وأخذت القبائل في الانتقاض على الحكومة، وظلت الكاف في يد بني شنوف أمدا طويلا وقلعة سنام في أيدي الحنانشة، وكان جبل وسلات موطن شغب عظيم، واجتاح البلاد وباء الطاعون مرات كثيرة فأهلك الناس.
ولما قضى إبراهيم الشريف الذي كثر في عهده سفك الدماء، وكانت قد اجتمعت له لأول مرة ألقاب الباي والداعي والباشا وأغا الجند، نودي بالحسين بن علي تركي بايا على تونس في العاشر من يوليو 1705م في غضون غزوة جزائرية جديدة، وهكذا قامت الدولة الحسينية التي لا تزال تحكم البلاد إلى اليوم. وأعاد حسين السلام إلى الربوع، وشيد كثيرا من المباني (مثال ذلك ما أنشأه في القيروان)، وحاول أن ينظم ولاية العرش لمصلحة ذريته مباشرة، فخلعه علي باشا يظاهره الجزائريون؛ ومن ثم نشأت مصاعب جديدة استفحل أمرها بفتنة يونس بن علي عام 1752م. ثم اعتلى محمد بن الحسين العرش آخر الأمر بتدخل الجزائر أيضا، وحكم علي باي ثم ابنه حمودة، ففعلا الكثير في سبيل إصلاح ما فسد من شئون الدولة وإعادة الرخاء إلى ربوعها.
ونشطت التجارة الخارجية كما نشطت الزراعة، واتسعت علاقات الباي مع الدول الأوروبية، على الرغم من قضائه على الجاليات التجارية برأس الأسود وطبرقة، وأبرمت معاهدات كثيرة كان يوقعها بنفسه، وعينت فرنسا آخر الأمر قنصلا عاما لها في تونس، على الرغم من محاربتها إياها عدة مرات، ونشبت الحرب بين تونس والبندقية واستمرت ثماني سنين (1784-1792م)، وأخضع علي باي ثوار جبل وسلات ومزق كلمتهم، ولكنه عجز عن التخلص من الجزائريين الذين ظلوا مصدر تعب كبير لحمودة، وأعمل حمودة السيف في رقاب الإنكشارية المتمردين عام 1811م.
وطرأت تغيرات ملحوظة على أحوال السلطنة التونسية إبان القرن التاسع عشر؛ أولها القضاء على القرصنة والقرصان، وكانت من أهم موارد الدولة، وقد أرغمت الدول الأوروبية محمودا على ذلك، نتيجة لمؤتمري فيينا وإكس لا شابل، ثم كان احتلال الجزائر عام 1830م أيام الباي حسين ، فأعقب هذا نتائج لم تكن في الحسبان، وقد حاولت تونس عبثا، مدة نصف قرن الملاءمة بينها وبين الأحوال الجديدة بتغيير نظامها الداخلي، وانتهاج سياسة وسط بين التراخي في تبعيتها للدولة العلية والانصراف عن هذه التبعية حينا آخر، وبين السماح للدول المسيحية بالتدخل في شئونها على يد قناصلها، وشجعت بريطانيا سلطان الباب العالي وناوأته فرنسا، ولم يبد هذا السلطان إلا في القليل من فرامانات التولية وفي إرسال الجند التونسية إلى القريم عام 1855م لمحاربة روسيا (وقد اشتركت وحدة بحرية تونسية مع الأسطول التركي في واقعة نفارينو عام 1827م)، وأخذ بعد ذلك النفوذ الفرنسي والإنجليزي والإيطالي يزداد على مر الأيام ... نعم إن خطط فرنسا لإقامة أمراء تونسيين على الجزائر لم تلق نجاحا، ولكن تونس لم تعد تأخذ الجزية التي كانت تدفعها الدول المسيحية نظير حق الاتجار معها، وتولى أحمد وكان أشبه بالحاكم المستبد المتنور، فألغى الرق ومنح اليهود حرياتهم، ونظم «الجيش التونسي» على النسق الأوروبي، واختار له مدربين من الفرنسيين، وزار لويس فيليب في باريس في عام 1846م. بيد أن إسرافه الكثير ونفقات بناء دار الصناعة في غار الملح، وقصور المحمدية استنزف موارد الدولة، وكانت جد قليلة، ففرضت ضرائب جديدة، وأصدر قانون لاحتكار أشجار الزيتون .
