The Pure Rhetoric in Meanings, Clarity, and Elocution
البلاغة الصافية في المعاني والبيان والبديع
Yayıncı
المكتبة الأزهرية للتراث القاهرة
Baskı Numarası
سنة ٢٠٠٦ م
Yayın Yeri
مصر
Türler
البلاغة الصافية
في
المعاني والبيان والبديع
تأليف
الأستاذ الدكتور حسن إسماعيل عبد الرازق
أستاذ البلاغة بكلية اللغة بالعربية بالزقازيق
الناشر
المكتبة الأزهرية للتراث
٩ درب الأتراك خلف الجامع الأزهر الشريف
1 / 1
بطاقة فهرسة
فهرسة أثناء النشر
إعداد الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية
إدارة الشئون الفنية
عبد الرازق، حسن إسماعيل
البلاغة الصافية في المعاني
والبيان والبديع
تأليف حسن إسماعيل
عبد الرازق. ط ١. - القاهرة
المكتبة الأزهرية للتراث، ٢٠٠٦
٣٧٦ ص، ١٧ × ٢٤ سم
٢٢٣٩/ ٣١٥/٩٧٧
١ - البلاغة العربية أ- العنوان
رقم الإيداع
١٣٥٧٦/ ٢٠٠٦
1 / 2
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد النبي الأمين وعلى آله وأصحابه والتابعين، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين .. وبعد:
فهذه هي البلاغة الصافية، قد استقيت أفكارها من نبع البلاغة العربية الصافي متمثلًا في مصادرها العربية الأصلية.
والحق يقال: إن علماء البلاغة الأقدمين، قد أرسوا دعائمها، وأقاموا بنيانها، على أسس قوية، وعمد متينة، فلم يتركوا ميدانًا لمجتهد، ولا مجالًا لمعترض وقد كان خاتمتهم "بلا منازع" هو: أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن الخطيب القزويني.
وليس ثمة مجال لباحث في القرن العشرين أن يدعى أنه صاحب منة على البلاغة العربية، بعد أولئك الأعلام الذين لم يدخروا جهدًا في سبيل إقامة صرحها الشامخ وحصنها المنيع.
ولهذا: فليست أدعى أنني قد أتيت بالجديد الذي لم أسبق إليه، ولا بالطريف الذي لن ألحق فيه.
وإن يكن من جهد متواضع أقدمه الآن فهو أنني أحاول نفض غبار القرون التي تعاقبت على البلاغة العربية في العهود المظلمة حتى تاه في دروبها عشاقها، وظن بها أعداء اللغة العربية الظنون!
فحاولت عرضها عرضًا شيقًا، آثرت فيه أن تكون الأفكار واضحة جليلة، وأن يكون الأسلوب سهلًا رقيقًا، تزينه إشراقة العبارة، وتجليه عذوبة الألفاظ، حتى يقبل عليها القارئ وكأنه يستمتع بأوقات جميلة، يتفيأ ظلالها الوارفة، ويستنشق
1 / 3
أريجها العطر ويغذي روحه من ثمارها اليانعة، ويروى ظمأ عقله ووجدانه من نبعها الصافي، وكوثرها السلسبيل ورحيقها المختوم.
والله أرجو أن يكون عملي هذا خالصًا لوجهه الكريم، وأن ينفع به طلاب العلم، وأن يكون سبيلًا ميسرًا إلى خدمة اللغة العربية، لغة القرآن الكريم، إنه سميع مجيب.
أ. د حسن إسماعيل عبد الرازق
أستاذ البلاغة بكلية اللغة العربية
جامعة الزقازيق
1 / 4
نشأة علوم البلاغة
عرف العرب - في جاهليتهم - بفصاحة اللسان، وبلاغة القول، وجمال التعبير كما اشتهروا بالإيجاز والبعد عن فضول الكلام، ولم يكن ذلك عن علم درسوه، ولا عن قواعد تعلموها وإنما كان ذلك كله سليقة وطبعًا.
بيد أنهم كانت لهم ملاحظات نقدية على بعض الشعراء، تداولتها كتب الأدب والنقد فيما بعد كالذي رووه من أن النابغة الذبياني كان حكم العرب في الجاهلية وكانوا يضربون له قبة من أدم بسوق عكاظ، فتأتيه الشعراء، فتعرض عليه أشعارها، فيقول فيها كلمته فتسير في الناس ولا يستطيع أحد أن ينقضها، قالوا: وقد جلس النابغة للفصل مرة وتقاطر عليه الشعراء ينشدون بين يديه آخر ما أحدثوه من الشعر، أو أجود ما أحدثوه، وكان فيمن أنشده: أبو بصير ميمون أعشى بني قيس، فما إن سمع قصيدته حتى قضى له، ثم جاء من بعده شعراء كثيرون فيهم حسان بن ثابت الأنصاري فأنشدوه، وجاءت في أخريات القوم: تماضر بنت عمرو بن الشريد الخنساء، فأنشدته رائبتها التي ترثى فيها أخاها صخرًا، والتي تقول فيها:
وإن صخرًا لنأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار
فيروقه هذا الكلام ويأخذ بمجامعه فيقول للخنساء: لولا أن أبا بصير أنشدني آنفًا لقلت: إنك أشعر الجن والإنس! ويسمع حسان ذلك فتأخذه الغيرة ويذهب الغضب بتجلده، فيقول للنابغة: "أنا - والله - أشعر منها، ومنك، ومن أبيك! ! ".
