The Seerah - Lessons and Insights
السيرة النبوية - دروس وعبر
Yayıncı
المكتب الإسلامي
Baskı Numarası
الثالثة
Yayın Yılı
١٤٠٥ هـ - ١٩٨٥ م
Türler
مقدمة المؤلف
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالبينات والهدى، ليخرجوا الناس من الظلمات إلى النور، ويهدوهم إلىى صراط العزيز الحميد.
والصلاة والسلام على أفضل رسله، وأشرف دعاته، سيدنا محمد ﷺ الذي ختم الله به رسله، فجعل سيرته قدوة لكل مؤمن في جميع شؤون الحياة صغيرها وكبيرها، وختم بدينه الشرائع، فجعل رسالته أكمل الرسالات وأوفاها بحاجات الناس في مختلف بيئاتهم وعصورهم، صلى الله وسلم عليه وعلى أصحابه الهداة البررة الذين علم الله فيهم سلامة الفطرة، وصدق العقيدة، وعظيم التضحية، فشرفهم بحمل رسالة الإسلام إلى أمم الأرض، فأراقوا في سبيلها دماءهم، وفارقوا من أجلها ديارهم، حتى أدوا الأمانة، وبلغوا الرسالة، ونصحوا لله ورسوله، فكان لهم فضل على الإنسانية لا يعرف مداها، ودين في عنق كل مسلم حتى يرث الله الأرض ومن عليها، رضوان الله عليهم وعلى من أحبهم وحمل لواء الدعوة إلى الله من بعدهم حتى يوم الدين.
وبعد فهذه مذكرات كتبتها على عجل وشدة من المرض بعد أن ألقيتها محاضرة مفصلة على طلاب السنة الأولى في كلية الشريعة توخيت فيها أن أبرز أوضح مظاهر الأسوة في سيرة الرسول الكريم صلى
1 / 11
الله عليه وسلم، مما ينبغي على كل مسلم وداعية إلى الله ﷿، وعالم بالشريعة، وحامل لفقهها، أن يتدبره ويجعله نصب عينيه، ليكون له شرف الاقتداء برسوله ﷺ، وليفتح أمامه باب النجاح في دعوته بين الناس، وباب القبول والرضى من الله جل شأنه، وليكتب له شرف الخلود مع رسوله ﷺ في جنات النعيم، فإن الله تعالى يقول: ﴿وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [النساء: ١٣].
هذا وقد جعلت البحث وفق المنهج التالي:
أ- مقدمة وتشتمل على بحثين:
١ - في ميزة السيرة النبوية والفائدة من دراستها.
٢ - في مصادر السيرة النبوية ومراجعها الصحيحة.
ب- في فقه سيرته ﷺ ويشتمل على عشرة فصول.
الفصل الأول- في حياته ﷺ قبل البعثة.
الفصل الثاني- في حياته بعد البعثة إلى الهجرة إلى الحبشة.
الفصل الثالث- في حياته بعد هجرة الحبشة إلى الهجرة للمدينة.
الفصل الرابع- في هجرته حتى استقراره بالمدينة.
الفصل الخامس- في معاركه الحربية منذ غزوة بدر حتى فتح مكة.
الفصل السادس- في انتشار الإسلام في جزيرة العرب بعد الفتح.
الفصل السابع- في حياته بعد الفتح إلى الوفاة.
الفصل الثامن- في خصائص التشريع الإسلامي في المدينة.
1 / 12
الفصل التاسع- في أخلاقه وافتراءات المستشرقين والمبشرين.
الفصل العاشر- في أثره وأثر رسالته في العالم.
