بسم الله الرحمن الرحيم
رب يسر وأعن يا كريم
حدثنا أبو محمد عبد الملك بن هشام عن أسد بن موسى عن أبي إدريس ابن سنان عن جده لأمه وهب بن منبه إنه قال: قرأت ثلاثة وتسعين كتابًا مما أنزل الله على الأنبياء فوجدت فيها أن الكتب التي أنزل الله على جميع النبيين مائة كتاب وثلاثة وستون كتابًا أتزل صحيفتين على آدم بكتابين صحيفة في الجنة وصحيفة على جبل لبنان وعلى شيت بن آدم خمسين صحيفة وعلى اخنوح وهو إدريس ثلاثين صحيفة وعلى نوح صحيفتين صحيفة قبل الطوفان وأخرى بعد الطوفان وعلى هود أربعًا وعلى صالح صحيفتين وعلى إبراهيم عشرين صحيفة وعلى موسى خمسين صحيفة وهي الألواح قال الله ﴿إنَّ هِذا لفي الصُّحُفِ الأولى صُحُفِ إبراهيم وَموسَى﴾ وعلى داود الزبور وعلى عيسى الإنجيل وعلى محمد الفرقان صلى عليه وآله وسلم وعلى
1 / 9
جميع النبيين.
قال وهب بن منبه: وأنزل الله على عيسى بدأ الخلق حين أنشأه وابتدأ ابتدعه فقصه الله على نبيه موسى صلى الله عليه من يوم ابتدأه حتى أنزل عليه التوراة.
قال وهب: أن الله لما خلق الماء على الهواء وخلق الهواء على ماء. . . . . . الله بجميع ما وراء ذلك إلى الحي القيوم وكان عرشه على الماء حين لأسماء مبنية ولا أرض مدحية.
قال وهب: فاضطرب الماء وهاج فاصطفق فأزبد فصار أرضًا فخلق الله الحوت والبحر من ذلك الزبد ثم رفع الله السماء وهي دخان ﴿فقال لها وللأرض أتيا طوعًا أو كرهًا قالتا أتينا طائعين فقضاهن سبع سموات في يومين﴾ وخلق الملائكة في كل سماء أمرها أسكنهم السموات يسبحون ويهللون ويقدسون الواحد القهار وخلق الجبال في الأرض أوتادًا.
قال وهب: وخلق فلك سماء الدنيا شمسه وقمره ودراريه ونجومه وخلقه دائرًا
مستمرًا قال الله: ﴿والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم﴾ ﴿والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون﴾.
وقال وهب: وخلق الجنة وخلق فيها أجناس الملائكة يسبحون الليل
1 / 10
والنهار لا يفترون ثم خلق النار بعد الجنة بألف عام فزفت النار وتغيظت فتطاير منها الشرر فخلق الله من ذلك الشرر إبليس والجان وأسكنهم الجنة يسبحون الله تعالى كما يرون الملائكة يفعلون ويعيد الله إبليس مع الملائكة.
قال وهب: وخلق الله الأزمنة أربعة، شتاء وصيفًا وربيعًا وخريفًا.
قال وهب: فبسط الله الأرض بقدرته وأمسكها كيف شاء بحكمته وخضعت لعظمته ورفع السموات كيف شاء بحكمته وأدار الأفلاك بإتقان حكمه وحسن تدبيره فدار الفلك بهذه الأزمنة الأربعة فأول ما خلق الله من الأزمنة الشتاء باردًا طبًا وخلق الربيع حارًا رطبًا فكان متصلًا بالشتاء بالرطوبة مخالفًا له بالحرارة وخلق الله الصيف حارًا يابسًا فكان ملائمًا متصلا بالربيع بالحرارة مخالفًا له باليبوسة وخلق الخريف باردًا يابسًا فكان ملائمًا متصلًا بالصيف باليبوسة مخالفًا له بالبرد ولذلك زعمت الفلاسفة أن الله خلق الإنسان على خلق الأربعة الأزمنة على أربع طبائع كطبائع الأزمنة فأول طبائع الإنسان البلغم وهي مبنية الجسد وقوامه وأسكنه الأعضاء والمفاصل وعنصره الرأس وكان البلغم مضاهيًا للشتاء لبرده ورطوبته ثم خلق الدم حارًا رطبًا متصلًا بالبلغم ملائمًا له بالرطوبة
1 / 11
مخالفًا له بالحرارة مضاهيًا للربيع وخلقه سفاحًا مسكنه العروق والعصب وعنصره الكبد وهو جوهر الجسد وحياته ثم خلق الصفراء حارة يابسة متصلة بالدم ملائمة له بالحرارة مخالفة له باليبوسة وهي خادمة الجسد منضجة للغذاء مميزة له ومسكنها المعدة وعنصرها الكلى ثم خلق الله السوداء باردة يابسة متصلة لا صفراء ملائمة
باليبوسة مخالفة لها بالبرد مضاهية للخريف بالبرد واليبوسة وزعموا أنها الريح خاملة في الجسد عنصرها الطحال وأنها ميزان الجسد وأنها ضد الدم والصفراء ضد البلغم.
