جلي أن الإلياذة تغلب عليها الوحدة ، وأنها كتبت حسب خطة موضوعة سبق للشاعر أن درسها وفكر فيها تفكيرا عميقا جدا، ولكن هذا لا يمنع من القول بأن هناك بعض الأغاني يشعر المرء حين قراءتها بأنها أضيفت إلى الإلياذة؛ مثل القائمة التي سردت أسماء السفن المحاربة، ومثل الغناء الذي وصف فيه الشاعر نزاع الآلهة، بحيث يمكننا أن نتصور هذه القصائد كأنها أدراج الصوان إذا أخرج درج فهذا لا يؤثر عليه في قليل أو كثير؛ ذلك أن فكرة الإلياذة نبتت حين جال بخاطر الشاعر أن يجمع كل هذه القصص حول فكرة أساسية هي غضب البطل أخيل، ولكن من ذا الذي جال بخاطره هذه الفكرة؟ هل هو شاعر كتب في هذا الموضوع قصيدة طويلة، ثم أضيفت إليها قصص أخرى فيما بعد عن أحداث جديدة أم هو رجل من الأجيال المتأخرة بعد جيل الإلياذة، له موهبة التنظيم والترتيب عمل على أن يجمع قصائد منفصلة حول فكرة واحدة؟ أم هو شاعر استعار هذه الحوادث من خرافات قديمة أخرى؟ هذه كلها فروض تجول بخاطر الناقد، ولكن لا يجد لها جوابا شافيا. •••
يجدر بنا الآن الاتجاه إلى الأوديسة لنأخذ فكرة عنها:
عندما نبدأ في قراءة الأوديسة في أولى أشعارها يتبادر إلى ذهننا أن هذه الأشعار والقصائد لا تختلف كثيرا عن أشعار الإلياذة من حيث الأسلوب والفن الشعري؛ فكلها من مرتبة شعرية واحدة، الفن الشعري فيها واحد، وكذا الأسلوب واحد؛ أي إن كل ما يتصل بالشعر في الأوديسة لا يختلف في أصله عن شعر الإلياذة، ولا أدل على ذلك من أن القصيدة في الأوديسة تبتدئ بالتوسل إلى ربة الشعر كالإلياذة تماما، ولكن بالرغم من هذه الوحدة الفنية الأدبية تلاحظ بعد مواصلة القراءة في الأوديسة أننا نجد أنفسنا في عالم جديد يختلف كل الاختلاف عن عالم الإلياذة، وذلك لأن موضوع الأوديسة يختلف تمام الاختلاف عن موضوع الإلياذة.
كانت فكرة الإلياذة الأساسية هي غضب البطل أخيل وخلافه مع كبير ملوك اليونان أجاممنون. أما الأوديسة فتدور فكرتها حول عودة البطل أوديسيوس من حرب طروادة، فهي تسرد مخاطراته التي قابلته أثناء رحلته في عودته إلى بلاده، فالأوديسة عبارة عن قصيدة طويلة أنشدت حول البحر، وما أعظم القصائد التي أنشدت عن البحر! ولربما كانت أهم فضائل العالم الفرنسي فكتور إبرازه لنا هذه الفكرة وتوضيحه إياها وكشفه عنها. وحقيقة الأمر أن فكتور لم يكشفها لأن أي قارئ عادي مجرد من الثقافة الكلاسيكية يستطيع أن يلاحظ منذ البداية أن القصة تدور كلها حول البحر، ولكن فكتور بيرار ترجم الأوديسة ترجمة شائقة وعلق عليها تعليقات مهمة واضحة كل الوضوح. وكل ذلك بأسلوب فني رائع جعلنا نشعر معه بأن البحر هو الموضوع الأساسي الذي دارت حوله الأوديسة، والبحر المقصود هنا هو البحر الأبيض المتوسط؛ إذ لا يمكن فصل البحر الأبيض المتوسط عن الأوديسة ولا فصل الأوديسة عنه، كما فعل بعض العلماء والنقاد الذين ذهب بعضهم إلى القول بأن المقصود بالبحر هنا هو الخليج الفارسي، وبعضهم الآخر بأنه البحر الأسود. وهذا كله غير صحيح لأننا نشتم رائحة البحر الأبيض في ثنايا هذه الأشعار من أولها إلى آخرها ولا نستنشق غير عبيره منذ بداية الأوديسة؛ لذلك حاول بعض العلماء البحث عن الأماكن والبلاد التي تكلمت عنها الأوديسة وتحقيق مواضعها في الوقت الحاضر. وقد سار النقاد في هذا السبيل أثر فكتور بيرار الذي طاف حول البحر الأبيض المتوسط وأخذ يجوب أطرافه المختلفة باحثا ومنقبا عن الطريق الذي سلكه البطل أوديسيوس في قديم الزمان. ولقد تهكم عليه الناس وسخروا منه كل السخرية، ولكنهم كانوا مخطئين في هذا كل الخطأ؛ إذ من الجائز أن يكون فكتور قد بالغ في تحقيقاته الجغرافية؛ فهناك من المؤرخين الألمان مثل شميدت الذي يقول بأن جغرافية الأوديسة ترتكز في كثير من الأحيان على جزء عظيم من الخرافات