وصمت تليماك فلم ينبس، وظل ينظر إلى أبيه، ويرقب ساعة الجد.
وما رميت إذ رميت ...
وكانت بنلوب جالسة في الحريم تسمع إلى ضجيج القوم وعجيجهم، فبدا لها أن تضع حدا لهذا العبث العقيم الذي استمر كل هذه السنين الطوال، فأمرت بعض وصيفاتها، فتبعتها إلى المخبأ الذي حفظت به أذخار الملك وعتاده، والسلاح الذي فرقت له قلوب وارتعدت له قلوب، وارتعدت له فرائص وزاغت من هوله أبصار.
لله ما كان أشجاها ذكريات حافلة بأروع ضروب المجد! ها هي ذي تلك الرماح التي طالما لاعب بها أوديسيوس الأسنة، والسيوف التي طالما انتزع بها الأرواح، والدروع السابغات التي كانت تدرأ عنه وتحميه، وتحفظه وتفتديه، ثم ها هي ذي تلك القوس العظيمة معلقة فوق الحائط تلمع، وترقص من حولها المنايا؛ القوس ذات الذكر التي أهداها إلى أوديسيوس أحد المعجبين به، ها هي ذي بعد هذه السنين الطوال لم يحملها أحد غير أوديسيوس؛ لأن أحدا غير أوديسيوس لا يستطيع أن يثني قوس أوديسيوس وفيها الوتر العرد، الذي لا يلين ولا يبين ولا يرد، إلا إذا كلمه أوديسيوس، وتناولت بنلوب كنانة السهام التي طالما قذفت المنون في قلوب الأعادي، وجلست تنثرها في حجرها وتنتقي منها، وتبكي أحر البكاء؛ لأن كل سهم منها كان يهيج في قلبها ذكريات زوجها البطل، وأشارت إلى وصيفاتها فحملن القوس العظيمة، وحملن «الدناجل»، ثم حملت هي السهام وسارت أمامهن وعلى وجهها نقابها السادر الحزين، حتى إذا كانت عند الأمراء هتفت فصمتوا ، ثم قالت لهم - وفي صوتها نبرة الحزن وموسيقى الآلام: «ها هي ذي قوس أوديسيوس، وتلك هي سهامه أيها السادة الأمراء، فمن استطاع أن يثنيها فيرسل عنها سهما يخترق الدناجل الاثني عشر فإني له وهو صاحبي، وعسى أن تبطل السماء حجتكم؛ فقد طالما ذهبتم بخير هذا القصر، وأرغتم من زاده بحجة أنكم عشاقي، كما استبحتم أن تسموا أنفسكم، فإليكم القوس فانظروا ماذا تصنعون!» وأشارت إلى الراعي يومايوس فتسلم القوس العظيمة، وحملها معها زميله راعي الضأن فيلوتيوس، ثم إن الراعيين لم يطيقا ذكريات سيدهما التي هاجتها فيهما القوس فذرفا دموعهما ثم استخرطا في البكاء، وانتهرهما أنطونيوس فقال: «تبا لكما أيها الفلاحان القذران! فيم هذا البكاء؟ ألتهيجا الشجو في فؤاد سيدتكما؟ انطلقا أيها المسخان فابكيا بعيدا؛ فتالله ما أحسب بكاءكما إلا يزيد في صلابة القوس، وتالله ما أحسب أحدا منا ببالغ منها مأربا، وي! من منا له بأس أوديسيوس؟ لقد كنت طفلا بل كنت وليدا حينما رأيت رجلا ذا صولة وفتوة يهديها إلى البطل، أجل رأيت هذا بعيني هاتين.» وكان في كل ما قال ساخرا؛ فقد هيأ له الغرور أنه بقليل من العناء سيثني القوس ويرسل السهم ويحظى ببنلوب.
ونهض تليماك فقال: إنه سيسهم في الرماية، فإذا استطاع فإنه سيبقي أمه لديه ولا يتركها تغادر منزل أبيه أبدا، ثم حفر حفرا على خط مستقيم، فجعل في كل منها دنجلا، وثبت حولها بالحجارة والتراب، ثم إنه تناول القوس العظيمة وألقمها السهم، وجمع قواه وطفق يشد، وفشل مثنى وثلاث وكانت القوس تشمخ عليه فلا تكاد تنثني، حتى إذا حاول الرابعة وأوشك أن يظفر أومأ إليه والده ففهم ما يريد: «أوه، إنه لا يقدر على هذه القوس إلا من هو أقوى مني وأكمل جسمانا وأتم بنية، فليتقدم لها من شاء منكم حتى نرى.»
