بحث كَون أصُول الْفِقْه أَرْبَعَة
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
الْحَمد لله الذى أَعلَى منزلَة الْمُؤمنِينَ بكريم خطابه رفع دَرَجَة الْعَالمين بمعاني كِتَابه وَخص المستنبطين مِنْهُم بمزيد الْإِصَابَة وثوابه والصلوة عَليّ النَّبِي وَأَصْحَابه وَالسَّلَام على أبي حنيفَة وأحبابه وَبعد فَإِن أصُول الْفِقْه أَرْبَعَة كتاب الله تَعَالَى وَسنة رَسُوله وَإِجْمَاع الْأمة وَالْقِيَاس فَلَا بُد من الْبَحْث فِي كل وَاحِد من هَذِه الأ قسام ليعلم بذلك طَرِيق تخرج الأ حكام
الْبَحْث الأول فِي كتاب الله تَعَالَى
١ - فصل فِي الْخَاص وَالْعَام
فالخاص لفظ وضع لِمَعْنى مَعْلُوم أَو لمسمى مَعْلُوم على الِانْفِرَاد كَقَوْلِنَا فِي تَخْصِيص الْفَرد زيد وَفِي تَخْصِيص النَّوْع رجل وَفِي تَخْصِيص الْجِنْس إِنْسَان
1 / 13
١ - ١ بحث الْعَام وَالْخَاص
وَالْعَام كل لفظ يَنْتَظِم جمعا من الْأَفْرَاد
إِمَّا لفظا كَقَوْلِنَا مُسلمُونَ ومشرقون وَإِمَّا معنى كَقَوْلِنَا من وَمَا
وَحكم الْخَاص من الْكتاب وجوب الْعَمَل بِهِ لَا محَالة فَإِن قابله خبر الْوَاحِد أَو الْقيَاس فَإِن أمكن الْجمع بَينهمَا بِدُونِ تَغْيِير فِي حكم الْخَاص يعْمل بهما وَإِلَّا يعْمل بِالْكتاب وَيتْرك مَا يُقَابله مِثَاله فِي قَوْله تَعَالَى ﴿يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَة قُرُوء﴾ فَإِن لَفْظَة الثَّلَاثَة خَاص فِي تَعْرِيف عدد مَعْلُوم فَيجب الْعَمَل بِهِ
وَلَو حمل الإ قراء على الا طهار كَمَا ذهب إِلَيْهِ الشَّافِعِي بِاعْتِبَار أَن الطُّهْر مُذَكّر دون الْحيض وَقد ورد الْكتاب فِي الْجمع بِلَفْظ التَّأْنِيث دلّ على أَن جمع الْمُذكر وَهُوَ الطُّهْر لزم ترك الْعَمَل بِهَذَا الْخَاص لِأَن من حمله على الطُّهْر لَا يُوجب ثَلَاثَة أطهار بل طهرين وَبَعض الثَّالِث وَهُوَ الَّذِي وَقع فِيهِ الطَّلَاق فَيخرج على هَذَا حكم الرّجْعَة فِي الْحَيْضَة الثَّالِثَة وزواله وَتَصْحِيح نِكَاح الْغَيْر وإبطاله وَحكم الْحَبْس وَالْإِطْلَاق والمسكن والإنفاق وَالْخلْع وَالطَّلَاق وَتزَوج الزَّوْج بأختها وَأَرْبع سواهَا وَأَحْكَام الْمِيرَاث مَعَ كَثْرَة تعدادها وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى
1 / 17
٢ - ٢ بحث تَقْسِيم الْعَام إِلَى قسمَيْنِ
﴿قد علمنَا مَا فَرضنَا عَلَيْهِم فِي أَزوَاجهم﴾ خَاص فِي التَّقْدِير الشَّرْعِيّ فَلَا يتْرك الْعَمَل بِهِ بِاعْتِبَار أَنه عقد مَالِي فَيعْتَبر بِالْعُقُودِ الْمَالِيَّة فَيكون تَقْدِير المَال فِيهِ موكولا إِلَى رَأْي الزَّوْجَيْنِ كَمَا ذكره الشَّافِعِي وَفرع على هَذَا أَن التخلي لنفل الْعِبَادَة أفضل من الِاشْتِغَال بِالنِّكَاحِ وأباح إِبْطَاله بِالطَّلَاق كَيفَ مَا شَاءَ الزَّوْج من جمع وتفريق وأباح إرْسَال الثَّلَاث جملَة وَاحِدَة وَجعل عقد النِّكَاح قَابلا للْفَسْخ بِالْخلْعِ وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى ﴿حَتَّى تنْكح زوجا غَيره﴾ خَاص فِي وجود النِّكَاح من الْمَرْأَة فَلَا يتْرك الْعَمَل بِهِ بِمَا رُوِيَ عَن النَّبِي ﵇
