The Tolerance of Islam in Dealing with Non-Muslims
سماحة الإسلام في التعامل مع غير المسلمين
Yayıncı
الكتاب منشور على موقع وزارة الأوقاف السعودية بدون بيانات
Türler
سماحة الإسلام في التعامل مع غير المسلمين إعداد
أ. د. حكمت بن بشير بن ياسين
كلية القرآن الكريم والدراسات الإسلامية
الجامعة الإسلامية - المدينة المنورة
بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الحمد لله العفو الغفور رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى من اهتدى بهديه وأخذ بحكمته إلى يوم الدين.
أما بعد فإن التسامح هو اللين والتساهل، قال ابن الأثير: والسماحة: المساهلة، وقال الفيروزآبادي: وتسامحوا: تساهلوا (١) وهو نوع من أنواع الإحسان إلى النفوس التي جُبلت على حب من أحسن إليها، لذا فإن التسامح يؤدي إلى المحبة والتآلف ونبذ العنف والتنافر، والتسامح هو: القلب النابض لحياة طيبة ونفس زكية خالية من العنف والتطرف.
_________
(١) النهاية والقاموس باب س م ح.
1 / 1
لقد أمر الله تعالى رسوله ﷺ بأعلى درجات التسامح فقال له تعالى: ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ (١) وقال أيضًا: ﴿فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ﴾ (٢) ومعنى العفو: ترك المؤاخذة بالذنب، ومعنى الصفح: ترك أثره من النفس (٣) وكونه لم يبق أثره في النفس قمة في التسامح وهو بغية المؤمن الذي يدعو الله تعالى: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ (٤) .
ومن نعم الله علينا وعلى الإنسانية إرسال نبينا محمدٍ ﷺ بالحنيفية السمحاء رحمة للعالمين، وهذه الرحمة ذات صور من الود والتسامح والعفو والتناصح تضافرت نصوصها من القرآن والسنة، وتجسدت مرحلتها الأولى في المدينة النبوية من خلال تعامله ﷺ مع المسلمين وغيرهم فقد اجتمعت الأقوال والأفعال فإذا بقاموس يشتمل على جميع مفردات السماحة يتحرك في شتّى نواحي الحياة.
_________
(١) سورة المائدة آية ١٣.
(٢) سورة الحجر آية ٨٥.
(٣) انظر فتح القدير للشوكاني ١ / ٢٨.
(٤) سورة الحشر آية ١٠.
1 / 2
ومع هذا فإن بعض الناس الذين لا يعرفون حقيقة هذا الدين يظن أن الإسلام لا يعرف العفو والصفح والسماحة، وإنما جاء بالعنف والتطرف والسماجة، لأنهم لم يتحروا الحقائق من مصادرها الأصلية، وإنما اكتفوا بسماع الشائعات والافتراءات من أرباب الإلحاد والإفساد الذين عبدوا الشهوات ونهجوا مسلك الشبهات بما لديهم من أنواع وسائل الإعلام المتطورة، من أجل ذلك أكتب هذا البحث لبيان الحق ودمغ الباطل بالأدلة الساطعة والحقائق الناطقة من القرآن والسنة القولية والفعلية والتاريخ الأصيل.
1 / 3
سماحة الإسلام في التعامل مع غير المسلمين لم تقتصر سماحة النبي ﷺ مع المسلمين فقط بل شملت أهل الكتاب والمشركين أثناء الحرب فقد أوصى بالقبط خيرًا وثبت عنه أنه قال: «إذا فتحتم مصر فاستوصوا بالقبط خيرًا، فإن لهم ذمة ورحمًا» (١) .
وفي صحيح مسلم «ستفتحون أرضًا يذكر فيها القيراط فاستوصوا بأهلها خيرًا فإن لهم ذمة ورحمًا» (٢) .