وقال أنطونيوس: «إنهم جميعا مشتركون في التجربة حسب مقاعدهم حتى الكاهن.» فنهض هذا ويمم شطر الوصيد وحمل القوس الرهيبة، وحاول مائة مرة أن يثنيها فلم يستطع، فألقاها وقال: «أيها الرفاق، ما أحسب هذه القوس إلا موئسة للجميع، لقد أوهتني وذهبت بمنتي! ألا فلتحملوا بامرأة أخرى غير بنلوب، فوالله ثم والله إنها للرجل الذي كتبتها المقادير له، الذي يحضر إليها بما ليس في وسعكم من كنوز ومن أذخار.»
وغضب أنطونيوس وتجهم للكاهن ثم قال: «ألا ساء ما تقول أيها الرفيق! أحسبت أننا نيئس من هذه القوس لأنك لم تقدر عليها؟ ومتى كنت رجل جلاد وجهاد؟ ومتى ثنيت قوسا أو أرسلت سهما؟ اربع عليك؛ ففينا الكثيرون الذين يستطيعونها بالقليل الأقل من الجهد.» ثم أمر راعي الضأن ملانتيوس أن يحفر حفرة ويوقد فيها نارا يجعل بها وعاء من شحم؛ ليعالجوا به القوس عسى أن تلين قبل أن يدلوا دلوهم، فلما كان هذا أخذ الأبطال كل بدوره يحاول أن يثني القوس، ولكنها استعصت عليهم جميعا، ولم يبق إلا أنطونيوس ويوريماخوس، وهما أكثر هذا الجمع قوة وأوفرهم فتوة.
ثم نهض راعي الخنازير، يومايوس، ونهض في إثره صديقه الراعي الآخر، فحثا الخطى خارج البهو لما شاهدوا من يأس القوم، وقد تبعهما أوديسيوس، فلما كانوا بعيدا قال لهما: «أيها الحبيبان، وإذا أرسلت العناية أوديسيوس في هذه اللحظة ليبطش بهؤلاء المناكيد، أفتحاربونهم معه؟ أم تحاربونه معهم؟» فرمقه فيلوتيوس وقال: «يا للسماء! تالله لو صحت أحلامك لرأيت كيف أفتديه منهم نفسي ومهجتي، وتالله لرأيت كيف يهتز سلاحي فيحصد رءوسهم ويبعثر أشلاءهم.» وقال يومايوس مثل هذه المقالة، ولما وثق من إخلاصهما كشف لهما عن حقيقته، فقال: «إذن فاعلما أنني أنا أوديسيوس، وهذه هي الندوب التي أحدثها الخنزير في ساقي، وقد أبت إلى وطني فجأة فلقيتكما أول من لقيت، وأكرمت مثواي يا يومايوس وأنت لا تعرفني، ولم أشأ أن أبدو للقوم حتى أعرف عدوي من صديقي.» ولم يكد يفرغ من قوله حتى انحنى الرجلان يشهدان الندوب، فلما استيقناها ذهلا عن نفسيهما، وجثوا عند قدمي مولاهما، وطفقا يقبلانهما ويغسلانهما بدموعهما، ثم نهضا فألقيا سلاحهما عليه، بيد أنه أمرهما أن يصمتا حتى لا يفضح أمرهما أحد، وقال لهما: «لا بد أن نعود أدراجنا إلى البهو وسأنطلق أنا قبلكما، وسأطلب منك يا يومايوس أن تعطيني القوس لأقوم بنصيبي في التجربة، وسيرفض القوم أن أفعل، ولكنك يجب ألا تبالي، بل تناولني القوس، ثم تسرع بعد هذا إلى الحريم فتخبر النساء فيه ألا يذعرن إذا سمعن ضجة أو عويلا في البهو، أو شهدن حربا وقتالا. أما أنت يا فيلوتيوس فتسرع إلى باب البهو فتوصده وتحكم إغلاقه حتى لا يفلت منهم أحد أبدا.»
مينرفا ربة الحكمة التي اقتربت من البطل في تبسم وظرف، وأخذت تعبث بلحيته الكثة الشعثاء في دلال وسخرية.
ثم مضى فجلس مكانه لدى الباب، وتبعه الراعيان، وفي هذا الوقت كان يوريماخوس يحاول محاولته، وكان من وقت إلى آخر يذهب بالقوس العظيمة فيعرضها للنار عسى أن يسهل عليه ثنيها، لكن القوس أبت مع ذلك أن تلين، فلما بلغ من يوريماخوس الجهد ألقى بها يائسا وقال: «تبا لها من قوس عنيدة! والعار الأبدي لنا جميعا يا رفاق! ما لنا ولهذا؟ إن في إيثاكا حسانا، وإن فيهن أزواجا تربا أبكارا لمن يشاء، أوه يا للخزي! أواه لو لم تقل الأجيال المقبلة إننا دون أوديسيوس قوة وأقل منه فتوة حين عجزنا أن نثني قوسه، يا للخزي! يا للخزي!»
Bilinmeyen sayfa