وهكذا كان غرض الإله تطهير الأرض من القتلة وسفاكي الدماء، فسفك هو دماء البشر والحيوان ومزقهم شر ممزق، دون أن يميز بين صالح وطالح، لكن «إنليل» وبقية الآلهة ندموا على ما ألحقوه بالبشرية من ويل، وعند ذلك قامت الإلهة «عشتار» بتعليق عقدها الثمين الملون في باحة السماء؛ ليصبح قوس قزح رمزا لميثاق مع البشر بعدم تكرار الطوفان، وعقبت بالقول: «كما أنني لا أنسى عقد اللازورد الذي كان يزين عنقي، فإنني لن أنسى تلك الأيام أبدا، سأذكرها دوما.»
41
الرمز واضح، فقد سجل الكاتب التوراتي الملحمة الرافدية بكل منمنماتها وزخارفها الدقيقة، لكن إذا كان أهل الرافدين قد سجلوا تذكرة بحدث يتعلق بظروف طبيعة بلادهم، وبأنساقهم الفكرية. فإن الكاتب التوراتي الذي لم يعش واقع الحدث ولا علاقة له بالأمر، يتناول الملحمة ليحقق منها أغراضا أخرى، فينسب الأمر كله للرب العبراني، ثم ينسب بطولة الملحمة للرجل الذي نسبوا إليه النسل الميمون «نوح»؛ لأن من نوح سيأتي بنو عابر، ثم يضيف الكاتب التوراتي ما لم يكن في الأصل الرافدي، بما يصادق على رؤيتنا بشكل وضاء، تلك الرؤية التي تزعم أن بني عابر قد استلبوا التراث، وحشوه بما يلزم، ثم أعادوا تصديره إلينا مرة أخرى، ملحقا بما يحقق الأغراض المرصودة.
وربما كان من المستحسن، قبل أن نتناول ذلك الحشو وكشف المرصود، أن نركن قليلا إلى كتب التراث الإسلامية، نقرأ بعض ما تعلق بالأمر فيها، وقبلها نعرج على ما جاء في أخبار العرب الجاهلية، إذ يؤكد لنا الباحث «محمود الحوت» أن أهم أساطير العرب مستمدة من مقدسات اليهود الذين دخلوا بلاد العرب واستقروا فيها وأصبحوا جزءا من شعوبها وقبائلها؛ لذلك اعتقد العرب في جاهليتهم أن نوحا هو أحد مشاهير الأنبياء الخمسة أولي العزم، وأخذوا أيضا بروايات اليهود حول كونه النسل التاسع فقط لآدم،
42
وهو أمر لم يستدع من العقل العربي أي تساؤل حول إمكانية ضلال الإنسان في مثل هذا الزمن القصير، أو حول استحقاق هذا النسل المتواضع لمثل هذا العقاب الهائل، كلا لم يتساءل العربي وهو في جاهليته مثل هذه التساؤلات، ويزخر الشعر الجاهلي بأخبار السفينة النوحية، فهذا «الأفوه الأودي» - نموذجا - يأبى إلا أن يسجل أسماء أبناء نوح قائلا:
ولما يعصمها سام وحام
ويافث حيثما حلت ولام
أما طول العمر النوحي فيصبح مضرب المثل، ومكافأة الله له غاية المنى، ويؤخذ ذلك من مديح «الأعشى» لإياس:
جزى الله إياسا خير نعمة كما
Bilinmeyen sayfa