سلسلة مقتطفات من السيرة [١]
كان العالم قبل بعثة رسول الهدى عبارة عن قوى متناطحة متشاكسة، وكان السائد فيها حكم قانون الغابة والذي ينص على أن القوي يأكل الضعيف، ويلتهم الكبير الصغير، وفشت عادات وأعراف لم يعرفها التاريخ من قبل، حتى ولد الهدى وانبلج صبح النبوة بمولد محمد ﷺ.
1 / 1
إجمال موضوعات السيرة النبوية
نحمد الله رب العالمين حمد عباده الشاكرين الذاكرين، حمدًا يوافي نعم الله علينا ويكافئ مزيده.
وصلاةً وسلامًا على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد، اللهم صل وسلم وبارك عليه صلاةً وسلامًا دائمين متلازمين إلى يوم الدين.
أما بعد: نسأل الله ﷿ ألا يجعل لنا ذنبًا إلا غفره، ولا مريضًا إلا شفاه، ولا عسيرًا إلا يسره، ولا كربًا إلا أذهبه، ولا همًا إلا فرجه، ولا عيبًا إلا ستره، ولا دينًا إلا قضاه، ولا مريضًا إلا شفاه، ولا ضالًا إلا هداه، ولا ميتًا إلا رحمه، ولا مسافرًا إلا رده غانمًا سالمًا لأهله، اللهم رد إلينا المسافرين، ورد علينا الغائبين سالمين غانمين يا رب العالمين.
اللهم اجعل هذه الدروس في ميزان حسناتنا يوم القيامة، اللهم ثقل بها موازيننا، واجعلها خالصة لوجهك الكريم، ولا تجعل للشيطان فيها حظًا أو نصيبًا، واغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين.
اللهم انصر الإسلام والمسلمين، وأعل بفضلك كلمتي الحق والدين، وانصرنا على أعدائنا يا أكرم الأكرمين.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فإني استشرت واستخرت كثيرًا قبل أن أبدأ بهذه الدروس ولم أجد أفضل ولا أعظم من أن نتحدث عن السيرة العطرة لسيدنا رسول الله ﷺ، وسيكون حديثنا عن حالة العرب قبل الإسلام، ومولده ﷺ، ومكثه في مكة، وزواجه من السيدة خديجة، وبعثته عندما صار عمره أربعين سنة، واستمراره في الدعوة ثلاث عشرة سنة في مكة، ثم الهجرة ومكثه في المدينة وتأسيس الدولة المسلمة، ثم الغزوات.
ومن خلال هذه السيرة العظيمة لأفضل الخلق، نستطيع الحديث عن حال المسلمين، فإذا نظرنا إلى الرسول ﷺ في ولادته وفي صغره -وما كان صغيرًا قط- نرى ونتعلم كيف نربي أولادنا، وسوف نتحدث عن تربية الأولاد في الإسلام.
وعندما يصل الرسول إلى سن الشباب، فسوف نخرج أحاديث إلى الشباب في زمن ارتكبت فيه الفتن ما ظهر منها وما بطن، ونسأل الله العصمة لنا ولشبابنا ولأبنائنا ولصغارنا وكبارنا.
ثم نتحدث عن الرسول ﷺ معلمًا، فنتحدث عن صفات المعلم، وعن صفات المتعلم وعن فضيلة العلم.
نتحدث عن الرسول داعية إلى الله، فنتعلم كيف يدعو الإنسان إلى الله ﷿، ونتحدث عن الرسول كأب؛ لنرى كيف كان أبًا في بيته، نتحدث عنه كزوج؛ لنتوقف عند حقوق الزوج على زوجته وحقوق الزوجة على زوجها، وهذه أشياء مهمة.
ونتحدث عن النبي ﷺ قائدًا محنكًا وسياسيًا بارعًا ومفاوضًا عظيمًا؛ لنتحدث عن موقف المفاوضات والمعاهدات في الإسلام، ونتحدث عن الغزوات لنرى الرسول قائدًا عسكريًا عظيمًا لا يشق له غبار وكيف كان يخطط، وكيف كان ينظم مواقف القتال ونعرف موقف الإسلام من القتال.
نتحدث عن الرسول ﷺ وهو فقير كيف كان يتعامل وهو غني، وعندما دخل الناس في دين الله أفواجًا، ونتحدث عنه في حالة اليسر وفي حالة العسر، ونتحدث مجملًا عن قول الله ﷿ فيه: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم:٤].
ونتحدث عنه كيف كان يعامل أعداءه، وكيف كان يعامل أهل الذمة، كيف كان يعامل المنافقين الذين كان يعرفهم واحدًا واحدًا، ونتحدث عنه حليمًا يحلم على الناس، فقد وسع صدره العالم كله فدخل الناس في دين الله أفواجًا محبةً في رسول الله ﷺ واقتداءً به.
نتحدث عنه عند وفاته وكيف صبر صحابته على هذه الفاجعة الكبيرة التي نحن في خضم حياتنا لا نذكرها إلا قليلًا، فنتحدث عن الصحابة كيف كانوا تلاميذ نجباء لأشرف أستاذ عرفته البشرية ﷺ.
هذا مجمل عناوين الحديث عن السيرة العطرة، وأدعو الله ﷿ إن كنا من أهل الدنيا أن يعيننا على شرحها وتوضيحها والخروج بالدروس المستفادة منها.
فاللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه يا أكرم الأكرمين.
1 / 2
فضل مجالس العلم
وقبل أن ندخل في الموضوع لابد من الحديث عن فضيلة مجالس العلم، فقد كثرت الأزمات في بيوتنا، ولعل الأزمات اشتد لهيبها وغبارها عندما انقطعت دروس العلم ودروس الإثنين والخميس، وصار كثير من المريدين لا يحضرون أي دروس في أي مكان، وهذه خلة أعتب عليهم فيها.
فالكثير من الإخوة والأخوات رفضوا الذهاب إلى دروس العلم، وبذلك استطاع الشيطان أن يغويهم، لأن العلم ودروس العلم هي التي تضيق الأبواب التي يدخل الشيطان منها، قال الحسن البصري ﵁: إن لك في المسجد فوائد سبع.
أول فائدة: أخًا مستفادًا في الله.
يعني الأخوة التي تحصل في بيت الله لا تحدث في أي مكان آخر؛ لأن زمالة العمل قد تنتهي بمجرد أن تحال على التقاعد أو تنقل من مكان إلى مكان وهذا على سبيل المثال.
لكن الأخ في الله عندما يغيب عنك قال فيه ﷺ: (تعاملوا مع الناس بحيث إنكم إذا غبتم حنوا إليكم وإذا متم ترحموا عليكم)، يعني أن المسلم عندما يغيب عن أخيه فإنه يحن له فيسأل عنه، وإذا مات ترحم الناس عليه.
فنحن عندما نسمع اسم أبي بكر فإننا نقول: ﵁، فكم هي أعداد الناس الذين يدعون لـ أبي بكر بهذا الدعاء ولـ عمر بن الخطاب وعثمان وعلي وحمزة وخالد وسعد وأم سلمة والسيدة زينب، كل الصالحين والصالحات عندما تأتي سيرتهم نقول: ﵏، ورضوان الله عليهم، وعند ذكر الصالحين تستدر الرحمات.
وعندما مرض صديق للشافعي رضوان الله عليه، ذهب الشافعي ليزوره، فبسبب مرض صاحبه وأخيه في الله وحبيبه رجع وهو مريض، فلما وصل الشافعي مريضًا إلى البيت بلغ صاحبه مرض الشافعي فقام من فراشه وذهب يزور الشافعي، وكان الشافعي لا يستطيع الجلوس، فلما رأى أخاه قادمًا إليه فمن شدة فرحته بشفاء أخيه قام من فراشه واحتضنه ثم ترجم الشافعي الكلام قائلًا: مرض الحبيب فزرته فمرضت من حزني عليه فأتى الحبيب يزورني فبرئت من نظري إليه ولا أحد يعرف الأخوة إلا الذي جربها.
