وقبل أن تسمع سيدي، اكبر أيها الحجم! وتضخم أيها المكان! واقترب أيها الزمان! لا ليس عاما، بل شهرا، بل عدة أيام أريدك. اقتربي أيتها اللحظة، ليس كما خططت يومها لك، ولكن فاجئيني وكوني طويلة طول العمر؛ فأنت حقا تساوين عمرا بطوله، أصبح أيها الحدث في قرب وجهها ذي النمش الخفيف. ذلك الوجه، اقترب، ولو عذبتني أكثر.
عذبك يا مصطفى ذلك الوجه؛ الرموش البنية الغامقة انغرست طويلا وكثيرا في حبابي عينيك، وأنت مستعذب ذلك العمى البني المدبب! أفعلا أحببت ذلك الوجه؟ أفعلا كانت صاحبته تحبك؟ أم هو السجن والجسد الفائر، والشبق الموضوع قسرا في زنازين من أقفاص صلبة لا تلين ولا تنكسر؟ اقتربي كثيرا يا لحظات عشتها وعاشتني؛ فأنتم أنا، ولكنه لأنا المستحيل - أعرف هذا جيدا - التجمع والتكون والعودة للوجود، فلا أنا انتهى عقلي الأصغر، ولا نبت لي ذلك الأكبر المهول بعد.
المسافة قائمة وباقية بينهم في «الدور» الثالث ، وبينه على «البسطة» الأولى للسلم الحلزوني الصاعد في قلب العنبر، والوقت طال وطال، والصبر نفد. فحين تكون في السجن لا تستعذب أبدا أي صبر؛ فأنت دائما في انتظار اللحظة التالية، ولو لم تحمل لك أي خير أو حدث. فمن يدري؟ لعلها تحمل! لعل شيئا خارقا يحدث! أنت تتصورها وتحشوها بالاحتمالات، وتبتهل؛ عساها تأتي مثقلة، كان معهم مع الكبار - حيث كانوا، ولا يزالون - في الزنزانة الواسعة بالدور الثالث. دخل عليهم ثم بدا من نظراتهم المتبادلة، أنهم يطلبون منه الانصراف. أكان اجتماعا مدبرا وجاء هو ليفسده؟ أما كان التدبير هو تلك الأسئلة الغريبة التي انهالت عليه، ثم كفت فجأة؟ وبدأ تبادل النظرات، حتى أحس من التيار المرسل والمستقبل بين العيون، أن ثمة كلمة ضوئية تصاغ، أو بالأصح أمرا: قم، وانتظر!
وقام.
ولم يطلب منه أحد أن ينتظر، فجعل بينه وبينهم ثلاثة أدوار، وجلس؛ فقد كانت الكلمة لا تزال في أذنه: لا تبتعد كثيرا يا بني!
لقد سبقهم إلى السجن، هذا صحيح رغم أنه الأصغر، فقد جاء متهما في جريمة قنبلة، ألقاها في ملهى شارع الهرم، لم يمت بها أحد، هذا صحيح، ولكنها جعلت منه كبيرا وبطلا دخل السجن. وكم عض أصابع يديه العشرة ندما؛ فقد كانت رعونته هي السبب! كان واجبا أن ينتظر إلى أن يعد خمسة ثم يقذفها بقوة، ولكنه استعجل وقذفها وهو يعد الثالثة؛ خوفا أن تنفجر في يده، وبظهورها بلونها الأحمر الغريب المثير المرعب، انكفأ الكل على وجوههم، وكل ما ناله ليلتها قطعة من فخذ الراقصة الدهني الذي جرح، ظلت لاصقة بين ياقة قميصه وجلد رقبته، وكلما حاول استخراجها ضربوه؛ مخافة أن تكون ثمة حركة مباغتة أو بداية عدوان، وهو يحس بها قطعة من نار الجحيم اللصاقة، قد غرزت كاوية جلده، حارقة لحمه حتى نخاع النخاع. وفقط عند مطلع الفجر ينجح في انتزاعها، ينتزعها هي، ولكن أثرها لا يمحى! يكاد يكون إلى الآن باقيا.
مصيره معروف، إنه يدرك هذا! معروف له وللقاضي، وحتى للشحاذ الذي يدعو له كلما لمحه هابطا من عربة السجن إلى المحكمة؛ الإعدام!
فليكن! أبدا لم يفكر أن هناك موتا بمعناه الذي تعارف عليه الناس، ولا خاف مثلهم منه، لكم أحبه قبل الحادث وابتغاه في أثنائه وبعده. كلما غور ببصره في أعماق رحلة الخلد، التي سوف يقطعها به إذا استشهد، أحس أن الناس لا بد مجانين؛ لتمسكهم بحياة هي خرقة بالية! وستبلى أكثر، مليئة بالأوحال والأقذار، لا تصلح حتى لتلميع حذاء! وأعظم شيء يصنعه الإنسان بها، هو أن يقذفها بأطراف أطراف أصابعه، بعيدا بعيدا؛ كي يزيحها عنه، وعن الطريق إلى الخلود.
بل هو حتى أصبح يضيق بتلك المعاملة الخاصة، التي تعامله بها جماعته؛ المئات منهم الذين جاءوا بعده، ولأسباب مختلفة حين جاء أحدهم مرة، وهمس في أذنه، يسأله: من أين هو؟ وإلى أي أمير ينتمي؟ لم يخبره. وحين تكشف في السجن، وبالسجن كل شيء، وعرف السلسال من أوله لآخره لم يفرح، بل ولا غير من نظرته إلى غيرها، فالدين دين الكل، وهو فقط ضد الخارجين ومع كل الداخلين، قابله مرة وكيل وزارة الداخلية، يحمل له عفوا، وقائمة بأسماء كثيرة، الغريب أنها كانت صحيحة تماما ودقيقة جدا، وكأنه هو شخصيا الذي كتبها، وحمل الورقة في يده، ورأسه - رأسك يا مصطفى - في اليد الأخرى، ومجرد توقيع ينقذ هذا الرأس؛ توقيع صغير منك يا مصطفى، يصنع هذا العمل الكبير! ابتسم للرجل في طيبة واحتقار، ودعا له أن يغفر له المولى ذنبه، وأن لا يأخذ ذريته بخطاياه. ومضى.
وأحس بيد توضع - أو بالأصح - تبارك كتفه، رأسه ارتفع؛ الشيخ الجليل هناك، مهيب في وقفته على السلمة الأعلى، ابتسامته نقية وكأنما عليها آثار لا تزال طازجة من مياه زمزم، وقد خفض الشيخ يده من كتفه إلى كوعه واصطحبه، وسارا، وخيل إليه أن السير في الفناء قد طال، والشيخ صامت لا يقول شيئا، وحين تكلم سأله إن كان يريد دخول الجنة، سؤال من هو متأكد مما سوف يكون عليه الجواب؛ ولهذا لم يأته الجواب، وإنما فرت من عين مصطفى دمعة، وانحنى على كف الرجل وقبلها. - لا، لا، لا تفعل، لا كلام بيننا الآن، لقد أعددنا لكل شيء عدته، وسآتي الليلة لأبيت عندكم في زنزانتكم، وستعرف كل شيء بإذن الله.
Bilinmeyen sayfa