The Stick - Among the Rare Manuscripts
العصا - ضمن نوادر المخطوطات
Araştırmacı
عبد السلام هارون
Yayıncı
شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر
Baskı Numarası
الثانية
Yayın Yılı
١٣٩٣ هـ - ١٩٧٢ م
Türler
كتاب العصا (^١) لأبي المظفر أسامة بن منقذ ٤٨٨ - ٥٨٤
_________
(^١) عثرت قريبا على مخطوط لكتاب العصا محفوظ بمكتبة خدابخش بتنة، ومنه نسخة مصورة بمعهد إحياء المخطوطات العربية التابع لجامعة الدول العربية، أرشدنى إليها الأخ الأستاذ رشاد عبد المطلب. وهذه النسخة تدل بصفة قاطعة على أن نسختنا هذه ما هي إلا مختصر متواضع لكتاب العصا.
وقد أجريت في هذه الطبعة الثانية مقابلة على هذا المخطوط في هذه المواضع المختارة، مشيرا إلى المخطوط بالرمز (خ). وعسى أن أوفق إلى نشر هذا المخطوط مستقلا بعد دراسته وتحقيقه بعون اللّه.
1 / 175
مقدمة
أسامة بن منقذ (^١):
في قلعة شيزر، على بعد خمسة عشر ميلا من الشمال الغربى لحماة، ولد الأمير أبو المظفر أسامة بن مرشد بن علي بن مقلد بن نصر بن منقذ الكلبي الشيزرى، الملقب مؤيد الدولة مجد الدين، وذلك في يوم الأحد ٢٨ من جمادى الآخرة سنة ٤٨٨، وهذا العام هو الذي ألقى فيه البابا (أوربانوس الثاني) خطابه محرضا المسيحيين على انتزاع بيت المقدس من أيدي المسلمين. وعاش أسامة حياته الطويلة المعمرة معاصرا للحروب الصليبية إلى أن نال صلاح الدين الأيوبي انتصاراته الفاصلة في تلك الحروب، ثم قضى أسامة نحبه في ليلة الثلاثاء ٢٣ من رمضان سنة ٥٨٤.
نشأ أسامة في كنف أبويه وعمه وجدته في أسرة جل رحالها فرسان محاربون فشب على الفروسية والجرأة النادرة وممارسة الصيد، وملاقاة الأسود، وعنى أبوه بتثقيفه، فكان يحضر له كبار الشيوخ يقبس هو وإخوته منهم العلم، فكان شيخه في الحديث أبا الحسن علي بن سالم السنبسى، وفي الأدب أبا عبد اللّه محمد بن يوسف المعروف بابن المنيرة، كما قرأ النحو عشر سنين على سيبويه زمانه أبى عبد اللّه الطليطلى النحوي. وسمع منه الحافظ أبو سعد السمعاني صاحب كتاب الأنساب (٥٠٦ - ٥٦٢) والحافظ ابن عساكر (٤٩٩ - ٥٧١) والعماد الأصبهاني (٥١٩ - ٥٩٧) والحافظ عبد الغنى المقدسي (٥٤١ - ٦٠٠).
وخرج أسامة من شيزر سنة ٥٣٢ فأقام بدمشق نحوا من ثماني سنين في رعاية صديقه معين الدين أنر، وزير شهاب الدين محمود، حتى نبت به دمشق
_________
(^١) ترجم له ابن عساكر في تاريخ دمشق والسمعاني في الأنساب في رسم (الشيزرى) وابن خلكان في الوفيات، وأبو شامة في الروضتين، وابن الأثير، وصاحب النجوم الزاهرة والذهبي في تاريخ الإسلام، وياقوت في إرشاد الأريب، والعماد الأصبهاني في الخريدة، كما ترجم هو لنفسه في كتاب الاعتبار. وانظر دائرة المعارف الإسلامية، ومقدمة الأستاذ الكبير الشيخ أحمد شاكر للباب الآداب، والدكتور فيليب حتى لكتاب الاعتبار. وقد اختصه صديقنا الأستاذ محمد حسين مراقب الفهارس بدار الكتب المصرية بدراسة شاملة تعد أوسع وأغزر ما كتب في أسامة.
1 / 176
فسار إلى مصر فدخلها يوم الحميس في الثاني من جمادى الآخرة سنة ٥٣٩ فلقى فيها إكراما من الخليفة الفاطمي الحافظ لدين اللّه عبد المجيد بن المنتصر العلوي. ثم ولى الخلافة ابنه الأصغر الظافر بأمر اللّه أبو منصور إسماعيل من سنة ٥٤٤ - ٥٤٩ وكان وزيره علي بن السلار الملقب بالملك العادل. وهذا أرسل أسامة في سفارة حربية سياسية إلى الملك العادل نور الدين بن زنكى.
وبعد حروب ووقائع استدعاه علي بن السلار إلى مصر فمكث بها إلى سنة ٥٤٩، ثم غادرها مكرها بعد اغتيال الخليفة الفاطمي الظافر الذي حدثت في عهد خلافته أحداث وفتن قتل في أثنائها الخليفة ووزيره، وذهب المؤرخون أن لأسامة يدا في قتلهما. وأما أسامة فإنه يحاول تبرئة نفسه من ذلك (^١).
ورجع أسامة من مصر إلى دمشق فأقام بها ردحا من الزمن، ثم رحل بأهله وولده إلى حصن كيفا وأقام بها إلى أن استولى صلاح الدين الأيوبي على دمشق سنة ٥٧٠. وكان لأسامة ولد يدعى «أبا الفوارس مرهف بن أسامة» وكان ذا منزلة عالية عند صلاح الدين، فظل يصنع لأبيه عند السلطان حتى استدعاه إلى دمشق وهو شيخ قد تخطى الثمانين، فحاز إعجاب صلاح الدين وتقديره وجعله من خاصته بمنزلة المؤامر المستشار. وظل أسامة في دمشق حتى وافته منيته.
مؤلفاته:
ألف أسامة في ضروب شتى من العلم، وأشهر كتبه كتاب (الاعتبار) ألفه وهو ابن تسعين، وقد نشر مرتين إحداهما بتحقيق درنبورغ، والأخرى بتحقيق الدكتور فيليب حتى. وكتاب (لباب الآداب) ألفه وهو ابن إحدى وتسعين، وأول ناشر له هو الصديق الجليل الأستاذ الشيخ أحمد محمد شاكر. و(البديع) في نقد الشعر. و(الشيب والشباب) عارض به الشريف المرتضى، قال فيه أسامة:
«فمن وقف عليه من الفضلاء عرف ما بينه وبين كتاب الشهاب في ذكر الشيب والشباب تأليف المرتضى رضى اللّه عنه، وعلم أن الفضل للمقدم في البيان لا في التقدم
_________
(^١) الاعتبار ٦ - ٢٩.