لا يعرف الشوق إلا من يكابده ولا الصبابة إلا من يعانيها فأنت كمسلم من الواجب أن تراعي قضية هامة، وهي أن لك في المسجد أخًا مستفادًا في الله، وهناك أناس نحبهم على البعد وبمجرد السماع بهم.
ومن جميل أخوة النبي ﵊ أنه عندما جاءه جعفر الطيار رضوان الله عليه من رحلة الحبشة مع إخوانه الذين كانوا مهاجرين معه كان ﵊ يحتضنه ويقبله، وكان جعفر ابن عمه، وكان أشبه الناس خلقًا برسول الله، وكان يقول فيه: (أشبهت خلقي وخلقي)، وقال ﷺ: (لا أدري بأيهما أفرح: بفتح خيبر أم بقدوم جعفر).
وكان سيدنا الحبيب يراعي هذه القضية جدًا، وكان لا يقوم لأحد أبدًا، ولكن كان يقوم لـ فاطمة عندما يجدها قادمة فيحتضنها ويقبلها بين عينيها، وكانت فاطمة تضع رأسها على صدر أبيها، فتستريح من عناء الدنيا وبلائها.
والإنسان عندما يأتي إلى الجامع يجب أن يكون ذلك لهدف وهو إرضاء الله ﷿، أو لطلب رحمة مستنزلة، يقول تعالى في الحديث القدسي: (ألا إن بيوتي في الأرض المساجد وإن زواري عمارها ألا إن من تطهر في بيته ثم زارني في بيتي فما على المزور إلا أن يكرم زائره).
والملائكة السياحون في الأرض دائمًا ما يقعدون في مجالس العلم، وأقول: لو كُشِفَ الحجاب لرأيت حولك من الملائكة مالا يعد ولا يحصى، ثم يصعدون إلى الله ﷿ وهو العليم الخبير فيسألهم (علام ما تركتم عبادي؟ فيقولون: يتدارسون العلم ويسمعون آياتك، فيقول: ماذا يريدون؟ فيقولون: يريدون الجنة، فيقول: وهل رأوا جنتي؟ فتقول الملائكة: لا يا رب، فيقول: فما بالكم لو رأوها؟ ومم يستعيذون؟ فيقولون: من النار، فيقول الله: هل رأوها؟ فيقولون: لا يا رب، فيقول: لو رأوا النار ماذا سيعملون؟ أشهدكم أني قد غفرت لهم.
فيقولون: إن فيهم فلانًا إنما جاء لحاجة، فيقول: وله قد غفرت، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم)، فحتى الذي جاء لمصلحة أو الذي جاء يكتب تقريرًا أو الذي أتى يعمل شيء غير حضور المجلس فربنا يغفر للكل ويكرمه سبحانه من أجل المجموعة.
ولا يسمع العلم إلا في مثل مجالس الذكر التي في المساجد، فالعلم لا أعرفه إلا في بيت الله، فطالما أن المسلم وثق بالإنسان الذي يتكلم وصارت بينهما علاقة حب في الله صار بين العالم والمريد أو الشيخ ومريده علاقة ينتج عنها ثمرة طيبة، علمًا مستظرفًا أو كلمة تدلك على هدى، أو تمنعك من ردى.
وذات يوم دخل الرسول ﷺ إلى المسجد بعد العصر فوجد صحابيًا قاعدًا في الجامع واضعًا خده على كفه فقال له ﵊: (ما الذي يجلسك في وقت ليس من أوقات الصلاة في المسجد؟ قال له: هموم وديون لزمتني يا رسول الله)، فعلمه الرسول ﷺ ثمان كلمات: (اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، ومن العجز والكسل، ومن الجبن والبخل، ومن غلبة الدين وقهر الرجال)، فبمجرد أن يقولها الإنسان فإن ربنا يفرج الكرب.
فتسمع في المسجد كلمة تدلك على هدى، أو تمنعك من ردى، أو أن تترك الذنوب خشية أو حياء، فعندما تتعود على المسجد تستحي أن ترتكب غلطة في الخارج.
فدروس العلم كلها فائدة، ولن ينشرح الصدر إلا بدروس العلم، ولن تشعر أنك قريب من الله إلا بدروس العلم، والإنسان الذي يحضر دروس العلم يعلم الفرق بين الصلاة التي تكون قبل الدرس والصلاة التي تكون بعده، فأنت تأتي إلى صلاة المغرب ولا زالت هموم العمل والدنيا ومشاغلها عالقة في ذهنك، ثم تجلس في الدرس وتستمع الشيخ وتصلي بعد ذلك العشاء، فالنفسية التي صليت بها العشاء تختلف تمامًا عن النفسية التي صليت بها المغرب؛ لأن صلاة العشاء تأتي بعد درس العلم، ولذلك فالصحابة رضوان الله عليهم كان عندهم الخشوع لله ﷿ في جميع الصلوات؛ لأنهم كانوا مع الله في كل وقت، وكانوا موصولين بالله ﷿.
فدرس واحد أو مجلس واحد من مجالس العلم يكبر سبعين مجلسًا من مجالس الذنوب، وكل مجلس من مجالسنا ليس فيها ذكر لله فهي من مجالس الذنوب.
1 / 3
حالة العالم قبل الإسلام
قبل الحديث عن مولد سيدنا رسول الله ﷺ لابد أن نعلم كيف كانت حالة العالم قبل ميلاد رسول الله.
وسيجد المتأمل قوى متطاحنة، وقوى متقاتلة، ففارس والروم مثل أوروبا وأمريكا الآن، وكان جماعة من الهنود يبيحون زواج المحارم، فكان الواحد منهم يتزوج ابنته، ويتزوج أخته، ويتزوج عمته وخالته.
واليونانيون عندهم فلسفة كذابة، والرومان -مثل أمريكا الآن- عندهم ميول استعمارية، والفرس كانوا يعبدون النار، وقد أوقدت نيرانهم منذ نبوة سيدنا موسى ولم تنطفئ إلا يوم أن ولد رسول الله.
وقبل أن نتحدث عن حالة العالم قبل مولد رسول الله ﷺ، نأخذ لمحة سريعة عن الأنبياء قبل رسول الله ﷺ.
1 / 4
حال الأنبياء السابقين مع الدعوة
فالدين كله من بداية عهد آدم ﵇ إلى سيدنا محمد يقوم على أمرين: العقيدة والتشريع، ولذلك يقول ﷺ بتواضعه الجم: (الأنبياء إخوة دينهم واحد وأمهاتهم شتى)، يعني دينهم واحد لكن الأمهات مختلفة.
وقال في حديث آخر: (الأنبياء إخوة لعلات)، والعلات: الضرائر.
وأول الدعاة على وجه الأرض هو سيدنا نوح وظل يدعو قومه تسعمائة وخمسين سنة.
﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا﴾ [نوح:٥] وهذا دليل أنه كان يعظهم موعظة في الصبح وموعظة في الليل ﴿وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا﴾ [نوح:٧].
فصبر هذه السنين كلها، نسأل الله الستر، والله لو سترك الله لم يفضحك أحد، ومن كرم ربنا أنه إذا سترك في الدنيا فهو أكرم من أن يفضحك على رءوس الخلائق يوم القيامة، لكن يفضحك لو فضحت نفسك وجاهرت بالمعاصي.