فيقبل عليه أبو أمامة، فيسأله: حيث تقول ماذا؟، فيقول: حيث أقول:
لنا الجفنات الغر يلممن بالضحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
ولدنا بني العنقاء وابني محرق ... فأكرم بنا خالًا وأكرم بنا ابنما
فيقبل عليه النابغة، فيقول: "إنك شاعر" ولكنك أقللت جفانك وسيوفك وقلت: "يلمعن بالضحى" ولو قلت: "يبرقن بالدجى" لكان أبلغ في المديح، لأن
1 / 5
الضيف في الليل أكثر، وقلت: "يقطرن من نجدة دمًا" ولو قلت: "يجرين" لكان أكثر لإنصباب الدم.
وهم بذلك يكونون قد نظروا إلى المقام وما يقتضيه من كلام، كما أن لهم ملاحظات أخرى أثرت عنهم تبين أنهم قد نظروا إلى صحة الوزن وانسجامه وإلى المعنى وصوابه، بل تذكر أنهم قد نظروا إلى القصيدة بتمامها، وإلى نتاج الشاعر جميعه، كما يبدو ذلك من اختيارهم المعلقات، ومن نبذهم عدي بن ربيعة بالمهلهل، لما رأو في شعر، من اختلاف واضطراب وكما يبدو من تلقيبهم شعراءهم بألقاب تدل على مدى إحسانهم، كالنابغة، والأفوه، والمرقش، والمثقب، والمنخل، والمتنخل.
وانبثق فجر الإسلام، وطلعت شمس النبوة، وتوالى نزول آيات القرآن بلسان عربي مبين على قلب محمد ﷺ، فيتلوها على أصحابه، ويتلوها أصحابه على أسماع المسلمين فيحفظونها، وتتردد على أسماعهم آناء الليل وأطراف النهار، وينبهر العرب ببلاغة القرآن الكريم ويعجزون عن مجاراتها، ويسلمون بعجزهم عن أن يجيئوا بمثل أقصر سورة من القرآن، وصار المعاندون ممن كفروا به وأنكروه يقولون مرة: إنه شعر، ومرة أخرى: إنه سحر، وقد كانوا يجدون له وقعاص في القلوب وقرعًا في النفوس يريهم ويحيرهم، فلم يتمالكوا أن يعترفوا به نوعًا من الاعتراف، ولهذا قال قائلهم: إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة.
أقبل المسلمون على القرآن الكريم؛ يتزودون من معينه الذي لا ينضب ويرتشفون من رحيقه العذب ويرتوون من مائه السلسبيل حتى رق إحساسهم وأرهفت مشاعرهم، وسلمت أذواقهم، وعرفوا من خواص التراكيب ما لم يكونوا يعرفون، وشهدوا من مظاهر النظم وخصائصه ما لم يكونوا يشهدون!
وكانت أحاديث الرسول ﷺ وهو الذي أعطى جوامع الكلم ولا ينطق عن الهوى تتردد على الأسماع، والخلفاء الراشدون - رضوان الله عليهم - كانوا خطباء مفوهين، وكانت لهم ملاحظات في نقد الكلام وبلاغته.
1 / 6
وإلى جانب كلام الله تعالى، وحديث الرسول ﷺ وخطب الخلفاء الراشدين وملاحظاتهم فإن أمورًا أخرى جدت بالإسلام دعت إلى الاهتمام بصياغة القول ونظم التراكيب وتصوير المعاني صورًا رائعة جذابة، كالصراع بين الأنصار والمهاجرين على الخلافة، والخلاف الذي نشب بين علي ومعاوية ﵄.
فلما كان عصر بني أمية كثرت الملاحظات البلاغية، لازدهار الخطابة وتنوعها في هذا العصر، ولأن العرب كانوا قد تحضروا، واستقروا في المدن والأمصار وقامت الأسواق الأدبية على غرار سوق عكاظ في الجاهلية.
وقد كانت تلك الملاحظات البلاغية أساسًا للدراسات البلاغية، التي بدأ تدوينها في العصر العباسي وقد كان أول علم يصنف فيه من علوم البلاغة الثلاثة: "المعاني، والبيان، والبديع"، هو علم البيان، فقد صنف أبو عبيدة معمر بن المثنى المتوفي سنة ٢٠٦ هـ كتابه "مجاز القرآن" بعد سؤال وجه إليه في مجلس الفضل ابن الربيع والي البصرة للمأمون بن هارون الرشيد عن معنى قول الله تعالى - في شجرة الزقوم: ﴿طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ﴾ [الصافات: ٦٥] وكيف شبه الطلق برءوس الشياطين وهي لم تعرف بعد، وينبغي التشبيه بشيء معروف، حتى يتبين المشبه ويتضح فأجاب أبو عبيدة، بأنه على حد قول امرئ القيس:
أيقتلني والمشرفي مضاجعي ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال
فالمشبه به هنا - أيضًا - غير معروف، والقصد من هذا التشبيه هو تصوير المشبه بصورة مخيفة.