1 / 177
في الزمان (^١)». و(ديوان أسامة) وقد صنعه بنفسه كما نص في كتاب العصا.
ومنه نسخة قديمة تاريخ كتابتها سنة ٦٨٨ دخلت في خزانة دار الكتب المصرية في ديسمبر سنة ١٩٤٧ برقم ١٦٨٧٧ ز، وصورت منها صورتان شمسيتان اعتمدت على إحداهما في معارضة شعر أسامة.
كتاب العصا:
على أن الذي يعنينا الآن من مؤلفات أسامة هو كتاب العصا. وليس هذا العنوان من ابتداع أسامة، فإنه يذكر لنا في مقدمة كتابه هذا، الباعث له على هذا التأليف، وهو قصة قصها عليه والده جاء فيها على لسان أبى يوسف القزويني مخاطبا أبا الحسن بن بوين حين أمسك من كتبه كتابا يسمى «العصا» لمؤلف ضاع اسمه. «ما أحوجك أن يكون ما في يدك فوقها». قال أسامة (^٢): «ولي منذ سمعت هذا نحو من ستين سنة أتطلب كتاب العصا بالشام ومصر والعراق والحجاز والجزيرة وديار بكر فلا أجد من يعرفه. وكلما تعذر وجوده ازددت حرصًا على طلبه، إلى أن حداني اليأس منه على أن جمعت هذا الكتاب وترجمته بكتاب العصا، ولا أدرى أكان ذلك الكتاب على هذا الوضع أم على وضع غيره … ولا أرتاب أن مؤلف ذلك الكتاب وقع له معنى فأجاد في تنميقه وتأليفه، وأنا فاتنى مطلوب ففزعت إلى تجويزه وتلفيقه». ويدور في خلدى أن ذلك الكتاب الذي ظل أسامة يبحث عنه دهرا إنما هو «كتاب العصا» للجاحظ، وهو من مشتملات كتاب البيان والتبيين وأن أسامة إنما التبس عليه الأمر فظن ذلك الكتاب الذي دار حوله الحديث كتابا مستقلا لمؤلف آخر غير الجاحظ، على حين عرف هو كتاب العصا للجاحظ، وقرأه واقتبس منه كثيرا في كتابه هذا.
وهذا الكتاب الذي ضمنه الجاحظ الجزء الثالث من البيان والتبيين إنما كان محوره مزاعم الشعوبية الذين ذكروا في مثالب العرب أنهم يعتمدون في خطبهم على العصا ويتكئون على القوس، «وليس بين الكلام والعصا سبب»
_________
(^١) لباب الآداب ٣٧٧.
(^٢) في مقدمته لكتاب العصا.
1 / 178
ولا بينه وبين القوس نسب، وهما إلى أن يشغلا العقل ويصرفا الخواطر ويعترضا على الذهن أشبه، وليس في حملهما ما يشحذ الذهن، ولا في الإشارة بهما ما يجلب اللفظ … وحمل العصا بأخلاق الفدادين أشبه، وهو بجفاء العرب وعنجهية أهل أهل البدر، ومزاولة إقامة الإبل على الطرق أشكل، وبه أشبه (^١)».
وقد انبرى الجاحظ لهم في إسهاب جميل معلنا مزية العصا ومحاسنها، فهو يسوق الأخبار والأشعار، ويزجى الأمثال واللغات، والبراهين والحجج على عظم شأن العصا وكريم فضلها، وشدة الحاجة إليها، وقيامها مقام سائر السلاح في القتال.
وقد نهج أسامة في صدر كتابه هذا منهجا مقاربا لمنهج الجاحظ، ولكن تآليف أسامة تأبى إلا أن تحمل طابع تأليفه، وهو العناية الظاهرة بسرد ما يعرض له في حياته من أحداث وما يتلقفه من أخبار، ولا سيما أخبار الصالحين والزهاد (^٢)، وكذا أخبار الإفرنج وإبداء رأيه في أخلاقهم وسياستهم.
وهو لا ينسى أن يوشع تأليفه هذا بعرض طائفة من أشعاره. كما صنع في كتابه الاعتبار، وكتاب لباب الآداب.
ومما هو بالذكر جدير أن كتاب العصا قد أدى إلينا من شعر أسامة ثروة لا يستهان بها، وهي تسعون بيتا زائدا على شعر ديوانه الذي سبقت الإشارة إليه، كما أدى إلينا نصا نادرا لأبى العلاء المعرى، هو نموذج من كتاب (القائف) الذي طوته أحداث الزمان.
نسخة كتاب العصا:
هذه النسخة هي إحدى نسخ ثلاث معروفة:
الأولى نسخة ليدن رقم ٣٧٠ وعليها تاريخ ١٠٩٤. ومن هذه النسخة نشر درنبورغ Derenbourg مقتطفات منها مع أخرى من ديوان أسامة بعنوان (
Anthologie de textes Arades inedits par Ousama et sur Ousama
) وذلك في باريس سنة ١٨٩٣.
_________
(^١) البيان ٣: ١٢.
(^٢) انظر قصة جرار، وقصة حسن الزاهد.
1 / 179
والثانية نسخة الأمبروزيانا بميلان، ورقمها ١٢٥ وتاريخ نسخها سنة ١٠٦٧.
والثالثة نسختنا هذه، وربما كانت تمت بسبب إلى إحدى النسختين السابقتين فإنها مكتوبة بخط حديث في كراسة حديثة أكل الفأر بعض أطرافها.
وقد أمكنني عند التحقيق سد تلك الثغرات والإشارة إليها في مواضعها، وهي ثغرات قليلة (^١).
وهذه النسخة هي التي تفضل الأستاذ الكبير (الدكتور أحمد أمين بك) فأشار على أن أقوم بتحقيقها ونشرها، وثنى بإرسالها إلى في صحبة رسول كريم، فكان ذلك إسهاما كريما في (نوادر المخطوطات). فإليه أزجى أجل الشكر وصادق الثناء.
