153

[152_2]

فهو من عنصر قوي ذي مدنية قديمة راسخة، ثقفه المحيط العربي في أرقى بيئة عهدت في التاريخ العربي، وجاء في عصر زاهر، ودخل في أمة قوية فتية، فرفعه علمه وفضله إلى أعلى مقامات الفضل والنبل، وهيئا له من أسباب النبوغ ما لم يكتب لغير بضعة من رجال الأدب العربي، وساعده على ذلك طول أجله؛ إذا لو فرضنا أن يوم دخل على الرشيد كان ابن ثلاثين، وقد قبض سهل إلى ربه في سنة أربع وثلاثين ومائتين على الراوية الصلاح الكتبي، وقال ياقوت سنة 215، والرشيد تولى الخلافة سنة إحدى وسبعين ومائة؛ وإذا فرضنا أنه أتصل بالرشيد في منتصف عهده، فلا يكون سهل عمر أقل من تسعين سنة. ومن بورك له بأيام حياته يجيء منه في العلم ما لم يجيء من المعتبط كهلا أو شابا.

أثره الباقي:

من أجمل ما أثر لسهل بن هارون من الكتب، بل كتابه الوحيد الذي ما زال أهل الأدب يتناقلونه خلفا عن سلف، كتابه إلى بني عمه من آل راهبون حين ذموا مذهبه في البخل، وتتبعوا كلامه في الكتب، قال في فاتحته يحاجهم بسم الله الرحمن الرحيم: أصلح الله أمركم، وجمع شملكم، وعلمكم الخير، وجعلكم من أهله. قال الأحنف بن قيس: يا معشر بني تميم لا تسرعوا إلى الفتنة، فإن أسرع الناس إلى القتال أقلهم حياء من الفرار، وقد كانوا يقولون: إذا أردت أن ترى العيوب جمة فتأمل عيابا، فإنه إنما يعيب بفضل ما فيه من عيب، وأول العيب أن تعيب ما ليس بعيب، وقبيح أن تنهى مرشدا، أو تغزي بمشفق.

وما أردنا بما قلتا إلا هدايتكم وتقويمكم، وصلاح فاسدكم، وإبقاء النعمة عليكم. ولئن أخطأنا سبيل إرشادكم، فما أخطأنا سبيل حسن النية فيما بيننا وبينكم. ثم قد تعلمون أنا ما أوصيناكم إلا بما قد اخترناه لأنفسنا قبلكم، وشهرنا به في الآفاق دونكم؛ ثم نقول في ذلك ما قال العبد الصالح لقومه: (وما أريد أن أخالفكم إلى ما

Sayfa 152