والله أسأل أن يوفقني في مثل هذه العجالة القصيرة المستعجلة إلى إمعان النظر في السيرة النبوية بما يؤدي إلى الغرض المتوخى من تدريس هذه المادة في كلية الشريعة بحيث يحمل طلابها وطالباتها على أن يتعشقوا دراسة سيرته الطاهرة، فيحملوا من معانيها ودروسها في نفوسهم ما يجعلهم قدوة للناس في استقامتهم وصلاح سيرتهم، وحسن هديهم في الدعوة إلى الإصلاح حتى يعود الرسول ﷺ للمسلمين شمسا منيرة تبدد ظلمات حياتهم، وتمدهم بالحرارة والدفء في قلوبهم وعقولهم وسلوكهم فيعود للمجتمع الإسلامي صفاؤه واستقامته ومثاليته التي تجعله من جديد في مكان الصدارة والقيادة لشعوب العالم، ويتحقق بذلك قول الله فينا نحن المسلمين مرة أخرى: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾ [آل عمران:١١١].
دمشق رمضان ١٣٨١هـ
مصطفى السباعي
1 / 13
المقدمة
ميزة السيرة النبوية
تجمع السيرة النبوية عدة مزايا تجعل دراستها متعة روحية وعقلية وتاريخية، كما تجعل هذه الدراسة ضرورية لعلماء الشريعة والدعاة إلى الله والمهتمين بالإصلاح الاجتماعي، ليضمنوا إبلاغ الشريعة إلى الناس بأسلوب يجعلهم يرون فيها المعتصم الذي يلوذون به عند اضطراب السبل واشتداد العواصف، ولتتفتح أمام الدعاة قلوب الناس وأفئدتهم، ويكون الإصلاح الذي يدعو إليه المصلحون، أقرب نجحا وأكثر سدادا. ونجمل فيما يلي أبرز مزايا السيرة النبوية.
أولا- إنها أصح سيرة لتاريخ نبي مرسل، أو عظيم مصلح فقد وصلت إلينا سيرة رسول الله ﷺ عن أصح الطرق العلمية وأقواها ثبوتا- كما سنرى في بحث مصادر السيرة- مما لايترك مجالا للشك في وقائعها البارزة وأحداثها الكبرى، ومما ييسر لنا معرفة ما أضيف إليها في العصور المتأخرة من أحداث أو معجزات أو وقائع أوحى بها العقل الجاهل الراغب في إضفاء الصفة المدهشة على رسول الله ﷺ أكثر مما أراد الله لرسوله أن يكون عليه من جلالة المقام وقدسية الرسالة، وعظمة السيرة.
1 / 15
إن الميزة من صحة السيرة صحة لا يتطرق إليها شك لا توجد في سيرة رسول من رسل الله السابقين، فموسى ﵇ قد اختلطت عندنا وقائع سيرته الصحيحة بما أدخل عليها اليهود من زيف وتحريف، ولا نستطيع أن نركن إلى التوراة الحاضرة لنستخرج منها سيرة صادقة لموسى ﵇، فقد أخذ كثير من النقاد الغربيين يشكون في بعض أسفارها وبعضهم يجزم بأن بعض أسفارها لم يكتب في حياة موسى ﵇ ولا بعده بزمن قريب، وإنما كتب بعد زمن بعيد من غير أن يعرف كاتبها، وهذا وحده كاف للتشكيك في صحة سيرة موسى ﵇ كما وردت في التوراة، ولذلك ليس أمام المسلم أن يؤمن بشيء من صحة سيرته إلا ما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة.
ومثل ذلك يقال في سيرة عيسى ﵇، فهذه الأناجيل المعترف بها رسميا لدى الكنائس المسيحية إنما أقرت في عهد متأخر عن السيد المسيح بمئات السنينن، وقد اختيرت - بدون مسوغ علمي - من بين مئات الأناجيل التي كانت منتشرة في أيدي المسيحيين يومئذ. ثم إن نسبة هذه الأناجيل لكاتبيها لم يثبت عن طريق علمي تطمئن النفس إليه، فهي لم ترو بسند متصل إلى كاتبيها، على أن الخلاف قد وقع أيضا بين النقاد الغربيين في أسماء بعض هؤلاء الكاتبين من يكونون؟ وفي أي عصر كانوا؟
وإذا كان هذا شأن سير الرسل أصحاب الديانات المنتشرة في العالم، كان الشك أقوى في سيرة أصحاب الديانات والفلاسفة الآخرين الذين يعد أتباعهم بمئات الملايين في العالم، كبوذا
1 / 16
وكونفوشيوس، فإن الروايات التي يتناقلها أتباعهم عن سيرتهم ليس لها أصل معتبر في نظر البحث العلمي، وإنما يتلقفها الكهان فيما بينهم، ويزيد فيها كل جيل عن سابقه بما هو من قبيل الأساطير والخرافات التي لا يصدقها العقل النير المتحرر الخالي من التعصب لتلك الديانات.