وبدا لي بعد ما استنسخت صورة من هذا الكتاب وعارضتها بالأصل أن أقترح على حضرته إهداء الأصل إلى دار الكتب المصرية في عهد مديرها الكاتب الكبير (الأستاذ توفيق بك الحكيم) صاحب (العصا)، فوافق هذا الاقتراح منه مناسبة أدبية موفقة. وقد حفظت هذه النسخة بدار الكتب برقم ٩٨١٣ ز.
العصا لا القضا:
وكان صديقي العلامة الشيخ أحمد محمد شاكر في مقدمته لكتاب (لباب الآداب) لأسامة قد أشار إلى كتاب العصا، واستظهر أن يكون صوابه «القضا» لا العصا، وبعد فترة من الزمن حين وقعت نسخة كتاب العصا إلى الأستاذ الكبير أحمد أمين بك كتب مقالا في مجلة الثقافة (^٢) يقطع الشك باليقين في تسمية هذا الكتاب، ويعين أن اسمه «العصا» لا القضا، وعرف بالكتاب تعريفا في مقاله هذا، وعرض طائفة من مشتملاته، وقد أخبرني - حفظه اللّه - في لقاء قريب، أن نسخته هذه وقعت إليه منذ نحو ثماني سنوات في أوراق وكتب اشتراها من مكتبة المرحوم (السيد محمد أمين الخانجي (^٣».
وإليك نص كتاب العصا:
_________
(^١) أشير إلى ذلك بوضعه بين علامتي التكملة [].
(^٢) نشر أيضا في فيض الخاطر ٤: ١٤٣ - ١٤٧.
(^٣) هذا ما ذكره لي المغفور له الأستاذ أحمد أمين، وحين اطلع على هذا الأخ السيد محمد نجيب أمين الخانجي أخبرني أن شراء هذه المخطوطة كان منه لا من والده الذي توفى سنة ١٣٥٨ هـ.
1 / 180
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلواته على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه البررة المتقين، وأزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين، صلاة دائمة إلى يوم الدين.
وبعد فإن النفس ترتاح لما سمعت، وتلح في الطلب إذا منعت. وكان الوالد السعيد مجد الدين أبو سلامة مرشد بن علي بن مقلد بن نصر بن منقذ ﵁، حدثني أنه لما توجه إلى خدمة السلطان ملكشاه (^١) ﵀، وهو إذ ذاك بأصفهان قصد القاضي الإمام الصدر العالم أبا يوسف القزويني ﵀، عائدًا ومسلمًا، بمعرفة قديمة كانت بينهما، ويد كانت عنده للجد سديد الملك ذي المناقب أبي الحسن علي بن مقلد ﵀. وذاك أن القاضي المذكور سافر إلى مصر في أيام الحاكم صاحب مصر، فأحسن إليه وأكرمه ووصله بصلات سنية، فاستعفى منها وسأله أن يجعل صلته كتبًا يقترحها من خزانة الكتب، فأجابه إلى ذلك، فدخل الخزانة واختار منها ما أراده من الكتب، ثم ركب في مركب وتلك الكتب معه، يريد بلاد الإسلام التي في الساحل، فتغير عليه الهواء فرمى بالمركب إلى مدينة اللاذقية وفيها الروم، فبعل بأمره (^٢) وخاف على نفسه وعلى ما معه من الكتب، فكتب إلى جدى سديد الملك رحمه الله تعالى كتابًا يقول فيه: «قد حصلت بمدينة (^٣) اللّاذقية بين الروم، ومعي كتب
_________
(^١) هو السلطان ملكشاه بن ألب أرسلان بن محمد بن داود بن ميكائيل، جلال الدولة أبو الفتح السلجوقى، ثالث ملوك السلاجقة، تولى الملك بعد أبيه ألب أرسلان سنة ٤٦٥، وتوفى سنة ٤٨٥ هو ووزيره نظام الملك الحسن بن إسحاق، صاحب المدرسة النظامية.
(^٢) بعل بأمره: برم وضجر فلم يدر كيف يصنع فيه.
(^٣) هذا ما في خ. وفي الطبعة الأولى: ع [ند].
1 / 181
الإسلام، وقد وقعت لك رخيصًا فهل أجدك حريصًا». فسير إليه من يومه ولده عمى عز الدولة أبا الم [رهف (^١)] نصرًا ﵀، وسبّر معه خيلا كثيرًا من غلمانه وجنده، وظهرًا لركوبه وحمل أثقاله، فأتاه وحمله وما معه فأقام عند جدى ﵀ مدة طويلة، وكانت له بالوالد ﵀ عناية وإلف، فلما اجتاز ببغداد قصده ليجدد به عهدا، فحدثني ﵀ قال:
دخلت عليه ومعي الشيخ أبو الحسن علي بن البوين الشاعر، وهو كاتب كان لجدى ﵀، فوجدته قد بلغ من العمر إلى ما غير ما كنت أعرفه فيه، ونسي كثيرًا مما كان يذكره، فلما رآني عرفني بعد السؤال، لأنه فارقني وأنا صبي ورآني وأنا رجل، فاستخبرني عن طريقي، فعرفته توجهي إلى دركاه السلطان (^٢)، فقال: تبلغ خواجا بزرك نظام الدين (^٣) سلامي، وتعرفه إن الجزء الأول من التفسير الذي قد جمعته قد ضاع، وهو تفسير «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» واسأله أن يأمر باستنساخه من النسخة التي في خزانته وينفذه لي. وكان جمع تفسير القرآن في مائة مجلد، وكان لضعفه وكبره مستندًا بين الجالس والمستلقي على فراش له، وحوله كتب كثيرة، وهو يكتب، فسلم عليه الشيخ أبو الحسن بن البوين كاتب الأمير سديد الملك. قال: البوين أي شيء هو؟ لعن الله البوين! ثم فكر هنيهة وقال: أنت الشاعر النحوي الكاتب؟ قال: نعم. فأنشد:
قالوا السُّلاميُّ فقلت اطبقي … ذا محلبانُ الضَّرع لبّانُ (^٤)
ثم عاد إلى حديثه معي فلمح الشيخ أبا الحسن وقد أخذ كتابا من تلك
_________
(^١) التكملة من خ والنجوم الزاهرة ٥: ١٦٣. وهو أبو المرهف نصر بن علي بن مقلد ابن نصر بن منقذ. وقد تولى شيزر سنة ٤٧٩ وتوفى سنة ٤٩٢.
