104

İsyan Eden Tunus

تونس الثائرة

Türler

إن تلك الجهة من الأماكن الحساسة بالبلاد التونسية، فابتدأ بها الاضطهاد الفرنسي، وسال فيها دم الشهداء الزكي، وسال فيها الدم من جديد يوم 22 يناير في مدينة «غار الملح»، ولكنه دم فرنسي في هذه المرة، فقد هاجم الوطنيون - وهم مسلحون - داورية من الدرك العسكري الفرنسي، فقتلوا واحدا منها، ولما رأى الآخرون سقوط رفيقهم التجئوا إلى الفرار طلبا للنجاة، وجاءت بعد حين نجدات الجيش الفرنسي مسرعة فلم تجد إلا جثة الجندي.

وقرر الوطنيون بمدينة ماطر القيام بمظاهرة نظامية يوم الأحد 20 يناير لتقصد مكتب العامل (المدير) وتسلمه عريضة في مطالب الشعب، وذلك في الساعة الحادية عشرة صباحا، ولكن المراقب المدني الفرنسي «موران» - حسب اعترافه لمراسل جريدة الفيجارو الفرنسية في 13 / 1 / 1952 - أراد إفسادها قبل وقوعها، فأصدر أمره للدرك الفرنسي بإلقاء القبض على ثلاثة من القادة، في نادي الحزب الحر الدستوري، في الساعة التاسعة والنصف صباحا، فقام هكذا بمؤامرة مدبرة؛ إذ يعلم أن عمله هذا هو في الحقيقة إثارة للعواطف، واستفزاز للجماهير التي تبعت «اللوري» العسكري الحامل للمعتقلين، وأخذت تهتف هتافات عالية تطالب فيها بإطلاق سبيلهم، ولما رأى الجندرمة قوة المتظاهرين، وحماسهم، وعزمهم البين في عيونهم على استخلاص إخوانهم، أطلقوا سبيل القادة، وكلفوهم بإلقاء الخطب لتهدئة الجو، ولكن البوليس كان سيء النية؛ إذ استنجد حالا بقوات عسكرية كبرى، فأتت سريعا من «بنزرت» تصحبها الدبابات والسيارات المصفحة، ودخلت مدينة ماطر دخول الفاتحين، فازداد حماس الشعب واشتعل غضبه ولم تتفرق صفوفه.

ولما داهمته الدبابات، التف حولها، غير هياب، وإذا بالعساكر الفرنسية تطلق نيران مدافعها ورشاشاتها وبنادقها على المتظاهرين الذين ثارت ثائرتهم إذ ذاك، فاقتلعوا أحجار الرصيف وأخشاب الأبواب، وتسلحوا بما وقعت عليه أيديهم من الآلات الفلاحية، وأتوا بالبنزين وصبوه على بعض الدبابات والسيارات المصفحة، فاحترقت، وجرحوا عددا وافرا من الجنود، وأتت إذ ذاك «اللوريات» بنجدات جديدة من الجيش الفرنسي، ودخلوا المعركة التي دامت إلى ساعات بعد الظهر، وسقط الشهداء الأبطال عشرات - من بينهم صبي لم يتجاوز العامين داسته العساكر الفرنسية دوسا بالأقدام - والجرحى لم يحص عددهم، ومن الغد بعد أن صلت الجماهير على الشهداء في المسجد الكبير شيعت جنازتهم، وكان يسير خلف نعوشهم عشرات الآلاف من الوطنيين، ومعهم مراسلو الصحف التونسية والأجنبية، وكان الجو رهيبا تعلوه العظمة والخشوع، وما زالت آثار المعركة بينة في شوارع المدينة، وما زالت أرضها ملطخة بالدماء. (3-2) في جهة الدخلة

حاصر الجيش مدينة نابل يوم الأحد 20 يناير ، وأخذ الجند يتجولون في الشوارع، ويجرون تفتيشات مرهقة لجميع السكان، ويلحقون بهم أنواعا من الإهانات، وقد انتظمت في ذلك اليوم مظاهرة شعبية كبرى، وسارت في هدوء ونظام، فتدخلت القوات وصدمتها وشتتتها من غير أن يرد الوطنيون الفعل، وفي صباح 21 يناير واصل الجنود تفتيشاتهم، وضايقوا الناس مضايقة لا توصف، واستفزوهم استفزازا، فاجتمعوا في المسجد الكبير نساء ورجالا، وخطب في هذا الاجتماع كل من السيدات آسيا غلاب وحرم الوطني حسونة القروي والآنستان آمنة قرط باشالي من أعضاء الشعبة النسائية الدستورية، ومن المسجد خرجت مظاهرة شعبية كبرى معلنة التأييد لجلالة الملك ووزارته في رفع القضية أمام مجلس الأمن، ومعلنة أيضا الاحتجاج على العدوان الفرنسي المسلح سارت المظاهرة مخترقة شوارع المدينة، متجهة إلى إدارة العامل لتبليغ احتجاجها، وكان يسودها النظام والهدوء، ولكن عند عودة المظاهرة اعترضها الجند، وصادمها ساعيا في تفريقها، ولما شاهد عزمها على متابعة السير من غير أن ترد الفعل، قذف عليها عددا وافرا من القنابل المسيلة للدموع، فتحملها الوطنيون بصبر وجلد، وإذا بالقوات المسلحة تطلق رصاصها على المتظاهرين، فتسلق بعض التونسيين السطوح المجاورة لإدارة العامل، ورموا القنابل اليدوية على القوات الفرنسية، ودارت معركة حامية استشهد فيها ثلاثة ومات على أثرها خمسة آخرون من جراحهم، وسقط أكثر من ثلاثين جريحا بين نساء ورجال، وفي المساء ألقي القبض على الوطنيين بالجملة، أما الإضراب العام فهو مستمر بغير انقطاع بنابل منذ يوم 18 يناير.