أَيّمَا امرآة نكحت نَفسهَا بِغَيْر إِذن وَليهَا فنكاحها بَاطِل بَاطِل بَاطِل وَيتَفَرَّع مِنْهُ الْخلاف فِي حل الْوَطْء وَلُزُوم الْمهْر وَالنَّفقَة وَالسُّكْنَى وَوُقُوع الطَّلَاق وَالنِّكَاح بعد الطلقات الثَّلَاث على مَا ذهب إِلَيْهِ قدماء أَصْحَابه بِخِلَاف مَا اخْتَارَهُ الْمُتَأَخّرُونَ مِنْهُم
وَأما الْعَام فنوعان عَام خص عَنهُ الْبَعْض وعام لم يخص عَنهُ شَيْء فَهُوَ بِمَنْزِلَة الْخَاص فِي حق لُزُوم الْعَمَل بِهِ لَا محَالة وعَلى هَذَا قُلْنَا إِذا قطع يَد السَّارِق بَعْدَمَا هلك الْمَسْرُوق عِنْده لَا يجب عَلَيْهِ الضَّمَان لِأَن الْقطع جَزَاء جَمِيع مَا اكْتَسبهُ
1 / 20
١ - ٣ بحث عُمُوم كلمة مَا
إِن كلمة مَا عَامَّة تتَنَاوَل جَمِيع مَا وجد من السَّارِق وَبِتَقْدِير إِيجَاب الضَّمَان يكون الْجَزَاء هُوَ الْمَجْمُوع وَلَا يتْرك الْعَمَل بِالْقِيَاسِ على الْغَصْب وَالدَّلِيل على أَن كلمة مَا عَامَّة مَا ذكره مُحَمَّد ﵀ إِذا قَالَ الْمولى لجاريته إِن كَانَ مَا فِي بَطْنك غُلَاما فَأَنت حرَّة فَولدت غُلَاما وَجَارِيَة لَا تعْتق وبمثله نقُول فِي قَوْله تَعَالَى ﴿فاقرؤوا مَا تيَسّر من الْقُرْآن﴾ فَإِنَّهُ عَام فِي جَمِيع مَا تيَسّر من الْقُرْآن وَمن ضَرُورَته عدم توقف الْجَوَاز على قِرَاءَة الْفَاتِحَة وَجَاء فِي الْخَبَر أَنه قَالَ لَا صَلَاة إِلَّا بِفَاتِحَة الْكتاب فعملنا بهما على وَجه لَا يتَغَيَّر بِهِ حكم الْكتاب بِأَن نحمل الْخَبَر على نفي الْكَمَال حَتَّى يكون مُطلق الْقِرَاءَة فرضا بِحكم الْكتاب وَقِرَاءَة الْفَاتِحَة وَاجِبَة بِحكم الْخَبَر وَقُلْنَا كَذَلِك فِي قَوْله تَعَالَى ﴿وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لم يذكر اسْم الله عَلَيْهِ﴾ أَنه يُوجب حُرْمَة مَتْرُوك التَّسْمِيَة عَامِدًا وَجَاء فِي الْخَبَر أَنه ﵇ سُئِلَ عَن مَتْرُوك التَّسْمِيَة عَامِدًا فَقَالَ
(كلوه فَإِن تَسْمِيَة الله تَعَالَى فِي قلب كل امرىء مُسلم) فَلَا يُمكن التَّوْفِيق بينهمالأنه لَو ثَبت الْحل بِتَرْكِهَا عَامِدًا لثبت الْحل بِتَرْكِهَا نَاسِيا فَحِينَئِذٍ يرْتَفع حكم الْكتاب فَيتْرك الْخَبَر
1 / 23
١ - ٤ بحث الْعَام الْمَخْصُوص مِنْهُ الْبَعْض
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى ﴿وأمهاتكم اللَّاتِي أرضعنكم﴾ يَقْتَضِي بِعُمُومِهِ حُرْمَة نِكَاح الْمُرضعَة وَقد جَاءَ فِي الْخَبَر