(^٢) الدركاه: القصر، فارسيته دركاه، ومعناه الباب والسدة والدار، مركب من «در» أي باب، ومن «كاه» أي محل، الألفاظ الفارسية المعربة لأدى شير ٦٢.
(^٣) كذا في الأصل. وفي الألفاظ الفارسية المعربة ٢٢: «البزرك فارسي محض، ومعناه العظم، لقب به الوزير نظام الملك». وانظر كتاب الاعتبار ١٧٤ - ١٧٥.
(^٤) محلبان، عنى به المبالغة من الحلب، ولم أجده في معجم.
1 / 182
الكتب التي حول فراشه فقال: يدخل الإنسان وينبسط ويقرأ ما عنده (^١) من الكتب، أي إني من أهل العلم، ما أحوجك أن يكون ما في يدك فوقها! فألقاه من يده، وكان الكتاب كتاب العصا.
ولي منذ سمعت هذا نحو من ستين سنة أتطلب كتاب العصا بالشام ومصر والعراق والحجاز والجزيرة وديار بكر فلا أجد من يعرفه، وكلما تعذّره وجوده ازددت حرصًا على طلبه، إلى أن حداني اليأس منه على أن جمعت هذا الكتاب وترجمته بكتاب العصا. ولا أدري أكان ذلك الكتاب على هذا الوضع أم على وضع غيره. على أني قد بلغت النفس مناها، وكانت حاجة في نفس يعقوب قضاها. ولا أرتاب في أن مؤلف ذلك الكتاب وقع له معنى فأجاد في تأليفه وتنميقه، وأنا فاتني مطلوب ففرغت إلى تجويزه وتلفيقه (^٢). وكتابي هذا وإن كان خاليًا من العلوم التي يتجمل [أصحاب (^٣)] التصانيف بها، ويرغب أولو الفضل في طلبها، فما يخلو من أخبار وأشعار تميل النفوس إليها، ويحسن موقعها ممن وقف عليها. وقد افتتحته بذكر عصا موسى ﵇، ثم ذكر عصا سليمان بن داود ﵇، ثم أفضت في ذكر الأخبار والأشعار التي يأتي فيها ذكر العصا. ولا أدّعي أنى أنيت على ذكر العصا فيما جمعته، وإنما أدرت منه ما حفظته وسمعته.
وبالله ﷿ أعو [ذ] وأعتصم، من أن تكتب يدي ما يؤثم وبصم (^٤). ومن رحمته تعالى أطلب الصفح والغفران، عن اشتغالي بالترهات عن تلاوة القرآن، وهو سبحانه أقرب م [دعوّ]، وأكرم مرجوّ.
_________
(^١) كذا: ولعله يريد «ما يلقاه في مجلسه».
(^٢) فرغ إلى الشئ: عمد له وقصد. وفي حديث أبي بكر:» افرغ إلى أضيافك»، أي اعمد واقصد. والتجويز: الإنفاذ والإمضاء، وليس ما يضطرنا إلى تصحيحها لتكون:
«تحويره».
(^٣) ليست في الأصل.
(^٤) يصم، من الوصم، وهو العيب.
1 / 183
فصل في تسمية العصا
قال أبو بكر محمد بن دريد ﵀ (^١): إنما سميت العصا عصا لصلابتها، مأخوذ من قولهم عصَّ الشئ وعصا وعسا (^٢)، إذا صلب. واعتصت النواة، إذا اشتدت. فإنما العصا مثل يضرب للجماعة. يقال شق فلان عصا المسلمين والجماعة.
وفي الحديث عن النبي ﷺ: «إياك وقتيل العصا (^٣)» يريد المفارق للجماعة فيقتل. وألقى الرجل عصاه، إذا اطمأن مكانه. ويقال عصا وعصوان، والجمع العصي (^٤)، وأعصى الكرم، إذا خرج عيدانه (^٥). وفي الحديث عن النبي ﷺ: «لا ترفع عصاك عن أهلك» يراد به الأدب. ويقال لعظام الجناح عصي. وعصوت الجرح، إذا داويته (^٦). والعصيان: خلاف الطاعة. قال دريد بن الصمة:
فلما عصوني كنتُ منهمْ وقد أرى … غوايتهم وأنني غير مهتدِ (^٧)
وقد سميت الهراوة، وجمعها (^٨) هراوى. قال ابن فارس في كتاب مجمل اللغة:
هروته بالهراوة، إذا ضربته بها.
قال العباس بن مرداس السّلمى أبياتا ذكر فيها الهراوة أنا ذاكرها وموردها لحسنها وجزالتها، وهي من مختار الشعر. وقد اختارها أبو تمام حبيب ابن أوس الطائي في حماسته في باب الأدب (^٩)، وهي:
_________
(^١) لم أجد كلامه هذا في الجمهرة ولا في الاشتقاق.
(^٢) يقال أيضا: «عسى» كرضى.
(^٣) في الأصل: «وقتل العصا». وهو من حديث صلة بن أشيم، رواه في نهاية ابن الأثير واللسان (عصا) باللفظ الذي أثبته. وقالا: معناه إياك أن تكون قاتلا أو مقتولا في شق عصا المسلمين.
(^٤) يقال بضم العين وكسرها.
(^٥) في القاموس واللسان: «خرج عيدانه ولم يثمر».
(^٦) في الأصل: «أي داويته»، وأثبت ما في خ.
(^٧) من قصيدة في الأصمعيات ٢٣ - ٢٤ والحماسة ١: ٣٣٦.
(^٨) في الأصل: «وأصلها».
(^٩) الحماسة ٢ - ٢٠.
1 / 184
ترى الرجل النحيف فتزدريه … وفي أثوابه أسد مزيرُ (^١)
ويعجبك الطَّرير فتبتليه … فيخلف ظنَّك الرجلُ الطريرُ (^٢)
فما عظمُ الرِّجالِ لهم بفخرٍ … ولكن فخرهم كرم وخيرُ (^٣)
ضعافُ الطير أطولها جسوما … ولم تطل البزاة ولا الصُّقورُ (^٤)
بغاث الطَّير أكثرها فراخًا … وأمُّ الصقر مقلاتٌ نزورُ
- بغاث الطير: صغارها، وفيها ثلاث لغات: ضم الباء وفتحها وكسرها.
