فلما سمعت أستير هذا الجواب أجفلت ووقفت. ثم تأملت في الهدوء الشامل حولها في ظلمة ذلك الليل في ذلك الجبل المقفر، فخارت قواها وهلع قلبها؛ لأنها كانت تظن أن أباها ينتظرها بالخارج، ولولا ذلك لما رضيت بالانفراد مع شاب في ذلك الليل. ثم تذكرت أن ذلك المسيحي قال لها على النافذة: إنه قادم من قبل أبيها فخيل إليها حينئذ أنه احتال عليها بذلك لإخراجها. فرجعت القهقرى صائحة: أنا عائدة إلى الدير. فالصليب أهون من هذا.
فصعق إيليا لهذا الجواب، وأسرع وراء أستير، فجاءها من أمامها، وقال بأدب وجد: يا أيتها السيدة. إنك لا تجهلين أنني خاطرت ليلة أمس بنفسي في سبيل إنقاذك مع أبيك من أيدي العامة. فأي غرض كان لي حينئذ مع أنني لا أعرفكما من قبل، ولقد خاطرت بنفسي أيضا الليلة لإنقاذك، ولا غرض لي غير راحتك وراحة ضميري؛ لأنني عجزت أمس عن إنقاذك. فهل من العدل أن تجزيني على هذا الصنع بسوء الظن والإهانة إلى هذا الحد.
فسكتت أستير حينئذ تفكر بنفسها وتتساءل: هل هذا المسيحي صادق في ما يقول؟ ثم أجابت: وأين تذهب بي الآن؟ فأجاب إيليا: إلى مزرعة قريبة في سفح الجبل حيث تنتظرك كثيرات من الفتيات مثلك، وغدا يلاقيك أبوك إليها. فقالت: ولماذا لا نذهب إلى المدينة؟ فأجاب إيليا: لأن جيوش العرب تحصرها فضلا عن أن الأبواب لا تفتح في الليل؛ فتنهدت الفتاة وسكتت، ولكنها بقيت ترتعد من انفرادها بالفتى في ذلك المكان.
وكان القمر في تلك الساعة ملتحفا بالغيوم السوداء المنذرة بالمطر، والريح تهب باردة بردا يدل على قرب مطر مثلج، ولكن كأن القمر كان له غرض في الأرض في تلك البرهة فأطل من وراء الغيوم ينظر بعينه البيضاء الواسعة إلى الجبل والشخصين الواقفين عليه، وكان وجه أستير مستقبلا القمر، فلما وقع عليه أول شعاعه ورأى إيليا برقة في عينيها سرت في جسمه كهربائية فتاته الغائبة التي أحبها عشر سنوات متوالية، وكانت هذه أول مرة وقع فيها نظر إيليا على نظر أستير وجها لوجه؛ فذابت حشاشة إيليا لقسوة قلب أستير وعدم فهمها عواطفه، وعلم حينئذ أن أصعب شيء على القلوب الكريمة التي تستحق الحب الصادق لشرفها وصدقها وكرامتها، هو أن تحب ويبقى المحبوب جاهلا أو متجاهلا حبها وكرامتها لا يثق بشيء لها حتى ولا بإخلاصها.
لكن يظهر أن أستير بعد أن فكرت مليا اقتنعت بالذهاب مع الشاب؛ لأنه أهون الشرين. فقالت له: وهل المزرعة بعيدة من هنا فإنني أخشى المطر والبرد. فتنفس إيليا الصعداء حينئذ وقال: نعم أيتها السيدة، إن المزرعة بعيدة، ولكننا سنصل إليها في ساعة بعون الله.
ثم إنه سار أمامها يدلها على الطريق، وسارت وراءه بخطى سريعة.
ولكن يظهر أن السماء رامت الانتقام من أستير؛ لأنها أساءت الظن بإيليا. فهبت على الجبل في تلك اللحظة زوبعة شديدة تمازجها رعود وبروق وثلج ومطر شديد كأفواه القرب، وكانت أستير بثياب النوم. فجزع إيليا لهذا المصاب الجديد، فخلع عنه رداء شتويا كان عليه وألقاه على جسمها. إلا أن ذلك لم يجدها نفعا فإن المطر بلل جميع ثيابها، والبرد قلص وجهها وأطرافها، والتعب أفنى قوتها فسقطت على الأرض ضعيفة واهية القوى؛ فجزع إيليا جزعا شديدا لذلك فدنا من أستير، وقال: أيتها السيدة استندي إلى ذراعي لأحمل عنك شيئا من مشقة السير فنصل في وقت قريب. فترددت أستير أولا إذ كيف يجوز أن تمس يدها يد مسيحي، ولكنها رأت أنها بدون ذلك لا تستطيع السير، فنهضت وهي ترتعد من الخوف وأسنانها تصطك من البرد. فوضعت ذراعها اليسرى في ذراع إيليا اليمنى، أي أخذ إيليا جانب قلبها ثم سار بها. فشعر إيليا حينئذ بسرعة نبض ذلك القلب اللطيف لخوفه وتعبه فازداد نبض قلبه أيضا، كأنما سرى بين القلبين نوع من الكهرباء.
ولكن الفتاة لم تخطو خطوتين حتى سقطت لعدم استطاعتها الوقوف. فازداد قلق إيليا فدنا منها ثانية بوجل، وقال: هل تسمحين لي أن أحملك؟
فعند هذا السؤال نفرت أستير بأنفة، وأشارت برأسها إشارة سلبية، وكان قلبها يقول حينئذ: الموت بردا أسهل من أن يخالط جسمي جسم رجل خصوصا إذا كان مسيحيا.
وفي هذه الدقيقة سمع على الطريق من جهة المزرعة صوت أقدام تعدو بسرعة شديدة فخاف إيليا، ولكنه لما ظهر صاحب الصوت صاح به - أرميا أرميا أسرع إلي. فأجاب أرميا: كيريه إيليا ماذا تصنع هنا؟ ولما وصل أرميا وشاهد أستير فهم سر المسألة. فوقف مبهوتا يتأمل، ولكن إيليا لم يطل وقفته؛ بل إنه صنع من بعض ثيابه وثياب أرميا ملفا فلف به جسم أستير دون رأسها، ثم حملاها كل واحد منهما من طرف، وكانت المسافة بينهم وبين المزرعة ساعة، والمسافة بينهم وبين كوخ أرميا تحت الأرزة عشر دقائق فقط، ولذلك أسرعا بها إلى هذا الكوخ؛ لاتقاء المطر والبرد.
Bilinmeyen sayfa