قال النووي: وفي رواية «ستفتحون مصر، وهي أرض يسمى فيها القيراط، وفيها: فإن لهم ذمة ورحمًا» . . . " قال العلماء القيراط جزء من أجزاء الدينار والدرهم وغيرهما، وكان أهل مصر يكثرون من استعماله والتكلم به، وأما الذمة فهي الحرمة والحق وهي هنا بمعنى الذمام، وأما الرحم فلكون هاجر أم إسماعيل منهم وأما الصهر فلكون مارية أم إبراهيم منهم (٣) .
_________
(١) أخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي (المستدرك ٢ / ٥٥٣) وصححه الألباني في السلسة الصحيحة ح ١٣٧٤.
(٢) صحيح مسلم -كتاب فضائل الصحابة - ٤ / ١٩٧٠ ح ٢٢٧.
(٣) شرح مسلم ١٦ / ٩٧.
1 / 4
أما سماحته مع اليهود فعند ما قتل أحد الصحابة في أحد أحياء اليهود في خيبر فقد رضي وقبل ﷺ يمين اليهود إذ أقسموا أنهم لم يقتلوه ولم يعلموا قاتله فقد أخرج البخاري بسنده عن بشير بن يسار قال: «زعم أن رجلًا من الأنصار يقال له سهل بن أبي حثمة أخبره أن نفرًا من قومه انطلقوا إلى خيبر فتفرقوا فيها فوجدوا قتيلًا، وقالوا للذي وجد فيهم: قد قتلتم صاحبنا، قالوا: ما قتلنا وما علمنا قاتلًا، فانطلقوا إلى النبي ﷺ فقالوا: يا رسول الله انطلقنا إلى خيبر فوجدنا أحدنا قتيلًا، قال: الكُبرَ الكبرَ، فقال لهم تأتون البينة على من قتله؟ قالوا: ما لنا بينة، قال: فيحلفون، قالوا: لا نرضى بأيمان اليهود، فكره رسول الله ﷺ أن يُطَّلَّ دمه " فوداه مائة من إبل الصدقة» (١) .
_________
(١) صحيح البخاري - كتاب الديات - باب القسامة ح ٦٨٩٨.
1 / 5
قال ابن حجر: قوله: (باب القسامة) بفتح القاف وتخفيف المهملة هي مصدر أقسم قسمًا وقسامة، وهي الأيمان تقسم على أولياء القتيل إذا ادّعوا الدم أو على المدعى عليهم الدم، وخصّ القسم على الدم بلفظ القسامة، وقال إمام الحرمين: القسامة عند أهل اللغة اسم للقوم الذين يقسمون، وعند الفقهاء اسم للأيمان، وقال في المحكم: القسامة الجماعة يقسمون على الشيء أو يشهدون به، ويمين القسامة منسوب إليهم ثم أطلقت على الأيمان نفسها، قال القرطبي في المفهم: فعل ﷺ ذلك على مقتضى كرمه وحسن سياسته وجلبًا للمصلحة ودرءًا للمفسدة على سبيل التأليف، ولا سيما عند تعذر الوصول إلى استيفاء الحق، وقال القاضي عياض: هذا الحديث أصل من أصول الشرع وقاعدة من قواعد الأحكام وركن من أركان مصالح العباد، وبه أخذ جميع الأئمة والسلف من الصحابة والتابعين وعلماء الأمة وفقهاء الأمصار من الحجازيين والشاميين والكوفيين وإن اختلفوا في صور الأخذ به. . . (فيطلَّ) بضم أوله وفتح الطاء وتشديد اللام أي يهدر (١) .
قال النووي عند شرحه لهذا الحديث: وفي هذا دليل لصحة يمين الكافر والفاسق واليهودي (٢) .
_________
(١) فتح الباري ١٢ / ٢٣١ - ٢٥٣.
(٢) شرح مسلم ١١ / ١٤٧.