لَا تحرم المصة وَلَا المصتان وَلَا الإملاجة وَلَا الإملاجتان فَلم يُمكن التَّوْفِيق بَينهمَا فَيتْرك الْخَبَر
(وَأما الْعَام الَّذِي خص عِنْد الْبَعْض فَحكمه) أَنه يجب الْعَمَل بِهِ فِي الْبَاقِي مَعَ الِاحْتِمَال فَإِذا أَقَامَ الدَّلِيل على تَخْصِيص الْبَاقِي يجوز تَخْصِيصه بِخَبَر الْوَاحِد أَو الْقيَاس إِلَى أَن يبْقى الثُّلُث بعد ذَلِك لَا يجوز فَيجب الْعَمَل بِهِ وَإِنَّمَا جَازَ ذَلِك لِأَن الْمُخَصّص الَّذِي أخرج الْبَعْض عَن الْجُمْلَة لَو أخرج بَعْضًا مَجْهُولا يثبت الِاحْتِمَال فِي كل فَرد معِين فَجَاز أَن يكون بَاقِيا تَحت حكم الْعَام وَجَاز أَن يكون دَاخِلا تَحت دَلِيل الْخُصُوص فَاسْتَوَى الطرفان فِي حق الْمعِين فَإِذا أَقَامَ الدَّلِيل الشَّرْعِيّ على أَنه من جملَة مَا دخل تَحت دَلِيل الْخُصُوص ترجح جَانب نخصيصه وَإِن كَانَ الْمُخَصّص أخرج بَعْضًا مَعْلُوما عَن الْجُمْلَة جَازَ أَن يكون معلولا بعلة مَوْجُودَة فِي هَذَا الْفَرد الْمعِين فَإِذا قَامَ الدَّلِيل الشَّرْعِيّ على وجود تِلْكَ الْعلَّة فِي غير هَذَا الْفَرد الْمعِين ترجح جِهَة تَخْصِيصه فَيعْمل بِهِ مَعَ وجود الِاحْتِمَال
1 / 26
الْفَصْل الثَّانِي فصل فِي الْمُطلق والمعيد
٢ - / ١ بحث الْمُطلق إِذا أمكن الْعَمَل بِهِ لَا يجوز الزِّيَادَة عَلَيْهِ
ذهب أَصْحَابنَا إِلَى أَن الْمُطلق من كتاب الله تَعَالَى إِذا أمكن الْعَمَل بِإِطْلَاقِهِ فَالزِّيَادَة عَلَيْهِ بِخَبَر الْوَاحِد وَالْقِيَاس لَا يجوز مِثَاله فِي قَوْله تَعَالَى ﴿فَاغْسِلُوا وُجُوهكُم﴾ فالمأمور بِهِ هُوَ الْغسْل على الْإِطْلَاق فَلَا يُزَاد عَلَيْهِ شَرط النِّيَّة وَالتَّرْتِيب والموالاة وَالتَّسْمِيَة بالْخبر وَلَكِن يعْمل بالْخبر على وَجه لَا يتَغَيَّر بِهِ حكم الْكتاب فَيُقَال الْغسْل الْمُطلق فرض بِحكم الْكتاب وَالنِّيَّة سنة بِحكم الْخَبَر
وَكَذَلِكَ قُلْنَا فِي قَوْله تَعَالَى ﴿الزَّانِيَة وَالزَّانِي فاجلدوا كل وَاحِد مِنْهُمَا مائَة جلدَة﴾ إِن الْكتاب جعل جلد الْمِائَة حدا للزِّنَا فَلَا يُزَاد عَلَيْهِ التَّغْرِيب حدا لقَوْله ﵇
(الْبكر بالبكر جلد مائَة وتغريب عَام)
بل يعْمل بالْخبر على وَجه لَا يتَغَيَّر بِهِ حكم الْكتاب فَيكون الْجلد حدا شَرْعِيًّا بِحكم الْكتاب والتغريب مَشْرُوعا سياسة بِحكم الْخَبَر
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى ﴿وليطوفوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيق﴾ مُطلق فِي مُسَمّى الطّواف بِالْبَيْتِ فَلَا يُزَاد عَلَيْهِ شَرط الْوضُوء بالْخبر بل يعْمل بِهِ على وَجه لَا يتَغَيَّر بِهِ حكم الْكتاب بِأَن يكون مُطلق الطّواف فرضا بِحكم الْكتاب وَالْوُضُوء وَاجِبا بِحكم الْخَبَر فَيجْبر النُّقْصَان اللَّازِم بترك الْوضُوء الْوَاجِب بِالدَّمِ وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى ﴿واركعوا مَعَ الراكعين﴾
