمم معينة هو تتبع أنساب الشكل الحديث للأمة وجذوره حتى العصور الوسطى، بالطريقة التي نصح بها أدريان هستنجز وأتباع فلسفة الحكمة الخالدة الجديدة لأوروبا الغربية. وكبديل آخر، يمكن للمرء أن يزعم أن بعض هذه الأمم الحديثة اعتمدت على السمات والمصادر الاجتماعية والرمزية ل «عرقيات» سابقة يزعمون أن صلة قرابة تربطهم بها، ويشعرون أنهم أسلافهم؛ ذلك الزعم الذي زعمه أنصار السلافية وغيرهم في أواخر عهد روسيا القيصرية عندما أعربوا عن وجود صلة قرابة قوية تجمعهم بدوقية موسكو القديمة (قبل عصر بطرس الأكبر)، وجماعة إحيائيي الغال الذين عثروا على مصادر الأمة الأيرلندية الحديثة ممثلة في ثقافة الرهبنة المسيحية في أيرلندا في العصور الوسطى المبكرة. في مثل هذه الحالات، يشكل فهم الماضي العرقي تصورات الحاضر اللاحقة بقدر ما يختار الحاضر من سمات ذلك الماضي، ومهمة المحلل هي محاولة إجراء نوع من التقييم للروابط التاريخية الموثقة، وكذلك الانقطاعات.
14
يتطرق النوع الثاني من الارتباط على «المدى الطويل» لفكرة «تكرر» الأشكال العرقية والقومية، بالإضافة إلى عناصرها الثقافية الاجتماعية الأساسية، على كل من المستوى الخاص والمستوى العام. ومن هذا المنظور، فإن كل الأمم وكذلك «العرقيات»، بالإضافة إلى الأنواع الأخرى من الهويات الجمعية الثقافية أو السياسية، هي ظواهر متكررة الحدوث؛ بمعنى أنها نماذج من المجتمع الثقافي والتنظيم السياسي الذي يمكن أن يوجد في كل فترة وفي كل قارة، والمعرضة لمد وجزر لا يتوقفان، فتظهر وتزدهر، ثم تتدهور وتختفي مرة أخرى، لتظهر مرة أخرى في بعض الحالات (بمساعدة القوميين أو دون مساعدتهم). مرة أخرى، يجب أن نلتفت إلى صفحات جون أرمسترونج من مجلده الهائل وعرضه الشامل للهويات العرقية والعناصر المكونة لها في العالم المسيحي والعالم الإسلامي في العصور الوسطى؛ لكي نفهم كلا من استمرارية وتكرر الهويات العرقية والقومية على «المدى الطويل».
15
أخيرا، يمكن تحقيق الروابط بين الماضي والحاضر من خلال «اكتشاف» التاريخ العرقي و«الاستحواذ» عليه. وهذا موضوع مألوف في الأدبيات التي تناولت القومية، يوجد عادة في الفصول التي تتحدث عن «الصحوة القومية» أو «الإحياء». إن المفكرين، بصفتهم كهنة الأمة الجدد وكتبتها، يوضحون فئة المجتمع القومي؛ ولهذا السبب يختارون السمات الرمزية والاجتماعية من الثقافات العرقية السابقة التي من المفترض أنها «مرتبطة» بمجتمعاتهم وسكانهم المحددين. ويحدث هذا غالبا من خلال اختيار لهجات أو تقاليد أو تراث شعبي أو موسيقى أو شعر من العناصر المحلية البارزة الخاصة لتمثل الأمة كلها، كما حدث في أجزاء من أوروبا الشرقية. المعيار هنا هو مذهب «الأصالة»، فمن أجل إعادة بناء المجتمع كأمة أصيلة صرف، يصبح من الضروري اكتشاف واستخدام السمات الثقافية التي يبدو أنها أصيلة وأصلية تماما، وغير متأثرة بالتراكمات الأجنبية أو التأثير الأجنبي، والتي تمثل المجتمع «في أفضل صوره». الأمر المثير هو أن مثل هذه المذاهب لها مثيلاتها في فترة ما قبل الحداثة. سعت معظم حركات ما قبل الحداثة إلى خلق مجتمعات تحاكي رؤى من ثقافات عرقية دينية سابقة، مثل: رغبة آشور بانيبال الشديدة في إعادة خلق حضارة بابلية عظمى في أواخر عهد الإمبراطورية الآشورية، أو استحضار كسرى الثاني للأسطورة والطقوس والتقاليد الإيرانية الأصلية في أواخر عهد الدولة الساسانية في بلاد فارس. إلا أننا وجدنا أيضا في أواخر عهد الجمهورية الرومانية أكثر من مجرد رغبة نابعة من الحنين إلى الماضي لاسترجاع الطرق الأصلية والعقيدة البسيطة الخاصة بالأسلاف والأجيال السابقة، إلى أشخاص من أمثال كاتو الأصغر وسكيبيو الأفريقي، من أجل اكتشاف ماض عرقي مبجل وفضيل والاستحواذ عليه.