1 / 6
ولو تتبعنا المعاهدات التي صدرت عن النبي ﷺ لوجدنا فيها ضروبًا من التسامح والموادعة والمساواة، ومن هذه المعاهدات " إعلان دستور المدينة الذي اشتمل على سبع وأربعين فقرة منها ما يخص موادعة اليهود كما يأتي:
(٢٤ - إن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.
٣١ - وإن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته.
٣٧ - وإن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم.
٤٥ - وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصلحونه ويلبسونه، وإنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك، فإن لهم على المؤمنين إلا من حارب في الدين.
٤٦ - وإن يهود الأوس مواليهم وأنفسهم على مثل ما لأهل هذه الصحيفة مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة، وإن البر دون الإثم لا يكسب كاسب إلا على نفسه، وإن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره.
1 / 7
٤٧ - وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم، وإنه من خرج آمن ومن قعد آمن بالمدينة، إلا من ظلم وأثم، وإن الله جار لمن بر واتقى، ومحمد رسول الله ﷺ (١) .
قال ابن زنجويه: وقوله: " إن اليهود يُنِفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين " فهو النفقة في الحرب خاصة، شرط عليهم المعاونة له على عدوه، ونرى أنه إنما كان يسهم لليهود إذا غزوا مع المسلمين لهذا الشرط الذي شرط عليهم من النفقة، ولولا هذا لم يكن لهم في غنائم المسلمين سهم.
وقوله: " إن يهود بني عوف أمة من المؤمنين " إنما أراد نصرهم المؤمنين، ومعاونتهم إياهم على عدوهم، بالنفقة التي شرطها عليهم، فأما الدّين فليسوا منه بشيء، ألا تراه قد بين ذلك فقال: لليهود دينهم وللمؤمنين دينهم، وقوله " لا يوتغ إلا نفسه " يقول: لا يهلك غيرها (٢) .
_________
(١) هذه المعاهدة ورد ذكرها في كتاب الأموال لأبي عبيد ص ٢٩٢ - ٢٩٥ والأموال لابن زنجويه ٢ / ٤٦٦ - ٤٧٠ وسيرة ابن هشام ٢ / ٩٢ والروض الأنف ٤ / ٢٩٣ ومجموعة الوثائق السياسية من ص ٤١ - ٥٠.
(٢) الأموال ٢ / ٤٧٢.
1 / 8
وقد قام بتحليل هذه المعاهدة مؤرخ السيرة أ. د. أكرم بن ضياء العمري، وأنقل ما ذكره بخصوص اليهود فقال: قد تناولت البنود من ٢٥ إلى ٣٥ تحديد العلاقة مع المتهودين من الأوس والخزرج، وقد نسبتهم البنود إلى عشائرهم من العربية، وأقرت حلفهم مع المسلمين، وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين" وقد وردت العبارة في كتاب الأموال " أمة من المؤمنين " مما جعل أبا عبيد يقول: " فإنما أراد نصرهم المؤمنين ومعاونتهم إياهم على عدوهم بالنفقة التي شرطها عليهم، فأما الدين فليسوا منه في شيء، ألا تراه قد بين ذلك فقال لليهود دينهم وللمؤمنين دينهم " (١) أما ابن إسحاق فقد قال: " مع المؤمنين " وهو أجود، ولعل ما في كتاب الأموال مصحّف، وقد كفلت المادة رقم ٢٥ لليهود حريتهم الدينية، كما حددت مسئولية الجرائم وحصرتها في مرتكبها (إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ - أي لا يهلك - إلا نفسه وأهل بيته) فالمجرم ينال عقابه وإن كان من المتعاهدين (لا يحول الكتاب دون ظالم ولا آثم) . . . كما أن المعاهدة امتدت بموجب البند رقم ٤٥ لتشمل حلفاء المسلمين وحلفاء اليهود من القبائل الأخرى، إذ شرطت المادة على كل طرف مصالحة حلفاء الطرف الآخر
_________
(١) أبو عبيد: الأموال ص ٢٩٦.