وهكذا نجد أن أصح سيرة وأقواها ثبوتا متواترا هي سيرة محمد رسول الله ﷺ.
ثانيا- إن حياة رسول الله ﷺ واضحة كل الوضوح في جميع مراحلها، منذ زواج أبيه عبد الله بأمه آمنة إلى وفاته ﷺ، فنحن نعرف الشيء الكثير عن ولادته، وطفولته وشبابه، ومكسبه قبل النبوة، ورحلاته خارج مكة، إلى أن بعثه الله رسولا كريما، ثم نعرف بشكل أدق واوضح وأكمل كل أحواله سنة فسنة، مما يجعل سيرته ﵊ واضحة وضوح الشمس، كما قال بعض النقاد الغربيين: إن محمدا ﵊ هو الوحيد الذي ولد على ضوء الشمس.
وهذا ما لم يتيسر مثله ولا قريب منه لرسول من رسل الله السابقين، فموسى ﵇ لا نعرف شيئا قط عن طفولته وشبابه وطرق معيشته قبل النبوة، ونعرف الشيء القليل عن حياته بعد النبوة، مما لا يعطينا صورة مكتملة لشخصيته، ومثل ذلك يقال في عيسى ﵇، فنحن لا نعرف شيئا عن طفولته إلا ما تذكره الأناجيل الحاضرة، من أنه دخل هيكل اليهود، وناقش أحبارهم، فهذه هي الحادثة الوحيدة التي يذكرونها عن طفولته، ثم نحن لا نعلم من أحواله بعد النبوة إلا ما
1 / 17
يتصل بدعوته، وقليلا من أسلوب معيشته، وما عدا ذلك فأمر يغطيه الضباب الكثير.
فأين هذا مما تذكره مصادر السيرة الصحيحة من أدق التفاصيل في حياة رسولنا الشخصية، كأكله، وقيامه، وقعوده، ولباسه، وشكله، وهيئته، ومنطقه، ومعاملته لأسرته، وتعبده، وصلاته، ومعاشرته لأصحابه، بل بلغت الدقة في رواة سيرته أن يذكروا لنا عدد الشعرات البيض في رأسه ولحيته ﷺ.
ثالثا- إن سيرة رسول الله ﷺ تحكي سيرة إنسان أكرمه الله بالرسالة، فلم تخرجه عن إنسانيته، ولم تلحق حياته بالأساطير، ولم تضف عليه الألوهية قليلا ولا كثيرا، وإذا قارنا هذا بما يرويه المسيحيون عن سيرة عيسى ﵇، وما يرويه البوذيون عن بوذا، والوثنيون عن آلهتهم المعبودة، اتضح لنا الفرق جليا بين سيرته ﵇ وسيرة هؤلاء، ولذلك أثر بعيد المدى في السلوك الإنساني والاجتماعي لاتباعهم، فادعاء الألوهية لعيسى ﵇ ولبوذا جعلهما أبعد منالا من أن يكونا قدوة نموذجية للإنسان في حياته الشخصية والاجتماعية، بينما ظل وسيظل محمد ﷺ النثل النموذجي الإنساني الكامل لكل من أراد أن يعيش سعيدا كريما في نفسه وأسرته وبيئته، ومن هنا يقول الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ﴾ [الأحزاب:٢١].
