فضحك إيليا في نفسه من هذا الفكر، ونظر إلى البطريرك مبهوتا. فقال له البطريرك: لعلك لم تفهم كلامي بعد، إنني أريد قبل كل شيء أن أعلم هل الشيخ والفتاة هما جاسوسان للعرب أو الفرس أم لا؟
فلما لفظ البطريرك هذه الكلمة استنار عقل إيليا بغتة فرأى أن صاحبيه قد وقعا في ورطة جديدة أشد من الأولى. فأصغى قليلا ثم أجاب: لم أفطن إلى هذا قبل الآن، وإلا فإنني ما كنت أتوسط في إطلاق سراحهما قبل تحقيق أمرهما. إلا أنني أستأذن مولاي البطريرك في إبداء ملاحظة صغيرة، وهي أن الفرس مشتغلون عنا الآن بمصائبهم مع العرب الذي يفتحون بلادهم * وفضلا عن ذلك فإنهم علموا من حروبنا معهم منذ بضع سنوات وهدمنا مملكتهم أنه لا قبل لهم بنا * وحسبهم عدوا واحدا الآن، ولذلك لست أظنهم يتحرشون بنا بالتجسس علينا، وأما العرب فإن اليهود غضابى عليهم؛ لأن أول عمل عمله أميرهم عمر بن الخطاب بعد وفاة أميرهم أبي بكر هو إجلاؤه اليهود والمسيحيين عن نجران وسائر بلاد العرب * لكي لا يبقى فيها إلا دين واحد، وغبطتكم تعلمون أن بعض النجرانيين المسيحيين قد لجئوا إلى مدينتنا هذه. فكيف يمكن بعد هذا أن يأتمن العرب يهوديا على أسرارهم مع معرفتهم استياء اليهود منهم.
فهنا تنفس صفرونيوس الصعداء، وقال: هذا برهان ضعيف، فإن اليهود كانوا أكبر أعوان الفرس والعرب علينا في جميع حروبنا معهم * وقد بلغت بهم الجرأة أن ثاروا بأنطاكية، وقتلوا بطريركها كما تذكر * وثاروا أيضا بصور ليغتالوا المسيحيين ليلا * فرد الله كيدهم في نحورهم، ولا يزالون يتآمرون سرا في فلسطين مع يهود سوريا للثورة علينا * وأعظم من ذلك كله أنهم اشتروا من الفرس عشرات ألوف من أسرانا وذبحوهم انتقاما منا * فبغض كهذا البغض يا بني لا يحول ولا يزول، ولذلك أعتقد أن اليهود يحالفون علينا كل الأمم التي تقوم لانتزاع البلاد من قبضتنا؛ لأنهم لا يزالون يحلمون بإعادة مملكتهم، وما أدرانا أن العرب لم يعدوهم بمساعدتهم على ذلك إذا هم ساعدوهم علينا.
فهم إيليا بأن يجيب البطريرك بأن اليهود ما تطرفوا هذا التطرف القبيح إلا لظلم المسيحيين لهم واضطهادهم إياهم، ولكنه رأى الاختصار أولى في هذا المقام فأجاب: إن مولانا البطريرك أدرى منا بهذه الشئون، وله رأيه الموفق. إنما ما زلت أرى أن هذا الرجل لا يمكن أن يكون جاسوسا؛ لأنه لو كان كذلك لما جاء بابنته معه ليلقيها بهذه النار إذا كشف أمره.
فابتسم البطريرك وقال: إن الجواسيس لا تكمل جاسوسيتهم إلا بالنساء. خصوصا النساء الحسان.
