أن الكتاب لم يقصد به على الإطلاق أن يكون عملا أدبيا مستقلا. ويعلل ذلك بجفاف لغته واطراد أسلوبه على نمط (متكرر) لا تنوع فيه، وخلوه من الرشاقة والجمال وروعة البيان التي اشتهرت عن صاحبه في العصور اليونانية والرومانية القديمة، وأشاد بها شيشرون على وجه الخصوص. وإذا كان قد أثر على الأدب الأوروبي الحديث، وساعد على خلق نوع أدبي بأكمله للكتابة عن الطباع، فلا يزال الغرض من تأليفه غير واضح، على الرغم من التسليم بأنه كتاب فريد ولا نظير له في العالم القديم.
ويرجح المترجم الإنجليزي أن الكتاب كان «ملحقا توضيحيا» لكتاب لم يصلنا عن فن كتابة الكوميديا.
30
وهو يوضح هذا بقوله إن كوميديا ميناندر (343-291ق.م.) - وهو لا يذكر ثيوفراسط إلا ويذكره معه في نفس واحد! - كانت تفصلها في ذلك الحين عن كوميديا أرسطوفان فجوة زمنية واسعة تقدر بثلاثة أجيال، وإن الناس في تلك الفترة المتأخرة كانوا مشغولين بالتفكير في طبيعة الكوميديا، ويحتمل أن تجاربهم في هذا الصدد لم تؤد بهم إلى شيء حتى بزغت الكوميديا «الواقعية» الجديدة على يد تلميذ ثيوفراسط الرائع. ولما كان كلاهما قد سجل بقلمه الكثير من ملامح الحياة اليومية وعادات الناس في أواخر القرن الرابع؛ بدليل أننا نجد أن بعض ما رصده ثيوفراسط من قسمات شخصياته وطباعها قد أخذه ميناندر بنصه تقريبا في عدد من مسرحياته وفي تصرفاته وعادات بعض شخصياته (مثل عادة «السلف» التي لا ترحم شيئا، من الملابس إلى الشعير والدقيق إلى أدوات الطبخ). وهذا كله يرجح عنده (أي عند المترجم الإنجليزي) وجود علاقة قوية بين طباع ثيوفراسط وكوميديا تلميذه الذي يستبعد تماما ألا يكون قد اطلع عليها وتأثر بها تأثره بأستاذه و«أحاديثه» الإلهية كما وصفها أرسطو على نحو ما عرفنا من قبل، بل إنه ليرجح أيضا وجود علاقة قوية بين «الطباع» وبين أرسطوفان (من حوالي 445 إلى حوالي 386ق.م.)، فهل يمكن القول إن ثيوفراسط قد تأثر بشكل من الأشكال بسيد الكوميديا القديمة أثناء رسمه ل «طباعه»؛ ومن ثم انتقل هذا التأثر إلى تلميذه الذي كان أكثر توازنا وواقعية من أرسطوفان، كما أن شخصيات ميناندر - على خلاف شخصيات ثيوفراسط النمطية التي يخيم على أغلبها الاطراد والملل والتزمت! - شخصيات فردية متفجرة بالحيوية والتنوع والتناقض أيضا؛ لأنها ببساطة أكثر إنسانية وأكثر فنية؟ ومما يقوي من علاقة الارتباط الوثيق بين «الطباع» وكوميديات ميناندر أن كليهما قد كتب أعماله إبان الفترة المضطربة التي جاءت بعد ضم المقدونيين - على عهد فيليب والد الإسكندر - لبلاد اليونان بأكملها، أي بعد سنة 338ق.م.؛ فقد انصرف الناس في الطباع وفي الكوميديات إلى حياتهم اليومية ومشاغلها ومشكلاتها الآنية من تسوق وبيع وشراء وثرثرة ورفع دعاوى قضائية وزواج وحب وشجار وترويج إشاعات (انظر على سبيل المثال اللوحة الثامنة عن مروج الإشاعات التي تعكس بعض أحداث العصر وصراعاته). وليس عجيبا بعد ذلك أن يصور الكاتبان أو يسجلا كل منهما على طريقته تلك الحياة العادية التافهة التي لا تخلو بطبيعة الحال من التنوع والحيوية. وهي حياة يعيشها أحفاد الأثينيين الذين عاصروا يوريبيدز وأرسطوفان، كما عاصروا المعارك الضاربة بين أثينا وإسبرطة خلال الحرب البيلوبينيزية الطويلة التي انتهت سنة 404ق.