The Pure Religion or Guidance of Creation to the True Religion
الدين الخالص أو إرشاد الخلق إلى دين الحق
Araştırmacı
أمين محمود خطاب
Yayıncı
المكتبة المحمودية السبكية
Baskı Numarası
الرابعة
Yayın Yılı
١٣٩٧ هـ - ١٩٧٧ م
Türler
ترجمة الشيخ الإمام المؤلف السيد
محمود محمد خطاب السبكي
تغمده الله برحمته وعمه برضوانه
بقلم فضيلة الأستاذ الجليل الشيخ
أبي القاسم إبراهيم
المدرس بالجامعة الأزهرية
﵀ وجزاه خيرًا
الطبعة الخامسة ١٤١١ هـ
المقدمة / 1
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه (أما بعد) فهذه قطرة من بحر، للتعريف بالشيخ الإمام.
المؤلف - هو الفقيه المحدث المفسر الثقة الثبت ناصر السنة وقامع البدعة، المرشد الإمام الكبير أبو محمد محمود بن محمد بن أحمد بن خطاب السبكى.
مولده - ولد الشيخ الإمام ببلدة سبك الأحد من قرى مركز أشمون بمحافظة المنوفية، فى يوم الخميس التاسع عشر من شهر ذى القعدة عام أربع وسبعين ومائتين وألف من الهجرة النبوية (١٢٧٤ هـ) أول يوليو ١٨٥٨ م.
نشأته - نشأ الشيخ الإمام بين أبوين طاهرين كريمين تعهداه بحسن التربية، وغرس فيه والده منذ نعومة أظفاره روح السخاء والشجاعة والسؤدد وعلو الهمة وتلك مكارم أخلاق تحلى بها هذا الوالد العظيم، وقد كان سيدا فى قومه ذا بسطة فى الرزق والجسم محببا بين عشيرته وعارفى فضله ونبله.
ولقد أنجب والد المؤلف ستة ذكور كل اثنين من سيدة فضلى، فكان يبعث واحدا للتعليم الأولى ثم تلقى العلم بالأزهر المعمور، ويبقى الآخر يعمل معه فى مزرعته الفسيحة الخصبة، ويعاونه على أعماله الأخرى. وكان من حظ المؤلف أن يبقى بجانب والده فى بحبوحة العز وعظيم الجاه، ولكن غير خامل ولا كسل، بل تراه فى حداثة سنة يكل إليه والده رعاية غنمه ليقظته النادرة وعزيمته الوثابة، وحسن سياسته وكياسته فكان خير حارس لها، وخير قائم على أمرها. ثم عهد إليه مراعاة خيل كان يملكها لما رآه شجاعا رابط الجأش " قوى القلب " فساس الجموح منها مرة بالشدة، وآونه باللين فاستحال ذلولا منقادا.
وهل أحدثك عن آثار شجاعة المؤلف وهمته " وهو حدث (١) مراهق " حتى
_________
(١) (حدث) بفتحتين أى شاب.
المقدمة / 2
يتجلى لك أن عناية الله تعالى كانت تحوطه وترعاه من بدايته. كان لوالد الشيخ الإمام حديقة واسعة الأرجاء. مساحتها ستة أفدنه أو تزيد، عدت عليها عوادى الدهر، واستلبت ثمارها أيدى الناهبين فشوهت جمالها، وأذهبت بهجتها، فما كان من هذا الوليد الفتى وهو رابط الجأش شجاع، له نفس أبيه تعاف الضيم، ما خالطها خور (١) العزيمة ولا جبن النذلاء (٢) كان لزاما عليه أن ينهض بتلك الحديقة يغرس أشجارها ويصلح أرضها، ويروى أزهارها ويشذب غصونها (٣) فإذا جن الليل واختلط، تعهدها بالحراسة غير مستسلم إلى الكرى " النوم " الذى لم يغمض له جفنا.
شاء الله تعالى أن تصبح الحديقة روضة أريضة (٤)، يانعة الثمر وارفة الظل (٥) دانيه القطوف " تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها " وتجود بأطيب الثمرات.
وحذق المؤلف غير هذا. النجارة والحياكة وفن البناء، وهو زراع ماهر صائد لا يخطئ الرماية، يصيب الطائر السريع سابحا فى جو السماء فيخر صريعا وفى الليل البهيم يصيد طيورا معتمدا على سماع صوتها.