فاجتهد إيليا حينئذ في أن يقنع البطريرك بإطلاق سراح الفتاة على الأقل، ويبقي الشيخ لديه ليفحص أمره، فرفض البطريرك ذلك رفضا قطعيا؛ لأن الشعب كان يطلب تعميد الفتاة في حفلة عمومية، وقد قال البطريرك للشاب في هذا الشأن كلمة جميلة وهي: «إيليا إيليا إنك ملق بنفسك في مضيق لا مخرج منه. فدع الفتاة وشأنها فإن بينك وبينها هاوية عظيمة، ثم ألا تعلم أنني الآن مسئول لدى الله ولدى ضميري عن هذه الفتاة وإن كانت يهودية، فكيف تريد أن أطردها وحدها إلى معترك العالم، وأسجن عندي حارسها وسندها؟»
لكن يظهر أن البطريرك كان يرغب في استمالة إيليا إليه لمآرب له فرضي أن يطلق سراح الشيخ، ويبقي الفتاة في دير الراهبات في جبل الزيتون حتى يسكت الشعب عنها، وتنتفي الشبهة عن أبيها، وقد قال لإيليا: إن هذا كل ما يمكنه صنعه، وبعد ذلك بعث يسأل في «البيت الأحمر» عن السيدة تيوفانا المشهورة في القدس برقة عواطفها وخدمة الأديرة وقد تقدم ذكرها، وإذ وجدوها وكل إليها البطريرك أن تأخذ في صباح الغد تلك الفتاة إلى دير العذراء في جبل الزيتون، وتوصي بها الراهبات خيرا.
فلما بلغ الفتاة أنها ستنفصل عن أبيها، وتقيم بين راهبات مسيحيات في دير مسيحي أخذت تبكي وتنوح، ولكن أباها أقنعها بأن أسرها لا يتجاوز الأسبوعين، وأنه لا سبيل إلى غير ذلك نظرا لهياج الشعب بشأنها وطلبه تعميدها. فسكنت الفتاة، ونامت مع أبيها في إحدى غرف القصر في تلك الليلة؛ لتذهب في صباح اليوم الثاني معه إلى دير الراهبات في جبل الزيتون، وقد صرف أبو الفتاة نصف الليل وهو يوصيها بما أراد أن يوصيها به؛ لتتمكن من اجتياز المصاعب التي كانت أمامها.
ولما خرج إيليا من لدن البطريرك وجد في الباب راهبا ووراءه رجل يروم الدخول على البطريرك. فدهش إيليا حين مشاهدة الراهب ووقف حائرا لظنه أنه يعرفه. أما الراهب فابتسم ابتسام الازدراء؛ لأنه عرف إيليا، وصار يقلب فيه نظره بجسارة وتهكم. فقال إيليا في نفسه وهو خارج: لا ريب في أن هذا هو أخو الراهب متى؛ لأن فيه ملامح منه، وهو سكرتير البطريرك على ما أعلم. فلو كان الشيخ سليمان مكاني لأراه عاقبة مقاومته لأخيه.
وكان الرجل الذي وراء الراهب رسولا قادما من أجنادين حيث يقيم قائد الروم * وهو يحمل كتابا منه إلى البطريرك. فلما رآه البطريرك عبس؛ لأنه تشاءم من إرسال الرسول في أسبوع العيد، ولكنه تناول الكتاب باهتمام لا مزيد عليه، وصار يقرأه بعينين متقدتين غيظا وأملا، وما أتى عليه حتى صار يرتجف من الغضب، فألقاه بنزق إلى المقعد، وأشار إلى الرسول أن يخرج. فجثا الرسول ثلاثا، ودنا فلثم ذيل البطريرك، ثم خرج باحترام ظهره إلى الباب ووجهه إلى البطريرك، وهو يمشي القهقرى. فلما خرج صاح البطريرك بالراهب بغضب: مرهم أن يعجلوا في صلاة العيد؛ لنعود إلى المدينة، وإلا خفنا أن يباغتنا العرب هنا وإن كانوا لا يزالون بعيدين عنا. ثم أطرق البطريرك يفكر، وبعد حين صاح: إن الله سينتقم منهم لتركهم مدينتنا المقدسة بلا مدد جديد لتعزيز حاميتنا، فانحنى الراهب باحترام موافقة على كلام رئيسه.
Bilinmeyen sayfa