رابعا- إن سيرة رسول الله ﷺ شاملة لكل النواحي
1 / 18
الإنسانية في الإنسان، فهي تحكي لنا سيرة محمد الشاب الأمين المستقيم قبل أن يكرمه الله بالرسالة، كما تحكي لنا سيرة رسول الله الداعية إلى الله المتلمس أجدى الوسائل لقبول دعوته، الباذل منتهى طاقته وجهده في إبلاغ رسالته، كما تحكي لنا سيرته كرئيس دولة يضع لدولته أقوم النظم وأصحها، ويحميها بيقظته وإخلاصه وصدقه بما يكفل لها النجاح، كما تحكي لنا سيرة الرسول الزوج والأب في حنو العاطفة، وحسن المعاملة، والتمييز الواضح بين الحقوق والواجبات لكل من الزوج والزوجة والأولاد، كما تحكي لنا سيرة الرسول المربي المرشد الذي يشرف على تربية أصحابه تربية مثالية ينقل فيها من روحه إلى أرواحهم، ومن نفسه إلى نفوسهم، مما يجعلهم يحاولون الاقتداء به في دقيق الأمور وكبيرها، كما تحكي لنا سيرة الرسول الصديق الذي يقوم بواجبات الصحبة، ويفي بالتزاماتها وآدابها، مما يجعل أصحابه يحبونه كحبهم لأنفسهم وأكثر من حبهم لأهليهم وأقربائهم، وسيرته تحكي لنا سيرة المحارب الشجاع، والقائد المنتصر، والسياسي الناجح، والجار الأمين، والمعاهد الصادق.
وقصارى القول: إن سيرة رسول الله ﷺ شاملة لجميع النواحي الإنسانية في المجتمع، مما يجعله القدوة الصالحة لكل داعية، وكل قائد، وكل أب، وكل زوج، وكل صديق، وكل مربي، وكل سياسي، وكل رئيس دولة، وهكذا ..
ونحن لا نجد مثل هذا الشمول ولا قريبا منه فيما بقي لنا من سير الرسل السابقين، ومؤسسي الديانات والفلاسفة المتقدمين والمتأخرين،
1 / 19
فموسى يمثل زعيم الأمة الذي أنقذ أمته من العبودية، ووضع لها من القواعد والمبادئ ما يصلح لها وحدها، ولكننا لا نجد في سيرته ما يجعله قدوة للمحاربين، أو المربين أو السياسيين، أو رؤساء الدول أو الآباء، أو الأزواج مثلا، وعيسى ﵇ يمثل الداعية الزاهد الذي غادر الدنيا وهو لا يملك مالا، ولا دارا، ولا متاعا، ولكنه في سيرته الموجودة بين أيدي المسيحيين، لا يمثل القائد المحارب، ولا رئيس الدولة، ولا الأب، ولا الزوج -لأنه لم يتزوج- ولا المشترع، ولا غير ذلك مما تمثله سيرة محمد ﷺ. وقل مثل ذلك في بوذا، وكونفوشيوس، وأرسطو، وأفلاطون، ونابليون، وغيرهم من عظماء التاريخ، فإنهم لا يصلحون للقدوة -إن صلحوا- إلا لناحية واحدة من نواحي الحياة وبرزوا فيها واشتهروا بها، والإنسان الوحيد في التاريخ الذي يصلح أن يكون قدوة لجميع الفئات وجميع ذوي المواهب وجميع الناس هو محمد ﷺ.