وكانت مدينة «الحمامات» القريبة من نابل مسرحا لحوادث أخرى؛ ففي صباح يوم 21 يناير اجتمع جم غفير من الوطنيين بالنادي المركزي للحزب الحر الدستوري، وتقرر تنظيم مظاهرة سلمية لتبليغ لائحة احتجاج إلى الدوائر المسئولة، وبينما الاجتماع قائم إذا برئيس مركز البوليس الفرنسي يحاصر النادي بقوات الجند والدبابات التي أسرعت إلى إطلاق الرصاص باستمرار، ورمت القنابل المسيلة للدموع في وسط النادي، فتفرقت الجماهير إثر ذلك، وبعد الظهر - وقد فارقت القوات الفرنسية المدينة في الصباح - أقام الوطنيون سدا في الطريق الرئيسي، وجاء الدرك الفرنسي في عدد وافر تعززه فرق الجيش، وأراد مهاجمتهم، ولكن نيران الوطنيين أوقفته ثم أخرته، ودامت المعركة ساعات كاملة إلى أن أتت نجدات كبيرة من الجيش الفرنسي، فاقتحمت السد وافتكته، واستمرت المعركة داخل المدينة، ودامت نحو عشر ساعات، وأسفرت هذه الاشتباكات عن تسعة من التونسيين الجرحى واستشهاد اثنين منهم هما المرحومان الطيب العزابي من الحمامات ومفتاح بن الهادي التريكي من «الوطن القبلي»، وقد منع البوليس الفرنسي السكان من حمل جرحاهم إلى المستشفى، وسد دونهم الطريق بالقوة، فاضطروا إلى وضع الموتى والجرحى في المسجد ب «ربض الحوانيت العليا» إلى الغد، وفي الساعة الرابعة صباحا تسلق الجنود الفرنسيون سطوح البيوت، وبقوا هناك كامل اليوم، واقتحم رئيس البوليس النادي، وكسر قفله، ومزق ما فيه من أعلام وصور، وحطم الكراسي والأثاث، وفجر فيه المفرقعات، ثم استنجد برجال الجندرمة وبعض المعمرين الفرنسيين المعروفين هناك، وفتش جميع المنازل، وألحق بأهلها أنواعا من العذاب والإهانات، وسيق إلى سجن «القصبة» نحو ثمانين وطنيا، أما عدد القتلى والجرحى من العساكر الفرنسيين في تلك الواقعة فهو مرتفع جدا وقد أخفته الدوائر الرسمية الفرنسية.

وقامت مدينة «قليبية» بمظاهرات سلمية متعددة منذ يوم 18 يناير، وكان يوم 24 منه يوما مشهودا؛ إذ تدفق عليها الوطنيون من القرى المجاورة، فاجتمع أمام نادي الحزب عشرات الآلاف من السكان، وسارت المظاهرة بنظامها وهدوئها العادي؛ وإذا بالبوليس الفرنسي يهاجمها سعيا في تشتيتها، ثم يطلق عليها النار، وإذا بالمتظاهرين يردون الفعل ويهاجمون البوليس الذي فر واختبأ في مركزه، وتدفقت الجماهير وراءهم آلاف عدة، وأخذ إذ ذاك البوليس يصوب نحوهم نيران الرشاشات والبنادق من النوافذ ومن السطح، وتقدم الوطنيون صفوفا متراصة هازئين بالموت، وكان هجومهم قويا وجبارا؛ ومنهم من يعرف استخدام مفرقعات الديناميت في الصيد، فاستعملوا الديناميت لنسف مركز البوليس؛ فخربوه تخريبا، ودمروه كله حتى أصبح أنقاضا، وإذ ذاك تحول المتظاهرون نحو ثكنة الدرك الفرنسي، وشرعوا في إحراقها ورميها بالديناميت، ودارت بينهم وبين الجندرمة الفرنسيين معركة دامت ساعات، وإذا بقوات الجيش الفرنسي تهاجمهم من خلف على الساعة الرابعة بعد الظهر، وقد أتت تتقدمها المصفحات والدبابات التي وجهت نيران مدافعها إلى المتظاهرين ، وإلى القرية بأسرها، فأنزلت الدمار في كل مكان؛ وحلقت الطائرات الصاروخية وغيرها على مقربة من الأرض، ونشرت الخراب والموت بقنابلها ومدافعها الرشاشة، وبقيت آثار ذلك التدمير خاصة في مئذنة مسجد «حمام الغزاز» إلى يوم الناس هذا، وغيرها من الأماكن العامة والخاصة.

