ففي بلاد «سومر» الرافدية، حيث اكتشفت الكتابة المسمارية، سجل يؤكد أنه حتى قيام الحضارة السومرية في المنطقة الزراعية الخصبة، كانت السيادة للإلهة الولود المخصبة «إينانا» صاحبة العشاق الكثيرين، وهي في الأساطير لا تهتم بعشاقها الذكور، بل كانت أحيانا تفتك بهم، وهم من البشر والحيوان على حد سواء؛ مما يعطي انطباعا أنها كانت رمزا للأنثى الولود عموما، وكان همها الوحيد هو الإشباع الجنسي الشبق الحاد.
وقد فسر الباحثون ذلك بأنه رمز الأرض التي يجب تخصيبها باستمرار لتعطي حياة جديدة مستمرة (ولا ننسى أننا انتقلنا هنا عبر مرحلة طويلة اجتزنا فيها عشرة آلاف عام، اتضح فيها للرجل دوره في الإخصاب)، وحتى تقدم لنا الأسطورة تفسيرا لفصلي الخصب والجدب في طبيعة الأرض، قالت: إن «إينانا» كانت تهبط إلى باطن الأرض، حيث عالم الموتى في وقت الاعتدال الخريفي، حيث يبدأ فصل الجدب على الأرض بغيابها، ثم تعود مع الاعتدال الربيعي إلى سطح الأرض، لتبدأ عملية الإخصاب والتوالد فيعود للأرض خصبها.
وليس بغريب (مع رؤيانا) أن يتم تعديل هذه الأسطورة، بعد تغلغل الرعاة الأكاديين في بلاد سومر الزراعية، وسيطرتهم عليها وقيام الدولة الأكادية، ليتحول اسم «إينانا» إلى «عشتار، وعشتروت، من العشرة والمعاشرة والتعشير»، لكنها لا تصبح السيدة المطلقة المسئولة عن الخصب، إنما يظهر هنا سيد جديد، كان في الأساطير السومرية مجرد ذكر خامل الذكر ضمن مجموعة عشاقها الكثيرين. وكان يسمى «دوموزي أبسو»؛ ليرتفع ويصبح هو سبب الخصب الأول، ويحمل اسم «تموز راعي الخراف الطيب» ويصبح هو المسئول الأول عن الخصب والإنجاب واستمرار الحياة، ويصبح هو الذي يموت في فصل الجدب ويهبط إلى عالم الموتى السفلي، ويعود في بداية فصل الخصب فيعود للأرض خصبها، دون أن يرتبط ذلك بأي منطق، فكيف يتأتى ذلك لذكر؟ اللهم إلا منطق السيطرة الرعوية، منطق مجتمع يأخذ بالنظام الأبوي في نظمه الاجتماعية، ساد فأراد تسويد آلهته.
وكان المصير، مصير إلهات بقية الهلال الخصيب نفسه، «عناة» أو «إناث» الأنثى الأولى، التي توارت في الظل بعد السيطرة البدوية الكنعانية؛ لتصبح تابعة لسيد مطلق هو الإله «بعل» وبعلها سيدها الذي أخذ دورها ليقوم بقصة الموت والقيام من الموت، ممثلا دور الخصب بدلا منه، أما الإلهة الأولى الكبرى التي ورد ذكرها في الأساطير الرافدية باسم «تيامات
Tiamat » فقد تحولت في الأساطير الأكادية بعد سيطرة الرعاة على المنطقة مباشرة، في أسطورة «إينوما إيليش» إلى إلهة شريرة، سميت «تهامة» (ولاحظ أن تهامة علم على سهل بأرض الرعاة الحجازيين)، قام إله الدولة الذكر القوي «مردوخ» بقتلها وتمزيقها، إلا أن الأسطورة رغم ذلك احتفظت باعتراف ضمني بأهمية الإلهة الأنثى للحياة، فقالت إن «مردوخ» قد صنع من جسمها الممزق الكون وكائناته.
ولا يفوتنا ملاحظة خاصة حول أسطورة «الشعيرة والنعجة» السومرية التي تقول: إن النعجة والشعيرة كانت في موطن يسمى «التل المقدس»، وأن الإله «إن كي» أو «إينكي» (وترى أنه إله زراعي أصيل في سومر؛ لأن كلمة «آن» تعني «إله» و«كي» أو «جي» تعني الأرض، والأرض كانت تعني أرض سومر) قد طلب من الإله «أنليل » أم «أنل إيل» (وفي اعتقادنا أنه إله رعوي وافد يدل عليه اسم إيل، وهو اللفظ الرعوي المألوف في المجتمعات السامية للدلالة على المعبود)، طلب منه تحقيق رغبة تتمثل في نقل النعجة والشعير من «التل المقدس» إلى «الأرض» (واتفقنا أن جي أو كي أو الأرض تعني بلاد سومر الخصبة)، والنص لا يحتاج لأي تعليق، فالنعجة والشعير الرعويان، يتنقلان هنا من «تل» إلى «أرض خصبة» رمزا لدخول الرعاة بلاد الرافدين الخصبة التي حاولت الأسطورة تصويره، على أنه قد تم برغبة أهل سومر أنفسهم أو بطلب من إلههم «أن كي» يرجو فيه الإله الرعوي «أنل إيل»، وقد لاحظ الباحث «فوزي رشيد» اختلاف أسطورة الشعير والنعجة في صياغتها ومضمونها عن بقية المآثر السومرية ونسقها المعتاد؛ مما أدى به إلى افتراض قدومها من خارج بلاد سومر
41
ثم افترض أن هذا المكان هو الجزء الشمالي من الرافدين حيث بلاد آشور.
هذا بإيجاز شديد ما حفظه لنا التاريخ محمولا في ذاكرة البشر؛ لتسجله لنا هذه الملاحم الأسطورية مع اكتشاف الكتابة، وهو ما يكاد يكون توثيقا لما طرحناه من قبل.
وفي تصوري أن التغلغل البطيء للساميين الرعاة المهاجرين من مناطق جبلية وصحراوية إلى الهلال الخصيب، قد استغرق على الأقل خمسة آلاف عام قبل ذلك، تم خلالها اتحاد بين المجتمعين الأبوي الذكري، والزراعي الأمومي، كما أن المنطق يذهب بنا إلى الاعتراف للرعاة بأنهم أول من دجن الحيوان، واكتسبوا في ذلك مهارة وحذقا، ويتفق ذلك مع حاجتهم للغذاء الحيواني: لحم ولبن، وللكساء من الوبر (لعدم توافر النبات)، مقابل تأخر الزراعيين في ذلك لعدم الحاجة، وعندما تغلغل الرعاة في المجتمع الزراعي، استخدموا مهارتهم في تدجين دواب أكبر لخدمة العمل الزراعي؛ مما أدى بهم في النهاية - كمجتمع أبوي - إلى سلب النساء مكانتهن ووضعهن الاقتصادي المستند إلى الزراعة.
Bilinmeyen sayfa