1 / 29
٢ - / ٢ بحث جَوَاز التوضي بِمَاء الزَّعْفَرَان وَأَمْثَاله
مُطلق فِي مُسَمّى الرُّكُوع فَلَا يُزَاد عَلَيْهِ شَرط التَّعْدِيل بِحكم الْخَبَر وَلَكِن يعْمل بالْخبر على وَجه لَا يتَغَيَّر بِهِ حكم الْكتاب
فَيكون مُطلق الرُّكُوع فرضا بِحكم الْكتاب
وَالتَّعْدِيل وَاجِبا بِحكم الْخَبَر وعَلى هَذَا قُلْنَا
يجوز التوضي بِمَاء الزَّعْفَرَان وَبِكُل مَاء خالطه شَيْء طَاهِر فَغير أحد أَوْصَافه لِأَن شَرط الْمصير إِلَى التَّيَمُّم عدم مُطلق المَاء وَهَذَا قد بَقِي مَاء مُطلقًا فَإِن قيد الْإِضَافَة مَا أَزَال عَنهُ اسْم المَاء بل قَرَّرَهُ فَيدْخل تَحت حكم مُطلق المَاء وَكَانَ شَرط بَقَائِهِ على صفة الْمنزل من السَّمَاء قيدا لهَذَا الْمُطلق وَبِه يخرج حكم مَاء الزَّعْفَرَان والصابون والأشنان وَأَمْثَاله وَخرج عَن هَذِه الْقَضِيَّة المَاء النَّجس بقوله تَعَالَى ﴿وَلَكِن يُرِيد ليطهركم﴾ وَالنَّجس لَا يُفِيد الطَّهَارَة وبهذه الْإِشَارَة علم أَن الْحَدث شَرط لوُجُوب الْوضُوء فَإِن تَحْصِيل الطَّهَارَة بِدُونِ وجود الْحَدث محَال
قَالَ أَبُو حنيفَة ﵁ الْمظَاهر إِذا جَامع امْرَأَته فِي خلال الْإِطْعَام لَا يسْتَأْنف الْإِطْعَام لِأَن الْكتاب مُطلق فِي حق الْإِطْعَام فَلَا يُزَاد عَلَيْهِ شَرط عدم الْمَسِيس بِالْقِيَاسِ على الصَّوْم بل الْمُطلق يجْرِي على إِطْلَاقه والمقيد على تَقْيِيده
وَكَذَلِكَ قُلْنَا الرَّقَبَة فِي كَفَّارَة الظِّهَار وَالْيَمِين مُطلقَة فَلَا يُزَاد عَلَيْهِ شلاط الْإِيمَان بِالْقِيَاسِ على كَفَّارَة الْقَتْل
1 / 33
بحث الْمُشْتَرك والمؤول
إِن قيل أَن الْكتاب فِي مسح الرَّأْس يُوجب مسح مُطلق الْبَعْض وَقد قيدتموه بِمِقْدَار الناصية بالْخبر وَالْكتاب مُطلق فِي انْتِهَاء الْحُرْمَة الغليظة بِالنِّكَاحِ وَقد قيدتموه بِالدُّخُولِ بِحَدِيث امْرَأَة رِفَاعَة
قُلْنَا إِن الْكتاب لَيْسَ بِمُطلق فِي بَاب الْمسْح فَإِن حكم الْمُطلق أَن يكون الْآتِي بِأَيّ فَرد كَانَ آتِيَا بالمأمور بِهِ والآتي بِأَيّ بعض كَانَ هَهُنَا لَيْسَ بآت بالمأمور بِهِ فَإِنَّهُ لَو مسح على النّصْف أَو على الثُّلثَيْنِ لَا يكون الْكل فرضا وَبِه فَارق الْمُطلق الْمُجْمل
وَأما قيد الدُّخُول فقد قَالَ الْبَعْض أَن النِّكَاح فِي النَّص حمل على الوطءإذ العقد مُسْتَفَاد من لفظ الزَّوْج وَبِهَذَا يَزُول السُّؤَال
وَقَالَ الْبَعْض قيد الدُّخُول ثَبت الْخَبَر وجعلوه من الْمَشَاهِير فَلَا يلْزمهُم تَقْيِيد الْكتاب بِخَبَر الْوَاحِد