16 (3) الأمة باعتبارها موردا ثقافيا
سألتفت الآن للاستخدام الرئيسي الثاني لمفهوم «الأمة»، كمصطلح وصفي لشكل من أشكال المجتمعات البشرية التاريخية. تتمثل السمة البارزة للأمة بوصفها شكلا من المجتمعات يتسم بالهوية الثقافية أو السياسية أو كلتيهما معا في دورها كنموذج لتنظيم اجتماعي ثقافي. إذا كان يتعين اعتبار الأمة فئة تحليلية على المستوى المفاهيمي، فمن الممكن اعتبارها أيضا على المستوى التاريخي المجرد موردا اجتماعيا وثقافيا، أو من الأفضل اعتبارها مجموعة مصادر ونموذجا يمكن استخدامهما بطرق مختلفة وفي ظروف متنوعة؛ فكما كانت إمبراطورية هان في الصين والإمبراطورية الأكدية في بلاد الرافدين نموذجين ومصدرين ثقافيين لمحاولات لاحقة لبناء إمبراطوريات في تلك المناطق وغيرها، فإن مملكتي إسرائيل ويهوذا، والدول المدن في أثينا القديمة وأسبرطة والجمهورية الرومانية مثلت جميعا نماذج وأدلة يهتدى بها لمجتمعات لاحقة. وهذا ليس من أجل الحكم مسبقا على سؤال ما إذا كانت تلك المجتمعات نفسها من الممكن وصفها بأنها مجتمعات «قومية»، أو إلى أي مدى يمكن وصفها بذلك، فقط من أجل القول بأن كثيرا من الأمم اللاحقة نظر إلى تلك الأمثلة كنماذج للأمة وأخذ منها مصادر معينة: مثلا ومعتقدات وانتماءات، واعتبرها أيضا نماذج للتنظيم الاجتماعي والثقافي.
لعل أفضل مثال على ما يجول في خاطري هو القبول الأوروبي لروايات الكتاب المقدس عن إسرائيل القديمة، وهذه نقطة أوضحها هستنجز لكنه لم يستفض فيها على نحو كاف. إن المسيحية لم تأخذ فحسب نموذج الكيان السياسي في العهد القديم - مملكة إسرائيل القديمة كما زعم - بل إن حكام العصور الوسطى ونخب الإمبراطوريات، والممالك، والإمارات في أوروبا من إنجلترا وفرنسا إلى بوهيميا ودوقية موسكو، وأيضا الكنائس والجامعات؛ أخذوا واستخدموا الأفكار والمعتقدات والارتباطات الخاصة بمجتمع بني إسرائيل القديم الذي «أصبحوا» يدركون أنه مجتمع «قومي». وقبل الإصلاح البروتستانتي بوقت طويل، أصبحت إسرائيل القديمة تمثل النموذج والدليل نحو خلق جماعاتهم المختارة وأقاليمهم التاريخية، ونشر ثقافاتهم المميزة.
Bilinmeyen sayfa