ورجع أبو عبيدة من فوره، فتقصى ما ورد في القرآن الكريم من ألفاظ قصد بها غير معانيها الموضوعة لها في اللغة، وضمنها كتابه "مجاز القرآن" وتابعه العلماء من بعده يكتبون في صور التشبيه والاستعارة، والكناية.
أما علم المعاني فإننا نجد لمسائله أثرًا في كتاب سيبويه المتوفي سنة ١٨٠ هـ وفي "البيان والتبيين" للجاحظ المتوفي سنة ٢٥٥ هـ، وفي "الصناعتين" لأبي هلال العسكري المتوفي سنة ٣٩٥ هـ. ولكن يأتي عبد القاهر الجرجاني المتوفي سنة ٤٧١ هـ بعقليته النادرة، وبصيرته الواعية وأسلوبه الرشيق، فيتحف البلاغة العربية بكتابيه "دلائل الإعجاز" و"أسرار البلاغة"، ويضمنها نظريتيه في علمي: المعاني، والبيان.
1 / 7
وأما علم البديع فإن أول من ألف فيه هو عبد الله بن المعتز، المتوفي سنة ٢٩٦ هـ، فقد رأى الشعراء من قبله يهتمون في أشعارهم بالبديع، كبشار بن برد، ومسلم بن الوليد، وأبي تمام وغيرهم، فجمع من أنواعه سبعة عشر نوعًا، وزاد معاصره قدامة بن جعفر المتوفي سنة ٣٣٧ هـ عشرين نوعًا اتفق معه في سبعة منها، فكان جملة ما زاده ثلاثة عشر، فكمل ما جمعه ثلاثين نوعًا، ثم أوصلها أبو هلال العسكري في كتابه "الصناعتين" إلى خمسة وثلاثين، وجمع ابن رشيق المتوفي سنة ٤٦٣ هـ في كتابه "العمدة" مثلها.
ولما جاء أبو يعقوب السكاكي المتوفي سنة ٦٢٦ هـ نظم علوم البلاغة في القسم الثالث من كتابه "مفتاح العلوم" وفصل أبوابها، ورتب مسائلها، وكل من جاء بعده من البلاغيين قد اعتمدوا على ما قاله السكاكي في كتابه هذا.
وجه الحاجة إلى هذه العلوم:
إن أعظم فائدة تعود على المرء من دراسة علوم البلاغة والإحاطة بها هي معرفة أسرار اللغة العربية، والإحاطة بخصائص أسلوبها، للإطلاع على أسرار إعجاز القرآن الكريم والاستعانة بها على فهم معانيه، ومعرفة أغراضه ومقاصده.
كما أن دراسة هذه العلوم، تطلعنا على أهم جانب من جوانب النقد في اللغة العربية شعرها ونثرها، وهو الجانب البلاغي الذي يهتم بمعرفة أسرار التراكيب وتصوير المعاني والأفكار، وعرض الأساليب في ألوان جمالية بديعة.
1 / 8
أشهر رجال البلاغة ومؤلفاتهم
(١) أبو هلال العسكري
هو أبو هلال، الحسن بن عبد الله بن سهل بن سعيد بن يحيى بن مهران العسكري، والعسكري نسبة إلى بلد يسمى (عسكر مكرم) من نواحي خوزستان
وقد تلقى العلم في بغداد، والبصرة، وأصبهان، وتتلمذ على يد خاله: أبي أحمد العسكري المتوفي سنة ٣٨٢ هـ، والذي يشترك معه في اسمه واسم أبيه، فكلاهما يسمى: الحسن بن عبد الله.
وقد كان أبو هلال عالمًا فاضلًا، وشاعرًا مجيدًا، مقترًا عليه في الرزق، ولهذا فإنه كان يتبزز - أي يبيع البز من الثياب - احترازًا من الطمع والدناءة والتبذل يقول أبو هلال:
جلوسي في سوق أبيع وأشتري ... دليل على أن الأنام قرود
ولا خير في قوم تذل كرامهم ... ويعظم فيهم نذلهم ويسود
وتهجوهم عني رثاثة كسوتي ... هجاءً قبيحًا ما عليه مزيد
ومما ينبئ عن بؤسه وشقائه - على الرغم من علمه وأدبه وفضله - قوله:
إذا كان مالي مال من يلفظ العجم ... وجالي فيكم حال من حاك أو حجم
فأين انتفاعي بالأصالة والحجا ... وما ربحت كفي على العلم والحكم
ومن ذا الذي يبصر في الناس حالتي ... فلا يلعن القرطاس والحبر والقلم؟ ! !
وقد توفى أبو هلال العسكري في عام ٣٩٥ هـ.
وله مصنفات كثيرة تدل على غزارة علمه، وسمو قدره، وعلو همته، يقول فيها بعض الشعراء:
وأحسن ما قرأت على كتاب ... بخط العسكري أبي هلال
فلو أني جعلت أمير جيش ... لما قاتلت إلا بالسؤال
1 / 9
فإن الناس ينهزمون منه ... وقد ثبتوا لأطراف العوالي
وأهم مصنفاته هو: كتاب "الصناعتين": الكتابة والشعر الذي اشتهر به، واقترن باسمه.