الْفَصْل الثَّالِث فصل فِي الْمُشْتَرك والمؤول
الْمُشْتَرك مَا وضع لمعنيين مُخْتَلفين أَو لمعان مُخْتَلفَة الْحَقَائِق مِثَاله قَوْلنَا جَارِيَة فَإِنَّهَا تتَنَاوَل الْأمة والسفينة وَالْمُشْتَرِي فَإِنَّهُ يتَنَاوَل قَابل عقد البيع وكوكب السَّمَاء
وَقَوْلنَا بئن فَأن يحْتَمل الْبَين وَالْبَيَان وَحكم الْمُشْتَرك أَنه إِذا تعين الوحد مرَادا بِهِ
1 / 36
سقط اعْتِبَار إِرَادَة غَيره وَلِهَذَا أجمع الْعلمَاء رَحِمهم الله تَعَالَى على أَن لفظ القروء الْمَذْكُور فِي كتاب الله تَعَالَى مَحْمُول إِمَّا على الْحيض كَمَا هُوَ مَذْهَبنَا أَو على الطُّهْر كَمَا هُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي
وَقَالَ مُحَمَّد إِذا أوصى لموَالِي بني فلَان ولبني فلَان موَالٍ من أَعلَى وموال من أَسْفَل فَمَاتَ بطلت الْوَصِيَّة فِي حق الْفَرِيقَيْنِ لِاسْتِحَالَة الْجمع بَينهمَا وَعدم الرجحان
وَقَالَ أَبُو حنيفَة إِذا قَالَ لزوجته أَنْت عَليّ مثل أُمِّي لَا يكون مُظَاهرا لِأَن اللَّفْظ مُشْتَرك بَين الْكَرَامَة وَالْحُرْمَة فَلَا يتَرَجَّح جِهَة الْحُرْمَة إِلَّا بِالنِّيَّةِ
وعَلى هَذَا قُلْنَا لَا يجب النظير فِي جَزَاء الصَّيْد لقَوْله تَعَالَى ﴿فجزاء مثل مَا قتل من النعم﴾ لِأَن الْمثل مُشْتَرك بَين الْمثل صُورَة وَبَين الْمثل معنى وَهُوَ الْقيمَة وَقد أُرِيد الْمثل من حَيْثُ الْمَعْنى بِهَذَا النَّص فِي قتل إِذْ لَا عُمُوم للمشترك أصلا فَيسْقط اعْتِبَار الصُّورَة لِاسْتِحَالَة الْجمع
ثمَّ إِذا ترجح بعض وُجُوه الْمُشْتَرك بالغالب الرَّأْي يصير مؤلا وَحكم المؤول وجوب الْعَمَل بِهِ مَعَ احْتِمَال الْخَطَأ ومثاله فِي الحكميات مَا قُلْنَا إِذا أطلق الثّمن ومثاله فِي الحكميات مَا قُلْنَا إِذا أطلق فِي البيع كَانَ على غَالب نقد الْبَلَد وَذَلِكَ بطرِيق التَّأْوِيل
وَلَو كَانَت النُّقُود مُخْتَلفَة فسد البيع لما ذكرنَا وَحمل الإقراء على الْحيض
1 / 39
بحث الْحَقِيقَة وَالْمجَاز
حمل النِّكَاح فِي الْآيَة على الوطىء وَحمل الْكِنَايَات حَال مذاكرة الطَّلَاق على الطَّلَاق من هَذَا الْقَبِيل وعَلى هَذَا قُلْنَا الدّين الْمَانِع من الزَّكَاة يصرف إِلَى أيسر الْمَالَيْنِ قَضَاء للدّين
فرع مُحَمَّد على هَذَا فَقَالَ إِذا تزوج امْرَأَة على نِصَاب وَله نِصَاب من الْغنم ونصاب من الدَّرَاهِم يصرف الدّين إِلَى الدَّرَاهِم حَتَّى لَو حَال عَلَيْهِمَا الْحول تجب الزَّكَاة عِنْده فِي نِصَاب الْغنم وَلَا تجب فِي الدَّرَاهِم وَلَو ترجح بعض وُجُوه الْمُشْتَرك بِبَيَان من قبل الْمُتَكَلّم كَانَ مُفَسرًا وَحكمه أَنه يجب الْعَمَل بِهِ يَقِينا