فظل يدعو إلى أن قال له ربه: يا نوح! اصنع الفلك، وقال له: ﴿فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ﴾ [المؤمنون:٢٧] أي: إلا امرأتك، وبعد أن ركب نادى على ابنه فلا يزال يؤمل فيه خيرًا: ﴿وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ﴾ [هود:٤٢] أي: عن الخير وعن الحق وعن الاستقامة ﴿يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ﴾ [هود:٤٢ - ٤٣].
ووصلت السفينة إلى جبل الجودي في العراق، ووصل نوح إلى بر السلامة ومتعه الله ﷿ ومن آمن معه، وما آمن معه إلا قليل، وقيل: إن مع سيدنا نوح سبعين واحدًا.
ثم بعد ذلك انحرفت البشرية فبعث الله رسولًا من الرسل، وقد عرفنا قصص قوم صالح وقوم هود وقوم لوط، ثم جاء الخليل ﵇ والذي يعتبر النبي ﵊ من سلالته.
وقد وصف الله ﷿ سيدنا إبراهيم بقوله تعالى: ﴿وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى﴾ [النجم:٣٧].
وقد بلغ إبراهيم من العمر ٨٠ عامًا ويئس هو وزوجته من الولد فإذا بها تحمل بإسماعيل جد العرب وجد رسول الله ﷺ، وبعد أن كبر أمر الأب أن يأخذ إسماعيل وأمه ويضعهما بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ.
كبر سيدنا إسماعيل ووصل عمره إلى خمس عشرة أو ست عشرة سنة، وإبراهيم لم يره، فأول ما قابل أباه قبله واحتضنه وقبل يديه، وقال له: يا إسماعيل! ﴿إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى﴾ [الصافات:١٠٢] فكان جوابه أن قال: ﴿يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ [الصافات:١٠٢]، وقد قال الله تعالى في سيدنا إسماعيل: ﴿إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا﴾ [مريم:٥٤].
فهو من سلالة سيدنا إبراهيم ﵇ الذي كان أبوه آزر يصنع التماثيل التي يعبدونها، وكان عمر سيدنا إبراهيم عشر سنين، فكان يقول آزر: يا إبراهيم! بع هذه الآلهة، والآلهة أنواع: آلهة ذهب للأغنياء وآلهة حجر وآلهة طين، فكان سيدنا إبراهيم يربط الآلهة بحبل، ويمشي يقول: يا أيها الناس! من الذي يشتري من لا ينفع ولا يضر، فكان لا يشتري منه أحد بسبب تروجيه الرائع.
وذات يوم دخل سيدنا إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام إلى المعبد وذلك يوم العيد، وكسر الأصنام كلها وعلق الفأس على كتف كبيرهم، فجاء القوم وقالوا: من الذي فعل هذا بآلهتنا؟ وكان هذا أحد أساليب دعوته التي كاد أن يسلم قومه بسببها.
وهذا يذكرنا بقصة أبي ذر الذي وجد صنمه مبتلًا قد تبول عليه ثعلبان وكان أبو ذر لا يعرف عن الإسلام شيئًا فقال: أرب يبول الثعلبان برأسه لقد ذل من بالت عليه الثعالب فلو كان ربًا كان يمنع نفسه فلا خير في رب تصبه المصائب برئت من الأصنام في الأرض كلها وآمنت بالله الذي هو غالب فيدخل على الرسول من أجل أن يعلن إسلامه، فقال له ﵊: (ماذا فعل الثعلبان بصنمك يا أبا ذر؟).
ومن ذلك قصة سيدنا عمر بن الخطاب فقد كان أبوه قاس وكان هؤلاء الناس ليس لهم عقول، فكان للخطاب إله من العجوة يعبده، وفي ذات يوم ذهب الخطاب ووصى ابنه عمر على هذا الصنم، وكان عمره عشر سنين فظل منتظرًا أباه حتى شعر بالجوع قال: فقلت: يا إلهي! أطعمني، فلم يجبه، يا إلهني اسقني قال: فأخذت ذراعه فأكلته فلم يتكلم -وجد العجوة طعمها حلو- فراح وأخذ ذراعه الثانية وأكله فلم يتكلم، حتى أكله كله، فتذكر سيدنا عمر غلظة الخطاب، فكلم أمه أن تصنع صنمًا آخر، فأخذت عجوة صنعت بها تمثالًا.
فإذًا منطقة العرب كانت منطقه غريبة جدًا في مسألة العبادة.
وكان سيدنا نوح يدعو إلى التوحيد ونبذ الفاحشة، وجاء من بعدهم سيدنا داود وسليمان والملكان اللذان أعطاهما رب العباد ما لم يعط أحدًا من العالمين.
فسيدنا داود ألان الله له الحديد، قال تعالى عنه: ﴿أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ﴾ [سبأ:١١] أي: دروعًا للحروب والسيوف والرماح.
وأما سيدنا سليمان فيقول: ﴿عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ﴾ [النمل:١٦]، وكان سيدنا داود يقرأ الزبور الكتاب المنزل عليه فمن شدة حلاوة وجمال صوته كان الماء يتوقف عن الجريان وكانت الطيور تردد معه تسبيحه لله ﷿، قال تعالى: ﴿يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ﴾ [سبأ:١٠]، ثم جاء من بعده ابنه سليمان وورث أباه وأعطاه الله ما لم يعط أحدًا من قبل ولا من بعد فقد سخر الله له الريح غدوها شهر ورواحها شهر ﴿تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ﴾ [ص:٣٦ - ٣٧] يأتون له باللؤلؤ والمرجان من تحت البحر وكان ملكه في بيت المقدس الذي يريد اليهود الآن أن يهدموا المسجد الأقصى بغرض إخراج هيكل سليمان من تحته.
وقصة الهدهد التي حدثت مع نبي الله سليمان نتعلم منها كلنا، فذات يوم كان سليمان قاعدًا في ملكه تظلله الطيور، والجن والشياطين والوحوش أمامه، فرأى شعاع الشمس وقد نفذ إليه فقال: لابد أن هناك طيرًا غير موجود ﴿مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ﴾ [النمل:٢٠] وبعد قليل جاءه الهدهد وقال: ﴿وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ﴾ [النمل:٢٢] وقال: إنه يوجد من الإنس امرأة تحكمهم ويسجد قومها للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فأضلهم عن السبيل، فتحدث الهدهد في قضية الإيمان والتوحيد والعقيدة، فأراد سليمان أن يتأكد وأن يستوثق من كلام الهدهد ومن الخبر الذي جاء به.
فأرسل معه كتابًا قال له: خذ هذا الكتاب فألقه إليهم، فقطع الهدهد المسافة من بيت المقدس إلى صنعاء، وطار حاملًا رسالة نبي الله سليمان، أخذ الهدهد الرسالة وذهب إلى ملكة سبأ وألقى إليهم الخطاب، فقالت: ﴿إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ﴾ [النمل:٢٩]؛ لأن الخط يدل على أنه خط ملوك وشعار الملك عليه، فأكيد إن الرسالة من نبي الله سليمان، ثم سألتهم عن رأيهم فقالوا: ﴿نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ﴾ [النمل:٣٣]، وقد صدق رسول الله ﷺ حين قال: (تعس قوم ولوا أمورهم امرأة)، فأنا كنت أتمنى أن المصالح الحكومية يديرها الرجال، والمدرسة التي تكون فيها مديرة أتمنى أن كل الذي تحت يدها يكن نساء، لكن أن الرجل يعمل تحت إمرة المرأة فهذا لا ينبغي، والمرأة عقلها كالرجل تمامًا ولكن مكانها البيت أساسًا.