كتاب الصناعتين:
ذكر أبو هلال العسكري في مستهل كتابه هذا أن الذي دعاه إلى تصنيفه هو أنه وجد الإبانة عن حدود البلاغة وأقسام البيان والفصاحة مبثوثة في تضاعيف كتاب "البيان والتبيين" للجاحظ، ضالة بين أمثلته، ولا توجد إلا بالتأمل الطويل والتصفح الكثير مع أنه أكبر الكتب المؤلفة في علم البلاغة وأشهرها، فرأى أن يصنف كتابه هذا، مشتملًا على جميع ما يحتاج إليه في صنعة الكلام نثره ونظمه من غير تقصير وإخلال، وإسهاب وإهذار.
ولعل السر في تسميته بالصناعتين: أنه وجد لخالد أبي أحمد العسكري كتابًا بعنوان "صناعة الشعر" فألهمه ذلك أن يصنف كتابًا، لا في صناعة الشعر فحسب، ولا في صناعة النثر فحسب، بل في "الصناعتين" معًا: الشعر والنثر على حد سواء.
وقد رسم أبو هلال - في مقدمة كتابه - المنهج الذي سار عليه في دراسته لصناعتي الشعر والنثر، فبين أن الكتاب عشرة أبواب اشتملت على ثلاثة وخمسين فصلًا.
فالباب الأول: في الإبانة عن موضوع البلاغة وحدودها وما جاء فيها من أقوال العلماء.
والباب الثاني: في تمييز الكلام، جيده من رديئه، ومحموده من مذمومه.
والباب الثالث: في معرفة صنعة الكلام وترتيب الألفاظ.
والباب الرابع: في البيان عن حسن السبك وجودة الرصف.
والباب الخامس: في الإيجاز والإطناب.
والباب السادس: في حسن الأخذ وقبحه وجودته ورداءته.
1 / 10
والباب السابع: في التشبيه.
والباب الثامن: في السجع والازدواج.
والباب التاسع: في شرح البديع والإبانة عن وجوهه، وحصر أبوابه وفنونه.
والباب العاشر: في حسن مقاطع الكلام ومبادئه والخروج من النسيب إلى المديح وغيره.
وقد استقصى أبو هلال العسكري بمنهجه هذا صور البيان والبديع التي سجلها النقاد والبلاغيون حتى عصره، وقد سلك - في تأليفه - طريقة صناع الكلام من الكتاب والشعراء. ونبذ سلوك مذهب المتكلمين - كما يقول في أول الكتاب - ومضى على طريقة ابن المعتز يكثر من الأمثلة والنصوص من القرآن والحديث وكلام الصحابة والعرب، وأشعار المتقدمين والمحدثين.
(٢) عبد القاهر الجرجاني
هو: عبد القاهر، أبو بكر بن عبد الرحمن بن محمد الجرجاني، من أسرة فارسية رقيقة الحال، ولكنه نشأ ولوعًا بالعلم محبًا للثقافة، فأقبل على الكتب يلتهمها وبخاصة كتب النحو والأدب لاقتفائه أثر أساتذيه: أبي الحسين محمد بن الحسن ابن عبد الوارث الفارسي النحوي نزيل جرجان، وأبي الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني، فعلى الرغم من أن عبد القاهر لم يخرج من جرجان في طلب العلم أرسل إليه أبا الحسين هذا، وكان قد أخذ العلم عن خاله أبي علي الفارسي صاحب كتاب الإيضاح في النحو. وأما أبو الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني فقد كان أديبًا ممتازًا، واشتهر "بالوساطة بين المتنبي وخصومه" قال ياقوت: "وكان الشيخ عبد القاهر الجرجاني قد قرأ عليه، واغترف من بحره، وكان إذا ذكره في كتبه تبخبخ به، وشمخ بأنفه بالانتماء عليه".
ولكن عبد القاهر قد تتلمذ بعد ذلك على الكتب، فقرأها بفكر واع، وعقل متريث، ولهذا تراه ينقل في كتابه عن سيبويه، والجاحظ، وأبي علي الفارسي، وابن قتيبة، والآمدي، والقاضي الجرجاني، وأبي هلال العسكري، وأبي أحمد العسكري، وعبد الرحمن بن عيسى الهمذاني، والمرزباني، والزجاج.
1 / 11
وقد كان عبد القاهر يلقب بالنحوي، وعد من أئمة النحاة، كما أنه بعد من أئمة البلاغة، فعلى معاني النحو بنى نظريته في البلاغة والبيان، وتصدر بجرجان وذاع صيته في الآفاق، وشدت إليه الرحال، وظل مقيمًا بجرجان يفيد الراحلين إليه والوافدين عليه، وقضى عمره في مدينة جرجان لم يفارقها طول حياته، وتوفى سنة ٤٧١ هـ.
وكان من تلاميذه المذكورين الواردين على العراق والمتصدرين ببغداد: على بن زيد الفصيحي، وقد تثقف على يديه جماعة كثيرة وأخذوا عنه ما آخذه هو من عبد القاهر.