مِثَاله إذاقال لفُلَان عَليّ عشرَة دَرَاهِم من نقد بخاري فَقَوله من نقد بخاري تَفْسِير لَهُ فلولا ذَلِك لَكَانَ منصرفا إِلَى غَالب نقد الْبَلَد بطرِيق التَّأْوِيل فيترجح الْمُفَسّر فَلَا يجب نقد الْبَلَد
الْفَصْل الرَّابِع فصل فِي الْحَقِيقَة وَالْمجَاز
كل لفظ وَضعه وَاضع اللُّغَة بِإِزَاءِ شَيْء فَهُوَ حَقِيقَة لَهُ وَلَو اسْتعْمل فِي غَيره يكون مجَازًا لَا حَقِيقَة
1 / 42
ثمَّ الْحَقِيقَة مَعَ الْمجَاز لَا يَجْتَمِعَانِ ارادة من لفظ وَاحِد فِي حَالَة وَاحِدَة وَلِهَذَا قُلْنَا لما أُرِيد مَا يدْخل فِي الصَّاع بقوله ﵇
(لَا تَبِيعُوا الدِّرْهَم بِالدِّرْهَمَيْنِ وَلَا الصَّاع بالصاعين) وَسقط اعْتِبَار نفس الصَّاع حَتَّى جَازَ بيع الْوَاحِد مِنْهُ بالإثنين
وَلما أُرِيد الوقاع من آيَة الْمُلَامسَة سقط اعْتِبَار إِرَادَة الْمس بِالْيَدِ
1 / 43
الْحَقِيقَة وَالْمجَاز
قَالَ مُحَمَّد إذاأوصى لمواليه وَله موَالٍ أعتقهم ولمواليه موَالٍ اعتقوهم كَانَت الْوَصِيَّة لمواليه دون موَالِي موَالِيه
وَفِي السّير الْكَبِير لَو استأمن أهل الْحَرْب على آبَائِهِم لَا تدخل الأجداد فِي الْأمان وَلَو استأمنوا على أمهاتهم لَا يثبت الْأمان فِي حق الْجدَّات
وعَلى هَذَا قُلْنَا إِذا أوصى لأبكار بني فلَان لَا تدخل المصابة بالفجورفي حكم الْوَصِيَّة
وَلَو أوصى لبني فلَان وَله بنُون وَبَنُو بنيه كَانَت الْوَصِيَّة لِبَنِيهِ دون بني بنيه
قَالَ أَصْحَابنَا لَو حلف لَا ينْكح فُلَانَة وَهِي أَجْنَبِيَّة كَانَ ذَلِك على العقد حَتَّى لَو زنا بهَا لَا يَحْنَث
وَلَئِن قَالَ إِذا حلف لَا يضع قدمه فِي دَار فلَان يَحْنَث لَو دَخلهَا حافيا أَو متنعلا أَو رَاكِبًا وَكَذَلِكَ لَو حلف لَا يسكن دَار فلَان يَحْنَث لَو كَانَت الدَّار ملكا لفُلَان أَو كَانَت بِأُجْرَة اَوْ عَادِية وَذَلِكَ جمع بَين الْحَقِيقَة وَالْمجَاز
وَكَذَلِكَ لَو قَالَ عَبده حر يَوْم يقدم فلَان فَقدم فلَان لَيْلًا أَو نَهَارا يَحْنَث
قُلْنَا وضع الْقدَم صَار مجَازًا عَن الدُّخُول بِحكم الْعرف وَالدُّخُول لَا يتَفَاوَت فِي الْفَصْلَيْنِ وَدَار فلَان صَار مجَازًا عَن دَار مسكونة لَهُ وَذَلِكَ لَا يتَفَاوَت بَين أَن يكون ملكا لَهُ أَو كَانَت بِأُجْرَة لَهُ
1 / 46
٤ - / ١ بحث تَقْسِيم الْحَقِيقَة إِلَى ثَلَاثَة أَقسَام
وَالْيَوْم فِي مَسْأَلَة الْقدوم عبارَة عَن مُطلق الْوَقْت لِأَن الْيَوْم إِذا أضيف إِلَى فعل لَا يَمْتَد يكون عبارَة عَن مُطلق الْوَقْت كَمَا عرف فَكَانَ الْحِنْث بِهَذَا الطَّرِيق لَا بطرِيق الْجمع بَين الْحَقِيقَة وَالْمجَاز
ثمَّ الْحَقِيقَة أَنْوَاع ثَلَاثَة متعذرة ومهجورة ومستعملة
وَفِي الْقسمَيْنِ الْأَوَّلين يُصَار إِلَى الْمجَاز بالِاتِّفَاقِ