ويا ليت تراعى هذه القضية فإن المرأة بطبيعتها تمر عليها أيام تكون فيها عصبية، بسبب الإفرازات المعينة التي تحصل لها في جسمها وهذا ما يجعلها في حالة عصبية، فأحيانًا تجد المرأة راضية عنك تمامًا ولكن بعد خمس دقائق يتبخر هذا الرضا ولا تعرف أين ذهب، فهذه حالتها.
ليس معنى هذا أن النساء بهن شيء من الجنون فكلمة حنان واحدة تجعل المرأة راضية كل الرضا كما قالت بنت محلم الشيباني: يا بنية كوني له أمة يكن لك عبدًا.
يعني: كوني لزوجك مثل الخدامة فهو سيكون عندك عبدًا.
قالت: ﴿وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ﴾ [النمل:٣٥] فدخل رسلها على سليمان في ملكه وكان الشياطين والجن قد صنعوا الطريق المؤدي إلى العرش الذي يجلس عليه سليمان من الذهب الخالص فدخل الرسل ومعهم هدايا من الذهب، والتي تعتبر قليلة بالنسبة لسليمان فقال: ﴿أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ﴾ [النمل:٣٦] فأيقن نبي الله سليمان أنهم سوف يأتون إليه مسلمين فعرض الأمر على جنوده من الجن من يأتي بعرش بلقيس قبل أن تصل ﴿قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ﴾ [النمل:٣٩].
فقال عفريت مؤمن بالله ﷿ عنده علم من الكتاب: ﴿أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾ [النمل:٤٠] فبمجرد أ
1 / 5
سلسلة مقتطفات من السيرة [٢]
لقد كان العالم قبل مجيء سيدنا محمد ﷺ يعج بالأباطيل والظلم والكفر، ولم تكن أمة من الأمم مؤهلة لحمل الرسالة الإلهية كأمة العرب، لما كان فيهم من الأخلاق النبيلة.
وقد تقدم مولده ﷺ إرهاصات كثيرة ومبشرات تنبئ عن مقدمه بالنور ليضيء العالم بعد تخبطه أزمانًا في دياجير الظلام.
2 / 1
الرد على من أنكر المعجزات النبوية أو لم يذكرها في كتبه
هذه هي الحلقة الثانية من السيرة العطرة لسيدنا رسول الله ﷺ.
والحديث عن السيرة ليس سردًا تاريخيًا لوقائع السيرة أو للتاريخ، ولكننا ندرس التاريخ الإسلامي والسيرة العطرة لسيدنا الحبيب ﷺ لكي نأخذ العبر والعظات التي نتعلمها منه ﷺ.
فلقد كانت حياته كلها عبرًا ودروسًا مستفادة يستطيع المسلم أن يأخذ منها القبس وأن يضيء منها المصابيح وأن يتلمس منها المفاتيح في ليالي الأيام وظلمات الطرقات وهو يسير إلى الله ﷿ سيرًا حثيثًا.
كما أن المتصدر لتدريس حياة النبي ﷺ يجب ألا ينسى للحظة أنه نبي، فمن قال: إنه كان قائدًا عظيمًا، فلابد أن يعلم أنه نبي كذلك، ومن قال: إنه كان سياسيًا بارعًا، نعم هو كذلك ولكنه نبي، فكل حركة من حياة سيدنا الحبيب فهي نابعة من النبوة، أي: وهي بأمر من الله ﷿ فعندما يتكلم فإنه يتكلم بوحي من الله، ويتحرك ويتصرف بناء على توجيهات الوحي الأعلى، فهذه مسألة مهمة أغفلها العلماء الذين ظهروا في بداية العصر الحديث من أمثال محمد عبده والشيخ المراغي ومن على وتيرتهم ﵏ جميعًا وألحقنا بهم على الإسلام، وجزاهم الله خيرًا على ما فعلوا للأمة الإسلامية؛ لكنهم جاءوا في وقت كان الهجوم على الإسلام شرسًا، والهجوم على نبي الإسلام أشد شراسة.
وقد دافعوا عن سيدنا رسول الله ﷺ، فخلت كتاباتهم التي كتبوها عن لفظة (رسول الله)، ومن الحديث عن المعجزات؛ لأنهم شعروا أن المعجزات ليست مسألة عقلية، وهم كانوا يدحضون الحجة بالحجة، فيريدون أن يردوا على أمثال رينان أو من كان على شاكلته من المستشرقين.
فهذا الرجل علماني أو عقلاني، فمن أجل أن يقنعه محمد عبده فإنه يرد عليه بالعقل.
فـ محمد عبده لم يتحدث مثلًا عن حادثة المعراج؛ لأنه رأى أن هذه مسألة ليست عقلية عند الأوروبيين وهم لن يقبلوا، ولم يتحدث مثلًا عن أن المياه نبعت من بين أصابع الحبيب المصطفى ﷺ بحجة أن هذه ليست مسألة عقلية، ولم يتحدث أن الرسول مسح بيده على قدم أبي بكر في الغار عندما لدغته الحية فعادت سليمة كأن لم يكن بها شيء، لكن نقول لـ محمد عبده ولغيره: نحن نأخذ شخصية الرسول ﷺ على أنه رسول مؤيد بالوحي الأعلى، وقد ورد في كتب الصحاح، أن رجلًا أعرابيًا اصطاد ضبًا، ثم أتى أناسًا كان بينهم رسول الله ﷺ، فكان يسأل: من هذا؟ من هذا؟ فقالوا: هذا رسول الله، فاقترب منه وقال: يا محمد! من يشهد لك بالرسالة؟ ولو قال له: الله يشهد، فسينكر الأعرابي، ولو قال له: الصحابة يشهدون فإنه سيقول: إنهم أصحابك وأصدقاؤك.
فقال الحبيب مبتسمًا: (أتريد شاهدًا يشهد على صدق رسالتي يا أعرابي؟ قال له: نعم، قال له: هذا الضب الذي في يدك)، فنظر الرجل إلى الضب فقال الضب بلسان عربي مبين: أشهد أنك رسول الله، فإذًا الرسول مؤيد من الوحي الأعلى.
أما أن يأتي محمد عبده أو غيره من أجل أن ينفي قضية المعجزات فهذا خطأ فادح.
ومن المعجزات أن النبي يوم ولد تصدع إيوان كسرى وغاضت بحيرة ساوة وسقطت شرفات إيوان كسرى وخمدت نار فارس.
فنحن خلال دراستنا لحياة الحبيب يجب أن ننظر إليه على أنه رسول، وقد وضح هذه القضية لـ عمر بن الخطاب فقد دخل عليه يومًا ووجد الحصير وقد أثر في جنبه، فقارن سيدنا عمر بين كسرى وقيصر وهما يعصيان الله ويرفلان في الحرير والديباج، وتنام أنت على حصير ويؤثر في جنبك يا رسول الله! فقال: (يا ابن الخطاب أفي شك أنت؟ إنها نبوة لا ملك وشقاء أمتي يوم يكون فيها كسرى ويوم يكون فيها قيصر).
وعندما كان يجد ﵊ الصحابة يقومون له عندما يأتي احترامًا له وهيبة فكان يأمرهم فيقول: (اجلسوا، إنما يقوم الناس لرب العالمين، لا تطروني كما أطرت الأعاجم ملوكها ولا تعظموني كما عظمت النصارى المسيح ابن مريم، وإنما قولوا: عبد الله ورسوله، فأنا عبد الله ورسوله)، ففيه العبودية وفيه الرسالة.
﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ﴾ [الكهف:١١٠] ضع تحت (يوحى إلي) خطوطًا.