1 / 9
لكن المسلمين استثنوا قريشًا " إلا من حارب في الدين " لأنهم كانوا في حالة حرب معهم (١) .
كما نرى تسامحه مع أهل الكتاب من الذين يعادون ويخالفون فيما يفتي إذ يتكلمون فيه ويبلغه ذلك، ثم يقدم لهم الهدية من اللبن أخرج مسلم بسنده عن أنس «أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم، لم يؤاكلوها ولم يجامعوهن في البيوت، فسأل أصحاب النبيِّ ﷺ النبيَّ ﷺ فأنزل الله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ﴾ إلى آخر الآية فقال رسول الله ﷺ: " اصنعوا كل شيء إلا النكاح "، فبلغ ذلك اليهود فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئًا إلا خالفنا فيه، فجاء أسيد بن حضير وعباد بن بشر فقالا: يا رسول الله! إن اليهود تقول: كذا وكذا، فلا نجامعهن؟ فتغير وجه رسول الله ﷺ حتى ظننا أن قد وجد عليهما، فخرجا فاستقبلهما هدية من لبن إلى النبي ﷺ، فأرسل في آثارهما، فسقاهما، فعرفا أن لم يجد عليهما» (٢) .
_________
(١) المجتمع المدني في عهد النبوة ص ١٢٧، ١٢٨.
(٢) الصحيح - الحيض - ب جواز غسل الحائض رأس زوجها ح ٣٠٢.
1 / 10
بل نجد سماحته مع لبيد بن الأعصم الذي سحر النبي ﷺ في مشط ومشاطة وجف طلع نخل ذكر في بئر روان، وحينما أخبر عائشة بذلك قالت له: أفلا استخرجته؟ قال: «قد عافاني، فكرهت أن أثير على الناس فيه شرا، فأمر بها فدفنت» .
المشاطة وما يخرج من الشعر إذا مشط، والمشاط من مشاطة الكتان (١) .
وهكذا كان تسامحه مع بعض المنافقين فقد تحمل المنافق عبد الله بن أُبي ابن سلول قصة الإفك ومع ذلك فقد عفا عنه ﷺ (٢) بل حينما مات عبد الله بن أُبي غطّاه بقميصه واستغفر له حتى نزل قوله تعالى: ﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ﴾ (٣) .
_________
(١) صحيح البخاري - كتاب الطب - باب السحر ح ٥٧٦٣.
(٢) صحيح البخاري - كتاب التفسير - سورة آل عمران ٨ / ٧٨ ح ٤٥٦٦.
(٣) سورة التوبة آية ٨٠.
1 / 11
كما عفا النبي ﷺ عن عبد الله بن ذي الخويصرة التميمي «بينما كان النبي ﷺ يقسم فقال له: اعدل يا رسول الله، فقال: ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل؟ قال عمر بن الخطاب: دعني أضرب عنقه، قال دعه فإن له أصحابًا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ينظر في قذذه فلا يوجد فيه شيء ثم ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى رصافه فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر نضيّه فلا يوجد فيه شيء، قد سبق الفرث والدم، آيتهم رجل إحدى يديه - أو قال ثدييه - مثل ثدي المرأة، أو قال مثل البضعة تدردر، يخرجون على حين فرقة من الناس، قال أبو سعيد: أشهد سمعت من النبي ﷺ، وأشهد أن عليًّا قتلهم وأنا معه، جيء بالرجل على النعت الذي نعته النبي ﷺ، قال: فنزلت فيه ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ﴾» (١) .
إنها غاية السماحة إذ لم ينتصر رسول الله ﷺ لنفسه بل عفا عنه.
_________
(١) صحيح البخاري - كتاب استتابة المرتدين - باب من ترك قتال الخوارج ١٢ / ٣٠٣ ح ٦٩٣٣.