وقد خلف عبد القاهر آثارًا كثيرة في النحو والصرف والبلاغة، وأهم هذه الآثار وأعلاها قدرًا كتابان في البلاغة هما: "دلائل الإعجاز" و"أسرار البلاغة".
"دلائل الإعجاز" و"أسرار البلاغة":
كانت المرحلة التي سبقت عبد القاهر حافلة بدراسة صور البيان وألوان البديع وبنظرات متفرقة عن المعاني، غير أن صور البيان كانت في حاجة إلى من ينظمها في عقد يجمعها، ويسلكها في نظرية تستنظمها، كما أن تلك النظرات المتفرقة عن علم المعاني كانت هي الأخرى في حاجة ماسة إلى نظرية واضحة المعالم، تحدد صوره، وتعدد مسائله وتبين شواهده وأمثلته.
ومن يمن الطالع أن ينجرد لهذه المهمة الجليلة إمام البلاغة أبو بكر عبد القاهر ابن عبد الرحمن الجرجاني المتوفي سنة ٤٧١ هـ، فيتحف اللغة العربية بمؤلفين عظيمين هما: "دلائل الإعجاز" و"أسرار البلاغة" مؤسسًا بأولهما علم المعاني ومستخرجًا مكنوناته، ومعددًا صوره ومحددًا مسائله، وذلك من خلال تطبيق نظرية النظم التي كانت من قبله فكرة غير واضحة المعالم، وجامعًا بثانيهما صور البيان في إطار محدد، بعد أن أشبعها دراسة وبحثًا واستشهادًا وتمثيلًا.
وقد تضمن (دلائل الإعجاز) ما يلي:
أولًا: مقدمة ذكر فيها الحاجة إلى علم النحو، وفضل علم البيان، وإقامة الحجة على من زهد في رواية الشعر وحفظه، ثم تناول الكلام في النحو وتزهيد الناس فيه.
1 / 12
ثانيًا: تمهيد تكلم فيه عن الفصاحة والبلاغة.
ثالثًا: إعجاز القرآن الكريم.
رابعًا: نظرية النظم.
خامسًا: تطبيق هذه النظرية من خلال:
١ - التقديم والتأخير. ٢ - الحذف.
٣ - فروق في الخبر. ٤ - الفصل والوصل.
٥ - مزايا (إن). ٦ - مسائل (إنما).
سادسًا: تطبيق نظرية النظم على المحسنات البديعية.
أما أسرار البلاغة:
فقد ضمنه عبد القاهر أسرار بلاغة الأساليب، وهو يرى أنها كامنة في معانيها لا في ألفاظها، كما يرى أن جمال الألفاظ تابع لجمال المعاني، ولهذا فإنه يقدم لموضوعات (الأسرار) بمقدمات تؤكد هذا المعنى، وقد ذكر فيها أن السجع والحشو وغيرها مما يظن أن الحسن والقبح فيها راجع إلى الألفاظ إنما مرجع الحسن والقبح فيها إلى المعاني، ولهذا فإنك لا تجد تجنيسًا مقبولًا ولا سجعًا حسنًا حتى يكون المعنى هو الذي طلبه واستدعاه، وكذلك الشأن في التطبيق والاستعارة، ولم يكن غرضه من تلك المقدمات التي ذكرها إلا لكي يتوصل إلى أمر المعاني كيف تتفق وتختلف، ومن أين تجتمع وتفترق، ويبين أجناسها وأنواعها، ويتبع خاصها ومشاعها، ويذكر أحوالها، وقد رأى أن أول ذلك وأحقه بأن يستوفيه ويتقصاه هو التشبيه والتمثيل والاستعارة، وقد رأى أنه إذا ما تتبع الترتيب المنطقي لهذه الموضوعات فإنه سيبدأ بالقول في الحقيقة والمجاز، ثم يتبعه القول في التشبيه والتمثيل، ثم يرتب عليها الاستعارة، غير أنه عدل عن هذا الترتيب، فبدأ بالاستعارة لأهميتها في البلاغة فبين طرفًا منها، ونبه على طريق الانقسام فيها حتى إذا ما عرض ما يكشف ويبين سعة مجالها عطف عنان الشرح إلى الفصلين الآخرين فوفى حقهما وبين فروقهما، ثم انصرف إلى استفصاء القول في الاستعارة.
1 / 13
(٣) أبو يعقوب السكاكي
هو سراج الدين أبو يعقوب بن أبي بكر السكاكي الخوارزمي، إمام من أئمة العربية، وهو فقيه متكلم، متفنن في علوم شتى، سارت بذكره الركبان واشتهر علمه في كل مكان، وفيه وفي الزمخشري يقولون: لولا الأعرجان لضاعت بلاغة القرآن.
وقد أخذ العلم عن علماء أجلاء، منهم: سديد الدين بن محمد الخياطي، ومحمود بن ساعد بن محمود الحارثي، وبرهان الأئمة محمد بن عبد الكريم التركستاني، وكان يجيد اللغتين التركية والفارسية إلى جانب اللغة العربية.
ومن العلوم التي برع فيها: البلاغة، وعلم الكلام، والفقه، والكيمياء، وعلم خواص الأرض، وكان حنفيًا، معتزليًا، توفي في خوارزم سنة ٦٢٦ هـ.