يقف أبو سفيان في فتح مكة، والمسلمين داخلين خلف الحبيب فالرايات مرفوعة، راية خضراء للأوس وراية ثانية للخزرج وراية أخرى للمهاجرين، والرسول داخل بين كوكبة من صحابته ورايته سوداء ﷺ يحملها علي بن أبي طالب، فعندما دخل العشرة آلاف قال أبو سفيان للعباس: لقد صار ملك ابن أخيك كبيرًا، فيرد العباس ويقول له: إنها نبوة لا ملك يا أبا سفيان! أي: أن هذا التأييد إلهي من الله ﷿، ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ﴾ [الكهف:١١٠]، وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ [المائدة:٦٧].
ويقول لموسى: ﴿وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾ [طه:٣٩] ويقول لحبيبه محمد: ﴿فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾ [الطور:٤٨].
وقد أشار موسى إلى الرسالة، وأشارت الرسالة إلى محمد ﵊.
فموسى قال لأهله ﴿امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا﴾ [طه:١٠] فهو أشار ناحية الرسالة، بينما الرسالة جاءت لحبيب الله، ويقول الله لموسى: ﴿وَأَنَا اخْتَرْتُكَ﴾ [طه:١٣] وحبيبنا ﵊ هو المختار.
وفي صلح الحديبية يحصل أمر غريب: فالمشركون أرادوا الصلح وأرسلوا سهيل بن عمرو رئيس وفد المشركين في المفاوضات، وكان سيدنا الحبيب ﷺ ومعه المسلمون في الطرف الآخر من المفاوضات، وأمر عليًا أن يكتب بنود الصلح، وفي النهاية قال: اكتب يا علي! هذا ما عاهد عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو.
فقال سهيل: لو أعلم أنك رسول الله ما قاتلتك.
وهذا الكلام مهم جدًا ونريد خلال دراسة السيرة أن نرتقي ونرتفع لنقترب من شخصية الحبيب المصطفى، التي سوف نرى فيها عجبًا عجابًا، فإنه ما قدره حق قدره إلا ربه.
ولذلك عندما حدثت الأزمات وراء بعضها: خديجة تموت، ثم بعد ثلاثة أيام يموت أبو طالب واشتد الإيذاء من قريش، فيذهب إلى الطائف ليكذبه أهل الطائف ويخرجوا أولادهم يقذفون بالحجارة وتسيل دماؤه الزاكية على رمال الطائف، ويجلس هناك في ظل البستان، فينادي ربه ويقول: (اللهم أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أضاءت له السماء والأرض، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بي غضبك أو يحل بي سخطك، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك)، فترتج لهذا الدعاء أرجاء السماء، واجتمعت الملائكة كلها في صف الحبيب المصطفى.
وقد قال تعالى لنسائه: ﴿وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ﴾ [التحريم:٤] فجبريل في صفه والملائكة والمؤمنون، والله قبل كل شيء وبعد كل شيء.
فينزل ملك الجبال ويقول: السلام يقرئك السلام، ويقول لك: إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين فقال: لا تفعل؛ فلعل الله يخرج من أصلابهم من يقول: لا إله إلا الله.
وقد قال ﵊: (بعثت إلى الناس كافة، فإن لم يؤمنوا فإلى العرب خاصة، فإن لم يؤمنوا فإلى قريش، فإن لم يؤمنوا فإلى بني عبد مناف، فإن لم يؤمنوا فإلى بني هاشم، فإن لم يؤمنوا فإلى نفسي)، وهذا من تواضعه ﵊، اللهم ثقل بصلاتنا عليه موازيننا يوم القيامة، اللهم فرح بنا قلب نبينا، واسقنا من يده الكريمة شربة من حوض الكوثر لا نظمأ بعدها أبدًا آمين يا رب العالمين.
وبينما هو راجع من الطائف كان يسلي نفسه بسورة الرحمن، فكلما وصل إلى قوله تعالى: ﴿فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ [الرحمن:١٣] يسمع من يقول: ولا بأي من آلائك نكذب يا ربنا فلك الحمد، فيلتفت من حوله فلا يجد أحدًا، فيعرف أن الجن قد آمنت به، أي: فإن كنت حزينًا من الإنس فقد آمنت بك الجن، وإن كنت هينًا عند أهل الأرض فأنت عظيم عند أهل السماء.
وبالليل رجع إلى مكة فوجد أبا طالب قد مات وخديجة قد ماتت بعده بفترة، وأهل الطائف لم يؤمنوا، فاشتد تنكيل قريش بالتعذيب والقهر والجبروت لأصحابه ولأحبابه، عند هذا الألم والضيق يطرق الباب عليه طارق، فيدخل من الباب رجل شديد بياض الوجه شديد سواد الشعر ليس عليه أثر السفر، فقال: يا محمد! السلام يقرئك السلام ويستزيرك ويقول: أنت ضيف على ربك الليلة.
وكأن الله يقول له: إذا كانت خديجة ماتت وأبو طالب مات فلا تخف فإني معك.
ومادمت مع الله فلا تظن أن شيئًا قد فاتك أبدًا، فثق يا مظلوم! أن نصر الله آت، وليكن عندك ثقة في الله ﷿ وأن نصر الله آت، ولكن في الوقت الذي يريده هو لا في الوقت الذي تريده أنت.
2 / 2
سبب اختيار العرب لتكون الرسالة فيهم
وأما بالنسبة لموضوع اليوم فهو سيكون على شقين: سبب اختيار العرب ليكون الرسول من بينهم.
والشق الثاني: المقدمات الطويلة والمبشرات الكثيرة التي تبشر بوصول سيدنا رسول الله.
إن الناظر بنظرة تاريخية إلى حالة العالم قبل ميلاد رسول الله، يجد أنه كان فيه قوتان تحكمان وهم الفرس وهؤلاء مجوس يعبدون النار، والروم وهؤلاء أهل كتاب ولكنهم يؤمنون بالتثليث وببنوة عيسى لله أو أنه هو الله.
وهناك قوة أخرى ولكنها بعيدة بالنسبة لهذا العصر وهي الهند وشرق آسيا وما وراء النهر، وهذه قوة رهيبة جدًا ولكن كان عندهم مسألة زواج المحارم -كما قلنا من قبل- فيحل للواحد عندهم أن يتزوج بنته أو يتزوج عمته أو خالته أو أخته.
وأصلح الناس في هذا الوقت لتلقي الرسالة هم العرب.
فالفرس عبارة عن أناس كافرين بالله ﷿ يعبدون النار، ففيهم الجبروت كما كان الفراعنة وكما كان الفينيقيون.
وأما الرومان فهم دولة استعمارية -كما يقال- تجيد الاستعمار وتجيد احتلال الأرض وتجيد أن تأخذ ما ليس من حقها.
أما الهنود فعندهم عبادات غريبة، فهم لا يصلحون للرسالة، لبعدهم عن العالم في هذا الوقت.
أما العرب فهم أمة فيها من الأخلاق ما لو طور لصاروا أفضل الناس، ومن الأخلاق التي يتميز بها العربي: الكرم، وقد جاء الإسلام يدعو إلى الكرم وكان سيدنا الحبيب أجود من الريح المرسلة، وكان كريمًا جدًا ﷺ.