عبادة المؤلف
اتصل المؤلف بعد بلوغه الحلم بالشيخ العارف بربه أبى محمد أحمد بن محمد جبل السبكى الخلوتى، فاشتغل بذكر الله كثيرا وجد فى الطاعة فكان يصوم النهار ويقوم من الليل مقبلا على مناجاة ربه علام الغيوب فى الأسحار. وربما صلى فى الليلة مائة ركعة مع كثرة ما لديه من أعمال النهار، فلاحت عليه علائم السعادة فأذن له شيخه أن يرشد المريدين إلى الطريق القويم، فدعا إلى طاعة الله تعالى،
_________
(١) (الخور) بفتحتين، الضعف. وفعله خور من باب طرب.
(٢) (النذلاء) جمع نذيل أى خسيس.
(٣) (يشذب) يقال: شذب الشجر من بابى نصر وضرب القى ما عليه من الاغصان حتى يبدو.
(٤) (الاريضة) الحسنة الزاهرة بكثرة المياه فيها.
(٥) (وارفة الظل) أى كثيرته يقال: ورف الظل من باب ضرب اتسع وطال.
المقدمة / 3
وطاعة رسوله " صلوات الله وسلامة عليه وعلى آله " فألفى آذانا صاغية، وقلوبا واعية جزاء إخلاصه، وصفاء سريرته ".
المؤلف يكتب ويقرأ بعد أن كان أميا
وبينما هو جالس ذات يوم فى بستان أبيه إذ دخل عليه ابن عم له بيده لوح صغير به بعض حروف الهجاء، فاشتاقت نفسه أن يتعلمها، فاتصل بمعلم القرية فكتبها له فقلد الإمام كتابتها، وما أعظم دهشة المعلم حينما رأى خط تلميذه اليافع (١) أحسن من خطه. وما هى إلا أيام تعد على الأصابع حتى صار المؤلف يجيد الكتابة والقراءة.
المؤلف يخطو إلى الجامعة الأزهرية
تاقت نفس المؤلف إلى الرحلة لتلقى العلم فى الجامع الأزهر المعمور. وبينما هو يناجى مولاه سحرا، جد فى الدعاء طالبا أن يمن عليه المنعم الوهاب بمعرفة العلم ويسهل له طريقه. وما مضى على دعائه أسبوع إلا وقد أشيع بين الناس أن الحكومة التى كانت لا تجند أولاد العمد، غيرت طريقتها. فأشار الشيخ خطاب "﵀ " أكبر أخوة المؤلف على أبيه، أن يأخذه معه إلى الجامع الأزهر، ليتمكن من الحصول على شهادة المعافاة من الخدمة العسكرية بانتسابه إلى الأزهر. وهو إذ ذاك الحرم المكين من دخله كان آمنا. وبعد أخذ ورد سافر المؤلف مع أخيه الشيخ خطاب العالم الجليل. وما كادت عينه تبصر السادة العلماء، وبين أيديهم تلامذتهم حتى تملك هذا المنظر سويداء قلبه، واستولى على مشاعره كلها وأخذت الآمال تملأ جوانحه (٢) حتى فاضت على لسانه إذ فاتحه أخو الشيخ خطاب فى الذهاب إلى أستاذ كبير يشار إليه بالبنان (المرحوم الشيخ حسن العدوى)
_________
(١) أيفع الغلام: شب. ويفع الغلام بيفع مثله. واسم الفاعل من الثلاثى فقط وشذ من الرباعى.
(٢) (الجوانح) الاضلاع التى تحت الترائب، وهى مما يلى الصدر كالضلوع مما يلى الظهر. والمفرد جانحه.
المقدمة / 4
وكانت بينهما صداقة وثيقة، ليسهل له شهادة المعافاة فيعود على جناح السرعة إلى والده مخففا عنه هذا العبء الثقيل من أعماله، وهو يقوم بأوفر قسط منها. فقال المؤلف هيهات! ! وكيف أترك هذه الضالة المنشودة، وهل أضيع على نفسى مأربها وبغيتها؟؟ لابد من الانضمام إلى هذه الأسرة الدينية لأكون فردا منها ولابد من الجلوس بين هذه الحلقات العلمية ردحا من الزمن (١)، مفارقا تلك الحلقات الريفية، مترحما على الأيام الطويلة التى قضيتها بين ذويها وأترابها! !