خامسا- إن سيرة محمد ﷺ وحدها تعطينا الدليل الذي لا ريب فيه على صدق رسالته ونبوته، إنها سيرة إنسان كامل سار بدعوته من نصر إلى نصر لا عن طريق الخوارق والمعجزات، بل عن طريق طبيعي بحت، فلقجد دعا فأوذي، وبلغ فأصبح له الأنصار، واضطر إلى الحرب فحارب، وكان حكيما، موفقا في قيادته، فما أزفت ساعة وفاته إلا كانت دعوته تلف الجزيرة العربية كلها عن طريق الإيمان، لا عن طريق القهر والغلبة، ومن عرف ما كان عليه العرب من عادات وعقائد وما قاوموا به دعوته من شتى أنواع المقاومة حتى تدبير
1 / 20
اغتياله، ومن عرف عدم التكافؤ بينه وبين محاربيه في كل معركة انتصر فيها، ومن عرف قصر المدة التي استغرقتها رسالته حتى وفاته، وهي ثلاث وعشرون سنة، أيقن أن محمدا رسول الله حقا، وأن ما كان يمنحه الله من قوة وثبات وتأثير ونصر ليس إلا لأنه نبي حقا، وما كان لله أن يؤيد من يكذب عليه هذا التأييد الفريد في التاريخ، فسيرة رسول الله ﷺ تثبت لنا صدق رسالته عن طريق عقلي بحت، وما وقع له ﷺ من المعجزات لم يكن الأساس الأول في إيمان العرب بدعوته، بل إنا لا نجد له معجزه آمن معها الكفار المعاندون، على أن المعجزات المادية تكون حجة على من شاهدها، ومن المؤكد أن المسلمين الذين لم يروا النبي ﷺ، ولم يشاهدوا معجزاته، إنما آمنوا بصدق رسالته للأدلة العقلية القاطعة على دعواه النبوة، ومن هذه الأدلة العقلية: القرآن الكريم، فإنه معجزة عقلية، تلزم كل عاقل منصف أن بصدق محمد ﷺ في دعوى الرسالة.
وهذا يختلف تماما عن سير الأنبياء السابقين المحفوظة لدى أتباعهم، فهي تدلنا على أن الناس إنما آمنوا بهم لما رأوا على أيديهم من معجزات وخوارق، دون أن يحكموا عقولهم في مبادئ دعواتهم فتذعن لها، وأوضح مثل لذلك السيد المسيح ﵇، فإن الله حكى لنا في القرآن الكريم أنه جعل الدعامة الأولى في إقناع اليهود بصدق رسالته أنه يبرئ الأكمه والأبرص، ويشفي المرضى، ويحيي الموتى، وينبئهم بما يأكلون ويدخرون في بيوتهم، كل ذلك بإذن الله جل شأنه،
1 / 21
والأناجيل الحاضرة تروي لنا أن هذه المعجزات هي وحدها التي كانت سببا في إيمان الجماهير دفعة واحدة به، لا على أنه رسول كما يحكي القرآن الكريم، بل على أنه إله وابن إله-حاشا لله من ذلك- والمسيحية بعد المسيح انتشرت بالمعجزات وخوارق العادات - وفي سفر أعمال الرسل أكبر دليل على ذلك - حتى ليصح لنا أن نطلق على المسيحية التي يؤمن بها أتباعها أنها دين قام على المعجزات والخوارق، لا على الإقناع العقلي ومن هنا نرى هذه الميزة الواضحة في سيرة الرسول ﷺ، أنه ما آمن به واحد عن طريق مشاهدته لمعجزة خارقة، بل عن اقتناع عقلي وجداني، وإذا كان الله قد أكرم رسوله بالمعجزات الخارقة، فما ذلك إلا إكرام له ﷺ وإفحام لمعانديه المكابرين ومن تتبع القرآن الكريم وجد أنه اعتمد في الإقناع على المحاكمة العقلية، والمشاهدة المحسوسة لعظيم صنع الله، والمعرفة التامة بما كان عليه الرسول من أمية تجعل إتيانه بالقرآن الكريم دليلا على صدق رسالته ﷺ، يقول الله تعالى في سورة العنكبوت: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ، أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [العنكبوت: ٥٠،٥١]، ولما اشتط كفار قريش في طلب المعجزات من رسول الله ﷺ كما كانت تفعل الأمم الماضية، أمره الله أن يجيبهم بقوله: ﴿قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولًا﴾ [الإسراء: ٩٣]. استمع إلى ذلك في قوله تعالى في سورة الإسراء: ﴿وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ
1 / 22
حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا، أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا، أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلًا، أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولًا﴾ [الإسراء: ٩١ - ٩٣].