وأدخل ابن عمه محمد (1855-1859م) ضريبة على الرءوس مقدارها ستة وثلاثون قرشا، كما أعفيت منها بعض المدن التونسية الهامة، ولكن أهم حادث في عهده هو إصداره عهد الأمان في 9 سبتمبر سنة 1857م حمله عليه القناصل، وأعلن فيه أن أهل تونس جميعا، سواء أمام القانون وفي دفع الضرائب، كما أعلن حرية العقيدة وحرية العمل والتجارة وحق الأجانب في امتلاك الأرض والعقار، وأصدر أخوه محمد الصادق (1859-1882م) دستورا في السادس والعشرين من أبريل عام 1861م أقره نابليون الثالث، وبه ظلت السلطة التنفيذية في يد الباي تئول إليه بالوراثة، وأصبح مسئولا عن الحكم، وينتقل العرش إلى أكبر أمراء البيت الحسيني يعاونه وزراء يختارهم بنفسه، وقسمت السلطة التشريعية بين الباي والمجلس الكبير المؤلف من ستين عضوا معينين. أما السلطة القضائية فكانت مستقلة، وكانت المحاكم تتبع قانونا تونسيا جنائيا ومدنيا، أما إدارة الأقاليم فكانت في يد «القواد» يعاونهم «شيوخ» منتخبون، وجعلت للباي مخصصات، ولم يعد له حق فرض الضرائب وغيرها، ولكن سرعان ما ساء الموقف على الرغم من هذه الإصلاحات، وقد أدت السياسة المالية الخرقاء التي انتهجها مصطفى باشا خازندار من العودة إلى الاستدانة وزيادة الضرائب، إلى عصيان القبائل تحت راية علي بن غذاهم عام 1864م، كما أدت إلى تأليف لجنة مالية دولية (من التونسيين والفرنسيين والإيطاليين والمالطيين) عام 1869م، وفي يوليو من عام 1859م عطل الدستور، وفي أكتوبر من عام 1873م خلف القائد خير الدين على دست الوزارة الخازندار الذي عزل من منصبه. فامتاز عهده بإصلاحات جليلة، ولو أن البلاد لم تصب منها إلا تقدما يسيرا. بيد أن موارد الدولة كانت قليلة جدا وديونها عظيمة، حتى إن اللجنة لم توفق إلى شيء، وكانت إدارة مصطفى بن إسماعيل السيئة هي الضربة القاضية التي أصابت البلاد، بينما اشتد التنافس بين قنصلي فرنسا وإيطاليا على الصدارة في الامتيازات الخاصة بالمصالح العامة.
وشجعت بريطانيا وألمانيا منذ مؤتمر برلين عام 1887م التدخل الفرنسي في شئون تونس، وقد سير الوزير جول فري ثلاثين ألف مقاتل لغزو تونس؛ نتيجة لغارات أهل جبال خمير على الجزائر وغيرها من الحوادث. وبعد عشرين يوما أرغم الجنرال بريار صادقا على أن يوقع معاهدة «قصر سعيد» المعروفة بمعاهدة باردو، دون أن يسفك دماء أو يأبه لاحتجاج تركيا. وقد أعطيت هذه المعاهدة فرنسا حق الإشراف على الشئون العسكرية والخارجية والمالية للسلطنة التونسية، وعين وزير مقيم فرنسي، يتولى الشئون بين الباي والحكومة الفرنسية، وكان القنصل روستان بطبيعة الحال أول من شغل هذا المنصب، وهكذا بدأت الحماية، وإن لم تكن قد أعلنت بالفعل. ثم أصبحت الحماية أمرا واقعا بعد ثورة الوسط والجنوب تحت إمرة علي بن خليفة والقضاء السريع عليها بواسطة حملة فرنسية ثانية، ووافق الباي بمقتضى ميثاق المرسى في 8 يونيو عام 1883م على أن يبدأ بالإصلاحات الإدارية والقضائية والمالية التي ترى الحكومة الفرنسية نفعها للبلاد.
وتعتبر الحماية الفرنسية فاتحة عهد جديد في تاريخ تونس، ولم تؤثر فيها منذ أن فتحها المسلمون حادثة كهذه الحماية التي غيرت نظامها وحياة أهلها.
وكان الطابع الأصيل لهذا العهد الإبقاء على نظام الحكم القديم في مظهره، وقد ألبس هذا النظام ثوبا جديدا، وزيدت عليه نظم حديثة، وظل سائدا على رغم ما وجه إليه من نقد.
وظل عظمة الباي هو سيد السلطنة الأسمى وصاحب مملكة تونس، ولكن صاحب الأمر والنهي في البلاد هو الوزير الفرنسي المقيم الذي عرف منذ 23 يونيو عام 1885م بالمقيم العام، وكان وزيرا مفوضا للجمهورية الفرنسية في السلطنة التونسية، يأتمر بأمر وزير الخارجية الفرنسية، وكان كذلك وزير خارجية الباي لا يتصل الباي بباريس إلا عن طريقه، وكان رئيسا لمجلسه يوقع إلى جانبه على المراسيم التي أصبحت نافذة منذ مرسوم يناير عام 1883م، وكان يأتمر بأمره قواد الجيوش في البر والبحر، كما كان يشرف على جميع المصالح الإدارية، ولم يكن للباي سوى حرس صغير مكون من ستمائة رجل، وكان رعاياه يجبرون على الانخراط في جيشه الذي كان بمثابة قسم من الجيش الفرنسي، وقد هلك منه ما يزيد على العشرة آلاف رجل في سبيل فرنسا إبان الحرب العظمى.
ويتكون مجلس الوزراء من اثنين من الوطنيين، صاروا بعد ذلك ثلاثة، ومن المديرين أو رؤساء مصالح الفرنسيين، ثم قائد جيش الاحتلال وأمير بحرية بنزرت اللذين يقومان بأعمال وزير الحربية وقائد الأسطول.
Bilinmeyen sayfa