Trust of a Muslim in Allah in Light of the Quran and Sunnah
ثقة المسلم بالله تعالى في ضوء الكتاب والسنة
Yayıncı
دار كنوز إشبيليا للنشر والتوزيع
Baskı Numarası
الأولى
Yayın Yılı
١٤٣٤ هـ - ٢٠١٣ م
Yayın Yeri
الرياض - المملكة العربية السعودية
Türler
ثِقَة الْمُسلم بِاللَّه تَعَالَى فِي ضوء الْكتاب وَالسّنة
تأليف
أ. د. مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن سُلَيْمَان الرُّومِي
الْأُسْتَاذ بكلية التربية - جَامِعَة الْملك سعود
دَار كنوز إشبيليا
Bilinmeyen sayfa
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله خير النبيين وسيد المرسلين، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى من اتبعه واقتفى أثره إلى يوم الدين وبعد:
فإن الثقة بالله تعالى، والاعتماد عليه في جلب المنافع ودفع المضار، وحصول الأرزاق وحصول النصر على الأعداء، وشفاء المرضى وغير ذلك من أهم المهمات وأوجب الواجبات، ومن صفات المؤمنين، ومن شروط الإيمان، ومن أسباب قوة القلب ونشاطه، وطمأنينة النفس وسكينتها وراحتها، ومن أسباب الرزق، والثقة بالله وبكفايته لعبده، هو من أهم عناصر عقيدة المسلم الصحيحة في الله تعالى.
وهذه الثقة بالله تعالى التي يتمثلها المسلم في حياته في علاقته بربه ﷾، لا يفهم منها أنها مجرد كلمة تلوكها الألسن، ولا تعيها القلوب، وتتحرك بها الشفاه، ولا تفهمها العقول، أو تترواها الأفكار، أو هو نبذ الأسباب، وترك العمل، والقنوع بالرضا بالهون والدون تحت شعار الثقة بالله تعالى، والرضا بما تجري به الأقدار، بل إن المسلم يفهم الثقة بالله أنها جزء من إيمانه وعقيدته، وأنها طاعة لله بإحضار كافة الأسباب المطلوبة لأي عمل من الأعمال التي يريد مزاولتها والدخول فيها، فلا يطمع في ثمرة بدون أن يقدم أسبابها، ولا يرجو نتيجة ما بدون أن يضع مقدمتها، غير أن موضوع إثمار تلك الأسباب، وإنتاج تلك المقدمات يفوضه إلى الله ﷾ إذ هو القادر عليه دون سواه.
وثقة المسلم بالله تعالى تشمل كل جوانب حياته، وكل صغيرة وكبيرة يجعل المسلم ثقته بالله تعالى أمام عينيه.
1 / 5
وهذا البحث قد حاولت فيه أن أغطي الجوانب المختلفة لثقة المسلم بالله تعالى، وعلى هذا فقد جاء في مقدمة وتمهيد وستة مباحث وخاتمة:
تمهيد: أهمية الثقة بالله تعالى في حياة المسلم.
المبحث الأول: ثقة المسلم بالله تعالى في استجابة الدعاء.
المبحث الثاني: ثقة المسلم بالله تعالى في تفريج الكربات.
المبحث الثالث: ثقة المسلم بالله تعالى في التكفل بالرزق.
المبحث الرابع: ثقة المسلم بالله تعالى في الدعوة إلى الله.
المبحث الخامس: ثقة المسلم بالله تعالى في النصر على الأعداء.
المبحث السادس: ثقة المسلم بالله تعالى في إنفاذ وعده سبحانه.
وقد حرصت في بيان ذلك أن أعتمد على نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة، وأقوال العلماء وشروحهم، وما أثر عن السلف الصالح رحمهم الله تعالى.
وما كان من صواب فمن الله، وما كان من نقص أو تقصير فمني، ومن الشيطان واستغفر الله.
وصل الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
1 / 6
تمهيد
أهمية الثقة بالله تعالى في حياة المسلم
إن الله ﷿ خلق الله الخلق جميعًا لغاية واحدة؛ لعبادته وحده لا شريك له قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ (١).
قال الشيخ السعدي ﵀: «هذه الغاية، التي خلق الله الجن والإنس لها، وبعث جميع الرسل يدعون إليها، وهي عبادته، المتضمنة لمعرفته ومحبته، والإنابة إليه والإقبال عليه، والإعراض عما سواه، وذلك يتضمن معرفة الله تعالى، فإن تمام العبادة، متوقف على المعرفة بالله، بل كلما ازداد العبد معرفةً لربه، كانت عبادته أكمل، فهذا الذي خلق الله المكلفين لأجله، فما خلقهم لحاجة منه إليهم» (٢).
وقد بين لهم ﷾ كيفية العبادة، ووضَّح لهم صفتها، وفصَّل لهم أنواعها، فثمة عبادات ظاهرة بالجوارح؛ كالصلاة والصيام، وما إلى ذلك، وعبادات باطنة قلبية كالخوف منه، والتوكل عليه، والرضا به، وما أشبه ذلك، ومن هذه العبادات القلبية التي تعبد الله بها عبادة: الثقة به، وصدق الاعتماد عليه، وحسن التوكل عليه، وتفويض الأمور إليه ..