قالوا: وحقيق على التحرير العاقل أن يقابل الأزمنة بما يضادها من الأغذية فيقابل بالحار اليابس لأنه ضده ويقابل الربيع بالبارد واليابس لأنه ضده ويقابل الصيف بالبارد الرطب لأنه ضده ويقابل الخريف بالحار الرطب لأنه ضده وقالوا الآن كل طبيعة يهيج سلطانها في زمانها فيعدل الجسد والطبيعة باختلاف الأغذية ولا باقي مع الله.
قالوا: فوجدنا ذلك مبينًا عينًا موجودًا في الإنسان وذلك أن الجوع حار قاتل فإذا قوبل بالشبع مات الجوع وإن العطش حار قاتل فإذا قوبل بالري أمات ذا العطش فكان هذا دليلًا على غيره من الأدواء ودليلًا على غيره من الأدوية الدافعة الآفات تدفع الآفات المعينة.
قال وهب: وإن الله لما خلق الجنة حين شاء كيف شاء حيث شاء في سابق علمه وخلق النار وصار إبليس والجان إلى الجنة وهم لا يتناسلون
1 / 12
في الجنة وإن الجان تنافسوا في الجنة وطغى بعضهم على بعض وعصوا الله وسفك بعضهم دم بعض عج الملائكة إلى الله بالدعاء - قالوا سبحانك ربنا ما أحلمك وأكرمك يتقلب في نعمك من يكفر بك لم تعبد زيادة في ملكك ولم تعص مغالبة في سلطانك تمهل من أساء وتصفح عمن عصى لم تخش الفوات فإليك المصير وأنت على كل شيء قدير لا يفوتك هارب ولا ينجو منك هارب لم ينقص ملكك من عصاك ولا زاده من أطاعك أنت قبل كل شيء وأنت بعد كل شيء لم يؤدك حفظ ما خلقت فأنت بكل شيء عليم.
قال ابن منبه: فغضب الله على الجان فأوحى الله إلى جبريل أن أخرج الجان من
جواري وطهر منهم جنتي فأخرجهم جبريل من الجنة إلى أرضنا هذه فأسكنهم جزائر البحار وقفار الأرض وبقي إبليس مع الملائكة يعبد الله ثم خلق الله آدم ﵇ لما شاء كيف شاء حين شاء في سابق علمه المكنون وحكمه النافذ من أديم الأرض من سهلها وجبلها وأبيضها وأسودها وأحمرها فجمع الطين فصار صلصالًا حمأ مسنونًا فصور آدم من تلك الطينة.
قال وهب: فلذلك وجد في بني آدم اختلاف الصور للسهل والجبل واختلاف الألوان لاختلاف ألوانهم فرفع جبريل آدم إلى الجنة فلما رأته الملائكة قالوا ربنا ما هذا قال الله تعالى ﴿إني جاعل في الأرض خليفة قالوا ربنا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك﴾ وأنت أعلم ربنا ﴿قال إني أعلم ما لا تعلمون﴾ وطاف إبليس بآدم فغمه ما رأى من جماله وحسن خلقه حسدًا ثم جسه بيده فدوى آدم فقال خلق مجوفًا
1 / 13
أصبت والله فيه حاجتي ونفخ الله ﵎ الروح في آدم صلى الله عليه وعلى محمد وسلم فجال الروح في رأسه فأبصر فرأى جبريل فقال له جبريل ﵇: يا آدم وكان قد خلق الله تعالى آدم ملهمًا ثم انتشر الروح في جسم آدم فشق جوفه إلى حقويه فاستوى جالسًا فلذلك أنزل الله ﴿وخلِق الإنسان عجولا﴾ لأنه جلس قبل أن يصل الروح إلى ساقيه وفخذيه وقدميه.
