عندما كان العقل البشري لم يزل على مدارج بدائيته الفكرية يدرج حبوا إبان مسيرته التطورية، انتقل بخطوة تجريدية بسيطة من عبادة تربة الأرض عرفانا بها كأم رءوم كبرى، ومن تعفير جبهته في ترابها، إلى فصل روح الخصوبة عنها، وتمثلها في إلهة تختص بحمل روح الخصوبة. بحيث لم تعد الخصوبة تتركز في التربة، وإنما في قوة كونية اختص بها معبود جسده العقل الرافدي القديم في إلهة أنثى باعتبار الإخصاب والعطاء والميلاد من خواص الأنثى، ولأن الأرض والأنثى محور حياة الإنسان؛ لذا فقد أصبحت هذه الآلهة قوى أساسية ومحركا كونيا لأحداث العالم، ثم تمثل لها رمزا في السماء هو كوكب الزهرة لما تميز به من حسن وبهاء؛ ومن ثم تحول نحو السماء عابدا؛ ليردف سجوده على الأرض برفع يديه نحو السماء، تاركا لنا رسومها فيما تركه من آثار رافدية (على هيئة نجمة ذات ثمانية إشعاعات، وأحيانا ستة عشر شعاعا).
4
وفي مدينة الوركاء السومرية نشأت عبادة كوكب الزهرة ونمت، إذ أطلق عليها اللسان السومري «إينانا» الذي يعني «سيدة السماء»،
5
ففي اللسان السومري «إن» تعني سيدة، و«آن» تعني السماء، وبدخول الساميين إلى الرافديين وتأسيس الدولة الأكادية تحول اسمها من «إينانا» إلى «عشتار».
ومما لا شك فيه أن عبادة «الربة الأم» من أقدم العبادات؛ لأن عملية التوالد العجيبة - في نظر الإنسان القديم - كانت من خصائص المرأة وحدها.
6
ولما كان التناسل من الأسرار الغريبة؛ فقد شخص هذه الإلهة في البداية بتربة الأرض؛ نظرا لأن إخصاب التربة ليس سوى نوع من الميلاد المتجدد للمحصول، ولتفسير دورة الحياة النباتية ما بين الخصب والجدب حسب التنوع الفصلي، فقد خطت يد الإنسان أول ملحمة في التاريخ عن إلهة الخصب، هي الملحمة السومرية «هبوط إينانا إلى العالم السفلي» التي أعاد البابليون صياغتها في ملحمة «هبوط عشتار إلى العالم الأسفل».
وفي هذا الزمان البعيد، لم يكن الإنسان قد وصل بعد إلى اختراع فكرة عالم آخر فيه بعث ثم ثواب أو عقاب، ترغيبا وترهيبا، وكل ما استطاع عقله أن يصل إليه حول مصير الموتى، أنهم يهبطون إلى عالم أسفل سطح الأرض ، لا فرق في ذلك بين صالح وطالح، أطلقوا عليه اسم «كور» أو «أرالو». وقد تصوره عالما موحشا مقبضا رهيبا مليئا بكل المفزعات من وحوش وأفاع وحيات، يعيش فيه الميت على الرغام والطين، ولا فكاك من هذا المصير الشقي لأي ميت أيا كانت مكانته.
7
Bilinmeyen sayfa