ولم يصل الشيخ والفتاة إلى محاذاة المكان المعروف بقبر راحيل حتى سمع للفتاة شهيق وزفير ضعيف. فصاح بها الشيخ هامسا: إياك والبكاء يا أستير وإلا تفضحينا. فقالت الفتاة: لست أبكي على راحيل، بل على أنفسنا وعلى حياتنا التعيسة.
1
ولقد أحسنت الفتاة بترك البكاء في ذلك الحين؛ إذ بعد دقيقة سمع على الطريق أمامهما جلبة شديدة، وكان السبب في ذلك قدوم شرذمة من الجنود الفرسان مسرعة من القدس؛ لأن والي المدينة بلغه خبر الاضطراب في بيت لحم وهياج الشعب لظنهم أن في المدينة رجلا إسرائيليا فرأى زيادة الجند هناك. فلما نظرت الفتاة لمعان السلاح في الليل وسمعت ضوضاء الخيل ارتعدت فرائصها وغار الدم إلى قلبها. فشجعها رفيقها بكلام رقيق تظهر فيه القوة مع أنه كان خائفا مثلها. أما الجند فمرت خببا بانتظام جميل. فتنفس الصعداء، وكان إيليا قد دنا منهما أكثر حين سماعه تلك الحركة.
فلما مرت الجنود صار الناس يتساءلون عن سبب إرسالها بسرعة كهذه السرعة، ولما عرفوا السبب انتشر بينهم بسرعة البرق فضحك منه الراكبون لعدم تصديقهم إياه، وأما المشاة فإنهم جدوا في السير لمشاهدة المصابيح التي أبت أن تشتعل واليهودي الذي أمسكه الناس، وكانوا في أثناء سيرهم يتهددون ويتوعدون ذلك اليهودي الذي كدر صفوهم في ذلك العيد. فلما وصلت طلائع هذه الجماعات إلى الشيخ والفتاة وسمعا حديثهم عراهما حينئذ خوف شديد. أما الناس فلما أبصروا الشيخ والفتاة أخذوا يحدقون فيهما ويعجبون بعودتهما في تلك الساعة قبل الاحتفال بالعيد، وكانت تصوراتهم ملتهبة للقصة التي سمعوها عن بيت لحم فأخذوا يقتربون من البغلين ويتفرسون في صاحبيهما وهم سائرون. فأصاب الفتاة ضعف شديد فمدت يدها وغطت بها وجهها؛ لتخفي لوائح الاضطراب والاصفرار، وفي الوقت ذاته بدرت منها زفرة رغما عنها؛ لأن صدرها ضاق بما كانت تجده من الاضطراب. فازدادت شبهة الناس فيهما، وصاروا يلتفتون نحوهما من كل جانب. ثم قوي قلب بضعة من المتحمسين منهم فاتجهوا نحو البغلين وأمسكوهما ليسألوا الراكبين عن حادثة بيت لحم وبذلك ينبشون حقيقة أمرهما.
فلما رأت الفتاة ذلك لم تتمالك أن أجهشت بالبكاء، وأطلقت لزفراتها العنان. أما الشيخ فقد صار وجهه كوجوه الموتى من الاصفرار؛ لأنه تحقق الخطر، وأما إيليا فإنه أعمل المهماز في شاكلة الجواد، وبوثبتين صار بجانب البغلين.
وكان الناس قد تألبوا حول الشيخ والفتاة من كل صوب حتى سدت الطريق، وصار كل قادم ينضم إليهم مستخبرا مستعلما، وكان هذا يقول: إنهم قد ألقوا القبض على اليهودي الذي فر من بيت لحم، وذاك يقول : بل هذا رفيقه لا هو نفسه؛ لأن ذاك مسجون في بيت لحم الى أن يحضر البطريرك، وهكذا شبهات العامة وتصوراتها أحيانا تكون مصيبة وأحيانا مخطئة. فإذا أصابت اكتشفت ما لا يستطيع أحد غيرها اكتشافه؛ لأن اكتشافه إنما يكون بالشبهة والتهمة أي بالصدفة، وإذا أخطأت فالويل للبريء الذي ينشب فيه سهم خطأها.
فلما وصل إيليا إلى الجموع المتألبة صاح بها بلغة يونانية فصيحة: أفسحوا الطريق يا إخوان، فإننا نريد المرور. فقال له أحدهم: ولماذا تركتم بيت لحم في هذه الساعة هل تكرهون حضور العيد والقداس في الصباح؟ فقال إيليا: أنا سائر إلى المدينة في شأن خصوصي، وسأعود قبل الفجر لحضور القداس معكم
2
فسأله الحاضرون: ورفيقاك هذان؟ فأجاب: أنا سائر وحدي، ومن هما هذان المسافران؟ ثم التفت إلى الشيخ وسأله: أيها الأخ، هل أنت ذاهب مثلي إلى المدينة لتعود قبل الفجر؟ فقال الشيخ حينئذ بلغة يونانية عامية: نعم أيها الأخ الكريم. فقال إيليا: أنت أكرم يا أخي، فهلم بنا نسير معا. فأفسحوا الطريق يا إخوان، ولتهنئوا بالعيد المجيد.
ولكن الجمهور لم يتفرق بل كانت أنظاره متجهة إلى تلك الفتاة الحسناء التي بكت منذ حين بكاء يدل على الخوف. فقال أحدهم: ولكن لم تخبرونا شيئا عن اليهودي الذي قبضوا عليه في بيت لحم، فماذا صنعوا به؟ فهنا ظهر الارتعاد على الفتاة رغما عنها، وما الحيلة بأعصاب النساء فإنها ضعيفة. فازدادت شبهة المتحمسين، وصاح أحدهم: الحق نقول لكم إننا لا نترككم تمرون إلا إذا وجدنا بيننا من يعرفكم وقد رآكم في المدينة. فهلموا بنا إلى دير مار إلياس القريب على الطريق * وهناك نراكم على النور.
Bilinmeyen sayfa