وصف كتبًا كثيرة في علوم شتى، ومن أشهرها كتاب "مفتاح العلوم".
مفتاح العلوم:
هو الكتاب الذي اشتهر به السكاكي، وضمنه إثنى عشر علمًا من علوم العربية، وقسمه إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول في علم الصرف، والقسم الثاني في علم النحو، والقسم الثالث في علوم البلاغة: المعاني والبيان والبديع، واختتمه بما به يكمل علم المعاني وهو تتبع خواص تراكيب الكلام في الاستدلال وهو علم المنطق، ثم بما به ينم الغرض من علم المعاني وهو الكلام في الشعر، وأنهاه بخاتمة أخرى في إرشاد الضلال بدفع ما يطعنون به في كلام رب العزة.
وقد نال هذا الكتاب من عناية علماء البلاغة ما لم ينله كتاب آخر شرحًا وتلخيصًا، وتلخيصًا للشح، وشرحًا للتلخيص.
ومن أظهر شروحه: مفتاح المفتاح للشيرازي، وتلخيص المفتاح للخطيب القزويني، ومفتاح تلخيص المفتاح وشرح تلخيص المفتاح للتفتازاني.
وقد اعتبره البلاغيون من بعده الصيغة النهائية لقواعد البلاغة ومسائلها وأقسامها وتعريفاتها، ولهذا فإنهم قد عكفوا عليه وأوسعوه شرحًا وإيضاحًا وتقريرًا وتلخيصًا، ثم وضعوا عليه الحواشي تلو الحواشي!
1 / 14
علم البيان
تدور مادة البيان في اللغة حول معنيين اثنين هما: الفصاحة واللسن، والكشف والإيضاح، فيقال: فلان أبين من فلان، أي: أفصح منه وأوضح كلامًا، وكلام بين أي فصيح، وإذا ما دققت في هذين المعنيين وجدت صلة قوية بينهما، فأنت إذا ما كنت فصيحًا لسنًا كان في استطاعتك أن تعبر عما في نفسك من أفكار، فتكشفها وتوضحها، ولهذا فإن في استطاعتك أن تقول: إن البيان في اللغة هو الكشف والإيضاح.
واما في اصطلاح البلاغيين فإنه "علم يعرف به إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في وضوح الدلالة عليه".
وهم يريدون "بالعلم" الملكة التي يقتدر بها على إدراكات جزئية، أو نفس القواعد والأصول المعلومة، ويريدون "بالمعنى": كل معنى واحد يدخل تحت قصد المتكلم، كالكرم، والشجاعة، والإيمان، "فأل" في لفظ "المعنى" للاستغراق العرفي، وليست للاستغراق الحقيقي، لأن استحضار جميع المعاني - وهي غير متناهية - فوق مقدور البشر.
وقيدوا المعنى بـ "الواحد" ليحترزوا به عن المعاني المتعددة التي تؤدي بطرق متفاوتة في وضوح الدلالة على معانيها، وذلك كأن يكون تركيب في معناه أوضح دلالة من تركيب آخر في معناه، كأن تعبر عن معنى "الكرم" بقولك: "محمد كالبحر في العطاء"، ثم تعبر عن معنى الشجاعة بقولك: "استمعت إلى أسد يخطب"، فالتركيب الأول - في معناه - وهو: (الكرم) أوضح دلالة من الثاني - في معناه - وهو: (الشجاعة)، وهذا ليس من علم البيان في شيء؛ لأن المعنى في العبارتين مختلف، والشرط أن يكون المعنى في عبارتين واحدًا.
ومعنى "إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في الوضوح"، أن يعبر عنه بجملة من التراكيب، بعضها أوضح دلالة عليه من بعض، سواء أكانت هذه التراكيب من قبيل التشبيه، أو من قبيل المجاز، أو من قبيل الكناية، فالمعنى الواحد كالكرم -
1 / 15
مثلًا - يمكن أن تعبر عنه بطرق مختلفة في وضوح الدلالة عليه، فتارة تعبر عنه بطريق التشبيه فتقول: (محمد كالبحر في العطاء)، وتقول: (محمد كالبحر) وتقول: (محمد بحر)، فتلك ثلاثة تراكيب دلت على معنى الكرم، وبعضها أوضح في الدلالة عليه من بعض، فأوضحها: ما صرح فيه بوجه الشبه والأداة جميعًا - كما في المثال الأول - ويليه في الوضوح: ما صرح فيه بأحدهما - كما في المثال الثاني - وأقلها وضوحًا ما لم يصرح فيه بواحد منهما - كما في المثال الثالث -.
وتارة تعبر عنه بطريق المجاز، فتقول: (رأيت بحرًا في منزلنا) تريد: محمدًا - مثلًا - فتشبهه بالبحر، ثم تستعير له لفظ "البحر".
ونقول: (لجة محمد تتلاطم بالأمواج) فاللجة والتلاطم بالأمواج من أوصاف البحر، وهذا دليل على أنك قد شبهت محمدًا بالبحر.
وتقول: (غمر محمد بفضله الأنام)، فالغمر من أوصاف البحر، مما يدل - أيضًا - على أنك قد شبهت محمدًا بالبحر.
والمثالان الأخيران من قبيل الاستعارة المكنية.