قال وهب: فقال جبريل يا آدم إن الله لم يخلق بشرًا قبلك أنت أبو البشر فاشكر الله تعالى فرفع آدم بصره إلى العرش فلم يحجب عنه العرش فرأى في ساق العرش مكتوبًا بالنور (لا إله إلا الله محمد رسول الله) وكان ملهمًا للقراء فقال يا جبريل ألم تقل إني أبو البشر وهذا محمد مكتوب في ساق العرش فقال له جبريل صدقت يا آدم صدقتك هذا محمد حبيب الله أكرم البشر على الله خاتم الأنبياء من ولدك وبه تكنى يا أبا محمد له غدًا المقام المحمود وله الشفاعة واللواء والحوض
والكوثر.
قال وهب: وإن الله تعالى خلق حواء من ضلع آدم اليسرى.
قال وهب: فقال بعض أهل العلم إن الله خلق حواء من الأرض كما قال ﴿منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى﴾ قال: أولئك الأولون قال الله: ﴿هو الذي خلقكم من نفس واحدة، وخلق منها زوجها﴾، فعطف على النفس لا على للأرض لأنه لم يسبق ها هنا الأرض قصة.
1 / 14
قال وهب: خلق حواء بيضاء نقية صافية البياض ناصعة كحلاء سوداء الأشعار وبه سميت حواء فأسكنها الله الجنة فعلم الله آدم اسم كل شيء في الجنة بكل لسان نطقت به ذريته بعده ثم قال تعالى للملائكة ﴿أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين﴾ في قولكم، ﴿أتجعل فيها من يفسد فيها﴾، ﴿قالوا: سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم﴾، ﴿قال: يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال: ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض واعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون﴾، وأمر الله تعالى الملائكة وإبليس بالسجود لآدم ﴿فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين﴾ وعتا أن يسجد لآدم وقال ﴿أتأمرني أن أسجد لمن أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين﴾ فغضب الله عليه وقال له ﴿اخرج منها فإنك رجيم وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون﴾ قال الله له ﴿إنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم﴾ قال وهب: ولم يعطه الله سؤاله ولكن أخر، لما سبق في علمه إنه يكون محنة وابتلاء لآدم وبنيه.
قال وهب: ولم يعط الله تعالى إبليس الحياة إلى يوم القيمة ولكن إلى يوم الوقت المعلوم، وهو نذر قبلته الملائكة قال الله تعالى ﴿يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون﴾ وقال قوم إنه باق إلى موت الخلق كلهم فيموت.
قال وهب: وإن الله أنزل صحيفة على آدم قال ﴿يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة
وكلا منها رغدًا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة﴾ ونهاه عن فتنة إبليس ألا يفتنه ويطغيه وإن إبليس أظهر لآدم عبادة الله رياء ثم طرقه ووسوس إليه وقال له: يا آدم أنا أحبك وأنا لك ناصح إن الله لم ينزل عليك النهاية عن هذه الشجرة إلا أن لا تكون أنت وزوجك ملكين فتكونا من الخالدين في الجنة واقسم بالله إني لكما ناصح، قالت له حواء: يا آدم هل يحلف خلق الله وهو كاذب لا يكون ذلك. فذكر آدم النهاية فأبى وإن إبليس
1 / 15
راعى أحوال آدم فلم يجده يغفل إلا عند إفاقته من نومه فلما أفاق آدم من نومه أتاه إبليس فقال له كل من هذه الشجرة يذهب عنك ما تجد من كسل ووسن وهو رأس النهي، فمد يده فأكل وأكلت حواء لما رأته أكل ثم ذكر النهاية آدم فرمى بما في يده وتفل بما في فمه وفعلت ذلك حواء وزجر آدم إبليس عن نفسه فقال له إبليس: إني برئ منك يا آدم عصيت الله، قال آدم: رب إني نسيت واستفزني عدوي عند ساعة نومي وذلك قول الله ﴿فنسي ولم نجد له عزمًا﴾ أي لم يعزل على مضغ ما في فمه ولا حبس ما في يده.
قال: ثم تطايرت عنهما حلل الجنة فعلم إنه عاص ﴿فلما بدت لهما سوآتهما طفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة﴾.
قال وهب بن منبه: ولما أراد الله خروج آدم من الجنة للذي سبق في علمه قال: يا آدم اخرج أنت وزوجك من جواري.