هكذا يقرر القرآن بصراحة ووضوح أن محمدا ﷺ إنسان رسول، وأنه لا يعتمد في دعوى الرسالة على الخوارق والمعجزات، وإنما يخاطب العقول والقلوب، ﴿فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ﴾ [الأنعام: ١٢٥].
1 / 23
المقدمة
مصادر السيرة النبوية
تنحصر المصادر الرئيسية المعتمدة للسيرة النبوية في أربعة مصادر:
١ - القرآن الكريم:
وهو مصدر أساسي نستمد منه ملامح السيرة النبوية، فقد تعرض القرآن الكريم لنشأته ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى، وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى﴾ [الضحى: ٥ - ٦] كما تعرض لأخلاقه الكريمة العالية ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: ٤]. وقد تحدث القرآن عما لقيه ﵊ من أذى وعنت في سبيل دعوته، كما ذكر ما كان المشركون ينعتونه به من السحر والجنون صدا عن دين الله ﷿، وقد تعرض القرآن لهجرة الرسول كما تعرض لأهم المعارك الحربية التي خاضها بعد هجرته، فتحدث عن معركة بدر، وأحد، والأحزاب، وصلح الحديبية، وفتح مكة، وغزوة حنين، وتحدث عن بعض معجزاته، كمعجزة الإسراء والمعراج.
وبالجملة فقد تحدث عن كثير من وقائع سيرة الرسول ﷺ، ولما كان الكتاب الكريم أوثق كتاب على وجه الأرض، وكان
1 / 25
من الثبوت المتواتر بما لا يفكر إنسان عاقل في التشكيك بنصوصه وثبوتها التاريخي، فإن ما تعرض له من وقائع السيرة يعتبر أصح مصدر للسيرة على الإطلاق.
ولكن من الملاحظ أن القرآن لم يتعرض لتفاصيل الوقائع النبوية، وإنما تعرض لها إجمالا، فهو حين يتحدث عن معركة لا يتحدث عن أسبابها، ولا عن عدد المسلمين والمشركين فيها، ولا عن عدد القتلى والأسرى من المشركين، وإنما يتحدث عن دروس المعركة وما فيها من عبر وعظات، وهذا شأن القرآن في كل ما أورده من قصص عن الأنبياء السابقين والأمم الماضية، ولذلك فنحن لا نستطيع أن نكتفي بنصوص القرآن المتعلقة بالسيرة النبوية لنخرج منها بصورة متكاملة عن حياة الرسول ﷺ.
٢ - السنة النبوية الصحيحة:
السنة النبوية الصحيحة التي تضمنتها كتب أئمة الحديث المعترف بصدقهم والثقة بهم في العالم الإسلامي هي:
الكتب الستة: البخاري، ومسلم، وأبوداود، والنسائي، والترمذي، وابن ماجه. ويضاف إليها: موطأ الإمام مالك، ومسند الإمام أحمد، فهذه الكتب وخاصة البخاري ومسلم في الذروة العليا من الصحة والثقة والتحقيق، أما الكتب الأخرى، فقد تضمنت الصحيح والحسن، وفي بعضها الضعيف أيضا.
من هذه الكتب التي حوت القسم الأكبر من حياة النبي صلى الله
1 / 26
عليه وسلم، ووقائعه وحروبه، وأعماله، نستطيع أن نكون فكرة شاملة - وإن كانت غير متكاملة أحيانا - عن سيرة الرسول ﷺ، ومما يزيد الثقة بها والاطمئنان إليها أنها رويت بالسند المتصل إلى الصحابة رضوان الله عليهم، وهم الذين عاشروا الرسول ولازموه، ونصر الله بهم دينه، وقد رباهم رسول الله ﷺ على عينه، فكانوا أكمل أجيال التاريخ استقامة أخلاق وقوة إيمان، وصدق حديث، وسمو أرواح، وكمال عقول، فكل ما رووه لنا عن الرسول بالسند الصحيح المتصل يجب أن نقبله كحقيقة تاريخية لا يخالجنا الشك فيها.