والثقة بالله صفة من صفات الأنبياء؛ فخليل الرحمن إبراهيم ﵇ حينما ألقي في النار كان على ثقة عظيمة بالله؛ فكفاه الله شر ما أرادوا به من كيد، وحفظه من أن تصيبه النار بسوء، قال تعالى: ﴿قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا
_________
(١) سورة الذاريات، الآية: ٥٦.
(٢) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي، تحقيق: د. عبد الرحمن بن معلا اللويحق ص ٨١٣، ط/ ١، مؤسسة الرسالة، بيروت: ١٤٢٠ هـ - ٢٠٠٠ م.
1 / 7
فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ﴾ (١).
ونبينا محمد ﷺ كان على ثقة كاملة بالله تعالى ولا أدل على ذلك ما كان في هجرته ﷺ من مكة إلى المدينة واختبائه بغار حراء، ومع قرب المشركين منه ﷺ يثق أن الله سينجيه منهم ويقول لأبي بكر ﵁: ما ظنك باثنين الله ثالثهما.
فعن أنس بن مالك ﵁ أن أبا بكر الصديق ﵁ حدثه قال: «نظرت إلى أقدام المشركين على رؤوسنا ونحن في الغار فقلت يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه فقال يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما» (٢).
وقد نص الله تعالى على ذلك إذ قال ﷾: ﴿إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (٣).
والثقة أيضًا صفة من صفات الأولياء الصادقين؛ قال يحيى بن معاذ ﵀: «ثلاث خصال من صفة الأولياء: الثقة بالله في كل شيء، والغنى به عن كل شيء، والرجوع إليه من كل شيء» (٤).
_________
(١) سورة الأنبياء، الآيات: ٦٨ - ٧٠.
(٢) أخرجه البخاري، كتاب: التفسير، باب: سورة براءة، رقم ٤٣٨٦، وأخرجه مسلم، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبي بكر الصديق ﵁، رقم ٤٣٨٩.
(٣) سورة التوبة، الآية: ٤٠.
(٤) شعب الإيمان، أحمد بن الحسين بن علي بن موسى الخسروجردي الخراساني، أبو بكر البيهقي، حققه وخرج أحاديثه: د. عبد العلي عبد الحميد حامد ٢/ ٣٥٤، ط/ ١، مكتبة الرشد بالرياض بالتعاون مع الدار السلفية ببومباي بالهند: ١٤٢٣ هـ - ٢٠٠٣ م.
1 / 8
وهي كذلك صفة من صفات العباد الزهاد، فقد جاء رجل إلى حاتم الأصم ﵀ فقال: يا أبا عبد الرحمن أي شيء رأس الزهد ووسط الزهد وآخر الزهد؟ فقال: «رأس الزهد الثقة بالله ووسطه الصبر وآخره الإخلاص» (١). وقال حاتم ﵀ أيضًا: «وأنا أدعو الناس إلى ثلاثة أشياء: إلى المعرفة وإلى الثقة وإلى التوكل؛ فأما معرفة القضاء فأن تعلم أن القضاء عدل منه، فإذا علمت أن ذلك عدل منه فإنه لا ينبغي لك أن تشكو إلى الناس أو تهتم أو تسخط، ولكنه ينبغي لك أن ترضى وتصبر. وأما الثقة فالإياس من المخلوقين، وعلامة الإياس أن ترفع القضاء من المخلوقين، فإذا رفعت القضاء منهم استرحت منهم واستراحوا منك، وإذا لم ترفع القضاء منهم فإنه لا بد لك أن تتزين لهم وتتصنع لهم، فإذا فعلت ذلك فقد وقعت في أمر عظيم، وقد وقعوا في أمر عظيم وتصنع، فإذا وضعت عليهم الموت فقد رحمتهم وأيست منهم. وأما التوكل فطمأنينة القلب بموعود الله تعالى فإذا كنت مطمئنًا بالموعود استغنيت غنى لا تفتقر أبدًا» (٢) والثقة بالله تجعل العبد راضيًا بالله، يائسًا مما في أيدي الناس.
قال حاتم الأصم ﵀: «من أصبح وهو مستقيم في أربعة أشياء فهو يتقلب في رضا الله: أولها الثقة بالله، ثم التوكل، ثم الإخلاص، ثم المعرفة، والأشياء كلها تتم بالمعرفة» (٣).
وقيل لأبي حازم ﵀: «يا أبا حازم ما مالك؟ قال: (ثقتي بالله تعالى، وإياسي مما في أيدي الناس» (٤).
_________
(١) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني ٨/ ٧٥، ط/ ٤، دار الكتاب العربي، بيروت: ١٤٠٥ هـ.
(٢) المرجع السابق ٨/ ٧٦.
(٣) المرجع السابق ٨/ ٧٦.