دهش كل الدهش أخوه إذ يراه قد جاوز العقد الثانى من عمره، فأصبح طلب العلم عليه غير هين أدرك المؤلف منه هذا فقال: قد تسبق العرجاء. والله يختص برحمته من يشاء. ثم أقبل المؤلف على مطلوبة أيما إقبال. فكنت تراه فى اليوم الواحد يحفظ قسطا من كتاب الله تعالى، ومقدارا من المتون الأزهرية على الطريقة المألوفة إذ ذاك، ويتردد على على حلقات العلم يتزود منها ما شاء الله. ومضى عليه نصف عام كامل فهل يدور بخلدك (٢) أن هذا التلميذ الناشئ فى مكنته (٣) أن يكون أستاذا لمبتدئين يتلقون عنه دروس العلم فى المساء، ويشرف عليها بعض المعلمين المعجبين بذكاء ابن الريف المتقدم فى سنه! ! ومازال مجدا مواصلا ليله بنهاره، غير مقتصر على أن يملأ مخيلته بالمسائل العلمية يرددها لسانه، بل وضع نصب عينيه العمل بما يتطلبه العلم، موقنا أن الطالب لذلك هو الله تعالى ورسوله شاعرا أن وراءه أبناء الحلقات الريفية، وهم الذين خيم الجهل عليهم فما يدرون حلال ولا حراما، وما يفرقون بين ولى ولا نبى! !
وهؤلاء لابد أن تجمع الأيام بينه وبينهم فتنقلب هذه الحلقات الدينوية حلقات دينية يرى المجتمعون فيها من كان على شاكلتهم أضحى لهم معلما. ومعلم هذه الطبقات ترمقة عيونهم، وتصغى إلى قوله آذانهم. فان عمل بما
_________
(١) يقال أقام ردحا من الدهر بفتحتين أى طويلا.
(٢) (الخلد) بفتحتين البال يقال وقع ذلك بخلدى أى فى قلبى.
(٣) (المكنة) بفتح فكسر القدرة.
المقدمة / 5
أرشدهم إليه التفوا حوله وقدسوه، وان اعوج انفضوا من حوله، واحترزوه.
لبث المؤلف يتلقى عن أساتذته الأجلاء بالجامع الأزهر المنير ويلقى فى أوقات فراغه دروسا شتى على بعض الطلاب، ويرشد أبناء الريف إذا ما رجع إليهم فكان أزهريا بين الأزهريين، وواعظا مرشدا بين الريفيين وما رضى المؤلف أيام طلبه العمل أن يتناول جراية من أوقاف الأزهر، ولا أن يدون اسمه بين دفاتره، وما كان شغله الشاغل إلا التفانى فى العلم، والتحللى بالعمل، وهو ثمرة العلم!
المؤلف يطارد الراقصات وآلات الملاهى فى الأفراح
يتخذ فى بعض البلاد من لا خلاق لهم نسوة راقصات، ورجالا بأيديهم آلات الملاهى من موسيقى وطبل ومزمار وغيرها ليالى الأفراح. وفى الجمع الحاشد الشاب والفتاة، والشيخ والسيدة. وهؤلاء جميعا تثور شهواتهم وتفسد أخلاقهم، وتتغير طباعهم بهذه المناظر المخزية التى يندى لها وجه الفضيلة. فقام المؤلف على قدم وساق يعظ ويرشد ويعلم هؤلاء الجاهلين ما يجب عليهم لخالقهم ورازقهم الغيور على دينه المنتقم الجبار. وبين لهم المفاسد والأضرار المترتبة على اتخاذ الراقصات واستعمال آلات الملاهى، فهدى الله تعالى على يديه الكثير منهم، فثابوا إلى رشدهم وأنابوا إلى ربهم وتابوا من ذنوبهم.
المؤلف ينهى عن منكرات المآتم
فى كثير من بلدان القطر يأتى النساء منكرات فظيعة اذا ما زار الموت بيتا من البيوت، فترى الصارخة واللاطمة وشاقة الثوب ومن لطخت وجهها بالطين أو صبغته بالنيلج (١) وتبصر نسوة متشحات بالسواد سائرات وراء الميت إلى المقبرة، وعائدات إلى المنازل تقودهن النائحة، وتظل تندب لهن وتنوح، وتأتى ما حرم الله ورسوله، وربما نطقت بما يخرجها عن الملة وهى المعلمة الملقنة من
_________
(١) النيلج بكسر النون وفتح اللام، دخان الشحم يعالج به الوشم (معرب) النؤور.