قال وهب: قال بعض أهل العلم أن إبليس ركب الحية وكانت ذات قوائم أربع حين أتى آدم ليأكل من الشجرة، قال لهم الله اخرجوا من الجنة اهبطوا إلى الأرض بعضكم لبعض عدو قال وسلبت الحية قوائمها وأخذ جبريل يجتاحه فرماه بجبل جي بخراسان.
وزعم بعض أهل العلم إنه يخرج منه الدجال في آخر الزمان فنزل آدم على جبل لبنان وقال قوم على الجودي ونزلت حواء على جبل الطور وإن آدم لما غوى
وأمره الله بالخروج من الجنة أخذ جوهرة من الجنة يمسح دموعه بتلك الجوهرة
1 / 16
حتى اسودت من دموع الخطيئة وتاب الله على آدم قال الله ﴿ثم اجتباه ربه فتاب عله وهدى﴾ ثم أنزل الله عليه صحيفة نزل بها جبريل كتاب من عند الله أمره أن يسير إلى البلد الحرام ويبني البيت العتيق وكيف يكون نكاح ولده وولد ولده بما يصلحهم من معاشهم وهو قول الله تعالى ﴿اهبطا منها جميعًا بعضكم لبعض عدو فأما يأتيكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا﴾.
قال وهب: وإن آدم قال يا حبيبي يا جبريل لا أعرف البلد الحرام فأوحى الله إلى جبريل اني دليل الأدلاء دله على البلد الحرام فسار جبريل بآدم حتى أوقفه على الحرم وعلى المسجد واراه مبتدأ البيت وإن حواء وجدت رائحة الجنة من قبل المسجد الحرام عن آدم فتوجهت قبل آدم فلما رأى آدم شخصها من بعيد سعى إليها فالتقيا بعرفات فتعارفا فمن ثم سميت عرفات ثم بنى آدم البيت وتعينه حواء حتى رفع الحطيم فأمره جبريل أن يجعل فيه الجوهرة التي خرج بها من الجنة ففعل وقال هذا منسك لك ولودك من بعدك فلما تم بناء البيت أمره جبريل بقطع خشبة من المسجع بين الطائف ومكة وقال بعض الناس بل من المسجد الحرام فقطع خشبه فرفع سمك البيت وأمره بالحج إليه والصلاة وأعلمه إنه قبله له ولبنيه فأول أثر على وجه الأرض مكة وقال الله تعالى ﴿إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركًا﴾.
1 / 17
قال وهب: وأول ما تكاثف من الأرض وانعقد وصار أرض البيت حين كانت الأرض زبدًا ثم تكاثف المسجد الحرام حولها ثم دحى الله الأرض تحتها قال الله تعالى ﴿ولتنذر أم القرى ومن حولها﴾ مكة أم الدنيا وما فيها من أثر.
قال الذي ألف هذا الكتاب: أن أمة محمد ﵌ اختلفت في
الجنة التي اهبط منها آدم ﵇ فقالت فلاقة أن الجنة التي خرج منها آدم هي جنة من جنات الدنيا وليست جنة الخلد التي وعد الله المتقين وكذلك النار التي أوعد الكافرين ولم يخلقا وإنما يخلقان غدًا يوم الفصل واحتجوا في ذلك وقالوا أقاويل فكان ما احتجوا به أن قالوا قال تعالى ﴿كل شيء هالك إلا وجهه﴾ فإن كانتا خلقتا فهما يهلكان بهلاك الدنيا وما فيها وقالوا قوله إلا وجهه ما أراد إلا هو كما تتقول هذا وجه الأمر وهذا وجه الحق أرادوا بوجه هنا هو الأمر وأما الأمر فما له وجه ولا قفا وهذا هو الحق وكذلك قوله لا وجهه إلا هو.
ومما احتجوا به أيضًا أن قالوا إنما سميت الدنيا لأنها دنت بجميع ما فيها من خلق الله من كل شيء مخلوق وسميت الآخرة آخرة لأنها تأخرت بعد الدنيا بجميع ما فيها فهذه الدنيا بما فيها وتلك أخرى بما فيها وليس في
1 / 18
الآخرة إلا داران جنة ونار فإن كانتا خلقتنا فقد خلقت الآخرة في الدنيا فحينئذ يكونان دنيا جميعهما وانتفت الآخرة وذلك غي جائز ويكونان جميعًا آخرة ولا دنيا وقد بينها الله في كتابه فقال في الآخرة تلك الدار الآخرة وقال في الدنيا ﴿وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور﴾ فدار الآخرة عند الله ممدوحة غير غرور وهذه غرور فهذا من الله ﵎ البيان.