م. بهزيمة أثينا وإذلالها. ربما لم يكن الأحفاد أسوأ من أجدادهم، ولكن الصراع والتضحية في سبيل الحرية أو في سبيل مجد أثينا كان قد أصبح جزءا من الماضي ولم يبق لهم فرصة للبطولة، ولا بقيت فرصة للتراجيديا (المأساة) إلا بعرض المآسي القديمة على خشبة المسرح؛ ومن ثم شجع كل شيء على ازدهار الكوميديا الجديدة التي اهتمت بتصوير عواطفهم ومشاكلهم في البيت والشارع، وحياتهم مع زوجاتهم وعلاقتهم بأصدقائهم وجيرانهم وعبيدهم وعشيقاتهم، وأحلامهم في الثراء والسلطة، وتطلعاتهم وهمومهم وصغائرهم. وهذا على وجه الدقة هو الذي فعله ثيوفراسط وتلميذه ميناندر - كل على طريقته كما سبق القول - أولهما في «طباعه» وفي فلسفته الأخلاقية التي ورث الكثير منها بغير شك عن المعلم الأول، والثاني بالأسلوب المتفجر بالحيوية والحوار الشيق الممتع والشخصيات العادية والمتفردة في آن واحد. ولا شك أيضا أن البحث الطويل منذ سقراط وأفلاطون على الأقل وحتى أرسطو وثيوفراسط - عن ماهية القيم المختلفة ومعايير السلوك الصحيح والتمييز بين الأنماط المختلفة للعدالة والخير والشر والصواب والخطأ ... إلخ في الكتابات الفلسفية قد انعكست بصورة حية على كوميديات ميناندر، وهو ما يحتاج إلى بحوث مستقلة لتوضيحه بشيء من التفصيل (يكفي أن نذكر هنا قول الشاب كاريزيوس في مسرحية التحكيم أنه تلميذ درس الأخلاق، أو خواطر أونيزيموس - العبد الذي يعمل في خدمته - عن نظريته في الأخلاق).
31
وليت هذا وغيره يعلمنا الاهتمام بالأساس الفلسفي الظاهر أو الكامن للأعمال الأدبية التي تستحق هذه التسمية. (13)
ويتشكك المترجم الإنجليزي أيضا في أصالة التعريفات التي يبدأ بها مؤلف الطباع وصف سمات كل صاحب طبع يقدمه، ومن رأيه - الذي ينقله عن الأستاذ ج. أوشر في كتابه عن طباع ثيوفراسط، 1960،
32
ويناقش في مقدمته مختلف الاحتمالات عن أصل الكتاب - أن مجهولا قد أضافها من عنده لظنه أن الطباع كتاب في الأخلاق، ولم يخطر على باله أن أمثال هذه التعريفات ليس لها مكان في كتاب عن فن الكوميديا (إذا صح الفرض الذي ذكرناه قبل قليل)، وأنها لا تضيف شيئا إلى الأوصاف التي يوردها الكتاب عن كل طبع على حدة.
ولم يقتصر الأمر على دس هذه التعريفات على الكتاب، فالمقدمة المنحولة التي نقلناها عن الترجمة الإنجليزية تجعلنا نتحسر على ضياع نصف الكتاب الذي تطفلت عليه أياد وأقلام كثيرة من العصر القديم والعصر البيزنطي كما رأينا من قبل. لقد كان الكتاب الأصلي - إذا صدقنا كاتب المقدمة المنحولة - يحتوي بجانب الطباع السيئة على مجموعة مساوية من الطباع الخيرة. وهذا احتمال وارد لا أريد ولا أستطيع أن أنفيه؛ إذ لا يعقل أن يكون الفيلسوف العاقل الطيب قد اكتفى بعرض الشخصيات الشاذة والطباع السيئة على قارئه العام الذي أراد أن يمتعه ويسليه، وأن يكون قد أغفل أضدادها الذين لا شك في وجودهم في كل عصر على الرغم من طغيان الأشرار والمجرمين على الأخيار والطيبين. وهل كان الناس في زمنه المضطرب المنغص بالصراعات الدموية والمجاعات والأوبئة - كما ذكرنا آنفا - ينقصهم المزيد من الهم والنكد فوق ما هم فيه؟
Bilinmeyen sayfa