والأباطيل والخيالات والأوهام. ومن الجائز أن يكون في قولهم هذا شيء من الصحة؛ لأننا نرى فكتور بيرار يخطئ عندما يقول إن بلاد الكوكلوبيس (أي أصحاب العيون المستديرة) هي البلاد الواقعة عند خليج نابولي، وإن بلاد اللايستروجونيين توجد في جزيرة سردينيا أو على ساحل شبه جزيرة سيبيريا ، ولكن فكتور بيرار لم يخطئ دائما إذ نجد في كلامه وتحقيقاته الجغرافية كثيرا من الصحة؛ إذ ليس هناك شك في أن الشاعر كان يتكلم عن علم ودراية، وفي أن خيال الشاعر هوميروس كان يدور حول بلاد حقيقية ومراكز تاريخية صحيحة. وليس هناك شك في أن الكثير من معلوماته الجغرافية كانت دقيقة كل الدقة بحيث تدعو إلى الإعجاب. وهذا لا يناقض القول القائل بأن في شعره كثيرا من الخرافات التي لا تقوم على أساس صحيح. وليست هذه المناظر وحدها أو الوصف البديع لهذه المناظر الطبيعية هي التي تجعل الأوديسة تختلف كل الاختلاف عن الإلياذة في الموضوع. وليست أيضا هذه المناظر فحسب هي التي تجعلنا نقول بأن البحر الأبيض المتوسط هو المقصود في الأوديسة. أما الخرافات الشعبية
folk-lore
الموجودة في الأوديسة فإنما هي خرافات لشعوب بحرية تسكن حول البحر الأبيض المتوسط. والأوديسة مملوءة بهذه الخرافات، كخرافة الكوكلوبيس وكالوبسو وكيركي وسكولا. كل هذه تنتمي إلى خرافات شعبية أقدم بكثير من حرب طروادة؛ إذ تجد لها آثارا فيما تبقى من آثار الحضارة المينوية.
وتختلف الأوديسة عن الإلياذة في العادات التي توصف فيها؛ ذلك أن الآراء قد تهذبت وأصبحت تتعلق بالجنس البشري بحيث لم نعد نرى أبطالا يتصفون بالقوة والوحشية وحب إراقة الدماء. نرى هذه التغيرات في أفكار الناس عن الآلهة؛ فالآلهة في الأوديسة تعتبر كالبشر لها عواطف ونوازع، كما أن الناس ابتدءوا ينظرون إليهم كحماة يدافعون عن هذه القوانين السائدة في المجتمع، كما يدل على هذا الكثير من الفقرات المتعلقة بهذا الموضوع.
الأوديسة
من تحليل الأوديسة نجد أنها تتشابه مع الإلياذة في الوحدة إذا استثنينا آخر الأنشودة الثالة والعشرين والأنشودة الرابعة والعشرين كلها. غير أن هذا لا يمنعنا من أن نقول إن هناك قطعا كبيرة قد أضيفت إلى الأوديسة؛ لأنها في الواقع تختلف عن باقي الأوديسة. وهذه نقطة الاختلاف؛ ذلك أن القطع المضافة إلى الأوديسة أكثر منها في الإلياذة، ومن الثابت أنها أضيفت إلى الأوديسة في زمن متأخر، وبتأليف من بعض الشعراء المتوسطين الذين لا يملكون موهبة الشاعر الأصلي. وهكذا اختلط الأدب المتوسط بالأدب الرفيع الذي بالأوديسة في عدة مواضع مختلفة.
تبدأ الأوديسة بأربعة أناشيد تعود النقاد تسميتها بالأناشيد التيليماخية؛ لأن البطل الذي يرد اسمه في معظمها هو تيليماخوس بن أوديسيوس. وهذا موضوع أساسي في القصة لا يمكن للشاعر أن يغفله أو يهمله؛ لأن موضوع القصة مكون من فكرتين مرتبطتين سويا هما فكرة عودة أوديسيوس إلى وطنه وتعرف أفراد أسرته عليه، والثانية هي فكرة الانتقام من مختلف الأمراء الذين حالوا في أثناء غيابه أن يفصلوا زوجته بينيلوبي عنه؛ إذ إن كلا من هؤلاء الأمراء قد حاول الزواج من بينيلوبي، بينما كانت الأخيرة تخدع كل واحد منهم. وقد نجحت في هذا إلى حد كبير؛ لأنها كانت لا تزال على إخلاصها الشديد لزوجها الذي غاب عنها سنين طويلة، ولأنه كان هناك في فؤادها شيء يقول لها إن زوجها لا شك عائد إليها بعد غيابه الطويل عنها. وهذا لون من القصص المعروف باسم عودة الأبطال. والأوديسة تسرد لنا الخطوات التي خطاها البطل أوديسيوس في طريق عودته إلى بلاده؛ ومن ثم فإنها ترتبط ارتباطا وثيقا بسلسلة الشعر القصصي أو القصص الشعري الذي يدور حول طروادة؛ ذلك لأن هناك سلاسل أخرى من أهمها سلسلة القصص الذي يدور حول مدينة طيبة عاصمة مقاطعة بيوشيا
Bilinmeyen sayfa