والمقلات: التي لا يعيش لها ولد -
لقد عظم البعيرُ بغير لبٍّ … فلم يستغنِ بالعظم البعيرُ
يصرّفه الصبيّ بكلِّ وجهٍ … ويحبسه على الخسف الجرير (^٥)
- الجرير: حبل يكون في رأس البعير -
وتضربه الوليدةَ بالهراوى … فلا غيرٌ لديه ولا نكيرُ
فإن أك في شراركم قليلًا … فإنِّي في خياركم كثير
ذكر أبو هلال العسكري اللغوي ﵀ في كتاب الأوائل قال: أول من خطب على العصا وعلى الراحلة قس بن ساعدة الإيادي، فمما ورد عنه من خطبه قوله (^٦):
أيها الناس: اسمعوا وعوا، من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت. ليل داج، وسماء ذات أبراج، ونجوم تزهر، وبحار تزخر، وجبال
_________
(^١) المزير، الشديد القلب القوى النافذ. وفي الأصل: «يزير»، صوابه، في الحماسة واللسان ومقاييس اللغة (مزر) ومجالس ثعلب ١٦٢. ورواه ثعلب: «الرجل الضعيف».
(^٢) الطرير: الشاب الناعم ذو الرواء والمنظر. هذا البيت يروى أيضا للمتلمس، وليس في ديوانه. انظر اللسان (طرر).
(^٣) الخير، بالكسر: الكرم والشرف.
(^٤) في الأصل: «يطل»، وأثبت ما في خ.
(^٥) الوجه: الجهة. والخسف: الذل.
(^٦) انظر البيان والتبيين ١: ٣٠٨ - ٣٠٩ والأغانى ١٤: ٤٠ ومجمع الأمثال للميدانى عند قولهم: (أبلغ من قس).
1 / 185
مرساة، وأرض مدحاة، وأنهار مجراة. ما بال الناس يذهبون فلا يرجعون، أرضوا فأقاموا، أم تركوا فناموا. يقسم قس بالله قسمًا لا إثم فيه: إن لله دينًا هو أرضى وأفضل من دينكم الذي أنتم عليه. إنكم لتأتون من الأمر منكرا.
ثم أنشأ يقول:
في الذاهبين الأول … ين من القرون لنا بصائر
لما رأيت مواردًا … للقوم ليس لها مصادر
ورأيت قومي نحوها … يمضي الأصاغر والأكابر
لا يرجع الماضي إل … يَّ ولا من الباقين غابر
أيقنت أنِّي لا محا … لة حيث صار القوم صائر
قال المؤلف - أطال الله بقاءه - العرب تقول: فلان ممن قرعت له العصا، إذا كان يرجع إلى الصواب، وينقاد إلى الحق، ويستقيم عند زيغه (^١) إذا نبه.
وتقول: فلان صلب العصا، إذا كان ذا نجدة وحزامة. وتقول إذا تفرقت الخلطاء واختلفت آراء العشيرة ومرج الأمر: انشقت العصا. وتقول للمسافر إذا آب واستقرت به داره. ألقي عصا التسيار، «فألقت عصاها».
قرع العصا
قال النبي ﷺ: «[ما] قرعت عصًا على عصا إلا فرح لها قوم وحزن آخرون».
قال الحجاج بن يوسف الثقفي في بعض خطبه (^٢): «والله لأعصبنكم عصب السلمة، وألحونكم لحو العصا، ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل. يا أهل العراق،
_________
(^١) الزيغ: الميل عن الحق، في الأصل: «عند ربعه»، صوابه من خ.
(^٢) جمع أسامة هنا بين نصين لخطبتين من خطب الحجاج، أولاهما في البيان ٢: ١٣٨ والعقد ٤: ١١٥ وابن أبي الحديد ١: ١١٤ والطبري ٧: ٢١٢. إعجاز القرآن ١٢٤.
والأخرى في البيان ٢: ٣٠٧ والكامل ٢١٥ ليبسك والعقد ٤: ١١٩ وصبح الأعشى ١: ٢١٨ وعيون الأخبار ٢: ٢٤٣ وابن الأثير ٤: ١٥٦.
1 / 186
يا أهل الشقاق والنفاق، ومساوي الأخلاق. إني والله سمعت لكم تكبيرًا ليس بالتكبير الذي يراد به الله في الترغيب، ولكنه التكبير الذي يراد به الترهيب.
يا عبيد العصا وأشباه الإماء (^١)، إنما مثلي ومثلكم ما قاله ابن برّاقة الهمداني (^٢):
وكنت إذا قومٌ غزوني غزوتهم … فهل أنا في ذا يا لهمدان ظالم (^٣)
متى تجمع القلبَ الذكيَّ وصارمًا … وأنفًا حميًّا تجتنبك المظالم
والله لا تقرع عصًا على عصا إلا جعلتها (^٤) كأمس الدابر.
وقال وعلة بن الحارث بن ربيعة (^٥):
وزعمتَ أنَّا لا حلومَ لنا … إن العصا قرعت لذي الحلم (^٦)
أقتلتَ سادتنا بغير دمٍ … إلا لتوهنَ آمن العصم (^٧)
وقال كثير بن عبد الرحمن الخزاعي:
وقد قرع الواشون فيها لك العصا … وإن العصا كانت لذي الحلم تقرعُ
ذو الحلم: عامر بن الظرب العدواني (^٨)، وكان حكمًا للعرب يرجع إلى حكمه ورأيه، فكبر وأفناه الكبر والدهر وتغيرت أحواله، فأنكر عليه الثاني من ولده أمرًا من حكمه فقال له: إنك ربما أخطأت في الحكم ويحمل عنك.
فقال: اجعلوا لي أمارة أعرفها، فإذا أخطأت وقرعت لي العصا رجعت إلى الحكم.
فكان يجلس أمام بيته يحكم ويجلس ابنه في البيت ومعه العصا، فإذا زلّ وهفا
_________
(^١) في البيان: «وأولاد الإماء».
(^٢) هو عمرو بن براقة، أو ابن براق، كما ذكر صاحب الأغانى ٢١: ١١٣ وهو أحد عدائى العرب، ذكره تأبط شرا في قصيدته الأولى من المفضليات:
ليلة صاحوا وأغروا بي سراعهم … بالعيكتين لدى معدى ابن براق
(^٣) هذا ما في خ والبيان، وفي الأصل: «ياهل».
(^٤) في الأصل: «جعلها» صوابه في خ.
(^٥) كذا في النسختين، والصواب: «الحارث بن وعلة» كما في البيان ٣: ٣٨ والحماسة ١: ٦٤.