والشهامة كذلك لا تجدها إلا في العربي، والغيرة على المحارم لا تجدها إلا في العربي، حتى وصل الأمر ببعض القبائل أنهم كانوا يئدون بناتهم أحياء بدافع الغيرة ومن خوفهم أن البنت ستجلب العار وهذا ما جاء الشرع ليحرمه، لكن هذا كان من شدة غيرة العربي على المحارم حتى قال عنترة: وأغض طرفي إن بدت لي جارتي حتى يواري جارتي مأواها ومن الأخلاق الفاضلة النجدة؛ وقد بلغ الأمر أن النجدة والكرم العربي وصل إلى أن هاشمًا جد الحبيب المصطفى ﷺ كان يهشم الثريد ويطعم أهل مكة في المجاعة عامًا متواصلًا إلى أن تزول الأزمة: عمرو الذي هشم الثريد لقومه وأهل مكة مسنتون عجاف ولذلك سمي هاشمًا.
2 / 3
حكم التسمي بعبد المطلب
قد يسأل سائل ويقول: جد الحبيب الذي اسمه عبد المطلب هل المطلب اسم من أسماء الله؟ لا، وإنما عم عبد المطلب كان يسمى المطلب بن عبد مناف، فلما مات هاشم بن عبد مناف ذهب المطلب أخوه إلى امرأة أخيه وقال لها: أعطيني ابن أخي من أجل أن نربيه عندنا، وكان عبد المطلب أسمر، فأركبه عمه المطلب وراءه على الفرس، فلما رأته قريش قالت: إن المطلب اشترى عبدًا، فسمي بـ عبد المطلب واشتهر بهذا الاسم.
وكل واحد من أجداد الرسول ﷺ له منقبة وفضل.
2 / 4
قصة عبد مناف وأخذه مفاتيح الكعبة من خزاعة
نأتي بعد ذلك إلى عبد مناف وكان رجلًا إبراهيميًا، يعني: على دين الخليل إبراهيم ﵊.
وهذه السلالة المصطفاة كما جاء في الحديث الصحيح: (إن الله اصطفى من خلقه آدم، واصطفى من ولد آدم إبراهيم، واصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من ولد إسماعيل كنانة، واصطفى من كنانة قريشًا، واصطفى من قريش بني عبد مناف، واصطفى من بني عبد مناف هاشمًا، واصطفاني من بني هاشم، فأنا خيار من خيار من خيار) ﷺ، فهي سلالة عريقة.
وكانت مفاتيح الكعبة عند خزاعة، وكان زعيم قبيلة خزاعة سكيرًا، فسكر مرة، فجاءه عبد مناف وقال له: أتبيعني مفاتيح الكعبة بزق من الخمر؟ قال له: نعم، فأحضر له زجاجتين من خمر، وأخذ منه مفاتيح الكعبة، وظلت في أيديهم إلى الآن كما وعدهم النبي ﷺ.
أقول: إن العرب كانوا أفضل الناس لتلقي الرسالة؛ لأن العرب رغم ما ترى فيهم الآن من شرور؛ لبعدهم عن الإسلام، إلا أنه لا تصلح العرب إلا بنبوة ورسالة، فأنت ترى الشخص منهم منهمكًا في الشهوات، وفجأة عندما يعرف الالتزام ويعرف المسجد تلقى صوته منخفضًا، وتراه مؤدبًا ومطيعًا لأبيه وأمه.
إذًا: العرب كانوا أنفع الناس وأجدر الناس بالرسالة، ولذلك هي دعوة الخليل إبراهيم: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي﴾ [البقرة:١٢٤] إلى أن قال: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ﴾ [البقرة:١٢٧ - ١٢٨] أي: الأمة العربية، ﴿وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [البقرة:١٢٨ - ١٢٩].
وقال تعالى: ﴿مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ﴾ [الحج:٧٨]، فسدينا إبراهيم سمانا مسلمين.
2 / 5
بشارات وإرهاصات بين يدي مولد النبي ﷺ وبعثته
إذًا: ألم يكن العرب أجدر الناس بالرسالة؟ هذا سؤال.
السؤال الثاني: هل ظهر الرسول ﷺ فجأة، أو كان العرب والعالم مستعدًا استعدادًا نفسيًا لتلقي أمر الرسالة؟ تعالوا إلى البشارات التي جاءت قبل ميلاد سيدنا رسول الله ﷺ.
أول بشارة: أن كل نبي كان يأخذ الله ﷿ عليه الميثاق أن يصدق بنبوة النبي محمد ﷺ، ومنها أن الله ﷿ قال عن اليهود: ﴿النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾ [الأعراف:١٥٧] إلى آخر كلام الله ﷿.
ومنها: بشرى عيسى ﵇، قال: ﴿وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾ [الصف:٦] ﵊.
ينام عبد المطلب ليلة من الليالي فيرى أن سلسلة من فضة خرجت من ظهره أولها في الأرض وآخرها في السماء، ثم انقلبت السلسلة إلى شجرة وارفة، على كل ورقة من أوراقها نور يتعلق به أهل المشرق وأهل المغرب.
ففسرت هذه الرؤيا بأن شخصًا من سلالته يتبعه أهل المشرق وأهل المغرب؛ فكان سيدنا محمدًا ﷺ.
ومن البشارات: أن الشياطين قبل مولد الحبيب ﷺ كانت تتسمع إلى الملأ الأعلى، كانت تصعد إلى العلو وتقترب إلى السماء وتسمع كلام الملائكة، ففجأة رأت أن الذي يقرب من السماء، يرجم ويحرق، قال تعالى مخبرًا عنهم: ﴿وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا﴾ [الجن:٩]، يقولون في أنفسهم: ما الذي يحصل؟! من يقرب من السماء يحرق، قالوا: لابد أن النبي الخاتم قد بعث.
إذًاَ: من دلائل النبوة الخاتمة: أن الشيطان الذي يقترب من السماء يحترق، فقال الشياطين: ابحثوا، فبحثوا لمدة أربعين سنة في بقاع الأرض، إلى أن دلهم الله ﷿ على سيدنا الحبيب وهو عائد من الطائف يقرأ سورة الرحمن، وآمن الجن بسيدنا رسول الله ﷺ.
نأتي إلى أحد أجداد الحبيب ﷺ وهو كعب بن لؤي وكان على دين الخليل إبراهيم، وكان يجمع قريشًا يوم الجمعة، ويوم الجمعة كان اسمه: يوم العروبة، فكان كعب بن لؤي جد الحبيب أول من سمى يوم الجمعة بيوم الجمعة؛ لأنه كان يجمع قريشًا بعد الزوال ويخطب فيهم، ويقول: أيها الناس! الدار والله! أمامكم -الكعبة- والظن خلاف ظنكم، فزينوا حرمكم وعظموه، وتمسكوا به ولا تفارقوه، فسيأتي له نبأ عظيم، وسيخرج منه نبي كريم، ثم يقول: نهار وليل واختلاف حوادث سواء علينا حلوها ومريرها على غفلة يأتي النبي محمد فيخبر أخبارًا صدوقًا خبيرها ننتقل إلى تبع الحميري الذي أتى قبل ميلاد الحبيب بسبعمائة سنة، كان يريد أن يهجم على يثرب؛ لأنه كان لـ تبع الحميري ثأر في يثرب، فجهز جيشًا يريد أن يهجم عليها، فقالوا له: يا تبع إن يثرب مهاجر خاتم الأنبياء، فامتنع تبع الحميري عن الهجوم على يثرب.
فهذا دليل على أنه موجود في الكتب القديمة بعثة النبي ﷺ، فكان يقول تبع: شهدت على أحمد أنه رسول من الله باري النسم فلو مد عمري إلى عمره لكنت وزيرًا له وابن عم
2 / 6
ارتجاس إيوان كسرى وسقوط بعض شرفاته عند مولد النبي الخاتم
ننتقل بعد ذلك إلى اليوم الذي ولد فيه ﷺ، فقد اهتز يوم مولده إيوان كسرى، ووقعت منه أربع عشرة شرفة.