المقدمة / 6
حولها تظل هى ومن معها ثلاثة أيام، ثم يعدن سيرتهن الأولى كل خميس حتى ينتهى جناز الأربعين وتلك عادات مزرية، وفعال مشينة، ومنكرات عكف عليها هؤلاء النساء. والرجال القوامون عليهن ساكتون لاهون. وليس هناك الآمر الناهى قوى اليقين. فشمر المؤلف ساعد الجد، وكشف ذراع الغيرة ونهى وزجر أهل كل بلدة يتنقل إليها وبين لهم ما يترتب على هذا الفعل الشينع من الضرر والفساد وغضب الواحد القهار، فثاب إلى رشده كثير ممن كتب الله الهداية لهم، وصلحت نفوسهم، ونفوس نسائهم.
المؤلف ينحى باللائمة على أرباب الطرق
منى القطر المصرى بالمتصوفة أرباب الطرق. وهم كثير تبلغ طرقهم ثلاثين أو تزيد. وقد كان المؤلف صوفيا خلوتيا قبل أن يخطو إلى الأزهر الميمون واختلط بكثيرين ممن ينتسبون إلى طرق أخرى فسمع الأذكار المحرفة ورأى الألعاب البهلوانية، وشاهد من يتظاهر بأكل النار والحيات والزجاج، وعاين الضرائب التى يجبيها مشايخ الطرق من مريديهم كأنها أموال أميرية وأبصر النذور والهدايا تقدم إليهم كأنها مسوقة إلى حرم الله تعالى، أو مبذولة إلى عيال الله الفقراء والمحاويج، فحمل عليهم الشيخ الإمام حملة شعواء، وأبان للعامة أنهم على غير هدى وأن ما يقدم لهم من الضرائب حرام وسحت، وكل لحم ودم نبتا من حرم فالنار أولى بهما، وأن الطرق الصوفية ليست حرفا ولا مهنا بل هى بأذكارها المحرفة وضرائبها ونذورها، شارة سوداء تشوه جمال الدين الإسلامي، وتجعل الأجانب الغربيين أعداء الدين ينظرون إلينا نظرة السخرية والازدراء فى حين أن الدين منهم براء، وأن سيدنا محمدا صلوات الله وسلامة عليه وعلى آله يمقت هؤلاء.
وكانت النتيجة أن تباعد كثير من هؤلاء المتصوفة، فقلت أرزقهم وقطعت نذورهم، فأخذوا يكيدون للمؤلف، ويدبرون له المؤامرات من يومئذ ولا تنس أن المال شقيق الروح! !
المقدمة / 7
المؤلف يحمل على قراء القرآن
اعتاد بعض القراء تلاوة كتاب الله تعالى فى المقابر، وفى الطرقات العامة، وفى المنازل بحضرة النساء، وأمام من لا يعرف للقرآن حرمة كشارب دخان ومهوش أثناء القراءة غير منصت، كما اعتاد بعضهم التلاوة المحرفة غير المشروعة فنصح المؤلف للقراء أولا بالحسنى ثم أخذ يزجرهم ويبين لهم انهم آثمون وأن القرآن الكريم سيكون حجة عليهم لا لهم يوم الوقوف بين يدى ملك الملوك مذل الطغاة والعصاة. وبين للناس ما ينبغى أن يتحلى به القارئ والمستمع من الآداب والتدبر والاعتبار. فهدى الله على يديه كثيرا ممن أراد الله بهم الخير وألهمهم الرشد " لأن يهدى الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم " (١) أخرجه الشيخان عن أبى العباس سهل بن سعد الساعدى.
المؤلف يرى البدع فاشية فى الأزهر والمساجد الأخرى
رأى المؤلف البدع فاشيه فى الأزهر كعبة العلم، وفى مساجد القطر وهو يعلم أن الناس تسير وراء العلماء شبرا بشبر، وذراعا بذارع، وأن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فى حاجة إلى أدلة صحيحة صريحة تزيل الشبهات حتى يظهر الحق ناصعا، وأنه لابد مع هذا من أخذ أقوال العلماء أرباب المذاهب عن تلك البدع والمنكرات التى شاعت وذاعت وحلت محل السنن والمأمورات حتى التبست على المتعلمين أنفسهم لسكوت فطاحل العلماء عنها فجاهد المؤلف جهاد الأبطال، ورفع أسئلة بذلك إلى حضرات السادة العلماء، فأجابوا بأن جميع بدع العبادات باطلة لا يجوز العمل بها كما هو مقتضى نصوص القرآن الكريم والسنة المطهرة،
_________
(١) (حمر) جمع أحمر (والنعام) الأنعام والمراد بها الأبل. وحمر النعم كانت أجود الأبل لذلك عناها الرسول الأعظم ﷺ.