(^٦) في البيان والحماسة: «وزعمتم ألا حلوم لنا».
(^٧) العصم: جمع أعصم وعصماء، وهو الوعل بإحدى يديه بياض.
(^٨) انظر للخلاف في «ذي الحلم» أمثال الميداني في (إن العصا قرعت لذي الحلم» والمعمرين للسجستاني ٤٥.
1 / 187
قرع له الجفنة بالعصا. وإياه عني المتلمس بقوله:
لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا … وما علِّم الإنسانُ إلا ليعلما
(صلب العصا) يقال فلان صلب العصا، إذا كان جلدًا قويا على السفر والسير. قال الراعي يصف راعيًا:
صلب العصا بضربهِ دمّاها (^١) … إذا أراد رشدًا أغواها (^٢)
قوله بضربه أي بسيره. قال الله ﵎: «وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ»:
سافرتم. وقوله «دمّاها» أي تركها كالدمى، واحدتها دمية، وهي الصور [في] المحاريب. وقوله «أغواها» أي رعاها الغواء (^٣)، وهو نبت تسمن عليه ا [لإبل].
وقال [أبو (^٤)] المجشر الضبي:
فإن تكُ مدلولًا علي فإنني … كريمك لا غمرٌ ولا أنا فانِ (^٥)
وقد عجمتني العاجماتُ فأسارت … صليب العصا جلدا على الحدثان (^٦)
صبورا على عضِّ الخطوب وضرسها … إذا قلَّصتْ عن الفم الشفتان (^٧)
_________
(^١) في اللسان (دمى): «برعيه دماها».
(^٢) الرشد، هنا: حب الرشاد. انظر كتاب الإنصاف والتحري في تعريف القدماء بأبى العلاء ٥٦٤.
(^٣) لم أجد من ذكر هذا النبات. وفي خ: «الغوى» ولم أجده كذلك.
(^٤) هذه التكملة من حماسة ابن الشجري ٦٠ واللسان (أبى). وذكر كلاهما أنه شاعر جاهلي.
(^٥) رواه في اللسان (دلل). وفي الأصل: «فإن يك» تحريف. يقال: ما دلك على، أي ما جرأك على. كريمك، هي في اللسان: «لعهدك»، ولعل هذه «كعهدك». الغمر، بتثليث الغين: الذي لا تجربة له. وفي الأصل وخ: «غم»، وصوابه من اللسان. والفاني: الشيخ الكبير.
(^٦) عجمته العاجمات: خبرته. وفي حماسة ابن الشجري: «لقد عجمتنى النائبات»، أسأرت: أبقت.
(^٧) الضرس: العض بالأضراس، ومثله التضريس. قال الأخطل:
كلمح أيدي مثاكيل مسلبة … يندبن ضرس بنات الدهر والخطب
1 / 188
(انشقت العصا) العرب تقول: فلان يشق العصا، إذا كان لا يدخل تحت حكم ولا طاعة مخالفًا لأمر الآمرين. ويستعمل شق العصا فيمن يتفرق عنه أحبابه، ويظعن عنه أصحابه فيظهر مكنون سره، ويبوح مخفي أمره (^١)، لضرورة البين الداعية إلى ذلك.
قال أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان المعري في كتابه المسمى بالقائف (^٢):
«مر ركب بشجرة مورية (^٣)، فاقتضب إنسان منهم عصا ثم شقها، ثم جعل يقتدح قريبًا من الشجرة فأورى الزند فقالت الشجرة: يا هذا ما أسرع ما ظهر سرك، وسوف ترغب الركب في اتخاذ زناد مني، فأحور عيدانًا في أيدي القوم. فقال: لا تلمني، المغرورة، أظهرت سري ضرورة».
وقال قيس بن ذريح:
إلى الله أشكو نيةً شقّت العصا … هي اليوم شتَّى وهي أمسِ جميعُ (^٤)
مضى زمنٌ والناس يستشفعون بي … فهل لي إلى لبني الغداة شفيع
وأول هذه القصيدة:
سقى طللَ الدارِ الذي أنتم بها … حناتم وبل صيّف وربيع (^٥)
_________
- وقال زهير:
ومن لم يصانع في أمور كثيرة … يضرس بأنياب ويوطأ بمنسم
وفي الأصل: «وصربها»، صوابه في حماسة ابن الشجري. وروى بعده في الحماسة:
وقبلك ما هاب الرجال ظلامتي … وفقأت عين الأشوس الأبيان
(^١) باح الشئ يبوح: ظهر. والمخفى، المستور المكتوم، يقال خفيته وأخفيته.
(^٢) ذكره أبو العلاء في تصانيفه التي ألفها، وقال: «كتاب القائف على معنى كليلة ودمنة ألفت منه أربعة أجزاء ثم انقطع تأليفه بموت من أمر بعمله، وهو عزيز الدولة». انظر تعريف القدماء بأبى العلاء.
(^٣) مورية: تورى النار، أي تخرجها. وفي الأصل: «موزية».
(^٤) قصيدة هذه الأبيات تختلط أبياتها بشعر المجنون اختلاطا، وتروى حينا للمجنون، وحينا القيس. القالى ١: ١٣٦ - ١٣٧ والحيوان ٥: ١٩٣ - ١٩٤ وعيون الأخبار ١: ٢٦١ والأغانى ٨: ١٢٦ وحماسة ابن الشجري ١٥٧ - ١٥٨.
(^٥) الحناتم: سحائب سود، الواحدة ختمة. الصيف: المطر الذي يجيء في الصيف.
والربيع: أول مطر يقع بالأرض أيام الخريف، كما في اللسان.
1 / 189
قال المؤلف أطال الله علاه: وقد صرعت هذه الأبيات جميعًا وأثبتها في ديوان شعري، وأنا ذاكر تصريع هذين البيتين لما فيهما من ذكر العصا.