وكان عند كسرى عالم اسمه الموبذان فرأى رؤيا، فقال له كسرى: ماذا رأيت؟ قال: رأيت إبلًا صعابًا -أي: ضخمة- تقود خيلًا عرابًا، -يعني: خيلًا عربية- قد قطعت دجلة وانتشرت في بلادنا، فخاف كسرى وقال: قطعت دجلة وأتت إلي؟ وكان عنده في حاشيته شخص اسمه والعياذ بالله عبد المسيح، فقال له: يا عبد المسيح أليس لك خال في الشام يسمى سطيحًا؟ قال له: بلى، قال: اذهب إليه واحك له الرؤيا، وكان الناس في ذلك الوقت يثقون جدًا في كلام الكهان.
وقبل أن يصل عبد المسيح إلى أرض الشام، كان سطيح ينازع الموت، فلما أتاه عبد المسيح قال سطيح: جاءكم عبد المسيح على جمل مشيح، أرسلك ملك بني ساسان ليسأل عن ارتجاس الإيوان، وخمود النيران، ورؤيا الموبذان! يا عبد المسيح إذا كثرت التلاوة وظهر صاحب الهراوة -أي: سيدنا الحبيب ﷺ وفاض وادي السماوة، وغاضت بحيرة ساوة، فليس الشام لـ سطيح شامًا، ولا مقام العراق لكسرى مقامًا، يملك منهم ملوك وملكات عدد الساقط من الشرفات، وكل ما هو آت آت، وفاضت روحه.
فحكم من هذه السلالة أربعة عشر ملكًا إلى خلافة عمر بن الخطاب، فقد فتح فارس سعد بن أبي وقاص في موقعة القادسية وما بعدها.
2 / 7
إفحام المشركين بالقرآن وبلاغته وفصاحته
من المبشرات: أن وفد المشركين جاء إلى الحبيب بعد بعثته، وقالوا: يا محمد تقول: إن قرآنك عربي؟ قال: نعم، قالوا: لكننا وجدنا فيه ألفاظًا غير عربية، قال: اضربوا لي أمثلة، قالوا: من ضمن ذلك كلمة (قسورة) كما في قوله تعالى: ﴿كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ﴾ [المدثر:٥٠ - ٥١]، والقسورة في اللغة: الأسد.
ثم قال لهم: وماذا بعد؟ قالوا: كلمة (كبارًا) كما في قوله تعالى: ﴿وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا﴾ [نوح:٢٢] وقال: وماذا بعد؟ قالوا: كلمة (عجاب) كما في قوله تعالى: ﴿أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾ [ص:٥].
فقال لهم: ائتوني بأبلغكم، فأحضروا قس بن ساعدة، وكان يضرب به المثل في البلاغة، فقال لهم الرسول ﷺ: لا تقصوا عليه شيئًا مما حدث بيني وبينكم.
فجاء قس وكان قد جاوز المائة من عمره، فقال له الحبيب: اجلس يا عماه، فجلس، ثم قال له: قف فوقف، فقال له: اجلس، فجلس بصعوبة، وقال: قف، فغضب قس وقال: ما هذا يا بن قسورة العرب، إن أباك كان رجلًا كبارًا، إن هذا لشيء عجاب؛ أتقيمني وتقعدني! والحق ما شهدت به الأعداء، لم يكلمه أحد أو حكى له، وإن الله ليؤيد هذا الدين برجال لا خلاق لهم.
وقس بن ساعدة كان بليغًا فكان يخطب في قريش وفي العرب ويقول: يا أيها الناس إن لله دينًا غير دينكم أو خيرًا من دينكم الذي أنتم عليه، ونبيًا قد حان حينه وجاء وقته، وأظلكم أوانه، فطوبى لمن آمن به فهداه، وويل لمن خالفه وعصاه، فبادروا إليه، وقائل يقول: ظهر النور، وبطل الزور، وبعث الله محمدًا بالحبور، -ها هو يذكره بالاسم- صاحب النجيب الأحمر، والتاج والمغفر، والوجه الأزهر، والحاجب الأقمر، والطرف الأحور.
فذلكم محمد المبعوث إلى الأسود والأحمر.
2 / 8
قصة بحيرى الراهب مع أبي طالب
من البشريات: قصة بحيرى الراهب عندما أخذ أبو طالب النبي ﷺ معه في تجارة وكان عمره اثنتي عشرة سنة إلى الشام، فـ بحيرى كان يعرف أبا طالب، فقال له: يا أبا طالب من هذا الغلام الجالس تحت الشجرة؟ قال له: هذا ابني، فـ بحيرى نظر إليه وقال: ابنك يا أبا طالب؟ قال: نعم.
قال بحيرى: لابد أن هذا الغلام يتيم، قال له أبو طالب: بلى، مات أبوه، قال له: يا أبا طالب هذا هو النبي الخاتم.
قال: كيف عرفت ذلك؟ قال: وأنا في الصومعة وأنتم قادمون، ما من شجرة يمر عليها إلا وطأطأت فروعها ساجدة له، وما جلس تحت شجرة إلا وأظلته، وما سار معكم في حر الظهيرة إلا وظللته غمامة، فارجع به إلى بلدك الآن، فإن اليهود هنا في الشام، ولو أحسوا أنه معك لقتلوه، عد بابن أخيك، قال له: والتجارة؟ قال: خذ المال الذي عندي في الصومعة كله وارجع، فرجع.
2 / 9
قصة سلمان الفارسي مع الرهبان والأحبار المبشرين ببعثة النبي الخاتم
البشرى التي بعدها: قصة سلمان الفارسي رضوان الله عليه، كان أبو سلمان أحد الموقدين للنار التي يعبدها الفرس، وذات مرة يمشي سيدنا سلمان، فيمر براهب في صومعة، فدخل عنده، فقال: ماذا تعمل؟ قال: إني أعبد الله، فآمن سلمان بالله الواحد، وفر من أبيه بعد أن قيده بالقيود، فالراهب قبل أن يموت بأيام قال له: يا سلمان ليس على دين الوحدانية أحد إلا راهب في أرض الموصل، فاذهب إلى أرض الموصل في العراق فاسأل عليه، وامكث عنده.
فذهب سلمان إلى هذا الرجل، فلما أوشكت أيامه على نهايتها قال له: يا سلمان لم يبق على دين الوحدانية إلا راهب بأرض الشام فاذهب إليه.
فهاجر سلمان؛ ولذلك يسمى سلمان في التاريخ: الباحث عن الحقيقة، فسافر سلمان إلى أن وصل إلى الراهب، فلما أدركت الراهب المنية قال له: يا سلمان لم يبق على دين الوحدانية أحد، ولكن أظلنا زمان النبي الخاتم، سوف يبعث ويهاجر إلى أرض كلها خضرة تسمى يثرب أو تسمى طيبة، فلما اتجه نحو يثرب أخذته جماعة من اليهود وباعوه، فمكث في يثرب يعمل فيها، وكان سلمان قد سمع من الراهب أن للنبي ﷺ ثلاث علامات: يقبل الهدية، ولا يقبل الصدقة، وبين كتفيه خاتم النبوة.
فسمع سلمان وهو على النخلة يهوديًا يقول لصاحبه اليهودي: لقد هاجر محمد من مكة إلى يثرب ووصل البارحة، ونزل في أرض بني النجار، فسيدنا سلمان من فرحته أوشك أن يقع من فوق النخلة، فذهب إلى الحبيب ﷺ وعمل له اختبارات.
أتى إليه فقدم له طعامًا، وقال: أنت رجل غريب، ولست في بلدك، وهذه صدقة مني إليك، فأزاح الرسول ﷺ الصحفة بعيدًا عنه، فقال سلمان: هذه واحدة، لا يأكل الصدقة.