المقدمة / 8
وأمضى بعضهم على هذه الفتاوى وختم آخرون. ولما تسلم المؤلف الفتاوى دونها فى كتاب أسماه (فتاوى أئمة المسلمين) وقام بطبعه ونشره بين الناس ولا تزال صور هذه الفتاوى لمشايخ الأزهر وكبار علمائه محفوظة لمن يريد الاطلاع عليها فى أى وقت يشاء. ثم أخذ المؤلف ينشر كتبا ورسائل يبين فيها بالآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، ونصوص أئمة المذاهب الأربعة وغيرهم، أن الدين ما كان عليه رسول الله "صلوات الله وسلامة عليه وعلى آله " وأصحابه والأئمة المجتهدون رضوان الله تعالى عليهم، وقد عرضت هذه المؤلفات على جهابذة العلماء فاطلعوا عليها وقرظوها تمام التقريظ، واعترفوا أن ما فيها صواب وحكمة، وأن من يخالف أحكامها يكون مبتدعا آثما، وقد طبعت هذه الكتب والرسائل وتناولتها الأيدي، فعمل بها الكثيرون بعد أن ظهر لهم أن البدع التى فى الأذان والصلاة والصيام والحج والأفراح والمآتم والأضرحة والملبس والمطعم وغيرها مضادة للدين، أحدثها من لا خلاق لهم، وتعودها الناس حتى اختلط الحابل بالنابل (١).
وماذا كان بعد هذا؟ تبرم (٢) الناس ممن سكت من السادة العلماء هذه السنين الطويلة على هذه البدع الطاغية حتى تركوها تفرخ كل يوم، وتناولوا العلماء بالسنة حداد. عند ذلك شعر العلماء بما يحيط بهم من خطوب وأهوال فأخذوا يدبرون للمؤلف ما يدبرون، ويشيعون بين الناس أنه يكفرهم ويكفر سواد الأمة، وهذا منهم أمر طبيعى ألفته النفوس. وما أراد المؤلف للعلماء والعامة إلا خيرا دنيا وأخرى.
المؤلف يؤدى امتحان العالمية بتفوق
كان الأزهر يعنى أبناؤه العناية التامة بدراسة العلوم الشرعية والعربية ومن أراد أن ينال شهادة العالمية، وضع رسالة في مبادئ هذه العلوم يقدمها إلى شيخ الأزهر مرافقة لطلب الامتحان. والمؤلف لا طماعية عنده في نيل هذه الشهادة،
_________
(١) (الحابل) سدا الثوب (والنابل) لحمته.
(٢) (تبرم) ضجر وتألم.
المقدمة / 9
التي من ورائها الرواتب والمناصب، إذ أن نفسه الطاهرة لها اتجاه غير هذا. ولكن أحد تلامذته أشار عليه أن يتقدم إلى الامتحان، ونيته تعليم أبناء الأزهر ومن سواهم بعد نيله الشهادة كيما يساير الناس وهم يعتقدون أن العلم لا يؤخذ إلا ممن لديه هذه الشهادة، فأنشرح صدره ووضع الرسالة وقدمها وبعد البحث اتضح أن اسمه غير مدرج في سلك الطلاب، ولم تكن له مدة معلومة فلا يقبل طلبه ولكن الله القدير يسر له الصعاب! ! وفي الأربعاء اليوم التاسع والعشرين من شهر رجب سنه ثلاث عشرة وثلاثمائة وألف (سنه ١٣١٣ هـ) ١٥ يناير سنه ١٨٩٦ م أدى المؤلف الامتحان أمام اللجنة المكونة من حضرات أصحاب الفضيلة الأساتذة الأجلاء الشيخ حسونة النواوى شيخ الأزهر ومفتى الديار المصرية. والشيخ بكرى عاشور الصدفى والشيخ عمر الرافعى الحنفيين. والشيخ أحمد الرفاعى والسيد على الببلاوى المالكين. والشيخ محمد حسين الابريرى. والشيخ سليمان العبد الشافعيين. ولقد كان أعجاب اللجنة به عظيما وسرورها فائقا وجاوز المؤلف الميدان ظافرا منصورا! !
