وكان معي زق من خمر معتقة مما أعطانيه مارون بن إيفانت قس فوبوس رب أزماروس؛ لقاء ما أبقينا عليه وعلى زوجه وأولاده يوم غزوتنا لقريته. يا له من كاهن سمح طيب القلب! لقد نفحني بأكرم اللهى
6
وأجزل الهبات، وهل أنسى ما حييت تلك البدر السبع من الذهب الخالص، وذلك الدن من الفضة الغالية، وتلك الجرار الاثنتي عشرة من الخندريس الصرف التي تشرب باسم الآلهة؟ لقد كان يفديها بنفسه وماله، فلم يكن يعرف مخبأها أحد غيره وزوجه وأمينه ... لقد كانت كأس روية واحدة من هذه المدامة تمزج بعشرين ضعفا من الماء القراح، وهي مع ذاك سكر ولذة وروح علوي للشاربين، ثم كان معنا ركز
7
به أكل كثير، وكنا عددا عديدا من الأبطال الصناديد، ولكنا مع ذلك كانت تعترينا رعدة، وكان يشيع في قلوبنا فزع أن يفجأنا هنا الجني صاحب المكان، الذي لا يخشى فينا شريعة، ولا يرده عن أذانا قانون، ثم توقلنا كذلك، فأشرفنا على مغارة سحيقة هي مقام السيكلوب ومنامته من غير ريب، بيد أننا لم نجده عندها، فقلنا ربما انطلق بقطعانه يرعاها في المروج القريبة، ورددنا الطرف في المغارة فرأينا مصافي كثيرة معلقة، ينز الحصير
8
منها ها هنا وها هنا، فعرفنا أن السيكلوب يصنع الجبن من ألبان مواشيه، سيما وقد امتلأ المكان ببواط كثيرة مفعمة بالحصير والمخيض، وعلى مقربة منا شهدنا حظائر واسعة لصغار الشاه والحملان والماعز، وقد قسمت فرقا حسب سنها، وقد بدا لبعضنا أن نذهب بما هنالك من جبن وزبد، وأن نستاق الحملان والجذعان إلى سفائننا، غير أني - وا أسفاه - تأبيت؛ لأنني آثرت لقاء السيكلوب؛ رجاء أن ينفحني من كنوزه ويسبغ علي من آلائه؛ ولذا جلسنا ريثما يعود وأكلنا من جبنه وزبده، وأشعلنا نارا نستدفئ، ثم إذا هو طوى المروج الخضر بقطعانه، وإذا على كاهله الرحب أثقال وأحمال من الحطب وفروع الشجر اليابس، حتى إذا كان لدى الباب ألقاها في بطش، فاهتزت الأرض المكان، وانحبس وصيد الكهف، فانقذف الرعب في أفئدتنا، فهرولنا مذعورين صعقين، واختبأنا كالخفافيش في زوايا المغارة وشقوقها ... أما هو فقد أدخل قطعانه واحتجز ذكرانها في الفناء الخارجي، ثم أخذ في حلب الإناث في الرحبة الداخلية، ونهض بعد ذلك فسد مدخل الكهف بحجر واحد كبير لو وضع على عربتين عظيمتين لم يستطع عشرون ثورا ضخما أن تزحزحه عن مكانه، وجلس يحلب النعاج والماعز، وكلما فرغ من واحدة أرسلها إلى جذعانها
9
ترضع ما تبقى في ضرعها، وكان يقسم لبنه قسمين؛ فيحتفظ بأحدهما لشرابه، ويمخض الآخر لزبده وجبنه، ثم فرغ من هذا كله وأضرم نارا عظيمة ما كادت تلتهب حتى رآنا معلقين فوق نؤى الكهف، فصاح بنا: «من هنا؟ وي! من أنتم أيها الغرباء؟ ومن أي البلاد نزحتم؟ وفيم خضتم هذا العباب إلى هنا؟ آفاقيون، أم تجار، أم قرصان تعيشون في بلاد الناس؟» وزلزلنا زلزالا عظيما، وكان صوته الأجش الخشين يلقي الرعب في قلوبنا فتعتلج اعتلاجا، ثم إني جمعت ما تبقى من وعيي، وما أبقى عليه الروع والهلع من أدراكي، فقلت أجيبه: «نحن إغريقيون أيها العزيز، وقد ذرعنا البحر اللجي شرقا ومغربا، وتقاذفتنا فوقه كل ريح منذ بارحنا إليوم التي فتحها الله علينا؛ لأننا من عساكر أجاممنون الملك ابن أتريوس الكريم قاهر طروادة ومبيد الطرواديين، وها نحن أولاء قد لذنا بك بعد طول النصب، فنضرع إليك أن تفيء علينا مما أفاء جوف عليك، وأن تردنا غانمين، فيا مولانا أكرم مثوانا، فنحن الأغراب في كنف جوف أبدا، وأينما نول فإنه معنا.»
وتجهم السيكلوب الجني وقال مغضبا مستهزئا: «حسبك أيها الأخ المغفل، ما خوفت من جوف؛ فنحن السكلوبس لا نبالي جوف حامل إيجيس،
Bilinmeyen sayfa