أرجو منك أن تسامحني لتركي المزرعة بدون علمك، واشفق علي؛ لأنني في غاية التعاسة. إنني لم أعد أطيق الإقامة في المكان الذي تقيم فيه يا إيليا، ولذلك أفر منك. فانسني ولا تتذكرني بعد الآن، ولا تحاول كشف مكاني فإنك لا تعلم به أبدا. إن بيني وبينك هاوية عظيمة. فإذا قطعتها إليك صرت تعيسة لفراقي دين آبائي وأجدادي، وإذا بقيت بجانبك بعيدة عنك كنت أشد تعاسة وعذابا؛ لأنني أخاف ضعفي. فيا صديقي ساعدني على نسيانك وبعدي عنك بنسياني وبعدك عني، وبحياة عينيك يا إيليا لا تخالف إرادتي هذه. أنا أعلم ما تعانيه لاتباعها، ولكن كن على ثقة من أن كل عنائك لا يساوي شيئا من العناء والعذاب الذي وجدته حين فراقي هذا المكان. فإنني خرجت منه باكية، وهو ذا يدي ترتجف وأنا أكتب لك، وكن مطمئنا من نحوي، فإنني لم أذهب وحدي، بل إن صاحبك الذي تسميه «أرميا» يصحبني، وسيوصلني إلى حيث أشاء. الوداع إلى الأبد. كن سعيدا بعدي يا إيليا وحب غيري. أما أنا فسأذكرك ما عشت. لم أكن لأظن قبل معرفتك أنه يوجد بين البشر الغير إسرائيليين قوم بأخلاقك وأفكارك، وثق يا إيليا أن سلوكك معي أثر في أكثر من خطبتك. نعم، صرت أعلم أننا نحن البشر كلنا إخوان، ولكن ما الحيلة بالعادات والتقاليد. ربما كان لي قوة على خرقها لو استسلمت إلى نفسي، ولكني إذا خرقتها قتلت أبي وأمي. فإن روح أمي تجلت لي بالحلم يا إيليا وأرجعتني بكلمة واحدة إلى الطريق التي حدت عنها، وأنا لا أخالف أمي ولو جنيت على نفسي، ولا ريب عندي أنك بعد هذا القول تثني علي بدل أن تلومني.
يا إيليا إن أمهاتنا هي أرواحنا الحقيقية التي خرجنا منها، وقد كوننا وربيننا بالدماء والدموع. فمهما صنعنا ومهما أنكرنا ذواتنا من أجلهن، فإننا لا نفيهن الدين الذي لهن علينا، وفضلا عن ذلك يا إيليا فإنك تعلم أن المعتقدات المجبولة بلحم الإنسان وعظامه لا تتغير بالوعظ والكلام. فإن معتقدي يبقى قائما في وجه معتقدك إلى الأبد. فيكون تنغيص عيشك على يدي بدل مسرتك. فدعني إذن وشأني، اعتبرني كحلم ذهبي مر في مخيلتك في إحدى ليالي الصيف المضطربة التي يشتد فيها اضطراب المنفردين. احسبني كعروس الجن التي تظهر لبعض البشر في الليالى لتعذيبهم بالشوق والوجد، ولكن يا إيليا اغفر لي فإنني لم أرد تعذيبك عمدا، والدليل على ذلك أنني شريكتك في هذا العذاب.