وتصادف أن المؤلف قبل أن يؤدى الامتحان ألف كتابا أسماه (الرسالة البديعة الرفعية. فى الرد على من طغى فخالف الشريعة) وخطبته ملأى بإشارات التصوف فطلب منه الأستاذ الشيخ عمر الرافعى قبل أن يغادر اللجنة أن يروح أفئدتهم بطرفه من التصوف، واستعان بالشيخ حسونة ليجاب الطلب. فقال المؤلف: " أن القلوب ممتلئة بحب الدنيا فلا تقبل شيئا من التصوف، ولازال مصرا على هذا الامتناع بعد إلحاح الشيخ النواوى. فتألم جد الألم الشيخ الرافعى ظانا أن المؤلف شامخ بأنفه متكبر، غير أن السيد الببلاوى أفهمه وأفهم الأعضاء أن الأستاذ محمودا صريح غير متكبر، وهو رجل جاهد نفسه، وتعلق بربه ﵎!
المؤلف يشق للأمة طريقا فى الحياة عمليا
(وبعض الشيوخ يكيد له)
بعد نيله إجازة التدريس عنى جد العناية فى دروسه التى كان يلقيها فى الأزهر
المقدمة / 10
المعمور وغيره على مئات الطلاب، ببيان البدع الفاشية والخرا فات المضلة، محذرا الناس وبخاصة ذوى العلم من ارتكابها والسير فى طريقها المعوجة، مرشدا إلى العمل بهدى الرسول الأمين. وصحبه الطيبين الطاهرين. وبهذا تبين لكثير من أهل العلم أن ما يرونه محيطا بهم من البدع والمنكرات فى المساجد وسواها، لا يتفق ومبادئ الدين الحنيف، وأنهم لابد مسئولون أمام الله تعالى بتفريطهم وسيرهم فى طرقاتها، والعامة من ورائهم يعملون ويقدسون كما عملوا وقدسوا. ولما رأى فريق من شيوخ الأزهر أن دعوة المؤلف كل يوم تزداد. وأنهم لا يسلمون منه أخذوا يصطادون فى الماء العكر، ويؤلبون عليه ويبيتون ما الله به عليم! !
وأيم الله لقد عملوا كل ما فى وسعهم من تقديم شكاوى إلى أمير البلاد الخديو السابق فوضعت فى زوايا الإهمال، وعادوا بخفى حنبن! ! وياليتهم اكتفوا بهذا بل عمدوا إلى دار الحماية البريطانية يشكون. وماذا كانت شكايتهم؟ أن السبكى قائد جيش عرمرم من التلاميذ والأتباع وهذا الجيش خطر على الأمن العام فى البلاد. ولكن بعد التحرى وبث العيون والأرصاد، تبين أن الرجل برئ، وأنه يدعو إلى الله تعالى والى العمل بدنيه، والاعتصام بسنة حبيبة السيد الهادى الأمين " صلوات الله تعالى وسلامة عليه وعلى آله " وأن من حوله من هذه الجموع المحتشدة قوم أخيار يعملون لدينهم قبل دنياهم.
ولما فشل هذا الفريق فى مسعاه السياسي لجأ إلى شيخ الأزهر إذ ذاك المغفور له الإمام الوقور الشيخ سليم البشرى طالبا تشكيلي مجلس علمى يناظر المؤلف ويبحث معه فيما يدعيه من البدع الفاشية، والسنن المتروكة، فأرسل شيخ الأزهر إليه يدعوه فلبى مسرعا. وكانت المناظرة فى إدارة الأزهر فقارعهم بالحجة والدليل فهزمهم وولوا مدبرين! !
ولبث المؤلف يجاهد بقلمه كما جاهد بلسانه فتراه ينشر بين الناس المؤلفات القيمة تدعوهم إلى ما كان عليه النبى وأصحابه والسلف الصالح والأئمة المجتهدون، والعلماء العاملون. وهذه المؤلفات ليست فى حاجة إلى إطراء وتقريظ. عرفها
المقدمة / 11
من اطلع عليها، وسيعرفها من يطلع عليها بعد إن شاء الله تعالى. ويبلغ ما علمنا به منها ثمانية وعشرين مؤلفا. وفيما يلى أسماؤها:
١ - أعذب المسالك المحمودية: فى التصوف والأحكام الفقهية. أربعة أجزاء.
٢ - حكمة البصير: على مجموع الأمير " فى فقه الإمام مالك ". أربعة أجزاء.
٣ - هداية الأمة المحمدية: فى الحكم المحمودية السنية. وهو ديوان خطب منبريه.
٤ - إصابة السهام: فى فؤاد من حاد عن سنة خير الأيام.
٥ - تحفة الأبصار والبصائر: فى بيان كيفية السير مع الجنازة إلى المقابر.
٦ - الرسالة البديعة الرفيعة: فى الرد على من طغى فخالف الشريعة.
