وكان إيليا يحادث رجلا آخر جالسا أمامه لكن هيئته كانت تدل على أنه ليس بعربي.
وحينما تحقق أرميا وجود إيليا هناك ابتعد عن الخيمة، وجلس يفكر مليا، ويظهر أنه قرر في نفسه شيئا؛ لأنه أول ما أبصر رفيق إيليا قد خرج من الخيمة لحاجة له نهض مسرعا إليه، ولما صار بجانبه خاطبه باليونانية قائلا: هل أنت عربي أيها الأخ؟
فنظر إليه الرجل وقال: أخبرني أولا من أنت لأخبرك من أنا؟ فأجاب أرميا: ما قصدتك لهذا، وإنما لأخبرك خبرا عظيما. أتحب ذلك؟ فأجاب الرجل وقد بدأ يتأمل في وجه أرميا: وما هو هذا الخبر؟ فقال أرميا باهتمام شديد: أما عرفت هذا الرجل المقيم في هذه الخيمة مشدود اليدين؟ فقال الرجل: وقد بدأ يهتم لحديث أرميا: لا ومن عساه يكون؟ فضحك أرميا وقال: أنتم تقبضون على كنز ثمين بل على مفتاح المدينة دون أن تعلموا بذلك. فزاد اهتمام الرجل، وقال: ومن عساه يكون؟ فقال أرميا: هذا الأسير ستفدون به عشرة آلاف أسير منكم إذا شئتم. فصاح الرجل وقد فرغ صبره: ألا تقول من هو. فدنا أرميا حينئذ من الرجل وانحنى على أذنه وهمس فيها قائلا: هذا ثيودوروس أخو الإمبراطور.
فدهش الرجل ورجع القهقرى عجبا. ثم سأل أرميا: ومن أين عرفته؟ فضحك المعتوه وقال: وهل أحد منا يجهل أخ الإمبراطور؟ فاحرصوا عليه جيدا إذا شئتم فتح المدينة فإنه ربما افتداه الإمبراطور منكم بالمدينة كلها.
فعاد الرجل نحو الخيمة التي كان إيليا فيها وهو يفكر كثيرا، أما أرميا فإنه عاد عنها نحو خيمة ضرار، وصار يبذل جهده؛ ليمنع أستير وأباها من الذهاب نحو خيمة إيليا.
والعادة أن علو المقام يجر دائما زيادة الأتعاب والأثقال، ولذلك ما انتشر بين تلك الخيام أن أخ الإمبراطور أسير في خيمة الأمير عمرو بن معدي كرب حتى تهافت الناس من كل جانب لمشاهدته، وأدى هذا الأمر إلى التشديد في حراسته والتضييق عليه.
أما إيليا فلم يكن يفهم شيئا من ذلك الإكرام الجديد له والتألب عليه. حتى الترجمان نفسه الذي كان يقصده ويحادثه في الخيمة صار لا يقترب منه إلا بإكرام خاص.
وكان غرض أرميا من صنع ما تقدم رغبته في أن يحول دون إطلاق سراح إيليا وإبقائه بعيدا عن أستير إلى أن يتمكن من إخراجها من هذا المكان بالكلية، ولكنه ما درى أن هذه الحيلة ستؤدي إلى عكس غرضه. فإنه لما فشا بين المسلمين أن أخ الإمبراطور وقع أسيرا في قبضة بعض من رجال عمرو بن معدي كرب الذين ساروا لارتياد الضواحي وراء القدس، ووصل هذا الخبر إلى الأمير أبي عبيدة القائد العام أمر أبو عبيدة في الحال بأن يؤتى إليه باليهودي يوسف؛ ليتحقق منه هذا الأمر، وكان هذا الاسم اسم أبي أستير كما تقدم. فلما حضر الشيخ بين يدي أبي عبيدة صحبه أبو عبيدة إلى خيمة عمرو بن معدي كرب وأراه إيليا؛ ليعلم أهو أخو الإمبراطور حقيقة لعله يعرفه، ولكن ما وقع نظر الشيخ على إيليا حتى أسرع إليه صارخا: هذا إمبراطور لا أخو امبراطور؛ فإنه إمبراطور الشهامة والرفق والمروءة.
ثم قص أبو أستير على أبي عبيدة ما صنعه إيليا معه ومع ابنته على طريق بيت لحم. فدنا حينئذ أبو عبيدة الرجل الكريم المحب للكرام، وقطع وثاق إيليا بيده، وأطلق سراحه.
وقد جرى كل ذلك دون أن يدري به أرميا وأستير. فكأن أرميا نفع إيليا من حيث قصد مضرته، وذلك مصداق لقول من قال: «من حفر حفرة لأخيه وقع فيها».
Bilinmeyen sayfa