(٤) المرجع السابق ٣/ ٢٣١.
1 / 9
ومن وثق بالله نجاه الله من كل كرب أهمه.
قال أبو العالية ﵀: (إن الله - تعالى - قضى على نفسه أن من آمن به هداه، وتصديق ذلك في كتاب الله: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ (١). ومن توكل عليه كفاه، وتصديق ذلك في كتاب الله: ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾ (٢) ومن أقرضه جازاه، وتصديق ذلك في كتاب الله: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ (٣) ومن استجار من عذابه أجاره، وتصديق ذلك في كتاب الله: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ (٤) والاعتصام الثقة بالله، ومن دعاه أجابه، وتصديق ذلك في كتاب الله: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ (٥) فكن واثقًا بالله، متوكلًا عليه، معتصمًا به) (٦).
ومن تحلى بالثقة بالله فقد فاز بالجنة؛ قال شقيق البلخي ﵀: «من عمل
_________
(١) سورة التغابن، الآية: ١١.
(٢) سورة الطلاق، الآية: ٣.
(٣) سورة البقرة، الآية: ٢٤٥.
(٤) سورة آل عمران، الآية: ١٠٣.
(٥) سورة البقرة، الآية: ١٨٦.
(٦) حلية الأولياء، الأصبهاني ٢/ ٢٢١ - ٢٢٢.
1 / 10
بثلاث خصال أعطاه الله الجنة: أولها: معرفة الله ﷿ بقلبه ولسانه وسمعه وجميع جوارحه، والثاني: أن يكون بما في يد الله أوثق مما في يديه، والثالث: يرضى بما قسم الله له، وهو مستيقن أن الله تعالى مطلع عليه، ولا يحرك شيئًا من جوارحه إلا بإقامة الحجة عند الله، فذلك حق المعرفة.
ثم بين الثقة بالله وشرحها وفسرها، فقال: (وتفسير الثقة بالله أن لا تسعى في طمع، ولا تتكلم في طمع، ولا ترجو دون الله سواه، ولا تخاف دون الله سواه، ولا تخشى من شيء سواه، ولا يحرك من جوارحه شيئًا دون الله، يعني في طاعته واجتناب معصيته» (١).
والثقة بالله دليل على تحقيق العبد للاستعانة بالله كلما أمرنا ربنا جل وعلا في القرآن الكريم: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ (٢).
«والاستعانة بالله تقوم على الثقة بالله، والاعتماد عليه. فقد يثق الإنسان بغيره، ولا يعتمد عليه في أموره، لاستغنائه عنه، وقد يعتمد عليه مع عدم ثقته به، لحاجته إليه. والله وحده هو الذي بيده كل شيء، والمستعان في كل شيء، والعبد ليس بيده شيء، وهو محتاج إلى عون ربه في كل شيء كما قال سبحانه: ﴿وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ (٣) والمستعان هو الله ﷿.
فأهل الطاعة يستعينون به على فعل الطاعات، وترك المعاصي، كما قال سبحانه: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ (٤). والاستعانة: طلب العون من الله على الطاعة.
_________
(١) حلية الأولياء، الأصبهاني ٨/ ٦١.
(٢) سورة الفاتحة، الآية: ٥.
(٣) سورة هود، الآية: ١٢٣.
(٤) سورة الفاتحة، الآية: ٥.
1 / 11
أما أهل المعاصي، فحين ترك العاصي سؤال العون من الله على طاعته، أعانه على معصيته، فتوجه إليها بعونه عليها، وحرمه سبحانه العون على الطاعة، فلم يتوجه إليها كما قال سبحانه: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ (١).
فالعباد كلهم مصروفون في طاعاتهم ومعاصيهم بقدرة الله وعونه .. إما بجنود الملائكة الهادية .. أو بجنود الشياطين المضلة .. فلا طاعة ولا معصية إلا بعون الله، وهو فعله على الإطلاق في الخير والشر، فلا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله، ولا قوة على طاعة الله إلا بتوفيق الله وعونه» (٢).
وقد علم النبي ﷺ عبد الله ابن عباس ﵄ كيف تكون الثقة بالله تعالى فعن ابن عباس ﵄ قال كنت خلف رسول الله ﷺ يوما فقال: «يا غلام إني أعلمك كلمات، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام وجفت الصحف» (٣).
هذا وقد بين الإمام ابن القيم ﵀ الثقة بالله تعالى فقال: «ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الثقة بالله تعالى. قال صاحب المنازل: الثقة: سواد عين التوكل ونقطة دائرة التفويض وسويداء قلب التسليم وصدر الباب
_________
(١) سورة الصف، الآية: ٥.
(٢) موسوعة فقه القلوب، محمد بن إبراهيم بن عبد الله التويجري ١/ ٢٢٧، ط ١، بيت الأفكار الدولية، الأردن: ٢٠٠٦ م.
