ويظهر أن بلالا رأى في جند المسلمين شيئا جديدا لم يره من قبل، وفي الحقيقة أن هذا الشيء ليس بالجديد فإنه أزلي لوجوده منذ وجود الإنسان تقريبا، وهو أن أكابر المسلمين وأجناد الشام كانوا «يأكلون لحوم الطيور والخبز النقي.» * والضعفاء كثيرا ما كانوا لا ينالون شيئا، وبما أن بلالا قد نشأ في أحضان النبوة فقد رأى لنفسه حق الشكوى من هذه الحالة الجديدة. فشكى ذلك بعد الأذان إلى الإمام عمر * مختتما قوله بهذه العبارة: «الكل يفنى، ومآله إلى التراب، ومصيرنا إليه.» * فأجابه يزيد بن أبي سفيان «إنا لنصيب ما قاله بلال ها هنا مثل ما كنا نقوت به أنفسنا مدة من الزمان في الحجاز؛ لأن الأسعار رخيصة في بلادنا هذه.» * فقال عمر: «إن الأمر كما ذكرت فكلوا هنيئا مريئا» * ولكنه أردف ذلك بقوله: إنه سيفرض لكل أهل بيت ما يكفيهم من البر والشعير والعسل والزيت وما يحتاجون إليه.
فنحن إذا رمنا أن نسمي هذا الأمر باسمه العلمي المألوف اليوم فإننا نقول: إن الإمام باهتمامه هذا كان يهتم بالمسألة الاجتماعية العظمى، وغني عن البيان أن المبدأ المسيحي والمبدأ الإسلامي في هذه المسألة مناقضان لمبدأ المدنية الحاضرة القائمة على مبدأ تنازع البقاء وبقاء الأفضل، ولكن المدنية الحاضرة بدأت تعود إلى المبدأ المسيحي والمبدأ الإسلامي من حيث اهتمام الهيئة الاجتماعية بجميع الأفراد، وهو مبدأ الاشتراكية الجديد الذي قد طما سيله على أوروبا، ولا يعرف مستقبله الآن معرفة جلية.
ولما سمع أبو عبيدة جواب يزيد وحكم عمر انحرف نحو الأمير، وقال: «لقد أحسن أمير المؤمنين، ورأيه الموفق إن شاء الله في إسعاد أحوال فقراء المسلمين. فإن المسلمين إخوة وهم بعضهم لبعض كالبناء المرصوص، لا كالروم الذين يتمتع أغنياؤهم بملاذ الدنيا ويتركون فقراءهم كالكلاب».
ولكن أبا عبيدة كان يجهل ويا للأسف أن ما حل بالروم في مدينتهم الواسعة سيحل بالمسلمين أيضا عند اتساع مدينتهم ويقوم يومئذ «حق الملكية
9
المطلق» الذي عليه مدار المعاملات في هذا العصر مقام كل شيء.
ولما هم عمر بالرحيل إلى معسكر المسلمين قرب بيت المقدس، وهو على بعيره وعليه مرقعته، قال له بعض الأمراء: «يا أمير المؤمنين، لو ركبت بدل بعيرك جوادا ولبست ثيابا بيضا.» * لاستقبال الروم بها. فأجابهم عمر إلى ذلك: «فلبس ثيابا مصنوعة في مصر تساوي خمسة عشر درهما
10
وطرح على عاتقه منديلا من كتان ليس جديدا ولا بالخلق دفعه إليه أبو عبيدة، وقدم إليه برذون أشهب من براذين الروم.» * فلما صار عمر على ظهر البرذون يهملج به ويتجلجل ويختال. فأسرع عمر إلى النزول عنه وضرب وجه البرذون وقال: «لا أعلم من علمك هذه الخيلاء»
11
Bilinmeyen sayfa