ولم تكد يور ترى سيدتها حتى حيت وبيت، وانطلقت تعد لها وجبة العشاء.
أما أوديسيوس فقد هب من مجلسه ويمم شطر المدينة، وقد نشرت حوله مينرفا - صفيته الوفية - ظلالا وغماما يحجبه عن أعين الناس حتى لا يضايقه أحدهم بسؤاله من هو؟ وفيم أقبل؟ ومن أي الأقطار جاء؟ ... بيد أنها لاحت له قبل أن يلج باب المدينة في هيئة فتاة قروية كاعب تحمل فوق رأسها جرتها، وتعمدت أن تعترض طريقه فانتهزها فرصة وراح يسألها هكذا: «يا بنية! أتسمحين فتدليني على بيت رب هذه البلدة ألكينوس الكريم؟ لقد ينال مني الونى وطول السفر، وحللت عليكم يا أهل فيشيا الأجاويد ضيفا غير معروف من بلد سحيق فهل تفعلين؟»
وقالت مينرفا - ذات العينين الزبرجديتين - وهي تجيبه: «حبا أيها الغريب الوقور وكرامة، سأدلك على بيت ألكينوس بنفسي؛ فهو غير بعيد من بيت أبي، ولكن لي إليك وصية؛ اصمت ما دمت سائرا، ولا تحدج أحدا بنظرة، ولا تكلم من أهل هذه البلدة إنسيا، فقد جبلوا على ازدراء الغرباء وقلة إيلافهم وتلقيهم في فتور وبرود طبع، وقد أحبهم نبتيون رب البحار، فأذل لهم أعناق الموج وأساس لسفنهم أعراف الماء، فهي تخطر فيه كالطير حين تزف، أو كالفكرة حين تخطر في الخلد.»
وتهادت ربة الحكمة بين يديه ودلف هو وراءها، ولم تره جموع البحارة الحاشدة التي كان يسير بينها؛ لأن مينرفا ضربت على أعينهم غشاوة عجيبة حجبته عنهم، وكان ينظر بعين الدهش إلى ميانئهم وسفائنهم ورحبة السوق التي يأوي إليها أبطالهم، وإلى تلك القلاع المحدقة بالمدينة في أبهة وجلال، ثم بلغا بيت الملك فقالت مينرفا: «هاك يا أبتاه القصر الذي سألت أن أدلك عليه، وستلقى فيه رؤساءنا وأمراءنا أصحاب السمو يولمون ويقصفون، فهلم فالقهم بقلب رابط وجأش ثابت؛ فهم أشد الناس إعجابا بشجاع جريء، وأكرمهم للاجئ غريب، وستكون الملكة أريتا - سليلة الشرفاء الأمجاد آباء ألكينوس الكبير وحفيدة المردة الجبابرة من ذراري نبتيون
23 - أول من تلقى، إنها سيدة قومها وهي محبوبة مبجلة إلى درجة التقديس من زوجها وأبنائها ومن جميع الفياشيين ملوك البحار، الذين طالما تكبكبوا حول موكبها في شوارع المدينة هاتفين داعين. إنها تجلس وقورا كإحدى ربات الأولمب فتغمر بالمحبة أبناءها، وتقضي فيما يشجر بينهم. لك الله يا سيدي إن قدر لك فاستطعت لقاءها؛ إنها إذن تمنحك برها وتسبغ عليك من بركتها فتعود إلى بلادك راضيا، وتلقى آلك وخلانك عزيزا مكرما.»
ثم غابت مينرفا عن الأنظار، غادرت أرض شيريا الحبيبة إلى مرثون، ومن ثمة رفت رفة فكانت في أثينا حيث أوت إلى قدسها الكريم أركتيوس.
نبتيون رب البحار.
ودخل أوديسيوس قصر الملك هيابا متخاذلا، غارقا في بحر لجي من الوهم والفكر؛ لأنه ما كاد يطأ بقدمه وصيد الباب الكبير حتى بهره لألاء شديد خاطف ينبعث من الداخل، يزيد في شدته ولمعانه تلك الجدران المصفحة بالنحاس، يزينها إطار من اللازورد الأزرق، وتلك الأبواب الهائلة من الذهب الخالص، والعماد السامقة من الفضة المجلوة، تكللها تيجان من النضار الثمين، وعلى اليمين وعلى الشمال ربضت كلاب من ذهب، صنعة فلكان، صناع السماء الخالد، وخالد أبد الدهر كل ما صنعت يدا فلكان. ثم تلي بعد ذلك ردهة فسيحة مترامية صفت إلى جدرانها كراسي كأنها عروش، وبثت فوقها نمارق ذوات أفواف وشفوف، صنعة وصيفات القصر، وهنا يولم الملك لأمراء شيريا، فيقف الولدان في جلابيب من ذهب، وفي يد كل شعلة تسكب الأضواء من فوق المذبح على جموع الطاعمين في كل ليلة. يا للقصر كأنه جنة الخلد! إن خمسين من غيد شيريا الرعابيب يخدمون الملك ثمة، يطحن القمح وينتخلن الدقيق، ويندفن الصوف ويعملن على النول، مائسات كأفنان الدوح يداعبهن النسيم الحلو، حاذقات في الغزل والنسيج كأحذق ما يكون بحارة شيريا في عنفوان العاصفة، قد ثقفن صناعتهن عن مينرفا فأفتن وأبدعن إبداعا، ثم تكون البوابة الكبرى حيث فردوس القصر اليانع وجنته دانية القطوف ذات الأسوار المنيعة المحيطة بهذه الأربعة الأفدنة، للآلهة هذا الدوح بسق في جنباتها، وللآلهة أشجار الرمان المثقلة بأثمارها مفترة عن شفاه الأقاح، وحمرة الخجل قد خضبت خدود التفاح والكمثرى، وسالت قطرات من الشهد في ثمرات التين، وتأججت أنوار زاهية في أفنان الزيتون، فاكهة شهية جنية لا مقطوعة ولا ممنوعة شتاء وصيفا يانعة أبدا، تداعبها أنفاس زفير رب الصبا، فتشيع فيها النضج والنماء، كلما قطفت يد من جناها ثمرة نمت مكانها في الحال ثمرات، فما تقل آخر الدهر قطوفها وما تنقص.
وخلال هذه الجنة المثمرة تمتد الكروم ذوات أعناب والرطب والعناقيد من نور، بعضها يعصر فتقطر الخمر منه، وبعضها يجف على سوقه فيكون زبيبا جنيا، ثم توشى أطراف الحديقة أحواض من الزهر المشذب المنسق، وتتفجر في وسطها عينان نضاختان، يترقرق الماء من إحداهما كاللجين في مسايل هذا الروض، وتتدفق مياه الأخرى في نهر صغير ينساب إلى المدينة من تحت عتبة القصر، فيرتوي الأهلون منه.
ملك كبير ولألاء وافرة أسبغتها الآلهة على ألكينوس الملك.
Bilinmeyen sayfa