وَنَظِير المتعذرة إِذا حلف لَا يَأْكُل من هَذِه الشَّجَرَة أَو من هَذِه الْقدر فَإِن أكل الشَّجَرَة وَالْقدر مُتَعَذر فَيَنْصَرِف ذَلِك إِلَى ثَمَرَة الشَّجَرَة وَإِلَى مَا يحل فِي الْقدر حَتَّى لَو أكل من عين الشَّجَرَة أَو من عين الْقدر بِنَوْع تكلّف لَا يَحْنَث
وعَلى هَذَا قُلْنَا إِذا حلف لَا يشرب من هَذِه البير ينْصَرف ذَلِك إِلَى الاغتراف حَتَّى لَو فَرضنَا أَنه لَو كرع بِنَوْع تكلّف لَا يَحْنَث بالِاتِّفَاقِ
وَنَظِير المهجورة لَو حلف لَا يضع قدمه فِي دَار فلَان فَإِن إِرَادَة وضع الْقدَم مهجورة عَادَة
وعَلى هَذَا قُلْنَا التَّوْكِيل بِنَفس الْخُصُومَة ينْصَرف إِلَى مُطلق جَوَاب الْخصم حَتَّى يسع للْوَكِيل أَن يُجيب بنعم كَمَا يَسعهُ أَن يُجيب بِلَا لِأَن التَّوْكِيل بِنَفس الْخُصُومَة مهجور شرعا وَعَادَة
1 / 49
وَلَو كَانَت الْحَقِيقَة مستعملة فَإِن لم يكن لَهَا مجَاز مُتَعَارَف فالحقيقة أولى بِلَا خلاف فَإِن كَانَ لَهَا مجَاز مُتَعَارَف
1 / 50
٤ - / ٢ بحث كَون الْمجَاز خلفا عَن الْحَقِيقَة عِنْد أبي حنيفَة
فالحقيقة أولى عِنْد أبي حنيفَة
وَعِنْدَهُمَا الْعَمَل بِعُمُوم الْمجَاز أولى مِثَاله لَو حلف لَا يَأْكُل من هَذِه الْحِنْطَة ينْصَرف ذَلِك إِلَى عينهَا عِنْده حَتَّى لَو أكل من الْخبز الْحَاصِل مِنْهَا لَا يَحْنَث عِنْده وَعِنْدَهُمَا ينْصَرف إِلَى مَا تتضمنه الْحِنْطَة بطرِيق عُمُوم الْمجَاز فَيحنث بأكلها وبأكل الْخبز الْحَاصِل مِنْهَا
وَكَذَا لَو حلف لَا يشرب من الْفُرَات ينْصَرف إِلَى الشّرْب مِنْهَا كرعا عِنْده وَعِنْدَهُمَا إِلَى الْمجَاز الْمُتَعَارف وَهُوَ شرب مَائِهَا بِأَيّ طَرِيق كَانَ
ثمَّ الْمجَاز عِنْد أبي حنيفَة خلف عَن الْحَقِيقَة فِي حق اللَّفْظ وَعِنْدَهُمَا خلف عَن الْحَقِيقَة فِي حق الحكم حَتَّى لَو كَانَت الْحَقِيقَة مُمكنَة فِي نَفسهَا إِلَّا أَنه امْتنع الْعَمَل بهَا لمَانع يُصَار إِلَى الْمجَاز وَإِلَّا صَار الْكَلَام لَغوا
وَعِنْده يُصَار إِلَى الْمجَاز وَإِن لم تكن الْحَقِيقَة مُمكنَة فِي نَفسهَا
أَمْثَاله إِذا قَالَ لعَبْدِهِ وَهُوَ أكبر سنا مِنْهُ هَذَا ابْني
لَا يُصَار إِلَى الْمجَاز عِنْدهمَا لِاسْتِحَالَة الْحَقِيقَة
وَعِنْده يُصَار إِلَى الْمجَاز حَتَّى يعْتق العَبْد
1 / 52
وعَلى هَذَا يخرج الحكم فِي قَوْله لَهُ عَليّ ألف أَو على هَذَا الْجِدَار وَقَوله عَبدِي أَو حماري حر وَلَا يلْزم على هَذَا إِذا قَالَ لامْرَأَته هَذِه ابْنَتي وَلها نسب مَعْرُوف من غَيره حَيْثُ لاتحرم عَلَيْهِ
1 / 53
وَلَا يَجْعَل ذَلِك مجَازًا عَن الطَّلَاق سَوَاء كَانَت الْمَرْأَة أَصْغَر سنا مِنْهُ أَو كبرى لِأَن هَذَا اللَّفْظ لَو صَحَّ مَعْنَاهُ لَكَانَ منافيا للنِّكَاح فَيكون منافيا لحكمه هُوَ الطَّلَاق وَلَا اسْتِعَارَة مَعَ وجود التَّنَافِي