(٣) أخرجه الترمذي، كتاب: صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله ﷺ، باب: منه، رقم ٢٥١٦، قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
1 / 12
بقوله تعالى لأم موسى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ (١) فإن فعلها هذا هو عين ثقتها بالله تعالى إذ لولا كمال ثقتها بربها لما ألقت بولدها وفلذة كبدها في تيار الماء تتلاعب به أمواجه وجرياته إلى حيث ينتهي أو يقف ومراده: أن الثقة خلاصة التوكل ولبه كما أن سواد العين: أشرف ما في العين وأشار بأنه نقطة دائرة التفويض إلى أن مدار التوكل عليه وهو في وسطه كحال النقطة من الدائرة فإن النقطة هي المركز الذي عليه استدارة المحيط ونسبة جهات المحيط إليها نسبة واحدة وكل جزء من أجزاء المحيط مقابل لها كذلك الثقة هي النقطة التي يدور عليها التفويض.
وكذلك قوله: سويداء قلب التسليم فإن القلب أشرف ما فيه سويداؤه وهي المهجة التي تكون بها الحياة وهي في وسطه فلو كان التفويض قلبًا لكانت الثقة سويداءه ولو كان عينًا لكانت سوادها ولو كان دائرة لكانت نقطتها.
وقد تقدم أن كثيرًا من الناس يفسر التوكل بالثقة ويجعله حقيقتها ومنهم من يفسره بالتفويض ومنهم من يفسره بالتسليم فعلمت: أن مقام التوكل يجمع ذلك كله فكأن الثقة عند الشيخ هي روح والتوكل كالبدن الحامل لها ونسبتها إلى التوكل كنسبة الإحسان إلى الإيمان والله أعلم» (٢).ثم بين ﵀ درجات الثقة بالله تعالى فقال: «وهي على ثلاث درجات: الدرجة الأولى: درجة الإياس وهو إياس البعد عن مقاومات الأحكام ليقعد عن منازعة الأقسام ليتخلص من قحة الإقدام.
_________
(١) سورة القصص، الآية: ٧.
(٢) مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية، تحقيق: محمد حامد الفقي ٢/ ١٤٤، ط/ ٢، دار الكتاب العربي، بيروت: ١٣٩٣ هـ - ١٩٧٢ م.
1 / 13
يعني أن الواثق بالله لاعتقاده: أن الله تعالى إذا حكم بحكم وقضى أمرًا فلا مرد لقضائه ولا معقب لحكمه فمن حكم الله له بحكم وقسم له بنصيب من الرزق أو الطاعة أو الحال أو العلم أو غيره: فلا بد من حصوله له ومن لم يقسم له ذلك: فلا سبيل له إليه ألبتة كما لا سبيل له إلى الطيران إلى السماء وحمل الجبال فبهذا القدر يقعد عن منازعة الأقسام فما كان له منها فسوف يأتيه على ضعفه وما لم يكن له منها فلن يناله بقوته.
الدرجة الثانية: درجة الأمن وهو أمن العبد من فوت المقدور وانتقاض المسطور فيظفر بروح الرضى وإلا فبعين اليقين وإلا فبلطف الصبر. يقول: من حصل له الإياس المذكور حصل له الأمن وذلك أن من تحقق بمعرفة الله وأن ما قضاه الله فلا مرد له ألبتة: أمن من فوت نصيبه الذي قسمه الله له وأمن أيضًا من نقصان ما كتبه الله له وسطره في الكتاب المسطور فيظفر بروح الرضى أي براحته ولذته نعيمه لأن صاحب الرضى في راحة ولذة وسرور كما جاء عن عبد الله بن مسعود ﵁ قال: «الرضا أن لا ترضي الناس بسخط الله، ولا تحمد أحدًا على رزق الله، ولا تَلُم أحدًا على ما لم يؤتك الله، فإن الرزق لا يسوقه حرص حريصٍ، ولا يرده كراهية كارهٍ، والله بقسطه وعلمه جعل الرَّوح والفرح في اليقين والرِّضا، وجعل الهمَّ والحزن في الشَّكِّ والسَّخط» (١).
فإن لم يقدر العبد على روح الرضى ظفر بعين اليقين وهو قوة الإيمان ومباشرته للقلب بحيث لا يبقى بينه وبين العيان إلا كشف الحجاب المانع من مكافحة البصر فإن لم يحصل له هذا المقام حصل على لطف الصبر وما فيه من حسن العاقبة كما في الأثر المعروف: استطعت أن تعمل لله بالرضى مع اليقين فافعل فإن لم تستطع فإن في الصبر ما تكره النفس خيرًا كثيرًا.
الدرجة الثالثة: معاينة أزلية الحق ليتخلص من محن القصود وتكاليف الحمايات والتعريج على مدارج الوسائل قوله: معاينة أزلية الحق أي متى شهد
_________
(١) شعب الإيمان، أحمد بن الحسين بن علي أبو بكر البيهقي ١/ ٣٨٤.
