وفيهم أمه. بوركت يا أورست، بوركت يا أورست! هلم يا تليماك؛ فقد تعود بأبيك حيا، فيرد الشرف والمجد إلى هذا البيت، وقد تعود به ميتا فترفع ذكره، وتقيم قبره، وتخلد في العالمين أثره، والآن فلأنهض أنا إلى رجالي وسفني، فلقد بعدت طويلا عنهم. وكلي يقين يا بني أن تقدر نصيحتي، وعلى الآلهة فلنتوكل.»
الورود وأطباق الفاكهة والحلوى للعشاق الذين استغلوا غياب أوديسيوس العظيم الذي انقطعت أخباره.
وحين انتهت مينرفا من هذا الحديث حدجها تليماك وقال: «أيها الصديق حبا، ويا أبر الأوفياء سمعا، لقد أيقظت في ضميرا أنت أحييته، فألف شكران لك. أبدا لن أنسى كلمتك: أنا ابن أوديسيوس! فلأبحث عن أوديسيوس.» وحاول الفتى أن يقدم لمحدثه هدية سنية تكون تذكار هذا اللقاء، ولكن مينرفا شكرته وأبت أن تأخذ شيئا: «فإذا نجحت في مسعاك يا بني فسوف أعود، وسوف أقبل أية هدية منك.»
ثم انطلقت ربة الحكمة ذات العينين الزبرجديتين، ولشد ما ذهل الفتى ووقف مسبوها مشدوها حين رأى هذا الأمير «منتس» ينتفض انتفاضة هائلة فيكون نسرا قشعما يضرب الهواء بجناحيه ثم يعلو ويعلو، فيكون في السماء ويغيب عن ناظريه.
ولم يحس الفتى يوما بما أحس به الساعة من هذه الذكريات الملحة على فؤاده تهيج فيه الشوق إلى لقاء أبيه، وجدد الثقة عنده وأكدها فيه يقينه أن إلها يساعده هو هذا الضيف الذي أرسل جناحيه وغاب في السماء.
وانطلق تليماك حيث جلس الفساق يستمعون إلى أغاني فيميوس، وحيث وجد أمه في الشرفة العليا تستمع هي الأخرى إلى تلك الأغاريد بين قيانها من وراء ستار صفيق وتبكي، وتسأل فيميوس أن يتغنى غير هذا الغناء غناء لا يثير شجوها وشحنها، وتثور النخوة في قلب الفتى فيصيح بأمه: «علام العويل يا أماه؟ وما وقوفك هذا الموقف تسترقين الغناء؟ وما اعتراضك على المغني؟ دعيه فليتغن ما يشاء، فلقد غدونا سخرية القضاء وهزو المقادير. ولقد ذهب أوديسيوس وذهبت معه كرامة هذا البيت، وإني لصاحبها بعده. فادخلي وليدخل معك قيانك، ولتقمن جميعا بشئون المنزل، ولتخلن إلى مغزلك ومنسجك، ودعي كل ما عدا ذلك للرجال؛ لي، لي أنا وحدي؛ سيد هذا القصر!»
وأثرت مقالة الابن في نفس أمه؛ فانثنت مع قيانها إلى مخدعها بالطابق العلوي حتى إذا خلت إلى نفسها ذرفت من الدمع على أوديسيوس ما شاء لها حزنها أن تذرف. أما تليماك فقد انطلق وسط القوم ونادى بأعلى صوته: «أيها الفساق! يا عشاق أمي، خذوا في لهوكم وتمتعوا قليلا أو كثيرا، فإذا كان الغد فاجتمعوا في الساحة الكبرى، فإن لي كلاما معكم؛ سأطلب إليكم أن تشدوا رحالكم من هنا، أتسمعون؟ لقد طالما أتلفتم لنا زادا وعتادا، ألا فلتلتمسوا الزاد والعتاد من عند أنفسكم، ولتقيموا أفراحكم وولائمكم في غير هذا المكان، فإن أبيتم فإني مستعين بالآلهة عليكم، ولتقتص منكم السماء بما جرحتم.»
وما كاد يفرغ من قالته حتى عضوا على أصابعهم لمفاجأتهم بهذا الكلام الخشن الذي لم يعتادوه، ونهض أنتينوس من مجلسه وقال: «تليماك، لقد حق لك أن تخاطبنا بهذه الشجاعة، ولكن يا لشؤم اليوم الذي تتوجك السماء ملكا فيه على إيثاكا؛ عرش آبائك وأجدادك.»
ويجيب تليماك: «ليس أحب إلي من الملك حين تخلعه علي السماء، غير أن أمره إليكم اليوم إن كان قد قضى أوديسيوس، أما أنا فلا أريد إلا أن أكون سيد هذا القصر، ولا غرو؛ فإن هذا من حقي.»
وأجابه يوريماخوس: «إن من حقك أن تقول ما تشاء يا أخانا تليماخوس، أما ملك إيثاكا فالسماء وحدها تؤتيه من تشاء. ولكن قل لنا بربك: من هذا الضيف الذي كان معك الساعة؟ هل من قبل أبيك أقبل، أو أن له عليكم دينا؟ إن أحدا منا لم يلقه ولم يره، ولكنا لمحناه من بعد، عليه سيماء النجابة والجلال ، من أين أقبل يا تليماك؟ وفيم قدم؟»
Bilinmeyen sayfa