ولكن هنالك سبب ثالث ربما كان أصل الأسباب كلها وهو المسألة الدينية، وأريد بها مداخلة الدنيا بالدين والدين بالدنيا.
وأصل البلاء في هذه المسألة: مداخلة الإمبراطرة في شئون الكنيسة؛ لأن ذلك جر بحكم الطبع مداخلة الكنيسة في شئون الإمبراطورية، وفي ذات يوم قال أحد الإمبراطرة لأحد البطاركة: دبر أنت الكنيسة ودعني أدبر سلطنتي. فأجابه البطريرك: هذا قول لم يسمع بمثله فإنه بمثابة قول الجسد للنفس دعيني وشأني فإنني غير محتاج إلى مساعدتك.
12
فنشأ عن هذا سعي البطاركة والإمبراطرة في وضع العقول كلها في قالب واحد؛ ليجعلوها تعتقد اعتقادا واحدا، وبما أن السلطنة كانت مؤلفة من عدة عناصر مختلفة الآراء والمشارب والمصالح فقد تحتم حدوث الشقاق فيها.
فيومئذ قام آريوس يجحد لاهوت الكلمة، والمكدونيون يجحدون لاهوت الروح القدس، وقام النساطرة ينكرون اتحاد الطبيعتين في المسيح وأوتيشيوس ينكر الطبيعة البشرية في المسيح بعد التجسد، والقائلون بالمشيئة الواحدة ينكرون المشيئة البشرية مع اعترافهم بالطبيعتين. فجمع الإمبراطرة المجامع للفصل في هذه المعتقدات؛ فحكمت المجامع برفضها ونبذ أصحابها، ولكن بعض الإمبراطرة كانوا يعودون إلى بعضها فتعتقد رعيتهم فيهم الكفر فيقومون إلى خلعهم، ولما كان يثور الشعب عليهم كان الإمبراطرة يلجئون إلى الكنيسة، والمقرر أنه في هذه الحالة من حق البطريرك الإذن في تسليمهم للشعب أو حمايتهم منه، وعلى ذلك كان الإمبراطرة تحت سلطة البطاركة.
13
وكما كان الاضطراب من حيث الإمبراطرة فقد كان من حيث البطاركة. فقد كان للبطريركية الواحدة ثلاثة بطاركة (الأول) البطريرك الذي يعزل لمقاومته الإمبراطرة أو الشعب. (والثاني) البطريرك الذي عين مكانه (والثالث) البطريرك الذي يرشح نفسه لأن يكون بطريركا، ولكن لكل واحد من هؤلاء الثلاثة أعوان وأنصار متحمسون، ولكل فريق منهم آراء ومصالح وأهواء. فكانوا في اضطراب دائم، واضطرابهم هذا كان يقلق كل السلطنة لما بين السلطتين من الاتصال
14
كما تقدم.
ومما لا يحتاج إلى بيان: أن الرغبة في توحيد المعتقد تؤدي إلى اضطهاد المخالف في المعتقد، وهذا ما جعل بعض الإمبراطرة يضطهدون الطوائف المخالفة لهم، والتي عاشت قبل ذلك في ظل الرومان بكل حرية كالسامريين واليهود والمانيشيين والسبتيين والمونتانيين والوثنيين الذين كانوا كثيرين في داخلية البلاد خصوصا بين أهل الزراعة؛ لإصرارهم على دينهم القديم، ولقد كنت أحب أن يكون الإمبراطور جوستنيانوس حيا الآن ليرى الخطأ الذي ارتكبه في فناء السامريين في هذه البلاد (فلسطين) واضطهاده اليهود فيها اضطهادا جعلهم أعداء لمملكته وأضعف منها هذا الجانب الذي دخلتم منه إلى الشام وفلسطين مع أنه كان من المصلحة تقويته.
Bilinmeyen sayfa