٧ - حاشية ديباجة الرسالة البديعة.
٨ - المقالة الشرعية للرآسة الإسلامية.
٩ - غاية التبيان: لما به ثبوت الصيام والإفطار فى شهر رمضان.
١٠ - العهد الوثيق: لمن أراد سلوك أحسن طريق.
١١ - النصيحة النونية ٠ فى الحث على العمل بالشريعة المحمدية.
١٢ - تعجيل القضاء المبرم: لمحق من سعى سنة الرسول الأعظم.
١٣ - فتاوى أئمة المسلمين ٠ بقطع لسان المبتدعين.
١٤ - سيوف إزالة الجهالة ٠ عن طريق سنة صاحب الرسالة.
١٥ - فصل القضية ٠ فى المرافعات وصور التوثيقات والدعاوى الشرعية.
١٦ - المقامات العلية ٠ فى النشأة الفخيمة النبوية.
١٧ - السم الفعال ٠ لأي أمعاء فرق الضلال.
١٨ - الصارم الرنان ٠ من كلام سيد ولد عدنان.
١٩ - العضب المنظوم ٠ للذب عن سنة المعصوم.
٢٠ - الرياض القرآنية ٠ فى الخطب المنبرية.
٢١ - خلاصة الزاد ٠ لمن أراد سلوك سبيل الرشاد.
٢٢ - رسالة البسملة ٠
المقدمة / 12
٢٣ - رسالة مبادئ العلوم.
٢٤ - الحكم الإلهية بالدلائل القرآنية (فى الخطب المنبرية).
٢٥ - اتحاف الكائنات. ببيان مذهب السلف والخلف فى المتشابهات.
٢٦ - المنهل العذب المورود. شرح سنن الإمام أبى داود (طبع منه عشرة أجزاء) انتهى إلى " باب الهدى " من كتاب الحج، والأجزاء الأربعة من الحادى عشر إلى الرابع عشر تكملة المنهل العذب. ويظهر ما بعدها إن شاء الله تعالى.
٢٧ - الدين الخالص. أو إرشاد الخلق: إلى دين الحق. طبع منه ثمانية أجزاء تنتهى بانتهاء كتاب الصيام (والتاسع) إرشاد الناسك إلى أعمال المناسك وهو يجمع مناسك الحج باستفاضة وعلم غزير
٢٨ - محور الوصول. إلى حضرة الرسول.
أيها القارئ الكريم
إن أمامك هذه الصحف المطهرة هى كتب قيمة تناديك من كل مكان فى ذهابك وإيابك، وحلك وترحالك. فهل متعت بصرك بقراءتها؟ وأنت ذو عقل سليم وتفكير صحيح. فلا يؤثر عليك سحر المؤلف. ولا طلاوة (١) أسلوبه، بل يأخذ بلبك ساطع حجته، وقوة منطقة، ونور برهانه. فعليك بمطلعتها، والزود منها. وما نريد إلا العمل بما فيها أن كنت منصفا رشيدا.
ولا تظن أيها القارئ أن المؤلف خارت (٢) عزيمته، وكلت همته إزاء هذه المناوشات. بل سار فى طريقه دائبا مجاهدا معتمدا على ربه، مستعينا بحوله وقوته ومن استعان بربه رعاه ونصره نصرا مؤزرا. ولقد صدق الله تعالى إذ يقول: " والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا، وان الله لمع المحسنين " نعم هداه الله تعالى إلى سبيله، فلم يثنه شئ عن قيامه بالنصح والإرشاد ولم يتحول قيد (٣) شعرة وما برح
_________
(١) (طلاوة) بالضم. والفتح لغة أى بهجة.
(٢) (خارت) أى ضعفت: يقال: خار الرجل يخور: ضعف، فهو خوار. اهـ مصباح ومن ذلك تعلم أن خار أصله خور بفتح فكسر مثل خاف أصله فقلبت الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها.
(٣) (قيد أى قدر) ففى المصباح: وقيد رمح بالكسر وقاد رمح أى قدره.
المقدمة / 13
مثلا عاليا للثبات على المبدأ ونبراسا (١) وضاء للتضحية بنفسه وماله ووقته.
وهل يخطر بباك أن المؤلف وقفت همته عند التدريس والوعظ والتأليف؟ معاذ الله! ! وكيف تقف تلك الهمة الوثابة؟ همة زعيم مصلح خطير، نشأ متحركا وعاش متحركا. ومن كان هذا دأبه فهو مؤسس جماعة، وواضع لها نظاما وقانونا يكفل بقاءها ودوامها.