قال غفر الله له:
أيرجو لي اللاحي من الحبِّ مخلصا (^١) … وقلبي إذا ما رضته بالأسى عصا
ولو أن ما بي بالحصى فلق الحصى … إلى الله أشكو نيةً شقّت العصا
هي اليوم شتَّى وهي أمسِ جميع
أطاعت بنا لبنى افتراءَ التكذّب … وصدّ التجنّى غير صدّ التجنّب (^٢)
فيا لك من دهرٍ كثيرِ التقلب … مضى زمنٌ والناس يستشفعون بي
فهل لي إلى لبني الغداة شفيع
وقال المؤلف أطال الله بقاءه أيضًا أبياتًا في ذكر العصا، وهي:
رمتنا الليالي بافتراقٍ مشتِّتٍ … أشتَّ وأنأى من فراق المحصَّبِ (^٣)
تخالفت الأهواءُ وانشقَّت العصا … وشعَّبنا وشكُ النوى كلَّ مشعب (^٤)
وقد نثر التوديعُ من كلِّ مقلةٍ … على كل خدٍّ لؤلؤًا لم يثقّبِ
المصراع الثاني من البيت الأول من قصيدة لامرئ القيس بن حجر الكندي واسمه حندج (^٥)، والحندجة: الرملة الصغيرة (^٦). وأول القصيدة:
_________
(^١) في الأصل: «من الذنب»، والوجه ما أثبت من الديوان ٣٦٤.
(^٢) في الديوان: «غير صد التعتب».
(^٣) ديوان أسامة ٦٠ ومسالك الأبصار ج ١٠ ص ٥٠ مصورة دار الكتب المصرية.
المحصب: موضع رمى الجمار بمنى.
(^٤) في الديوان والمسالك: «وشعبهم».
(^٥) عرف امرؤ القيس بلقبه هذا: امرؤ القيس. واسمه جندح بن حجر بن عمرو ابن الحارث. ويكنى أبا وهب وأبا الحارث، ويلقب أيضا بذى القروح. والقيس في اللغة: الشدة وقيل هو اسم صنم، قالوا: ولهذا كان يكره الأصمعي أن تروى:
• يا امرأ القيس فانزل …
وكان يرويه: «يا امرأ اللّه». شرح أبى بكر لديوان امرئ القيس.
(^٦) وقيل الرملة العظيمة؛ وقيل رملة طيبة تنبت ألوانا من النبات.
1 / 190
خليلي مرَّا بي على أمّ جندبِ … نقضِّ لباناتِ الفؤادِ المعذَّب
ومنها البيت:
فلله عينا من رأى من تفرقٍ … أشتَّ وأنأى من فراق المحصَّب (^١)
وقال أبو الحسن مهيار بن مرزويه الديلمي، من جملة قصيدة له:
ما قصرت يدُ الزَّمان شدَّ ما … تطول في نقصي وفي نقضِ مرر (^٢)
عصًا شظايا ومشيب رائعٌ … ومنزل ناءٍ وأحباب غدر (^٣)
وصاحبٌ كالداء إن أخفيته … غوّر وهو قاتل إذا استتر (^٤)
وقال المؤلف أطال الله بقاءه:
زدني جوىً يا حبَّهم وأضلَّني … يا مرشدي عن منهج السُّلوانِ
لا تنهني عنهم فإنَّ صبابتي … لا تستطيع تطيع من ينهاني (^٥)
أحببتهم أزمانَ غصني ناضرٌ … حتَّى عسا وعصى بنانَ الحاني (^٦)
فارجع بيأسك لستَ أول آمرٍ … شقَّ الغرامُ عصاه بالعصيان (^٧)
_________
(^١) في شرح الديوان: «المحصب من فارقه لا يرجع إليه. وقال ابن السيرافى:
المحصب: الموضع الذي يرمى فيه بحصى الجمار، ثم كانت تجتمع العرب من الأماكن المختلفة فيرى وينظر الرجل إلى وجوه النساء فربما هوى الرجل منهم بعض من هوى من النساء، فإذا تم حجهم مضوا في طرق شتى».
(^٢) ديوان مهيار ١: ٤١٣ من قصيدة كتب بها إلى أبى القاسم هبة اللّه بن علي بن ماكولا وفي الديوان: «يا قصرت» فيكون هذا دعاء عليها. وفي الديوان أيضا: «في ثلمى». والمرر:
جمع مرة، وهي الطاقة من طاقات الحبل، كناية عن الشدة. وأراد نقض مررى. فحذف ياء المتكلم. وفي الديوان: «المرر».
(^٣) رائع، هي في الأصل «زائع» صوابه في خ. وفي الديوان: «ومشيب عنت».
(^٤) غور، من قولهم غور الماء في الأرض: ذهب فيها وسفل. وفي الديوان: «عور» بالمهملة. وفي الأصل: «وهو قائل»، صوابه من خ والديوان.
(^٥) كذا في في خ وديوان أسامة ٥٤. وفي الأصل: «لا تنه عنهم»، تحريف.
(^٦) البنان: الأصابع، أو أطرافها. والحانى: الذي يحاول أن يحنيه ويلويه.
(^٧) في الأصل: «أول امرئ»، تحريف صوابه في خ.
1 / 191
وقال أيضًا:
كم ذا التجني وكثرةُ العلل … لا تأمنوا من حوادث المللِ
ولا تقولوا صبٌّ بنا كلفٌ … فأوّلُ اليأس آخر الأملِ
ولستُ ممن يريد شقَّ عصًا … الذَّنبِ ذنبي والحب شفِّع لي (^١)
هبوني أخطأت عامدًا فهبوا … خجلةَ عذري ما كان من زللي (^٢)
وقال امرؤ القيس بن حجر الكندي:
إذا ما لم تكنْ إبلٌ فمعزي … كأنَّ قرون جلتها العصيُّ
فتملأ بيتنا أقطا وسمنًا … وحسبك من غنًى شبعٌ وريُّ
أي كفاك. وكذلك حسبك الله، أي كفاك.
العرب تقول: «طارت عصا بني فلان شفقا». وقال الأسدي:
عصيُّ الشملِ من أسدٍ أراها … قد انصدعت كما انصدع الزُّجاجُ
ويقال: «فلان شقَّ عصا المسلمين»، ولا يقال شق ثوبًا ولا غير ذلك مما يقع عليه اسم الشق (^٣).
(ألقى العصا) يقال ألقى عصا التسيار، إذا أقام وترك السفر. وكأن العرب عنت بقولها «ألقى عصاه» أي وصل إلى بغيته ومراده، أو وطنه ومراده، وراحته، ومظنة استراحته. قال الأصمعي - واسمه عبد الملك بن قريب - قصيدة مدح بها جعفر بن يحيى البرمكي ورحل إليه فمات قبل أن يصل إليه، وذكر فيها العصا، وهي قصيدة طولى أنا مورد منها نبذة لأجل العصا، وهي:
فخطَّت إليها مناقيلها … وألقت عصا السّفر السّفر (^٤)
_________
(^١) في الديوان ٤٠: «يشفع لي».