ومن حجتهم أن قالوا: إن الجنة دار الخلد لا يخرج منها من قد دخلها وهذه قد خرج منها آدم وحواء وإبليس والجان فهذا دليل على أنها ليست جنة الخلد.
ومن حجتهم أن قالوا: إن جنة الخلد ليست دار تكليف وإنما هي دار جزاء لعمل الدنيا وليس يكلف فيها أحد وقد كلف فيها آدم وحواء ألا يأكلا من الشجرة وكلف إبليس والملائكة السجود لآدم فهذه عبادة تعبدهم الله بها.
ومما احتجوا به أن قالوا إن الجنة التي وعد المتقون فيها فاكهة لا مقطوعة ولا ممنوعة وقد منع آدم وحواء في هذه الأكل من الشجرة وقالوا إن احتج من ناظرنا
أن الله قال ﴿اسكن أنت وزوجك الجنة﴾ إنما هي جنة الخلد سماها الجنة فقال الله ﴿ودخل جنته وهو ظالم لنفسه﴾ فهذا يلزم أن تكون جنة الخلد لأنه سماها جنة.
وقد احتج أيضًا من زعم أن الجنة مخلوقة والنار مخلوقة فقالوا: قال
1 / 19
الله ﴿جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين﴾ وأخبر أنها أعدت ولم يقل تعد لأن قوله أعدت فعل ماض وتعد فعل مستقبل وقال ﴿اتقوا النار التي أعدت للكافرين﴾ وقد أبان الله الماضي من المستقبل قال ﴿فأتى الله بنيانهم من القواعد﴾ ماض وقال ﴿يوم يأتيهم الله في ظلل من الغمام﴾ مستقبل والماضي كثير شاهده في القرآن.
ومما احتجوا أن قالوا: قال الله ﴿ادخلوا آل فرعون أشد العذاب، النار يعرضون عليها غدوًا وعشيا﴾.
ومما احتجوا أن قالوا: قال الله تعالى في حبيب النجار الشهيد ﴿قيل ادخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين﴾ فأراد قومه الذين خلف في دار الدنيا يعلمون كرامة الله له.
ومما احتجوا به أن قالوا: قال الله ﴿ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون﴾.
لا خوف ولا حزن على الذين لم يلحقوا بهم من إخوانهم المؤمنين الذين في دار الدنيا قالوا: والآثار عن النبي ﵌ كثيرة غير أنا اكتفينا بالقرآن وجعلنا القرآن الناطق المحكم.
وقالوا بالقياس السوء فقد حمل القياس الفاسد على القرآن الناطق والآثار الصادقة فحملوا القياس السوء وادعوا به علم الغيوب ويعلمون من علم الله ما لا يعلمونه وقد قال الله تعالى ﴿ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات
1 / 20
بل أحياء ولكن لا تشعرون﴾ فقال الله لا تشعرون وقالوا بل نشعر نحن ردًا على الله وقد نهاهم فقال
ولا تقولوا فقال ولا هم أموات وقد احتجوا به أن قالوا قد حملوا رأيهم بالقياس على الخصوص فجعلوه عمومًا في قوله ﴿كل شيء هالك إلا وجهه﴾ وقد أجمعنا نحن وإياهم على أن أعمال العباد أشياء وإن الله عدل لا يجوز أن يعذبهم على غير شيء وقال ﴿ووجدوا ما عملوا حاضرًا ولا يظلم ربك أحدًا﴾ فهل تفنى أعمال العباد والكتب التي كتبتها الحفظة الكرام الكاتبين والله يقول ﴿اقرأ كتابك﴾ فإن هلكت الأعمال والكتب فما يقرئون غدًا وما يجزون - وأعظم غيهم أنهم يقولون أن أسماء الله وصفاته أشياء وهي غيره فهل تفنى أسماؤه وصفاته فأرادوا أن يدركوا علم الغيب بالقياس وقال الله ﴿ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السموات والأرض﴾ وقال آخرون احتج هؤلاء ونحن نرد علم هذا إلى الله وقال الله ﴿وما أمروا إلا ليعبدوا إلهًا واحدًا، وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيامة﴾ فلم نؤمر إلا بهذا ونرد علمه إلى الله تعالى غير أنا نعلم أن الله جنة ونارًا يثيب بهذه المتقين ويعذب بهذه الكافرين وهو العالم إن كان خلقهما الآن أو يخلقهما غدًا فقد صدقنا بما قال والكلام غي هذا كثير غير أنا اختصرنا تأليف هذا الكتاب عن السلف الصالح.
