ولما جلس الاثنان تجاه المدينة كان أرميا يفكر باهتمام. فقال له إيليا باسما: هات الآن ماعندك، واختصر بقدر الإمكان.
فقال أرميا بجد ورزانة: إن العلة متى استعصت صار شفاؤها متعذرا إلا بعملية جراحية كبيرة أو بعناية إلهية. أما العناية الإلهية فيظهر أنها غضبى منا؛ لأنها لا تساعدنا في شيء فيجب أن نستعمل العملية الجراحية. فأنا قد بدا لي أمر عظيم، فإنك تعلم أن الإمبراطور قد أيد الطبيعتين والمشيئة الواحدة * وهو يتداخل في شئون الكنيسة * مع أن ذلك ليس من وظيفته. فقال هنا إيليا: إنك تتكلم الآن يا أرميا كلام عقلاء. فقال أرميا: لا تقطع حديثي واسمع التتمة، وأنا متحقق أن البطريرك صفرونيوس مستاء من مداخلات الإمبراطور هذه، والكلام بيني وبينك أن هذه المسألة ليست بمسألة دينية فقط فإنها مسألة جنسية أيضا * فإننا نحن السوريين قد سئمنا النير اليوناني * وقد مضت علينا عشرة قرون واليونان متحكمون فينا منذ فتح الإسكندر بلادنا * فلماذا لا نكون أمة مستقلة وحكومة مستقلة. إن نفسي تحدثني الآن بهذا الأمر، وها العرب قد كادوا يملكون فلسطين، وغدا يصلون إلى مدينتنا. ففي نفسي متى وصل ملكهم إلى أسوارنا أن أذهب إليه، وأعرض عليه أن نتفق معه، ونكون من حزبه على شرط أن يحمي بطريركنا ويجعله ملكا مستقلا في سوريا كالإمبراطور، وحينئذ يمكن البطريرك أن يقاوم الإمبراطور، ويؤيد مذهبه في الطبيعتين والمشيئتين، ولا ريب عندي في أنه سينتصر عليه انتصارا عظيما، ويتبعه كل أصحاب العقول في الأمة، وأول انتصاراته تكون في مصر؛ لأن الأقباط فيها مثلنا يئنون تحت نير اليونان * وقد اغتنموا فرصة القول بالطبيعتين والمشيئة الواحدة للانفصال عن الكرسي الإسكندري والقسطنطيني * والمقوقس كبيرهم وواليهم يجامل العرب الآن نكاية بالإمبراطورية
2 * فما قولك في هذا المشروع العظيم؟
فعجب إيليا من هذا الرأي الذي ارتآه معتوه كأرميا. فسأله: وهل أظهرت رأيك هذا لأحد قبل الآن؟ فقال أرميا: نعم، لواحد فقط. فقال إيليا مستغربا: ومن هو؟ فقال أرميا: الله. فضحك إيليا بعد اهتمامه وقال: إنك تحسن صنعا بإبقائه بينك وبينه، وإلا أخذوك يا أرميا إلى القسطنطينية، وألقوك للأسود لتلغ بدمائك. فقال أرميا مزمجرا: وهل مثلي يرهب الموت؟ فإنهم يقتلون جسدي، وأما نفسي فلا يقدرون عليها، وحسبي فخرا أن أموت في سبيل رفع شأن المملكة وإنقاذها من الهلاك. فضحك إيليا وقال: أؤكد لك يا صاحبي أنه إذا اجتمع أهل الأرض طرا لرفع شأن المملكة من الطريق التي تذكرها فإنهم يخيبون سعيا ويضلون سبيلا، وسأطلعك في فرصة أخرى على الطريقة الحقيقية لرفع شأن المملكة. فاكتم مشروعك هذا لئلا يضرك إفشاؤه، وأصغ إلي الآن لأحدثك في الأمر الذي جئت إليك من أجله. فقال أرميا وهو غير راض عن جواب إيليا: وما ذاك؟ فقال إيليا: هل بلغك خبر الفتاة الوثنية التي وجدوها أمس على طريق بيت لحم؟ فقال أرميا ضاحكا: نعم نعم، فقد شاهدتها اليوم هنا في الجبل حين مجيئهم بها إلى دير العذراء لإدخالها فيه هداية لها، وكان معها سيدة وشيخ وراهبان، ولكن يا لله ما أجملها. حقا لا أعلم لماذا تكون الوثنيات جميلات هكذا. فقال له إيليا: فاسمع الآن لأذكر لك ما أطلبه منك.
ثم دنا إيليا من أرميا، وانحنى نحوه، وصار يحادثه همسا حديثا سريا. فلم يكن يسمع من حديثه سوى كلمات متقطعه مثل : أبواها وثنيان ... إيصال رسائلهما إليها ... جائزة سنية لك ... هل يمكن دخول الرجال إلى الدير ... هل ترضى بأن تصير مسيحية أم ترفض ... أية راهبة هي أشد الراهبات تقوى وأطلاهن حديثا ... وكان أرميا يجاوب باهتمام شديد، وإيليا مرتاح إلى أجوبته، وعلى وجهه لوائح الرضى.
الفصل السادس
أمام دير العذراء
في أن الحب ليس بنبتة تغرس طوعا وتقلع طوعا. ***
ولما فرغ إيليا من مسارة أرميا نهض وودعه، وانصرف فبقي أرميا وحده مفكرا تحت الأرزة، وسار إيليا في طريقه يقصد دير العذراء القائم على مقربة من الأرزة في جهة الشمال على منبسط من الأرض فوق الجبل، وكان هذا الدير مبنيا هناك لتنقطع الراهبات فيه إلى الله، وهو أكرم أديار أورشليم لقيامه على جبل الزيتون المشهور في تاريخ المسيحية في عصر المسيح، وكان محظورا على الرجال أيا كانوا الدخول إليه قطعيا لاختصاصه بالنساء.
1
Bilinmeyen sayfa