1 / 12
كما له مواقف أخرى مع المشركين فقد أخرج النسائي بسنده الثابت عن عبد الله بن مغفل المزني، قال: «كنا مع رسول الله ﷺ بالحديبية في أصل الشجرة التي قال الله، وكأني بغصن من أغصان تلك الشجرة على ظهر رسول الله ﷺ، فرفعته عن ظهره، وعلي بن أبي طالب وسهيل بن عمرو بين يديه، فقال رسول الله ﷺ: " اكتب بسم الله الرحمن الرحيم " فأخذ سهيل يده فقال: ما نعرف الرحمن الرحيم، اكتب في قضيتنا ما نعرف، فقال: " اكتب باسمك اللهم، هذا ما صالح عليه محمد رسول الله أهل مكة "، فأمسك بيده فقال: لقد ظلمناك إن كنت رسولًا، اكتب في قضيتنا ما نعرف، فقال: " اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، وأنا رسول الله "، قال فكتب، فبينما نحن كذلك، إذ خرج علينا ثلاثون شابا عليهم السلاح، فثاروا في وجوهنا، فدعا عليهم النبي ﷺ فأخذ الله بأبصارهم، فقمنا إليهم فأخذناهم، فقال لهم رسول الله ﷺ: " هل جئتم في عهد أحد، أو هل جعل لكم أحد أمانًا "، فقالوا: لا، فخلى سبيلهم، فأنزل الله ﷿ ﴿وَهُوَ الَّذِي كَفَّ
1 / 13
أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ﴾ إلى قوله ﴿بَصِيرًا﴾» (١) .
لقد كان بإمكانه أن يأسرهم أو أن يقتلهم ولكن سماحته تأبى ذلك بل قال لهم ولغيرهم من أهل مكة حينما فتحها: اذهبوا فأنتم الطلقاء.
فقد تجلّت روح التسامح عند النبي ﷺ حتى في الحرب فقد قال لهم أيضًا: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن (٢) .
ومن تسامحه مع المشركين أيضًا أنه كان لا يمنع صلة المسلمين بأهلهم المشركين فقد أخرج البخاري بسنده عن أسماء بنت أبي بكر ﵄ قالت: «أتتني أمي راغبة في عهد النبي ﷺ فسألت النبي ﷺ أصلها؟ قال: " نعم» (٣) .
_________
(١) (التفسير ٢ / ٣١٢-٣١٤ ح٥٣١)، وأخرجه أحمد (المسند ٤ / ٨٦- ٨٧)، والحاكم (المستدرك ٢ / ٤٦٠-٤٦١) من طريق الحسين بن واقد عن ثابت به، قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح (مجمع الزوائد ٦ / ١٤٥)، وقال ابن حجر: أخرجه أحمد والنسائي من حديث عبد الله بن مغفل بسند صحيح (الفتح ٥ / ٣١٥)، والحديث أخرجه مسلم من حديث ثابت عن أنس (الصحيح ٣ / ١٤١١ ح١٧٨٤) بنحوه مختصرًا.
(٢) صحيح مسلم - كتاب الجهاد - باب فتح مكة ح ١٧٨.
(٣) صحيح البخاري - كتاب الأدب - باب صلة الولد المشرك وباب صلة المرأة بأمها ولها زوج ١٠ / ٤١٣ ح ٥٩٧٨ و٥٩٧٩.