1 / 14
قلبه تفرد الرب ﷾ بالأزلية غاب بها عن الطلب لتيقنه فراغ الرب تعالى من المقادير وسبق الأزل وثبوت حكمها هناك فيتخلص من المحن التي تعرض له دون القصود ويتخلص أيضًا من تعريجه والتفاته وحبس مطيته على طرق الأسباب التي يتوسل بها إلى المطالب، وهذا ليس على إطلاقه فإن مدارج الوسائل قسمان: وسائل موصلة إلى عين الرضى فالتعريج على مدارجها معرفة وعملًا وحالًا وإيثارًا هو محض العبودية ولكن لا يجعل تعريجه كله على مدارجها بحيث ينسى بها الغاية التي هي وسائل إليها، وأما تخلصه من تكاليف الحمايات فهو تخلصه من طلب ما حماه الله تعالى عنه قدرًا فلا يتكلف طلبه وقد حمي عنه ووجه آخر: وهو أن يتخلص بمشاهدة سبق الأزلية من تكاليف احترازاته وشدة احتمائه من المكاره لعلمه بسبق الأزل بما كتب له منها فلا فائدة في تكلف الاحتماء نعم يحتمي مما نهى عنه وما لا ينفعه في طريقه ولا يعينه على الوصول» (١).والثقة بالله تعالى لها صور متعددة في حياة المسلم يمكن من خلالها تحقيق هذه الثقة، ومن أبرز نماذج ذلك:
_________
(١) مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية، تحقيق: محمد حامد الفقي ٢/ ١٤٥.
1 / 15
المبحث الأول
ثقة المسلم بالله تعالى في استجابة الدعاء
من صور الثقة بالله تعالى: الثقة به في استجابة الدعاء، وقد دلت نصوص الكتاب السنة على أهمية الدعاء وضرورة أن يثق المسلم في ربه في استجابة الدعاء، وجاء في الكتاب والسنة نماذج متعددة لثقة الأنبياء في ربهم عندما دعوه سبحانه، وكيف استجاب لهم.
١ - أهمية الدعاء وثقة المسلم في استجابة الله له:
للدعاء أهمية كبيرة في حياة المسلم قال الله تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ (١).
قال الطبري ﵀: «يعني تعالى ذكره: بذلك وإذا سألك يا محمد عبادي عني: أين أنا؟ فإني قريبٌ منهم أسمع دعاءهم، وأجيب دعوة الداعي منهم» (٢). وقال الشيخ السعدي ﵀: «هذا جواب سؤال، سأل النبي ﷺ بعض أصحابه فقالوا: يا رسول الله، أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فنزل: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾ لأنه تعالى، الرقيب الشهيد، المطلع على السر وأخفى، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فهو قريب أيضًا من داعيه، بالإجابة، ولهذا قال: ﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ والدعاء نوعان: دعاء عبادة، ودعاء مسألة. والقرب نوعان: قرب بعلمه من كل خلقه، وقرب من عابديه وداعيه بالإجابة والمعونة والتوفيق.
_________
(١) سورة البقرة، الآية: ١٨٦.
(٢) جامع البيان في تأويل القرآن، محمد بن جرير الطبير، تحقيق: أحمد محمد شاكر ٣/ ٤٨٠، ط/ ١، مؤسسة الرسالة، بيروت: ١٤٢٠ هـ - ٢٠٠٠ م.
1 / 17
فمن دعا ربه بقلب حاضر، ودعاء مشروع، ولم يمنع مانع من إجابة الدعاء، كأكل الحرام ونحوه، فإن الله قد وعده بالإجابة، وخصوصًا إذا أتى بأسباب إجابة الدعاء، وهي الاستجابة لله تعالى بالانقياد لأوامره ونواهيه القولية والفعلية، والإيمان به، الموجب للاستجابة، فلهذا قال: ﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ أي: يحصل لهم الرشد الذي هو الهداية للإيمان والأعمال الصالحة، ويزول عنهم الغني المنافي للإيمان والأعمال الصالحة. ولأن الإيمان بالله والاستجابة لأمره، سبب لحصول العلم» (١).
وقال القرطبي ﵀: «قوله تعالى: "وإذا سألك" المعنى وإذا سألوك عن المعبود فأخبرهم أنه قريب يثيب على الطاعة ويجيب الداعي، ويعلم ما يفعله العبد من صوم وصلاة وغير ذلك. وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: قالت اليهود كيف يسمع ربنا دعاءنا، وأنت تزعم أن بيننا وبين السماء خمسمائة عام، وغلظ كل سماء مثل ذلك؟ فنزلت هذه الآية. وقال الحسن: سببها أن قومًا قالوا للنبي ﷺ: أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فنزلت. قوله تعالى: ﴿فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾ أي بالإجابة. وقيل بالعلم. وقيل: قريب من أوليائي بالإفضال والإنعام. قوله تعالى: ﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ أي أقبل عبادة من عبدني، فالدعاء بمعنى العبادة، والإجابة بمعنى القبول» (٢).
وقال الله تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ (٣).
_________
(١) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي، تحقيق: د. عبد الرحمن بن معللا اللويحق ص ٨٧.