قال أبو محمد عن أنس عن أبي إدريس عن وهب قال: حبلت حواء وآدم بمكة يبتني فولدت شيئًا وعناقًا في كل بطن غلامًا وجارية وكانت حواء
1 / 21
تحمل في كل عام فتلد في كل بطن غلامًا وجارية فنزل جبريل على آدم فأمره أن يزوج الغلام من البطن الأول الجارية من البطن الآخر ويزوج أيضًا الغلام من البطن الأخير الجارية من البطن الأول ثم أمر الله تعالى آدم بالسير إلى البلد المقدس فأراه جبريل كيف يبني بيت المقدس فبنى بيت المقدس ونسك فيه وقبلته منه المسجد الحرام ويحج إليه وقت الحج ويحج معه ولده فكان آدم وولده يبنون البيت ويقربون القربان في جبل الطور فمن قبل سعيه نزلت النار من السماء على
قربانه فأكلته فمن أكل قربانه علم إنه قبل سعيه ومن لم تأكل النار قربانه علم إنه لم يتقبل سعيه فتفكر في ذنبه وسأل آدم أن يستغفر الله له من ذنبه ثم يقرب قربانًا آخر حتى إذا أكلت النار قربانه علم أن سعيه مقبول وقد تاب الله عليه.
قال وهب: وأنه لما أتى وقت الحج نزل جبريل على آدم فقال السلام يقرئك السلام يا أبا محمد ويقول لك أنا الأول قبل كل شيء والآخر بعد كل شيء حكمت عليك بالموت وعلى زوجك وعلى ولدك إلى يوم الدين ولا يبقى معي لا نبي مرسل ولا ملك مقرب ولا جن ولا شيطان كل يذوق الموت فأتى آدم حواء وهو باك قالت له مالك قال لها حكم ربي علي بالموت وعليك وعلى جميع الخلق من الجن والأنس والملائكة بكت حواء لفراق الدنيا قال لها آدم: الدار الآخرة خير للمتقين ثم سار آدم إلى الحج وإن هابيل وقابيل قربا قربانا تقبل من هابيل ولم يتقبل قربان قابيل: ﴿إنما يتقبل الله من المتقين
1 / 22
لئن بسطت إلي يدك لتتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين﴾.
قال وهب: قال ابن عباس كانت منافستهما على أخت قابيل على أخت قابيل التي ولدت معه في بطن وكانت جميلة فطلب هابيل أن يتزوجها وقال له قابيل أنا أتزوجها فقال له هابيل أن تحل لك قال له قابيل أقرب معك قربانا فمن أكلت النار قربانه تزوجها فقربا فأكلت النار قربان هابيل فبقى قربان قابيل فحسد هابيل عليها ونفز عليه فقتله.
قال وهب: قال بعض أهل العلم أن شيئا وهابيل وقابيل وحبيب وعبد الصمد وعبد الرحمن وصالحًا وعبد الله وعبد الجبار.