وأوضح هذه الطرق: الأول، ويليه وضوحًا: الثاني، وأقلها وضوحًا: الثالث.
أما أن الأول أوضحها فلظهور التجوز فيه بسبب التصريح باسم المشبه به، وأما الثاني والثالث فلخفاء التجوز فيهما لعدم التصريح باسم المشبه به، غير أن الثاني أوضح دلالة من الثالث لاشتماله على وصفين للمشبه به، واشتمال الثالث على وصف واحد ..
وتارة أخرى تعبر عنه بطريق الكناية، فتقول: (محمد كثير الرماد) و(هو مهزول الفصيل) و(هو جبان الكلب).
فتلك ثلاثة تراكيب قد دلت على معنى الكرم، وذلك لأن كثرة الرماد إنما تكون من كثرة إحراق الحطب للطبخ للضيفان، وهزال الفصيل إنما يكون بإعطاء لبن أمه للضيوف، أو بذبح أمه لهم، وجبن الكلب إنما يكون من كثرة الواردين عليه من الضيوف.
1 / 16
والمثال الأول أوضح هذه الطرق في الدلالة على الكرم، ويليه الثاني فالثالث.
وقيدوا الاختلاف "بوضوح" الدلالة، ليحترزوا به عن الاختلاف في مجرد اللفظ، لا في وضوح الدلالة، وذلك كما إذا أوردت معنى واحد في تركيبين مترادفين، وأنت عالم بمدلولات الألفاظ فيهما، كأن تقول - مثلًا - (نشر فم محمد كنفح الطيب) ثم نقول: (رائحة ثغر محمد كأريج العطر) فمثل هذا - أيضًا - ليس من مباحث علم البيان لتماثل التركيبين في وضوح الدلالة على المعنى المراد، والاختلاف إنما هو اللفظ والعبارة فقط مع أن الشرط هو أن يكون الاختلاف في وضوح الدلالة على المعنى.
صور البيان
اللفظ المستعمل في غير ما وضع له، إن قامت قرينة مانعة من إرادة معناه الأصلي كان مجازًا، وإن لم تقم قرينة مانعة من إرادة المعنى الأصلي كان اللفظ كناية.
ثم إن المجاز: إن كانت علاقته المشابهة، كان اللفظ استعارة، وإن كانت علاقته غير المشابهة، كان اللفظ مجازًا مرسلًا.
ولما كانت الاستعارة قائمة على التشبيه، كان من الضروري دراسة التشبيه أولًا، ولهذا انحصرت أبواب علم البيان في ثلاثة الأبواب التالية:
(أ) التشبيه (ب) المجاز (ج) الكناية.
التشبيه
التشبيه في اللغة هو: التمثيل، وأما معناه في اصطلاح البلاغيين فهو: (الدلالة على مشاركة أمر لأمر في معنى بإحدى أدوات التشبيه لفظًا أو تقديرًا).
والأمر الأول هو: المشبه، والأمر الثاني هو: المشبه به، ويسميان طرفي التشبيه، والمعنى المشترك بينهما هو ما يسمى: (وجه الشبه).
وذلك كأن تقول: (خالد كالأسد في الشجاعة)، ففي هذا المثال: دلالة على مشاركة أمر هو: خالد، لأمر هو: الأسد، في معنى هو: الشجاعة، بإحدى أدوات التشبيه وهي: الكاف.
1 / 17
فأركان التشبيه هي: (المشبه) و(المشبه به)، ويسميان: طرفي التشبيه، و(وجه الشبه)، وهو المعنى المشترك بينهما، و(أداة التشبيه).
أدوات التشبيه:
أداة التشبيه: هي كل لفظ يدل على معنى التشبيه، وهي إما أن تكون حرفًا وإما أن تكون فعلًا، وإما أن تكون اسمًا.
فالحرف: كالكاف، وكأن، غير أن الكاف يليها المشبه به مثل: حكمه كالسيف مضاء. وقلبه كالحجر قسوة، أما "كأن" فيليها المشبه، مثل: كأن الطائرة نسر عظيم، وكأن البحر مرآة صافية، وكأن كلامه الشهد حلاوة.
والفعل: كماثل يماثل، وشابه يشابه، وحاكى يحاكى، تقول: ليلى ماثلت البدر إشراقًا، ورائحتها تماثل العطر نفحًا، ومحمد حاكى السحاب فيضًا، وعلى يحاكي النجم علوًا، وخالد شابه الأسد إقدامًا، وهو يشابه الجبل رسوخًا.
والاسم: نحو: "مثل" و"شبه" اسمين، كقولك: ليلى مثل الغزال، ومحمد شبه الغمام، وكذلك الوصف المشتق المفيد لمعنى التشبيه، كمماثل، ومشابه، ومحاك، تقول: ليلى مماثلة البدر في بهائه، وهند مشابهة الغصن في ليونته، ومحاكية الحرير في نعومته.
من أغراض التشبيه
أغراض التشبيه: هي البواعث التي تحمل المتكلم على أن يعقد شبهًا بين شيئين وهي كثيرة، منها ما يعود على المشبه، ومنها ما يعود على المشبه به، وسنكتفي هنا بغرضين من الأغراض التي تعود على المشبه، تاركين ما يعود على المشبه به.