(٢) الجامع لأحكام القرآن، أبو عبد الله محمد بن أحمد القرطبي، تحقيق: أحمد البردوني، وإبراهيم أطفيش ٢/ ٣٠٨، ط/ دار الكتب المصرية، القاهرة: ١٣٨٤ هـ - ١٩٦٤ م.
(٣) سورة غافر، الآية: ٦٠.
1 / 18
لقد أخبر الله أنه إن دعاه العبد وعبده بحق، استجاب له، فإن الدعاء في نفسه عبادة، والدعاء: هو السؤال بجلب النفع ودفع الضر. ودعاء غير الله لا يفيد شيئًا، فإن القادر على إجابة الدعاء هو الله، والله سبحانه هو الذي أمر عباده بدعائه، ووعدهم بالإجابة، ووعده الحق. وإن الذين يتكبرون ويتعظمون عن دعاء الله وعبادته وحده، سيدخلون جهنم صاغرين أذلاء.
ولقد اشتملت الآية على أمر العبادة بالدعاء والتكفل لهم بالإجابة فضلًا من الله وكرمًا، وهذا وعد، كذلك اشتملت أيضًا على وعيد شديد لمن استكبر عن دعاء الله، فالله هو الكريم الذي يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، ويغضب على من لم يطلب من فضله العظيم وملكه الواسع ما يحتاج إليه من أمور الدنيا والآخرة.
قال ابن كثير ﵀: «هذا من فضله، ﵎، وكرمه أنه ندب عباده إلى دعائه، وتكفل لهم بالإجابة، كما كان سفيان الثوري يقول يا من أحب عباده إليه من سأله فأكثر سؤاله، ويا من أبغض عباده إليه من لم يسأله، وليس كذلك غيرك يا رب» (١).
وللدعاء أدب لا بد أن يراعى. إنه إخلاص القلب لله. والثقة بالاستجابة مع عدم اقتراح صورة معينة لها، أو تخصيص وقت أو ظرف فهذا الاقتراح ليس من أدب السؤال. والاعتقاد بأن التوجه للدعاء توفيق من الله، والاستجابة فضل آخر.
فأما الذين يستكبرون عن التوجه لله فجزاؤهم الحق أن يوجهوا أذلاء صاغرين لجهنم! وهذه نهاية الكبر الذي تنتفخ به قلوب وصدور في هذه الأرض الصغيرة، وفي هذه الحياة الرخيصة، وتنسى ضخامة خلق الله. فضلًا على نسيانها عظمة الله. ونسيانها للآخرة بعد النفخة والاستكبار.
_________
(١) تفسير القرآن العظيم، إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي، تحقيق: سامي بن محمد سلامة ٧/ ١٥٣، ط/ ٢، دار طيبة للنشر والتوزيع، الرياض: ١٤٢٠ هـ - ١٩٩٩ م.
1 / 19
وفي فضل توجه المسلم بالدعاء لله جاء عن النعمان بن بشير ﵁ عن النبي ﷺ قال: «الدعاء هو العبادة»، وقرأ: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ (١). (٢)
وعن أبي هريرة ﵁ عن النبي ﷺ قال: «ليس شيء أكرم على الله تعالى من الدعاء» (٣).
وعن أبي هريرة ﵁ قال: رسول الله ﷺ قال: «من لم يسأل الله يغضب عليه» (٤).
والواجب على المسلم أن يدعو الله تعالى وهو واثق في الله في استجابة دعائه؛ فيسأل الله تعالى بعزم ورغبة وحضور قلب ورجاء.
قال تعالى ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾ (٥).
وعن أبي هريرة ﵁ عن النبي ﷺ قال: «لا يقولن أحدكم اللهم اغفر لي وارحمني إن شئت ارزقني إن شئت وليعزم مسألته إنه يفعل ما يشاء لا مكره له» (٦).
_________
(١) سورة غافر، الآية: ٦٠.
(٢) أخرجه أبو داود، كتاب: الوتر، باب: الدعاء، رقم ١٤٧٩، وقال الألباني: حديث صحيح، انظر: صحيح سنن أبي داود، الألباني ص ٢٢٩ رقم ١٤٧٩.
(٣) أخرجه الترمذي، كتاب: التفسير، باب: سورة بني إسرائيل، رقم ٣٣٧٠، وقال الألباني: حديث حسن، انظر: صحيح سنن الترمذي، الألباني ص ٧٦٥ رقم ٣٣٧٠.
(٤) أخرجه الترمذي، كتاب: الدعوات، باب: منه، رقم ٣٣٧٣، وقال الألباني: حديث حسن، انظر: صحيح سنن الترمذي، الألباني ص ٧٦٥ - ٧٦٦، رقم ٣٣٧٣.
(٥) سورة الأنبياء، الآية: ٩٠.
(٦) أخرجه البخاري، كتاب: التوحيد، باب: في المشيئة والإرادة ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ الإنسان ٣٠، رقم ٧٠٢٩.