بِخِلَاف قَوْله هَذَا ابْني فَإِن الْبُنُوَّة لَا تنَافِي ثُبُوت الْملك للْأَب بل يثبت الْملك لَهُ ثمَّ يعْتق عَلَيْهِ
الْفَصْل الْخَامِس فصل فِي تَعْرِيف طَرِيق الِاسْتِعَارَة
اعْلَم أَن الِاسْتِعَارَة فِي أَحْكَام الشَّرْع مطردَة بطريقين
أَحدهمَا لوُجُود الِاتِّصَال بَين الْعلَّة وَالْحكم
وَالثَّانِي لوُجُود الِاتِّصَال بَين السَّبَب والمحض وَالْحكم
فَالْأول مِنْهُمَا يُوجب صِحَة الِاسْتِعَارَة من الطَّرفَيْنِ
وَالثَّانِي يُوجب صِحَّتهَا من أحد الطَّرفَيْنِ وَهُوَ اسْتِعَارَة الأَصْل للفرع
مِثَال الأول فِيمَا إِذا قَالَ إِن ملكت عبدا فَهُوَ حر فَملك نصف العَبْد فَبَاعَهُ ثمَّ ملك النّصْف الآخر لم يعْتق إِذْ لم يجْتَمع فِي ملكه كل العَبْد
وَلَو قَالَ إِن اشْتريت عبدا فَهُوَ حر فَاشْترى نصف العَبْد فَبَاعَهُ ثمَّ
1 / 56
اشْترى النّصْف الآخر عتق النّصْف الثَّانِي
وَلَو عَنى بِالْملكِ الشِّرَاء أَو بِالشِّرَاءِ الْملك صحت نِيَّته بطرِيق الْمجَاز لِأَن الشِّرَاء عِلّة الْملك وَالْملك حكمه فعمت الِاسْتِعَارَة بَين الْعلَّة والمعلول من الطَّرفَيْنِ
1 / 57
إلاإنه فِيمَا يكون تَخْفِيفًا فِي حَقه لَا يصدق فِي حق الْقَضَاء خَاصَّة لِمَعْنى التُّهْمَة لَا لعدم صِحَة الِاسْتِعَارَة
وَمِثَال الثَّانِي إِذا قَالَ لامْرَأَته حررتك وَنوى بِهِ الطَّلَاق يَصح لِأَن التَّحْرِير بحقيقته يُوجب زَوَال ملك الْبضْع بِوَاسِطَة زَوَال ملك الرقبه فَكَانَ سَببا مَحْضا لزوَال ملك الْمُتْعَة فَجَاز أَن يستعار عَن الطَّلَاق الَّذِي هُوَ مزيل لملك الْمُتْعَة
وَلَا يُقَال لَو جعل مجَازًا عَن الطَّلَاق لوَجَبَ أَن يكون الطَّلَاق الْوَاقِع بِهِ رَجْعِيًا كصريح الطَّلَاق
لأَنا نقُول لَا نجعله مجَازًا عَن الطَّلَاق بل عَن المزيل لملك الْمُتْعَة وَذَلِكَ فِي الْبَائِن إِذْ لرجعي لَا يزِيل ملك الْمُتْعَة عندنَا
وَلَو قَالَ لأمته طَلقتك وَنوى بِهِ التَّحْرِير لَا يَصح لِأَن الأَصْل جَازَ أَن يثبت بِهِ الْفَرْع وَأما الْفَرْع فَلَا يجوز أَن يثبت بِهِ الأَصْل وعَلى هَذَا نقُول
ينْعَقد النِّكَاح بِلَفْظ الْهِبَة وَالتَّمْلِيك وَالْبيع لِأَن الْهِبَة بحقيقتها توجب ملك الرَّقَبَة وَملك الرَّقَبَة يُوجب ملك الْمُتْعَة فِي الْإِمَاء فَكَانَت الْهِبَة سَببا مَحْضا لثُبُوت ملك الْمُتْعَة فَجَاز أَن يستعار عَن النِّكَاح
1 / 60
وَكَذَلِكَ لفظ التَّمْلِيك وَالْبيع لَا ينعكس حَتَّى لَا ينْعَقد البيع وَالْهِبَة بِلَفْظ النِّكَاح
ثمَّ فِي كل مَوضِع يكون الْمحل مُتَعَيّنا لنَوْع من الْمجَاز لَا يحْتَاج فِيهِ إِلَى النِّيَّة لَا يُقَال وَلما كَانَ إِمْكَان الْحَقِيقَة شرطا لصِحَّة الْمجَاز عِنْدهمَا
1 / 61