الفصل الثاني عشر
الكتاب الثنائيو اللغة
يوجد في كل مجموعات البشر أعضاء استثنائيون، ومن دواعي سروري أن أذكر بعضا من هؤلاء الأفراد المميزين في «فئتنا» في الفصلين القادمين. لن يصبح كثير منا - نحن الأشخاص الثنائيي اللغة - مثلهم (ولا حاجة بنا إلى ذلك)، لكنهم لنا من الناحية اللغوية بمنزلة إدموند هيلاري أو تينسينج نورجاي، ولهم أهمية في عرضنا في هذا الكتاب.
سأركز في هذا الفصل على الكتاب الثنائيي اللغة، نظرا لأن الكتابة مجال خاص باللغة، وربما إحدى أصعب المهارات المعرفية التي يكتسبها الإنسان. عادة تظل اللغة التي نتعلم القراءة والكتابة بها بطلاقة في شبابنا اللغة التي نستخدمها في الكتابة لباقي حياتنا. بالطبع، يفضل البعض الكتابة بلغة أخرى، أو عدة لغات أخرى، لكنهم قد لا يشعرون براحة بالغة في فعل هذا. ومع ذلك، يجد المرء في عالم الكتابة الأدبية المحترفة الصغير استثناءات واضحة تضم أشخاصا ثنائيي اللغة؛ فيوجد بعض الكتاب الثنائيي اللغة الذين يؤلفون كتبا بلغتهم الثانية (أو الثالثة)؛ وهو إنجاز مذهل عندما يفكر المرء في مدى صعوبة كتابة أعمال أدبية بلغة المرء الأصلية. والظاهرة الاستثنائية أكثر من هذا تتمثل في الذين يكتبون أعمالا أدبية بكلتا لغتيهم، وسنتحدث في هذا الفصل عن هؤلاء الكتاب البارزين. (1) الكتابة باللغة الثانية (أو الثالثة)
يوجد كثير من الكتاب الثنائيي اللغة أو المتعددي اللغات، لكنهم مع ذلك يقررون الالتزام بلغة واحدة عند الكتابة، وعادة ما تكون لغتهم الأولى. ومن ثم، نجد أن إيزاك بي سينجر، على سبيل المثال، المؤلف الأمريكي الذي من أصل بولندي والحاصل على جائزة نوبل، كان يكتب دوما بلغته الأصلية، اليديشية، على الرغم من معرفته بكثير من اللغات الأخرى، خاصة البولندية والعبرية . كما كان الشاعر تشيسلاف ميلوش، الحاصل أيضا على جائزة نوبل، يجيد البولندية والروسية والإنجليزية واللتوانية والفرنسية، لكنه كان يكتب بالبولندية فقط.
توجد مجموعة فرعية من هؤلاء الكتاب، وتتمثل في الذين يختارون تأليف كتبهم بأكثر لغة يتقنون الكتابة بها، حتى إن لم تكن لغتهم الأولى. يتبادر مثالان إلى الذهن؛ الأول ريتشارد رودريجيز، مؤلف الكتاب الأكثر رواجا «نهم الذاكرة»، والذي كانت الإسبانية لغته الأولى لكن تحولت أسرته إلى استخدام الإنجليزية عند التحاقه بالمدرسة؛ ومن ثم، أصبحت الإنجليزية لغته السائدة خلال فترة المراهقة، وبالتأكيد اللغة التي يكتب بها. أما المثال الآخر فهو إيفا هوفمان، التي انتقلت من بولندا إلى كندا عندما كانت في الثالثة عشرة من عمرها، والتي ألفت كتابها «فقد في الترجمة» بالإنجليزية، وهي اللغة التي درست بها في المدرسة الثانوية والجامعة. يسرد كتابها، تماما مثل كتاب رودريجيز، ببراعة رحلتها الفكرية والإنسانية في فكر المجتمع الأمريكي وثقافته. اختار المؤلفان استخدام اللغة الإنجليزية في الكتابة، وقدموا أساليب أدبية قوية، وفريدة في بعض الأحيان؛ بالطبع، نظرا لكونهما ثنائيي اللغة أتيحت لهما فرصة الإشراف على بعض الترجمات لأعمالهما، لكنهما لم يخاطرا بإنتاج إبداعات أدبية بلغتهما التي لا يجيدانها إجادة تامة.
مع ذلك، يوجد مؤلفون يقررون الكتابة بلغتهم الثانية أو حتى الثالثة، حتى إن كانوا يتقنون الكتابة بلغتهم الأولى. ربما يكون أشهر مثال على ذلك هو جوزيف كونراد، الذي كتب في أوائل القرن العشرين أعمالا كلاسيكية مثل: «قلب الظلام»، و«اللورد جيم»، و«نوسترومو»، و«العميل السري». ولد كونراد في بولندا، وعاش بها حتى بلغ سن السادسة عشرة، ثم انتقل للعيش في فرنسا لمدة أربع سنوات وأصبح يجيد الفرنسية. انضم إلى الأسطول التجاري الإنجليزي وتعلم التحدث والكتابة بالإنجليزية. عندما أنهى عمله في البحرية في سن الخامسة والثلاثين، كان قد كتب بالفعل بعض الأعمال النثرية بالإنجليزية، وبعد هذا كرس كل وقته لتأليف الروايات. الأمر المثير للاهتمام أنه لم يؤلف كتبه بالبولندية - لغته الأولى - أو بالفرنسية التي يجيد الكتابة بها ، وإنما بالإنجليزية؛ لغته «الثالثة».
بحسب ما ورد عن فريدريك كارل كاتب السيرة الذاتية لكونراد، كان قرار كونراد بعدم التأليف بالبولندية وسيلته لفصل نفسه عن والده وثقافته وبلده. وللأسف لم يفهم كل من البريطانيين والبولنديين موقفه؛ فقال عنه البريطانيون إنه كان بولنديا متخفيا، وقال البولنديون العكس (وهذه مشكلة نموذجية متعلقة بالثنائية الثقافية). لقد كانت أعمال كونراد النثرية الإنجليزية رائعة للغاية ولا تتطلب أي تحرير تقريبا، لكنه كان لا يزال يحتفظ في حديثه بلكنة واضحة، منعته من إلقاء محاضرات على الملأ. إليك ما قاله كونراد، نقلا عن كارل، إلى ناقد بلجيكي بعد استقراره في إنجلترا بنحو عشرين عاما:
لا يزال نطقي في الإنجليزية غير سليم إلى حد ما إلى يومنا هذا. ولسوء الحظ، نظرا لعدم تمتعي بأذن موسيقية، ما زلت أتلعثم في نطق الكلمات، خاصة عندما أدرك هذا في أثناء الحوار. وفي الكتابة أدخل في صراع مرير مع هذه اللغة التي أشعر بأني لا أمتلكها وإنما هي التي تمتلكني، مع الأسف.
1
Bilinmeyen sayfa