1 / 20
قال ابن حجر ﵀: «قوله فليعزم المسألة في رواية أحمد عن إسماعيل المذكور الدعاء ومعنى الأمر بالعزم الجد فيه وأن يجزم بوقوع مطلوبة، ولا يعلق ذلك بمشيئة الله تعالى وإن كان مأمورًا في جميع ما يريد فعله أن يعلقه بمشيئة الله تعالى، وقيل معنى العزم أن يحسن الظن بالله في الإجابة قوله ولا يقولن اللهم إن شئت فأعطني، ومن رواية العلاء ليعزم وليعظم الرغبة ومعنى قوله ليعظم الرغبة أي يبالغ في ذلك بتكرار الدعاء والإلحاح فيه ويحتمل أن يراد به الأمر بطلب الشيء العظيم الكثير، والمراد أن الذي يحتاج إلى التعليق بالمشيئة ما إذا كان المطلوب منه يتأتى إكراهه على الشيء فيخفف الأمر عليه ويعلم بأنه لا يطلب منه ذلك الشيء إلا برضاه، وأما الله سبحانه فهو منزه عن ذلك فليس للتعليق فائدة.
وقيل: المعنى أن فيه صورة الاستغناء عن المطلوب والمطلوب منه والأول أولى قال ابن عبد البر ﵀ لا يجوز لأحد أن يقول اللهم أعطني إن شئت وغير ذلك من أمور الدين والدنيا لأنه كلام مستحيل لا وجه له لأنه يفعل إلا ما شاءه وظاهره أنه حمل النهي على التحريم وهو الظاهر.
وقال ابن بطال ﵀ في الحديث أنه ينبغي للداعي أن يجتهد في الدعاء ويكون على رجاء الإجابة، ولا يقنط من الرحمة فإنه يدعو كريمًا.
وقد قال ابن عيينة ﵀ لا يمنعن أحدًا الدعاء ما يعلم في نفسه يعني من التقصير فإن الله قد أجاب دعاء شر خلقه وهو إبليس حين قال رب انظرني إلى يوم يبعثون وقال الداودي معنى قوله ليعزم المسألة أن يجتهد ويلح ولا يقل إن شئت كالمستثنى ولكن دعاء البائس الفقر قلت وكأنه أشار بقوله كالمستثنى إلى أنه إذا قالها على سبيل التبرك لا يكره وهو جيد» (١).
وعن أبي هريرة ﵁، عن رسول الله ﷺ: «أنه ذكر رجلًا من بني
_________
(١) فتح الباري شرح صحيح البخاري، أحمد بن علي بن حجر أبو الفضل العسقلاني ١١/ ١٤٠، ط/ ١، دار المعرفة، بيروت: ١٣٧٩ هـ.
1 / 21
إسرائيل سأل بعضهم بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار فقال ائتني بالشهداء أشهدهم فقال كفى بالله شهيدًا قال فأئتني بالكفيل قال كفى بالله كفيلًا قال صدقت فدفعها إليه إلى أجل مسمى فخرج في البحر فقضى حاجته ثم التمس مركبًا يركبها يقدم عليه للأجل الذي أجله فلم يجد مركبًا فأخذ خشبة فنقرها فأدخل فيها ألف دينار وصحيفة منه إلى صاحبه ثم زجج موضعها ثم أتى بها إلى البحر فقال اللهم إنك تعلم أني كنت تسلفت فلانًا ألف دينا فسألني كفيلًا فقلت كفى بالله كفيلًا فرضي بك وسألني شهيدًا فقلت كفى بالله شهيدًا فرضي بك وأني جهدت أن أجد مركبًا أبعث إليه الذي له فلم أقدر وإني أستودعكها فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه ثم انصرف وهو في ذلك يلتمس مركبًا يخرج إلى بلده فخرج الرجل الذي أسلفه ينظر لعل مركبًا قد جاء بماله فإذا بالخشبة التي فيها المال فأخذها لأهله حطبا فلما نشرها وجد المال والصحيفة ثم قدم الذي كان أسلفه فأتى بالألف دينار فقال والله ما زلت جاهدًا في طلب مركب لآتيك بمالك فما وحدت مركبًا قبل الذي أتيت فيه قال هل كنت بعثت إلي بشيء؟ قال أخبرك أني لم أجد مركبًا قبل الذي جئت فيه قال فإن الله قد أدى عنك الذي بعثت في الخشبة فانصرف بالألف دينار راشدًا» (١).
قال بدر الدين العيني ﵀: «وفيه أن من توكل على الله فإنه ينصره فالذي نقر الخشبة وتوكل حفظ الله تعالى ماله والذي أسلفه وقنع بالله كفيلًا أوصل الله تعالى ماله إليه وفيه جواز ركوب البحر بأموال الناس والتجارة وفيه أن الله تعالى متكفل بعون من أراد أداء الأمانة وأن الله يجازي أهل الإرفاق بالمال بحفظه عليهم مع أجر الآخرة كما حفظه على المسلف» (٢).
_________
(١) أخرجه البخاري، كتاب: الكفالة، باب: الكفالة في القرض والديون بالأبدان وغيرها، رقم ٢١٦٩.