1 / 14
إن هذا المنهج العملي والقولي في التسامح والارتقاء فوق حظوظ النفس يؤتي أكله كل حين بإذن الله تعالى، فقد أثّر في نفوس الصحابة ﷺ والتابعين ﵏ ومن جاء بعدهم إلى يومنا هذا نرى صورًا ونماذج من التسامح التي ازدانت بها صفحات التاريخ كالخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضى الله عنه في لون آخر من التسامح مع المشركين فقد أخرج البخاري بسنده عن عبد الله بن دينار قال: " سمعت ابن عمر ﵄ يقول: «رأى عمر حلة سيراء (١) تباع، فقال: يا رسول الله، ابتع هذه والبسها يوم الجمعة وإذا جاءك الوفود، قال: إنما يلبس هذه من لا خلاق له، فأُتِيَ النبي ﷺ منها بحلل فأرسل إلى عمر بحلة فقال: كيف ألبسها وقد قلت فيها ما قلت؟ قال: إني لم أعطكها لتلبسها، ولكن لتبعها أو تكسوها، فأرسل بها عمر إلى أخ له من أهل مكة قبل أن يسلم» (٢) .
وهذا أنموذج آخر في زمن معاوية رضى الله عنه فإن الكفار لمّا نقضوا عهدهم امتنع المسلمون من قتالهم وقالوا: وفاء بغدر خيرٌ من عذر بغدر (٣) .
_________
(١) السيراء بكسر السين وفتح الياء والمد نوع من البرود يخالطه حرير كالسُّيور وقيل: الحلة من الحرير وقيل فيها خطوط من إبريسم كالسيور، انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر (٢ / ٤٣٣-٤٣٤) .
(٢) صحيح البخاري - كتاب الأدب - باب صلة الأخ المشرك ١٠ / ٤١٤ ح ٥٩٨١.
(٣) انظر تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام للإمام بدر الدين بن جماعة ص ٢٣٤.
1 / 15
إنه ذروة التسامح الذي نهجه النبي ﷺ وأمر به بقوله: «أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك» (١) .
وإليك أنموذجًا آخر في زمن التابعين في درء الحدود فقد أخرج البخاري بسنده عن أبي قلابة أن عمر بن عبد العزيز أبرز سريره يومًا للناس ثم أذن لهم فدخلوا، فقال: ما تقولون في القسامة؟ قالوا القسامة القود بها حق، وقد أقادت بها الخلفاء، قال لي: ما تقول يا أبا قلابة؟ ونصبني للناس؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، عندك رءوس الأجناد وأشراف العرب، أرأيت لو أن خمسين منهم شهدوا على رجل محصن بدمشق أنه قد زنى ولم يروه أكنت ترجمه؟ قال: لا، قلت: أرأيت لو أن خمسين منهم شهدوا على رجل بحمص أنه سرق أكنت تقطعه ولم يروه؟ قال: لا. . . (٢) .
إنه منهج دقيق في التثبت واحتياط رفيق بالمتهم لأن الشبهة قائمة والتهمة لم يجزم بها بواسطة الرؤية التي هي محور الجزم.
_________
(١) أخرجه الترمذي في سننه - كتاب البيوع - ح ١٢٦٤ وحسّنه وهو كما قال.
(٢) الصحيح - كتاب الديات - باب القسامة ح ٦٨٩٩.
1 / 16
السماحة في التجارة وقضاء الحق كما حث ﷺ على السماحة في البيع والشراء فقال: «رحم الله رجلًا سمحًا إذا باع، وإذا اشترى وإذا اقتضى» (١) وهذا النص يشمل التعامل مع المسلم وغير المسلم.
قال ابن حجر: قوله (رحم الله رجلًا) يحتمل الدعاء ويحتمل الخبر، وبالأول جزم ابن حبيب المالكي وابن بطال ورجحه الداودي. . . قوله (سمحًا) بسكون الميم وبالمهملتين أي: سهلًا، وهي صفة مشبهة تدل على الثبوت. . . والسمح: الجواد، يقال: سمح بكذا إذا جاد، والمراد هنا المساهلة، قوله: (إذا اقتضى) أي طلب قضاء حقه بسهولة وعدم إلحاف. . . وفيه الحض على السماحة في المعاملة واستعمال معالي الأخلاق، وترك المشاحة، والحض على ترك التضييق على الناس في المطالبة، وأخذ العفو منهم (٢) .