قال وهب: فلما رآه ميتًا حين قتله أقبل عليه يدعو وينادي: يا هابيل يا هابيل فلما لم يجبه أقبل عليه يقلبه ليتحرك، فلما رآه ميتًا لا يتحرك ولا يحير جوابًا ولا ينظر، ندم وأدركه الخوف وعلم إنه الموت وداخلته وحشه الموت وعلم إنه عصى
الله فطلب الحيلة له فلم يدر ما يفعل فيه وضاقت عليه الأرض فبعث الله غرابين فاقتتلا فقتل أحدهما صاحبه فلما مات بحث الغراب الحي حتى خد في الأرض أحدودًا ثم جر إليه الغراب القتيل فالقاه في الأخدود فقال: هذا غراب علم ما يعمل بأخيه فما لي لا أواري سوأة أخي هكذا فلما حفر ليواريه
1 / 23
أتت حواء لتطلبهما لما غابا عنها فوجدته قد حفر له قبرا ووجدت هابيل قتيلًا فحملته وسارت به إلى آدم وقالت: له يا آدم هذا هابيل أكلمه فلا يكلمني ولا ينظر ولا يتحرك. قال: ما باله، قال له قابيل: أنا فعلت به هذا، قال آدم: اذهب عني فقد عصيت الله إياك أن تلقاني، فذهب فلم يلق آدم بعدها. وقال آدم لحواء: هذا الموت الذي أعلمتك به تزودي منه فإنك لن تريه إلى يوم الدين يرجع إلى الأرض التي خلقنا منها، فلما أيقنت بفراقه وأنها لا تراه أبد الأبد عظمت عليها المصيبة ورفعت يديها إلى رأسها صاحت، فمن أجل ذلك صارت كل امرأة على الدنيا إذا أصابتها مصيبة تأدت بيدها على رأسها وصاحت كفعل حواء، فلما بكت حواء قال لها آدم: مذ خلق الموت في الدنيا لم تجف لعاقل فيها عين ولا تجف لأهلها عين يبكون ويبكي عليهم حتى يتفارقوا ونفارقهم يا حواء ذهب الأمل وحل الأجل فمن قدم خيرًا وجده ومن قدم شرًا وجده وأنشأ يقول يرثي هابيل:
تغيرت البلاد ومن عليها ... فوجه الأرض مغبر قبيح
وجاورنا عدوٌ ليس يهدي ... لعينٌ لا يموت فاستريح
أيا هابيل يا ثمر الفؤاد ... أبعد العين مسكنك الضريح
محل تخلق الأجسام فيه ... ويبلى عند الوجه الصبيح
1 / 24
فعيني لا تجف عليك سحًا ... وقلبي الدهر محزون قريح
قال وهب: قال قوم من أمة محمد ﵌ أن قابيل لم يقتل أخاه هابيل قتلًا مفنيًا ولكنه تناظر معه في الملكوت وكانت قابيل أبعد بالحجة في ذلك فقتله بالحجة. والغراب عندهم تأويل ويحتجون أن الأنبياء لا تقتل الأنبياء ولو كان
ذلك لما ذم بني إسرائيل بغير حق وإذا كانت الأنبياء تفعل ذلك فما بال غير الأنبياء - واحتجوا فقالوا: قال الله ﴿من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل إنه من قتل نفسًا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا﴾ أي من استدعى نفسًا إلى الشرك فقتلها فكأنما قتل الناس جميعًا ومن أحياها ودعاها إلى الإيمان فأحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا فكان قتل ابن آدم لأخيه بالحجة لا بالقوة لأنه لم يقتل نبي نبيًا.
قال وهب: قال جبير بن مطعم هذه القصيدة ليست لآدم وهي منحولة، وقال ابن عباس، تكلم آدم بجميع الألسن التي نطق بها بنوه ومن بعده من عربي وعجمي، وهذه الأسماء لم تعلمها الملائكة ﴿فقالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا أنك أنت العليم الحكيم﴾.
قال وهب: إن آدم غرس الثمار التي هبط بها من الجنة فأول ما غرس بالبد المقدس ثم انتشر بنو آدم إلى الجزيرة وغلى بابل وإلى اليمامة وإلى الطائف
1 / 25
وبلغوا البحرين يغرسون الثمار وبلغوا اليمن وعمان يغرسون الثمار ويحفرون الأنهار ويبنون المصانع وينحتون الجبال. ثم أن آدم لما بلغ دعوة الله وعلت حجة الله في بنيه وفي الجن وكثرت ذريته في الأرض فتكملت أيامه آتاه وعد الله آتاه جبريل فقال له: يا أبا محمد السلام يقرئك السلام ويأمرك أن تقيم شيثًا خليفة من بعدك في الأرض للأنس والجن يقيم فيهم حجة الله وينهاهم عن معصيته فعلم آدم أن نعيت إليه نفسه فأوصى شيثا واستخلفه.
قال وهب: لم يقبض الله آدم ﵇ حتى وصل خلفه ألف رجل من بنيه وبني بنيه، ثم إن الله قبل روح آدم وأعلمه جبريل فلذلك قال: يا حبيبي يا جبريل نعيت إلى نفسي بموت حواء، وكان موت حواء قبل موت آدم بعامين، ثم دعا آدم فقال: رب هب لأوصيائي القائمين بجنبك عمري ما قاموا على عهدك وأظهروا
حجتك وقاموا بحقك فمن بدل فإنك أنت العليم الحكيم.