(^٢) في الأصل: «حجلة عذرى»، صوابه من الديوان.
(^٣) الكلام من «العرب تقول» إلى هنا، مقتبس من البيان والتبين ٣: ٣٩ - ٤٠.
(^٤) المناقيل: جمع منقل بفتح الميم وكسرها، وهو الخف، وزيادة الياء في مثل هذا الجمع جائز عند الكوفيين اطرادا. والسفر هنا: جمع سافر، وهو الذي خرج إلى السفر، مثل راكع وركع. ومع قياسيته لم أجده في المعاجم. وفي الأصل: «المسفر»، وأثبت ما في خ.
1 / 192
وقال راشد بن عبد الله (^١):
وخبَّرها الرُّوَّادُ أن ليس بينها … وبين قرى نجران والدرب كافر (^٢)
فألقت عصاها واستقرت بها النوى … كما قرَّ عينًا بالإياب المسافرُ (^٣)
وقال آخر (^٤):
فألقت عصا التَّسيار عنها وخيَّمتْ … بأجباءِ عذبِ الماء بيضٍ محافره (^٥)
الجبا: ما حول البئر، مفتوح الجيم مقصور، وجمعه أجباء ممدود. وقوله «بيض محافره» يريد أنه [لم] (^٦) يحفر في أرض سوداء، ولا من دمن، بل هي أرض صلبة.
وقوله: «خيمت»، أي اتخذت [خيمة] (^٧) فأقامت.
روي أن قتيبة بن مسلم (^٨) لما تسنم منبر خراسان سقط القضيب من يده فتطير له صديقه، وتشاءم (^٩) عدوه، فعرف ذلك قتيبة، فحمد الله تعالى عليه ثم قال:
ليس كما سر العدو وساء الصديق، بل كما قال الشاعر:
فألقت عصاها واستقرَّ بها النَّوى … كما قر عينًا بالإياب المسافرُ
قال المؤلف أطال الله بقاءه: قال جدى الأمير سديد الملك والمناقب أبو الحسن
_________
(^١) كذا. وفي البيان ٣: ٤٠ نسبة البيت الثاني إلى مضرس الأسدي، وفي اللسان (عصا) نسبته إلى عبد ربه السلمى، أو سليم بن ثمامة الحنفي، أو معقر بن حمار البارقي. ونسب البيت الثاني في المؤتلف للآمدى ٩٢ إلى معقر بن حمار.
(^٢) الكافر، هنا: المطر، كما في اللسان (كفر، عصا) عند إنشاد البيت.
(^٣) النوى: الوجه الذي ينويه المسافر، وهي مؤنثة. وكذا ورد البيت في البيان والمخصص ١٢: ٦١/ ١٥: ١٧٢/ ١٦: ١١. وفي اللسان (عصا): «واستقر». وترك تأنيث الفعل في مثل هذا جائز. وفي اللسان (نوى): «واستقر» أيضا، وهذا لا يتفق مع الغرض الذي سبق له الاستشهاد.
(^٤) هو مضرس الأسدي، كما في البيان ٣: ٤٠.
(^٥) في البيان: «بأرجاء».
(^٦) كلمة «لم» من خ.
(^٧) التكملة من خ.
(^٨) الخبر في عيون الأخبار ٢: ٢٥٩ ومحاضرات الراغب ١: ٧٠.
(^٩) خ: «تشأم»، وكلاهما صحيح، من التشاؤم.
1 / 193
علي بن مقلد ﵀، يخاطب بعض ولاة حلب:
خيّمت في حلب العواصم بعد ما … قلّدتَ خوفك نازحَ الأقطارِ
لا ترضها دار الثَّواء ولا تقلْ … في مثلها تلقى عصا التَّسيارِ
استحي من أجداث قومك أن ترى … عرض البسيطة وهي دارُ قرارِ
قال المؤلف أطال الله بقاءه: حدثني من أثق به في شوال سنة سبع وستين (^١) وخمسمائة بحصن كيفا (^٢) قال: كان في خدمة الأمير نجم الدولة مالك بن سالم صاحب قلعة جعبر (^٣) رجل عواد يقال له أبو الفرج حدثني قال: كنت يومًا في مجلس الأمير نجم الدولة وهو يشرب إلى [أن (^٤)] سكر، وانصرفت إلى منزلي، فما كان أكثر من مضي ساعتين من الليل إذ وافاني رسوله فقال: الأمير يستدعيك.
فقلت: ما نزلت حتى سكر! قال: هو أمرني بإحضارك. فمضيت معه فرأيت الأمير جالسا، فقال: يا أبا الفرج، بعد انصرافكم نمت فرأيت إنسانًا يغنيني صوتًا حفظته ثم أنسيته، وأريد أن تذكره لي. فقلت: يا مولاي، اذكر لي منه كلمة. فقال: ما أذكر منه شيئًا ولكن اعرض علي ما يحضرك. فعرضت عليه أصواتًا كثيرة وهو يقول: ما هذا الصوت الذي أربته (^٥)! ثم قال: انصرف وأفكر لعلك تذكره. فانصرفت وأصبحت من بكرة طلعت إلى خدمته فقال:
يا أبا الفرج، أي شيء كان من الصوت؟ قلت: يا مولاي، لا يعلم الغيب إلا الله ﷾. قال: والله لئن لم تذكره لأخرجنك من القلعة. فقلت:
والله يا مولاي ما أدري، ما أذكر (^٦) من صوت ما سمعته ولا ذكرت لي منه كلمة واحدة؟! فقال خذوه وأخرجوه. فأخرجوني إلى «البليل (^٧)» فأقمت فيه يوما
_________
(^١) هذا ما في خ. وفي الأصل: «تسع وستين».
(^٢) مدينة وقلعة عظيمة مشرفة على دجلة بين آمد وجزيرة ابن عمر من ديار بكر.
(^٣) قلعة جعبر، على الفرات مقابل صفين التي كانت بها الوقعة. وكانت تعرف أولا بدوسر، فتملكها رجل من بنى نمير يقال له جعبر بن مالك، فغلب عليها فسميت به.
(^٤) التكملة في خ.
(^٥) هذا ما في خ. وفي الأصل: «رأيته».
(^٦) في الأصل: ما أذكره»، صوابه في خ.
(^٧) في الأصل: «البلبل» صوابه في خ. وفي القاموس أن البليل كزبير شريعة صفين.
1 / 194