ويحاول المستشرقون المغرضون وأتباعهم من المسلمين الذين رق دينهم، وفتنوا بالغرب وعلمائه أن يشككوا في صحة ما بين أيدينا من كتب السنة المعتمدة، لينفذوا منها إلى هدم الشريعة، والتشكيك بوقائع السيرة، ولكن الله الذي تكفل بحفظ دينه قد هيأ لهم من يرد سهام باطلهم، وكيدهم إلى نحورهم وقد تعرضت في كتابي «السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي» إلى جهود علمائنا في تمحيص السنة النبوية، وسردت شبه المستشرقين ومن تابعهم، وناقشتها نقاشا علميا، أرجو الله أن يثيبني عليه، ويجعله في صفحات حسناتي يوم العرض عليه.
٣ - الشعر العربي المعاصر لعهد الرسالة:
مما لا شك فيه أن المشركين قد هاجموا الرسول ودعوته على ألسنة
1 / 27
شعرائهم، مما اضطر المسلمين إلى الرد عليهم على ألسنة شعرائهم، كحسان بن ثابت، وعبد الله ابن رواحة، وغيرهما، وقد تضمنت كتب الأدب، وكتب السيرة التي صنفت فيما بعد قسطا كبيرا من هذه الأشعار التي نستطيع أن نستنتج منها حقائق كثيرة عن البيئة التي كان يعيش فيها الرسول ﷺ، والتي ترعرعت فيها عقيدة الإسلام أول قيامها.
٤ - كتب السيرة:
كانت وقائع السيرة النبوية روايات يرويها الصحابة رضوان الله عليهم إلى من بعدهم، وقد اختص بعضهم بتتبع دقائق السيرة وتفاصيلها، ثم تناقل التابعون هذه الأخبار ودونوها في صحائف عندهم، وقد اختص بعضهم بالعناية التامة بها، أمثال أبان بن عثمان بن عفان ﵁ (٣٢ - ١٠٥هـ) وعروة بن الزبير بن العوام (٢٣ - ٩٣هـ) ومن صغار التابعين عبد الله بن أبي بكر الأنصاري (توفي سنة ١٣٥هـ) ومحمد بن مسلم بن شهاب الزهري (٥٠ - ١٢٤هـ) الذي جمع السنة في عهد عمر بن عبد العزيز بأمره، وعاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري (توفي سنة ١٢٩هـ).
ثم انتقلت العناية بالسيرة إلى من بعدهم، حتى أفردوها بالتصنيف، ومن أشهر أوائل المصنفين في السيرة محمد بن إسحاق بن يسار (توفي سنة ١٥٢هـ) وقد اتفق جمهور العلماء والمحدثين على توثيقه، إلا ما روي عن مالك، وهشام بن عروة بن الزبير من تجريحه،
1 / 28
وقد حمل كثير من العلماء المحققين تجريح هذين العالمين الكبيرين له بعداوات شخصية كانت قائمة بينهما وبين ابن إسحاق.
ألف ابن إسحاق كتابه «المغازي» من أحاديث وروايات سمعها بنفسه في المدينة ومصر، ومن المؤسف أن هذا الكتاب لم يصل إلينا، فقد فُقِدَ فيما فُقِدَ من تراثنا العلمي الزاخر، ولكن مضمون الكتاب بقي محفوظا بما رواه عنه ابن هشام في سيرته عن طريق شيخه البكائي الذي كان من أشهر تلامذة ابن إسحاق.
سيرة ابن هشام:
هو أبو محمد عبد الملك بن أيوب الحميري، نشأ بالبصرة وتوفي سنة ٢١٣ أو ٢١٨ هـ على اختلاف الروايات، ألف ابن هشام كتابه «السيرة النبوية» مما رواه شيخه البكائي عن ابن إسحاق، ومما رواه هو شخصيا عن شيوخه، مما لم يذكره ابن إسحاق في سيرته، وأغفل ما رواه ابن إسحاق مما لم يتفق مع ذوقه العلمي وملكته النقدية، فجاء كتابا من أوفى مصادر السيرة النبوية، وأصحها، وأدقها، ولقي من القبول ما جعل الناس ينسبون كتابه إليه، فيقولون: سيرة ابن هشام وشرح كتابه هذا عالمان من الأندلس: السهيلي (٥٠٨ - ٥٨١هـ) والخشني (٥٣٥ - ٦٠٤هـ).