(٢) عمدة القاري شرح صحيح البخاري، بدر الدين العيني الحنفي ١٤/ ١١٨، ط/ ٢، المكتبة الأزهرية للتراث، القاهرة: ١٩٨٤ م.
1 / 22
إن ثقة المسلم في ربه تجعله يدعوه سبحانه بكل ما يريد، ولا يستعظم على الله شيء «ومن آداب الدعاء أن يسأل الله تعالى حاجاته كلها فلا يمنعه من الدعاء استعظام المطلوب ولا احتقاره» (١).
فعن أبي هريرة ﵁ عن النبي ﷺ قال: «من آمن بالله ورسوله وأقام الصَّلاة وصام رمضان كان حقًّا على الله أن يدخله الجنَّة هاجر في سبيل الله، أو جلس في أرضه التي وُلد فيها قالوا: يا رسول الله أفلا ننبِّئ النَّاس بذلك قال إنَّ في الجنَّة مئة درجةٍ أعدَّها الله للمجاهدين في سبيله كلُّ درجتين ما بينهما كما بين السَّماء والأرض فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس، فإنَّه أوسط الجنَّة وأعلى الجنَّة وفوقه عرش الرَّحمن ومنه تفجَّر أنهار الجنَّة» (٢).
ومن الثقة في الله في استجابة الدعاء أن يجعل المسلم دعاءه كله لله واستعانته بالله وسؤاله لله فعن عبد الله ابن عباس ﵁ قال كنت خلف رسول الله ﷺ يومًا فقال: «يا غلام، إني أعلِّمك كلمات: احفظ الله يحفظْك، احفظ الله تجدْه تجاهك، إذا سألتَ فاسأل الله، وإذا استعنتَ فاستعن بالله، واعلم أن الأمَّة لو اجتمعتْ على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام وجفَّت الصحف» (٣).
_________
(١) سلاح المؤمن في الدعاء والذكر، محمد بن محمد بن علي بن همام بن داود، تحقيق: محيي الدين ديب مستو ص ١٥٣، ط/ دار ابن كثير، دمشق: ١٤١٤ هـ ١٩٩٣ م.
(٢) أخرجه البخاري، كتاب: الجهاد والسير، باب: درجات المجاهدين في سبيل الله، رقم ٢٧٩٠.
(٣) أخرجه الترمذي، كتاب: صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله ﷺ، باب: منه، رقم ٢٥١٦، وقال الألباني: حديث صحيح انظر: صحيح سنن الترمذي، الألباني ص ٥٦٦ - ٥٦٧، رقم ٢٥١٦.
1 / 23
قال ابن رجب ﵀: «هذا منزع من قوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ (١). فإن السؤال هو دعاؤه والرغبة إليه، والدعاء هو العبادة.
واعلم أن سؤال الله ﷿ دون خلقه هو المتعين، لأن السؤال فيه إظهار الذل من السائل والمسكنة والحاجة والافتقار، وفيه الاعتراف بقدرة المسؤول على رفع هذا الضر ونيل المطلوب، وجلب المنافع ودرء المضار، ولا يصلح الذل والافتقار إلا لله وحده لأنه حقيقة العبادة» (٢).
ومن الثقة في الله في استجابة الدعاء أن يحرص المسلم على الصبر وعدم الاستعجال، فعن أبي هريرة ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: «يستجاب لأحدكم ما لم يجعل، يقول: دعوت فلم يستجب لي» (٣).
قال ابن حجر ﵀: «وفي هذا الحديث أدب من آداب الدعاء، وهو أن يلازم الطلب، ولا ييأس من الإجابة؛ لما في ذلك من الانقياد والاستسلام وإظهار الافتقار» (٤).
وعن أبي هريرة ﵁ أنه ﷺ قال: «لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، ما لم يستعجل». قيل: يا رسول الله، ما الاستعجال؟ قال: «يقول: قد دعوت، وقد دعوت، فلم أر يستجيب لي، فيستحسر عند ذلك، ويدع الدعاء» (٥).
قال ابن بطال ﵀: «قال بعض العلماء: قوله: «ما لم يعجل» يعني يسأم الدعاء ويتركه فيكون كالمان بدعائه، وأنه قد أتى من الدعاء ما كان
_________
(١) سورة الفاتحة، الآية: ٥.
(٢) جامع العلوم والحكم، أبو الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي ص ١٨٠، ١٨١، ط/ ١، دار المعرفة، بيروت: ١٤٠٨ هـ.
(٣) أخرجه البخاري، كتاب: الدعوات، باب: يستجاب للعبد ما لم يعجل، رقم ٦٣٤٠، وأخرج
(٤) فتح الباري بسرح صحيح البخاري، أحمد بن حجر العسقلاني ١١/ ١٤١.
(٥) أخرجه مسلم، كتاب: الذكر والدعاء، باب: بيان أنه يستجاب للداعي ما لم يعجل فيقول دعوت فلم يستجب لي، رقم ٢٧٣٥.
1 / 24