كما رغب وحث ﷺ على السماحة في القرض وإنظار المعسر فقال: «تلقت الملائكة رجلًا ممن كان قبلكم فقالوا: أعملت من الخير شيئًا؟ قال: كنت آمر فتياني أن ينظروا ويتجاوزوا عن الموسر، قال: فتجاوزوا عنه» (٣) .
وقد رجح الحافظ ابن حجر أن الموسر والمعسر يرجعان إلى العرف (٤) .
_________
(١) صحيح البخاري - كتاب البيوع - باب السهولة والسماحة في الشراء والبيع ح ٢٠٧٦.
(٢) فتح الباري ٤ / ٣٠٧.
(٣) صحيح البخاري - كتاب البيوع - باب من انظر موسرًا ح ٢٠٧٧.
(٤) فتح الباري ٤ / ٣٠٨.
1 / 17
وهذا دليل على أن السماحة اشتملت أمورًا كثيرة منها المجال الاقتصادي في البيع والشراء وهو أمر يتجدد يوميًا، مما يفصح أن التسامح ليس من الأمور النادرة بل يتجدد كل حين.
1 / 18
السماحة في درء الحدود تنعق بعض الهيئات والشخصيات المعادية للإسلام بأن الإسلام جاء بالسيف وأن بعض الحدود في الإسلام فيها شدة وهدر للدماء وتخلّف في تنمية الموارد البشرية وهذه شبهة خطيرة تطعن في سماحة الإسلام والجواب أن حرب الإشاعة قامت ضد الإسلام منذ حادثة الإفك إلى زماننا وهذه الإشاعات ضرب من ضروب الحرب النفسيّة، وأنقل لهم قول المشتشرق الألماني د، ج كامبفماير، رئيس تحرير مجلة العالم الإسلامي: (إن الاعتداء على الإسلام لا ترجى منه فائدة، ولن يردّ المسلمين عن دينهم، ولن يعوق النهضة الإسلامية بل سيقويها) (١) ثم ليعلم هؤلاء أن الإسلام استخدم السيف مع المحاربين الذين يهددون كيان الدولة الإسلامية أما المسالمين فلا، فالإسلام يخيّر غير المسلمين بين الدخول في الإسلام أو التعايش مع المسلمين مع دفع الجزية، وهي ما يقابل ما يدفعه المسلمون من الزكاة وإلا فالسيف لحماية بيضة المسلمين، ولا يسلط السيف على الأطفال والنساء.
_________
(١) انظر وجهة الإسلام (بإشراف كب ص ٣٥)، (نقلًا عن كتاب قالوا عن الإسلام ص ٤٦٨) .
1 / 19
ثم إن إقامة الحدود الشرعية لا تنفد إلا بنطاق ضيق محدود، فقد يظن بعض الناس أن إقامة الحدود في الإسلام كإقامة الصلاة في كثرتها، والحق أن أحكام الشريعة الإسلامية تعد بالمئات لكن عدد الحدود التي تقام هي سبعة: الحرابة (قطع الطريق)، والردة، والبغي، والزنا، والقذف، والسرقة، وشرب الخمر، وإذا نفذت فإنه لا يمكن ذلك إلا بعد مراحل وشروط وذلك بعد التأكد من وقوع الجريمة وإقامة الحجة على الجاني كالاعتراف أو الشهادة عليه، وقد يصل عددهم إلى أربعة شهود في جريمة الزنا، ويشترط فيهم العدالة وعدم التهمة مما يدل على التحري والتثبت والاحتياط بهذا العدد الذي انفرد عن بقية الجرائم الأخرى.
(والحكمة في ذلك أن الله تعالى يحب الستر، كما أن جريمة الزنا لا تقع إلا من اثنين فكأن كل شاهدين يشهدان على أحدهما) (١) .
_________
(١) وسائل الإثبات ص ١٦٠.
1 / 20