160

The Tatars from the Beginning to Ain Jalut

التتار من البداية إلى عين جالوت

Türler

تجميع قطز الناس تحت راية الجهاد حرص قطز ﵀ على إبراز خطورة العدو القادم التتار، وعلى إظهار الغاية النبيلة التي من أجلها صعد إلى كرسي الحكم، ومن المعروف أن الأزمات الشديدة التي تمر بالأمة، يمكن أن تكون أزمات مجمِّعة إذا أحسن القائد استغلالها، ومع أن المشكلة تكون كبيرة جدًا أمام الناس، والقضية خطيرة، والناس يخافون ذلك، إلا أنهم يتجمعون بسبب هذا الخوف. فـ قطز ﵀ استغل خوف الناس من قضية التتار ليجمعهم سويًا تحت راية واحدة، ومن أفضل الأمور لتجميع الناس ولتوحيد الصف: الجهاد، والقائد الذي لا يجمع شعبه على قضية جهادية يفقد حب شعبه وولاءهم له، بل وقد تكثر الفتن والقلاقل في زمانه؛ لأن الناس سيركنون إلى حياة الدعة والسكون، وسينشغلون بسفاسف الأمور، وعندما نراجع التاريخ الإسلامي نجد أنه ما رفع قائد مسلم في كل تاريخ المسلمين راية الجهاد بصدق إلا واستقرت بلاده، ومع أنه داخل في حروب ضارية إلا أن بلاده سوف تستقر، ويسير شعبه خلفه بكل حب وصدق ووفاء. والذي لا يرفع هذه الراية يذل نفسه وشعبه، وهذه سنة مستمرة في التاريخ، وستكون إلى يوم القيامة؛ لأن الله ﷿ كتب الذل على من تخلى عن الجهاد. وذكرنا قبل ذلك الكثير والكثير من المواقف التي تؤيد هذا المعنى. ثم إن قطز ﵀ أعلن بوضوح من أول يوم استلم فيه الحكم: أنه سيجعل الأمر في الناس يختارون من يشاءون دون التقيد بعائلة معينة أو مماليك بذاتهم، وأنه لن يأخذ بالتوريث الذي كان الناس يخافون منه. وهنا كلام في غاية الأهمية، وهو أنه لا يستقيم لنا أن نقول ما قاله المحللون الغربيون المستشرقون، أو بعض المحللين المسلمين الذين يعتمدون في تحليلاتهم على المدارس الغربية في التحليل والنقد: من أن قطز إنما قال ذلك ليقمع المناوئين له، وليثبت نفسه في كرسيه، مستغلًا حب المسلمين للجهاد. يعني: أنه يمثل على الناس، فلا يستقيم لنا أبدًا أن نطعن في نية قطز ﵀ من وراء الكلمات التي قالها، ولا أن نفترض أن وراء هذه الكلمات مرامي أخرى، وإحسان الظن بالمؤمنين أمر مطلوب شرعًا، فإن الكلمات والأفعال دائمًا تقيم وتحسب في ضوء سيرة الشخص وحياته، وهذه الجملة في منتهى الأهمية، فاحفظوها: الكلمات والأفعال تقيم وتحسب دائمًا في ضوء سيرة الشخص وحياته، فقد يقول شخص كلامًا يفهم منه معنى، ويقوله شخص آخر فيفهم منه فهمًا مختلفًا تمامًا. وكلمة الجهاد هذه إذا قالها قطز ﵀، فسأفهم منها معاني معينة، وإذا قالها قبل ذلك الناصر يوسف الأيوبي فسأفهم منها معاني أخرى تمامًا، وقد تكلمنا من قبل على موقف الناصر يوسف، والآن نتكلم على موقف قطز ﵀، وشتان بين الموقفين، فكلاهما قال: إنه سيجاهد في سبيل الله، ونحن نريد الآن تقييم هذه الكلمة في ضوء سيرة قطز ﵀، ومن خلال تتبع سيرته بعد أن تولى الملك، وفي أثناء تحركاته إلى عين جالوت، وفي موقعة عين جالوت وما بعدها، سنرى في كل ذلك ما يثبت أن كلامه جميعًا كان كلامًا صادقًا، وأن رغبته في قتال التتار، والانتصار لهذا الدين، كانت أعلى بكثير من رغبته في الملك، وقد جعل الله ﷿ نصر الأمة على يديه كما سنرى، وليس من سنة الله ﷿ أن يكتب نصر الأمة على يد المنافقين والفاسدين، ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ﴾ [يونس:٨١]. ولم يخلد تاريخ المسلمين رجل اختلطت في قلبه النوايا ولعبت به الأهواء، لذلك قطز ﵀ نحسبه على خير، ولا نزكي على الله أحدًا، وقد أجمع علماء أمة الإسلام على عدالته وفضله وتقواه، وقالوا فيه كلامًا كثيرًا، وسنذكر بعضه بإذن الله في الدروس القادمة. وإذا كان من الممكن قبول عذر المستشرقين والمحللين الغربيين في أن قطز كان يقصد الملك وليس الجهاد؛ لأنهم في سياستهم وحياتهم لا يرون إلا هذه الأمثلة التي تريد الدنيا، فما هو عذر المحللين المسلمين الذين قالوا مثل ذلك الكلام؟ فليس لهم عذر في الحقيقة؛ لأن هذا المثال المخلص الراقي الذي لا يريد شيئًا لنفسه ولا لذاته، ويهب حياته بكاملها لربه ولدينه ولشعبه، ولقضايا أمته، كثير ومتكرر جدًا في أمتنا، وفي تاريخنا. وقد سبق قطز ﵀ على هذا الطريق الكثير والكثير من أبطالنا، ولحق به كذلك آخرون، وسيظل الخير بإذن الله في أمة رسول الله ﷺ إلى يوم القيامة.

8 / 16