أما الغرضان فهما:
(١) بيان حال المشبه: والمقصود به هو بيان وصفه الذي هو عليه، إذا كان غير معروف الصفة التي يراد إثباتها له، فالمخاطب يجهل حال ذلك المشبه، ولهذا فإنه يلحقه بمشبه به معروف عنده لبيان تلك الحال، وذلك كأن تقول لمن يعرف شجر؟؟؟؟؟ لا يعرف شجر النارنج: (شجر النارنج كشجر البرتقال)، وكأن تقول لمن
1 / 18
يعرف بيض العصفور ولا يعرف بيض الثعبان: (بيض الثعبان كبيض العصفور). وكأن تشبه ثوبًا آخر، في بياضه (أو سواده).
وكما في قول امرئ القيس:
كأن قلوب الطير رطبًا ويابسًا ... لدى وكرها العناب والحشف البالي
فقد شبه الشاعر الرطب من قلوب الطير واليابس منها بالعناب والحشف البالي لبيان حالها وما عليها من الأوصاف كالشكل والمقدار، واللون وكما في قول النابغة الذبياني يمدح النعمان بن المنذر:
كأنك شمس والملوك كواكب ... إذا طلعت لم يبد منهن كوكب
فقد شبه الشاعر النعمان بن المنذر بين سائر الملوك بالشمس بين كواكب ووجه الشبه: هو الهيئة الحاصلة من الشيء الحقير يتلاشى ويختفي عند وجود الشيء الخطير.
والغرض هنا هو بيان حال النعمان مع سائر الملوك، وأنه إذا ظهر بينهم تضاءلوا أمامه وطغى أمره على أمرهم.
(٢) بيان إمكان الشبه: والمقصود به هو: بيان أن وجود المشبه ممكن، وذلك في كل أمر غريب يمكن أن يخالف فيه، ويدعي أنه غير ممكن، كقول أبي الطيب المتنبي من قصيدة يرثى بها والدة سيف الدولة الحمداني:
رأيتك في الذين أرى ملوكًا ... كأنك مستقيم في محال
فإن تفق الأنام وأنت منهم ... فإن المسك بعض دم الغزال
فقد أراد أبو الطيب أن يقول: إن سيف الدولة قد فاق الناس بحيث لم يبق بينه وبينهم مشابهة، بل صار أصلًا برأسه وجنسًا بمفرده، وهذا في الظاهر ممتنع لاستبعاد أن تتناهى بعض آحاد النوع في الفضائل الخاصة بذلك النوع إلى أن يصير كأنه ليس منها، فاحتج لهذه الدعوى وبين إمكانها بأن شبه حاله بحال المسك الذي هو الطيب الغالي النفيس الذي أصله نوع من الدماء، ومع أنه لا يعدو منها لما فيه
1 / 19
من الأوصاف الشريفة التي لا توجد في الدم، ويسمى مثل هذا التشبيه: تشبيهًا ضمنيًا، لدلالة البيت عليه ضمنًا.
ومثله قول عبد الصمد بن بابك:
تقاعس عنك الفاخرون فأحجموا ... وخيل المغالي غير خيل المواكب
فإن زعم الأملاك أنك منهم ... فخارا، فإن الشمس بعض الكواكب
وقول التهامي:
لقد شرف الرحمن قدرك في الورى ... كما في الليالي شرفت ليلة القدر
وإن كنت من جنس البرايا وفقتهم ... فللمسك نشر ليس يوجد في العطر!
القيمة البلاغية للتشبيه
التشبيه - كما يقول الإمام عبد القاهر الجرجاني - يكسو المعاني أبهة، ويكسبها شرفًا، ويرفع من أقدارها، ويضاعف قواها في تحريك النفوس لها، ويستميل القلوب إليها، ويستنير لها من أقاصي الأفئدة صبابة وكلفًا، ويجبر الطباع على أن تعطيها محبة وشغفًا.
فإن كان مدحًا كان أبهى وأفخم، وإن كان ذمًا كان مسه أوجع، وإن كان حجاجًا كان برهانه أنور، وإن كان افتخارًا كان شأوه أبعد، وإن كان اعتذارًا كان إلى القبول أقرب.
ولهذا فإنه إذا جاء في أعقاب المعاني فإنه يضاعف قواها في تحريك النفوس إلى المقصود بها، والسر في هذا التأثير القوي للتشبيه في النفوس: هو أن الصورة في التشبيه تبرز المعنى الخفي في صورة محسوسة واضحة جلية تطمئن إليها النفس وتأنس لها، لأنها بذلك قد خرجت من الخفي إلى الجلي، ومن المعقول إلى المحسوس، ومما تعلمه إلى ما هي به أعلم، بل ومما لم تألفه إلى ما ألفته، فمهما عبرت عن المعنى بعبارة تؤديه وتبالغ فيه فإنك لن تبلغ به ما يبلغه عن طريق التشبيه، فلو حاولت وصف يوم - مثلًا - بالقصر، فقلت: "يوم كأقصر ما يتصور"، فإن السامع لن يجد في هذه المبالغة ما يجده في قول الشاعر:
ظللنا عند باب أبي نعيم يوم مثل سالفة الذباب
1 / 20