أما في «منزل بوزلفه» فقد اشتد غضب الشعب، وعم الغليان، وأخذ بعض المستعمرين المسلحين يتحدونه، ويثيرون عواطفه، ويسعون في الاعتداء عليه إخفاء لما نزل في قلوبهم من رعب وخوف، وإن كان التونسيون عازمين عزما كليا على اجتناب أي اعتداء على المدنيين الفرنسيين. وفعلا لم يمس فرنسي بسوء، واغتاظ المستعمرون مما رأوه في الشعب من حيوية وتمسك بمبادئ الاستقلال مع المحافظة على النظام؛ واستنجدوا بقوات الدرك والجيش ليدخلوا الاضطراب، وجاءت سيارة جيب تحمل الملازم فاشي

Vacher

واثنين من أعوانه ومعهم فصيلة من الجيش؛ ولما وجدوا ألا شيء يهدد النظام، اكتفوا بالتهديد والوعيد، ثم قفلوا راجعين؛ واتجهوا إلى قرية «بني خلاد» فدخلوها وجددوا بها أعمال التهور والإهانة للتونسيين الذين كانوا متجمهرين بميدان السوق؛ وشهروا سلاحهم في وجوههم، وهاجمتهم فرقة العساكر الفرنسية المسلحة، وأخذت في ضربهم بمؤخرات بنادقها، فرد الوطنيون الفعل حالا وتقدم أحدهم وعاجل «الملازم فاشي» عندما وثب من السيارة ليهاجم الوطنيين، مهددا إياهم بمسدسه، وأطلق عليه الرصاص فأصابه؛ فحمله أصحابه وفروا به إلى مدينة «قرنبالية» حيث قضى نحبه بمجرد الوصول إليها، ووقعت إثرها اشتباكات عدة في الجهة كلها بين الوطنيين والمستعمرين المسلحين، واكتفى التونسيون أثناءها بقلب سيارات الفرنسيين وحرقها. (3-3) في جهة القيروان

توالت المظاهرات الشعبية الصاخبة بمدينة القيروان منذ اعتقال الزعماء، فاجتمع يوم 20 يناير الشعب أمام نادي الحزب، وسار في مظاهرة منتظمة قوية مسالمة نحو إدارة العامل لإبلاغه مطالب الشعب، ولما وصل المتظاهرون إلى الحي الأوروبي، هاجمتهم قوات البوليس والدرك الفرنسي، وانهالت عليهم ضربا، وشتتهم، فتفرقوا في الشوارع الكبرى المجاورة، وقد بلغ منهم الغضب كل مبلغ؛ فهاجموا الشركات والدكاكين الفرنسية، وكسروا واجهاتها، وحطموا ما بها ورجعوا سالمين ، وعقد الوطنيون يوم 24 يناير اجتماعا كبيرا جدا حضرته المدينة كلها، وجماعات كثيرة من القرى المجاورة؛ وخرجت مظاهرة عظيمة في الساعة الخامسة بعد الظهر قاصدة إدارة العامل لتسلم إليه لائحة احتجاج، فتدخلت قوات البوليس والجيش الفرنسي، وقسمتهم قسمين، وسعت في إرهابهم بالضرب والإهانة، وأخذت في تشتيتهم؛ ولكنهم واصلوا سيرهم المنتظم إلى أن بلغوا بابين من أبواب المدينة يفتحان على الحي الأوروبي، فإذا بالجنود والبوليس يهاجمونهم هجوما عنيفا بالباب الأول، واشتبكت المعركة وافتك الوطنيون بعض الأسلحة من الجيش، ودوى الرصاص في كل مكان، وأمطرت الحجارة على القوات المعادية. وفي الوقت نفسه دارت معركة أخرى أمام الباب الثاني، فتسلق التونسيون المسلحون سور المدينة وتمادوا في المعركة التي لم تنته إلا بعد ساعتين، ولم يعترف الفرنسيون إلا بجرح ضابط صغير، واستشهد خمسة من التونسيين، وفي الليل ألقي القبض على عشرات من الوطنيين من بينهم عدد وافر من الطلبة، ومن الغد (25 يناير) شيعت القيروان في موكب رائع يسوده الخشوع ضحاياها إلى مقرهم الأخير، وقد سار في الموكب عشرات الألوف من التونسيين يخيم عليهم السكون والصمت، وكان بدوي يسير في الطريق ليلحق بجنازة الشهداء فأطلق عليه أحد الجنود الفرنسيين الرصاص فأرداه قتيلا. (3-4) في جهة الساحل

Bilinmeyen sayfa