طبقات ابن سعد:
هو محمد بن سعد بن منيع الزهري، ولد بالبصرة سنة ١٦٨هـ
1 / 29
وتوفي ببغداد سنة ٢٣٠هكان كاتبا لمحمد بن عمر الواقدي المؤرخ الشهير في المغازي والسيرة (١٣٠ - ٢٠٧هـ) سار ابن سعد في كتابه «الطبقات» على ذكر أسماء الصحابة والتابعين - بعد ذكر سيرة الرسول ﵇ بحسب طبقاتهم، وقبائلهم، وأماكنهم، ويعتبر كتابه «الطبقات» من أوثق المصادر الأولى للسيرة، وأحفظها بذكر الصحابة والتابعين.
تاريخ الطبري:
هو أبو جعفر محمد بن جرير الطبري (٢٢٤ - ٣١٠هـ) إمام، فقيه، محدث، صاحب مذهب في الفقه لم ينتشر كثيرا ألف كتابه في التاريخ غير مقتصر على سيرة الرسول ﵊، بل ذكر تاريخ الأمم قبله، وأفرد قسما خاصا لسيرته ﵇، ثم تابع الحديث عن تاريخ الدول الإسلامية حتى قرب وفاته.
يعتبر الطبري حجة ثقة فيما يروي، ولكنه كثيرا ما يذكر روايات ضعيفة أو باطلة، مكتفيا بإسنادها إلى رواتها الذين كان أمرهم معروفا في عصره، كما في رواياته عن أبي مخنف، فقد كان شيعيا متعصبا، ومع ذلك فقد أورد له الطبري كثيرا من أخباره بإسنادها إليه، كانه يتبرأ من عهدتها، ويلقي العبء على أبي مخنف.
تطور التأليف في السيرة:
ثم تطور التأليف في السيرة، فأفردت بعض نواحيها بالتأليف
1 / 30
خاصة، كـ «دلائل النبوة» للأصبهاني، و«الشمائل المحمدية» للترمذي، و«زاد المعاد» لابن قيم الجوزية، و«الشفاء» للقاضي عياض، و«المواهب اللدنية» للقسطلاني وهي مشروحة في ثماني مجلدات بقلم الزرقاني المتوفى سنة ١١٢٢هـ.
هذا ولا يزال العلماء يؤلفون في سيرة الرسول ﵊ بأسلوب حديث يتقبله ذوق أبناء العصر، ومن أشهر الكتب المؤلفة في العصر الحديث كتاب «نور اليقين في سيرة سيد المرسلين» للشيخ محمد الخضري ﵀، وقد لقي كتابه قبولا حسنا، وقررت دراسته في المعاهد الدينية في أكثر أنحاء العالم الإسلامي.
1 / 31
الفصل الأول - في حياته قبل البعثة
الوقائع التاريخية
تدلنا الأخبار الثابتة عن حياته ﷺ قبل البعثة على الحقائق التالية:
١ - أنه ولد في أشرف بيت من بيوت العرب، فهو من أشرف فروع قريش، وهم بنو هاشم، وقريش أشرف قبيلة في العرب، وأزكاها نسبا وأعلاها مكانة، وقد روي عن العباس ﵁، عن رسول الله ﷺ أنه قال: «إن الله خلق الخلق فجعلني من خيرهم من خير فرقهم، وخير الفريقين، ثم تخير القبائل، فجعلني من خير قبيلة، ثم تخير البيوت، فجعلني من خير بيوتهم، فأنا خيرهم نفسا، وخيرهم بيتا» (رواه الترمذي بسند صحيح).
1 / 33