انظر إلى هذا السطر فإنك تجد فيه أثر دمعة نزلت من عيني وأنا أكتب إليك، وكفى ذلك برهانا على صدق عواطفي من نحوك. نعم يا عزيزي إيليا إنني صرت أميل إليك كما ملت لي، وأخجل أن أقول أحبك؛ لأن هذه الكلمة تحرق يدي وفمي، ويخيل لي أنني إذا سطرتها على الورق فإنه يلتهب بها أيضا، ولكن يا عزيزي ما قيمة الحب والميل إذا كان الإنسان يضحي من أجلهما الواجب والضمير. إنه حينئذ يشتري راحة صغيرة بتعب كبير، ولذة خفيفة بألم شديد. فيا إيليا أنت تحبني ولكن كن متيقنا أنك إذا تركتني وحدت من طريقي تحسن إلي وإلى نفسك أضعاف حبك لي . فإنه حينئذ يجوز لضميرك أن يقول إنك لم تكن لي عذابا واضطهادا ونقمة دائمة، وإذا كانت المسيحية هي ترك الإساءة كما قلت. فبالله اذكر الآن أنك مسيحي، إيليا إيليا. إنني أردت أن أطلعك على حقيقة نفسي في هذا الكتاب؛ لتعلم أنني لست بدون قلب، ولا أنا بجاحدة للجميل فعذرا عما أصرح لك به هنا. اسمع. إنني أكاد أندم لطلبي منك أن تحيد من طريقي، وها إنني أكاد أمزق هذا الكتاب وأبقى هنا في المزرعة بجانبك إلى ما شاء الله، ولكن صوت دمي وصوت أمي يصيحان دائما في أذني، ويخيل لي أنني أرى في هذا الظلام الدامس يد أمي تشير إلى باب المزرعة تدلني على طريقي. فيا إيليا صفحا وحلما ولا تتبعني، وإن تبعتني فإنك تقتل نفسك وتقتلني. ذلك أني لا أستطيع أن أراك بعد الآن إلا وأنطرح بين يديك، ولكن ثق أنني بعد هذا الانطراح أموت في لحظة واحدة. آه إنك لم تعرف حب بنات اليهود ولا قوة نفوسهن. فهنيئا لك لأنك لا تبلى بهذه النار الآكلة. فاختر الآن يا عزيزي بين حياتي بعيدة عنك وبين موتي معك، وإذا مت أنا فلا أسف علي؛ لأنني لست إلا فتاة مسكينة خانها دهرها، وربط نفسها بنفس لا سبيل لها للاقتران بها. أما أنت فاحرص على حياتك؛ لأنها ثمينة لقومك، وكن في بلادنا التعيسة رسول المبادئ والأفكار المعتدلة التي بسطتها فإنه متى سادت هذه المبادئ بين قومي وقومك لم يبق سبيل لشقاء نفسين كنفسينا.
ياعزيزي إيليا، لا أوصيك إلا بشيء واحد وهو أن تذكرني ببشاشة وسرور أمام المرأة السعيدة التي ستكون شريكتك في مستقبل حياتك، ومتى أتاك طفل فوصيتي أمام الله والناس وصية أطالبك بها في اليوم الأخير أن يكون أول ما تعلمه إياه النطق باسمي، بل اسمع ياعزيزي، سم باسم «أستير» أول ابنة يرزقك الله إياها، وإذا وضعت ذلك نصب عينيك، فلا ريب عندي في أن الابنة تجيء مثلي، ومن يعلم المستقبل يا عزيزي، فإنني ربما أكون مت في ذلك الزمان، وحينئذ يكون ألذ وأشهى شيء عند روحي الاتحاد بشيء منك والسكنى في جسم ابنتك.
ياعزيزي إيليا، انسني ما استطعت، ولكن إذا كنت سائرا بين البساتين في مزرعتك ورأيت يمامة قادمة ترفرف حولك فاعلم أنها رسول من قبلي يحمل إليك تحيتي، وإذا نفر من أمامك في أحد الحقول عصفور جميل وحلق في الجو مغردا فاعلم أنه رقيب مني عليك أرسلته ليجيئني بأخبارك، وإذا داعبت الريح شعرك في مرورها عليك مطيبة فلا تظن أن طيبها مأخوذ من شذا الأزهار؛ بل هو مرسل معها إليك من أستير عزيزتك، وإذا رفت عينك يوما فاعلم أن عيني تنظر إليك مع غيبتك، وإذا طنت أذنك يوما فاعلم أنني أتحدث عنك وأناجي نفسي بذكرك.
وهذا وحده يدلك يا إيليا على أنني لا أنساك أبدا ما بقي لي من الحياة بقية. فتعز يا عزيزي عن فقدي بصدق وثبات عواطفي، واندب معي مسرات البشر وآمالهم الحلوة التي يجترفها تيار الحياة بلا شفقة على الأحياء ولا مبالاة بعذاباتهم ليحملها إلى هاوية النسيان الهائلة.
أستير
حاشية: أرجو منك أن تنثر من قبلي في كل يوم شيئا من الزهر على قبر الراهب ميخائيل.
فليتصور القارئ حالة إيليا بعد قراءته هذا الكتاب. أما نحن فنضرب صفحا عن وصفها.
وبعد أن ثاب إيليا إلى رشده كان أول ما طلبه فرسا مسرجا. فلما درى بذلك الشيخ سليمان جاءه مستخبرا فأخبره إيليا أن أرميا اختطف الفتاة وذهب بها. فأطرق الشيخ سليمان، ثم قال: اذهب واخطف روحه، وإذا لم تجده تحت الأرزة ولا في الدير فابحث عنه في بيت لحم ومغارة الرعاة القريبة منها * فإنه يتردد كثيرا إلى هناك.
Bilinmeyen sayfa