ترجمة
عبد الغفار مكاوي
تمهيد
(1)
هذا الكتيب الذهبي!
هكذا وصفه أحد الكتاب في بداية عصر النهضة الأوروبية. واستمتع القراء على مدى ثلاثة وعشرين قرنا أو يزيد بلوحاته الحية التي ترسم بخطوط دقيقة ومرهفة طباع ثلاثين نموذجا أو نمطا من البشر العاديين الذين عاشوا في أثينا في السنوات الأولى من العصر الهليني المبكر، ولم تساعدهم ظروف نشأتهم وتربيتهم واستعداداتهم الطبيعية الموروثة على التخلص من رذائلهم ونقائصهم أو تغييرها والارتفاع فوقها، بل إن القراء على مر العصور قد وجدوا في هذه النماذج والأنماط من الأخلاق والطباع، أو في بعضها على الأقل، نظائر مشابهة لأناس من المحيطين بهم أو المتعاملين معهم، وربما وجدوا فيها أنفسهم أيضا.
ولقد تصور بعض القراء الذين أعجبوا بهذا الكتاب أنه ينتمي إلى فلسفة الأخلاق وينفع الآباء والمربين والمعلمين والمتعلمين. وتحمس له بعض المؤلفين المجهولين فتدخلوا في نصه الأصلي، وأضافوا إليه مواعظ وعبارات خطابية أثبت العلماء المحققون بعد ذلك أنها منحولة عليه، كما استوحاه وقت أن كان الفيلسوف نفسه وأفاد منه الكثيرون من ذوي الحساسية الأدبية والموهبة الفنية في أعمالهم المسرحية والقصصية والروائية أو في حكمهم وحكاياتهم الأخلاقية المكثفة كما سنرى بعد قليل. وبقي كتاب الطباع مصدر المتعة والإلهام والحيرة أيضا بسبب المادة النفيسة المفعمة بالحياة والظرف والمعرفة التي يضمها منجمه الذهبي الصغير، فضلا عن قيمته العالية التي يقدرها كل من يهتم بالتاريخ الاجتماعي والسياسي والأخلاقي، ويتتبع تطور العادات والتقاليد والأفكار والصراعات، بجانب الأضواء الكاشفة التي يلقيها على حياة الإنسان العادي - الرجل الصغير أو رجل الشارع كما نقول اليوم! - وعلى تصرفاته في المواقف المختلفة وردود أفعاله على الأحداث والوقائع متلاطمة الأمواج أمام عينيه ومن حوله. وفي كل الأحوال يتجاوب القراء مع النص الطريف اللطيف بصور متفاوتة تدفعهم للابتسام أو النفور والاستهجان، وللرضا أو السخط أو التعجب من «الطبيعة البشرية» المشتركة التي توحي أحيانا بأنها ثابتة ولا تكاد تتغير إلا في القشرة والسطح دون الجوهر والنواة.
ولا بد قبل الخوض في البحر الزاخر الذي تجيش تياراته الظاهرة والباطنة من داخل هذا النبع الضئيل المحدود، أو بالأحرى من قلب هذه القطرات العذبة من النثر اليوناني القديم؛ لا بد قبل الاتجاه لمضمون الكتاب نفسه وشكله اللغوي والفني، من التعريف بمؤلفه ثيوفراسطوس؛ تلميذ المعلم الأول أرسطو وصديقه ومساعده وخليفته في رئاسة اللوقيون لفترة أربت على الخمسة والثلاثين عاما، ولا بد كذلك من توضيح علاقة الكتاب بفلسفة أرسطو وتلميذه في الأخلاق، ومن الإشارة باختصار إلى تأثيره الممتد على أجيال عديدة من الأدباء والعلماء والمفكرين والدارسين. (2)
ولد ثيوفراسط في مدينة إريزوس بجزيرة لسبوس (موطن سافو أول وأرق شاعرة غنائية في تاريخ الشعر الغربي)
1
Bilinmeyen sayfa