قال وهب: وكان عمر آدم ﵇ تسعمائة وثلاثين سنة ثم قبضه الله ﷺ واسمه بالسرياني والعربي (آدم) وكان عمر حواء تسعمائة وثمانية وعشرين سنة. خلقت حواء بعد خلقه. وولي أمر بني آدم من أنس ومن الجن شيث (شيث) اسم عبراني وتفسيره باللسان
1 / 26
العربي خلف وشايث باللسان السيرياني وتفسيره بالعربي نصب لأن عليه نصب الدنيا على ذريته ليس على الدنيا ذرية شيث وجميع ولد بني آدم أغرقهم الطوفان فقام شيث في الأرض وخليفة بأمر الله يصدع بالحق وذلك أن بني آدم وبني البنين انتشروا في الأرض يبنون ويغرسون فتنافسوا فيها وطغى بعضهم على بعض فأنزل الله على شيث خمسين صحيفة في صلاح الأرض يدعو الثقلين الجن والأنس وكان شيث مخبولًا على القراءة ولا يكتب. فأنزل الله شريعة آدم في نكاح الأخ للأخت لأن آدم ﷺ كان يزوج الأخ من الأخت إذا اختلفت البطون فأتت شريعته بخلاف ذلك ولا يزوج إلا ما تباعد نسبه كبنات العم وغير ذلك. قال الله تعالى ﴿لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا﴾. فأنكر عليه ذلك بنو آدم وسرجوا فقام فيهم بأمر الله وغلب عليهم الله حتى تمت كلمة الله وعمت دعوته.
قال وهب: وإن لامك بن هنوش بن هابيل بن آدم وهو هابيل قتيل قابيل مر عليه وهو يرعى غنمًا له راكبًا على فرسه ولامك أعمى فتكلم قابيل فقال: لامك من هذا المتكلم فقد انتفض لكلامه كبدي واقشعر له جلدي فقالوا: هذا قابيل قاتل هابيل جدك قال: أوتروا إلى قوسًا فأوتروا له قوسًا ثم استمع الكلام من أين يأتيه حتى علم أين هو ثم قال: ألهم أهدني وانتقم ثم رمى فأصاب نحر قابيل فسقط عن فرسه. ثم سال من هذا قيل لامك بن هنوش بن هابيل قال: حسبي أبناء الأبناء قروا حدود الأجداد
1 / 27
ومات فأتوا بنو قابيل بلامك الأعمى إلى شيث فقالوا: هذا قتل
أبانا قابيل قال لهم: أخذ الله حقه بأضعف خلقه دعوه النفس بالنفس فإن الله أوحى إلى آدم أنا أرحم الراحمين قتل ولدك ولا آمرك بقتل ولدك الآخر دعه لا يفوتني هارب ولا ينجو مني غالب وأنا القوي الطالب فلما بلغ شيث حجة الله وتمت كلمة الله بالصحف خمسين صحيفة وخمسين كتابًا وقد ذكر الله صحف شيث وغيرها من الصحف فقال: ﴿رسول من الله يتلو صحفًا مطهرة فيها كتب قيمة﴾ وقال: ﴿أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى﴾ حكمنا حق في الأولين والآخرين، وقال: لا تبديل لكلمات فأوحى الله إلى شيث أن اتخذ ابنك أنوش صفيًا ووصيًا فعلم إنه نعيت إليه نفسه فأوصى إلى ابنه انوش واستخلفه فلما بلغ تسعمائة سنة واثنتي عشرة سنة قبضه الله وولي أمر الله في الأرض ومن فيها انوش بن شيث فحكم بما في صحف شيث واسمه باللسان العبراني انوش بكسر الهمزة الألف والشين وتفسيره باللسان العربي إنسان واسمه باللسان السيرياني انوش بفتح الألف والشين وتفسيره باللسان العربي صادق فعمل في الأرض بطاعة الله حتى بلغ عمره تسعمائة وخمسين سنة، فلما بلغ العمر المسمى في الدعوة أوصى إلى ابنه قينان ثم قبضه الله ﷿. (قينان): عبراني تفسيره باللسان العربي مشتري وكذلك اسمه بالسرياني، فعمل بأمر الله وقام بحق الله واسمه في الإنجيل واينان وتفسيره بالعربي عيسى. فلما بلغ من العمر غاية دعوة آدم وعاش تسعمائة سنة وعشر
1 / 28