ثم جاء في اليوم الثاني بطعام فقال له: هذه هدية، فمد الرسول ﷺ ليأكل، قال: هذه الثانية.
وفي اليوم الثالث ظل يدور حول الرسول الحبيب ﷺ، فالرسول فهم مراده فكشف عن كتفه فظهر خاتم النبوة، فأكب سلمان على الحبيب يقبله، وآمن بالله وبرسوله ﷺ، فقال الحبيب: (سلمان منا آل البيت).
2 / 10
أسماء الشهور العربية ومعانيها
بقي أن نختم الدرس بشيء هام، فسائل يسأل: هل هذه الشهور الاثنا عشر من يوم أن خلقها الله وهي بهذه الأسماء؟ قالوا: لا، كانت لها أسماء عند العرب، ثم سموها بالأسماء التي نسميها نحن الآن، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ﴾ [التوبة:٣٦].
والأشهر الأربعة الحرم هي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب، فالشهور العربية بالترتيب: المحرم، وكان اسمه مؤتمر، وناجر هذا اسم صفر، وبقية الشهور، صيوان وصوان وربا وآيدة والأصم وعادل وناصل الذي هو رمضان، وواغر ورنا وبرق الذي هو ذو الحجة، فالعرب غيروا الأسماء وسموها المحرم إلى ذي الحجة، فما هي هذه الأسماء وما معناها؟ فسمي المحرم؛ لأنه كان يحرم فيه القتال، وهو أول الأشهر العربية.
نأتي إلى الشهر العربي ربيع، سمي بذلك؛ لارتباعهم فيه، يعني: يجلسون في الربع وفي البلد ولا يسافرون ولا يهاجرون؛ لأنه وقت الخصوبة في الأرض، فكانوا يجلسون ولا يسافرون.
أما رجب فقالوا: من الترجيب، رجّب الإنسان الشيء أي عظمه، فكانوا يعظمون شهر رجب، فلذلك يسمى شهر رجب: الأصب أو الأصم؛ لأنهم لم يكونوا يقاتلون فيه، ولكنهم كانوا يعملون شيئًا اسمه النسيء، والنسيء هو أن يهجموا في الشهر الحرام، فيقال لهم: ألا ترون أنه شهر محرم؟ فيقولون: لا، نحن سنؤخر المحرم إلى صفر، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ﴾ [التوبة:٣٧].
فالنسيء هو عبارة عن لف ودوران من العرب كما فعل بنو إسرائيل؛ حرم الله عليهم أن يصطادوا الحيتان يوم السبت، وهؤلاء أناس أصحاب أموال، فماذا يعمل اليهود؟ ففي يوم السبت هم ممنوعون من صيد الحوت، فكانت الحيتان تأتي يوم السبت بكثرة، فكان اليهودي يتضايق عندما يرى الحوت أمامه ولا يستطيع أن يصطاده، فماذا يعمل؟ كان يضع الشباك من يوم الجمعة بالليل، وينام في البيت، فتخرج الحيتان يوم السبت فتقع في الشباك، ولا تستطيع أن ترجع إلى البحر، فيأتون في صباح يوم الأحد ويأخذونها.
فإن قيل لهم: لماذا تفعلون هذا؟ قالوا: إننا لم نصطد يوم السبت، بل نمنا في بيوتنا!! سبحان الله، وكذلك فعل السامري عندما ضحك عليهم وقال لهم: هل السرقة حلال أو حرام؟ قالوا: السرقة حرام، قال: وماذا عملنا في ذهب المصريين، إننا سرقناه، فمادام أنكم سرقتم ذهب المصريين فلابد أن تتخلصوا من هذا المال المسروق، قالوا: فما الحل؟ قال: اجمعوا هذا المال المسروق فجمعوه فصاغه وصنع منه عجلًا، وعبدوا هذا العجل، فكفّروا عن ذنب السرقة بالسجود لغير الله والعياذ الله.
فالعربي يجب عليه أن يتعلم الأسماء، وشهر شعبان قال: من تشعب القبائل للقتال بعد أن حرموا القتال في شهر رجب.
ورمضان من الرمضاء وهو شدة الحرارة، ويبدو أنهم عندما سموا اسم رمضان كان في وقت حر.
وشوال من شالت الإبل أذنابها من أجل موسم تلقيح ذكور الإبل للإناث.
وذو القِعدة من القعود عن القتال للاستعداد لموسم الحج.
وذو الحِجة يسمى بذلك؛ لأنه موسم يذهب فيه العرب إلى أداء مناسك الحج.
هذه تعتبر مقدمة للإرهاصات لمولد النبي ﷺ، وفي الحلقة القادمة سنتحدث إن شاء الله عن حمل السيدة آمنة لسيدنا الحبيب ﷺ، وكيفية ولادته ﵊، ومن كان موجودًا ساعة ولادته، ومن الذي سماه محمدًا، ولم سمي بهذا الاسم؟ وهل كان من العرب من سمي باسم محمد؟ ثم بعد ذلك سنتحدث عن صفاته الخلقية؛ من أجل أن نتخيله أمامنا ﷺ، ثم نعيش معه صغيرًا عند حليمة السعدية وغلامًا مع أمه إلى أن ماتت، ومع جده إلى أن مات، ومع عمه أبي طالب إلى أن تزوج بالسيدة خديجة، ثم إلى سن الأربعين وحضور حرب الفجار، وحضور حلف الفضول الذي تم فيه كل خير، ثم بعد ذلك نواصل المسيرة مع سيدنا رسول الله ﷺ.
2 / 11
الأسئلة
2 / 12
وجوب الاستمرار في النصيحة
السؤال
أمي دائمًا تتحدث عن الناس، ولا يهمها أن تعرف أخبارهم؟ مما جعلني أدخل معها في جدال، وعندما أقول لها: هذا حرام تغضب مني، أرجو النصيحة؟
الجواب
يجب أن تواصل النصيحة لأمك.
2 / 13
حكم منع الزوج أم الزوجة وأخواتها من زيارتها
السؤال
إذا منع الزوج أخوات الزوجة وأمها من زيارتها، ثم سافر سفرًا طويلًا، وقام بزيارتها أخ لها أو أمها، فهل يكون على الزوجة وزر، ويكون ذلك مخالفًا لأمر الزوج؟
الجواب
يجب على الزوج ألا يمنع زوجته من زيارتها لأهلها، أو من زيارة أهلها لها، إما أنها هي التي تذهب وتزور أهلها كل جمعة مرة أو يزورها أهلها، أما أنك تمنع عنها زيارة الأهل فهذا ما لا يحق لك، إلا إذا رأيت أن دخول أم زوجتك أو خالها أو أخيها في البيت يحيله رأسًا على عقب، ويفسد بسببه عليك امرأتك، فقد قال ﷺ: (وألا يوطئن فرشكم من تكرهون) كما في خطبة حجة الوداع، يعني: أن المرأة لا تدخل في بيت زوجها شخصًا يكرهه.
2 / 14
حكم إجراء عمليه لإزالة السمنة
السؤال
طلب زوج من زوجته إجراء عملية تجميل لإزالة السمنة من بعض أجزاء الجسم، وقد أطاعت أمر زوجها وأجرت العملية، هل يكون عليها إثم؟
الجواب
لا، ليس عليها، لكن هناك علاج نبوي، قال ﵊: (نحن قوم لا نأكل حتى نجوع، وإذا أكلنا لا نشبع) تظل المرأة تأكل وتأكل ثم تقول: أنا أريد أن أخفف من السمنة، يا أختي ارحمي نفسك الله يرضى عليك.
2 / 15