المؤلف ينشئ الجمعية الشرعية
أن جهادا فى سبيل الله، وفى سبيل نصرة دينه، واحياء العمل بسنة حبيبه المصطفى سيد المصلحين وإمام المتقين " صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم " - يلبث زهاء (٢) عشرين عاما (من سنة ١٣١٣ إلى سنة ١٣٣١ هـ) لابد أن يحاط بسياج (٣) متين، وسور منيع يكفلان راحة من انصووا (٤) تحت راية هذا الجهاد ولا شئ أبقى لوحدة الأفراد من تكوين جماعة. وفى الحديث " ويد الله على الجماعة " أخرجه الترمذى عن ابن عباس والبزار عن سمرة بن جندب.
عنى المؤلف فى الأربعاء غرة المحرم سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة وألف (سنة ١٣٣١ هـ) ١١ من ديسمبر سنة ١٩١٢ م بتكوين جمعية أسماها (الجمعية الشرعية: لتعاون العاملين بالكتاب والسنة المحمدية) ووضع لها قانونا محكما منظما. مواده ترشد إلى عملى الدنيا والآخرة وتدعو إلى الحسنيين. وقد سارت عليه الجمعية بإشراف مجلس إدارتها تحت رياسة المؤلف زهاء ربع قرن (من سنة ١٣٣١ إلى سنة ١٣٥٢ هـ) وهى تتقدم باطراد كل عام بفضل رجالها الذين صفت نفوسهم، واعتمدوا على بارئهم فى جميع شئونهم، يفرون من الكسالى المتعطلين والخاملين فرار السليم من الأجرب، وإذا فتشت بين صفوفهم فلا ترى متسولا، ولا متسكعا بل ترى كل من انضم إلى هذه الجماعة. قد شق لنفسه طريقا فى الحياة يسلكه إلى عمل مشروع. شأن المسلمين فى صدر الإسلام، ومن بعدهم أيام عزتهم وصولتهم.
_________
(١) (النبراس) المصباح.
(٢) (زهاء) كغراب: أى قدر.
(٣) (السياج) ككتاب: ما أحيط به على شئ.
(٤) (انضووا) أى انضموا ودخلوا.
المقدمة / 14
آثار الجمعية
(الوعاظ، إنشاء المساجد. شركة المنسوجات الوطنية)
فى مقدمة آثار هذه الجمعية الناهضة وعاظها الذين يبلغ عددهم أكثر من مائتى واعظ اختارتهم من بين أفرادها المثقفين المدربين للقيام بتعليم العامة أصول الدين وفروعه فى دروسهم ومحاضراتهم. لا يفترون عن غرس مبادئ الدين الصحيحة فى نفوس اخوتهم المؤمنين واللين رائدهم. والرفق حليفهم والموعظة الحسنة ديدنهم. والحكمة وسداد الرأى قبلتهم. سمحاء حنفاء، لا مشددين ولا معسرين ولا متنطعين ولا رجعيين.
ولقد وضعت لهم الجمعية منشورا عاما يسيرون على ضوئه. لا يلى أحدهم هذا المنصب الإسلامي الرفيع إلا بعد أن يتعهد كتابيا بالسير على مقتضاه. والمنشور كله خير مما يدل على أن الجمعية جد حريصة على المحافظة على الوحدة الإسلامية، بعيدة كل البعد عما يوجب تفريقا وانشقاقا وصدعا وانثلاما. واليكم هذا المنشور العام بنصه. وهو والجمعية الشرعية توءمان ولدا عام التكوين (سنة ١٣٣١ هـ).
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمد من وعظ نفسه قبل أن يعظ سواه، والصلاة والسلام الدائمان الأتمان على كوكب الإرشاد ومنار الهداة، وعلى آله وأصحابه الذين بذلوا نفوسهم وأموالهم ابتغاء مرضاة الله.
(أما بعد) فقد رأت الجمعية الشرعية فى حضرة الأستاذ الفاضل ................ من المكانة الأخلاقية والعلمية ما يؤهله لأن يجوب فدافد (١) الأرض شرقا وغربا وجنوبا وشمالا يعظ المسلمين، ويرشد الحائرين، ويذب عن دين الله شبه الضالين والمارقين. لذلك أسندت إليه هذا المنصب السامى مع علمها بخطورته
_________
(١) جمع فدفد بوزن مكتب وهو الفلاة والمكان الصلب الغليظ والارض المستوية.
المقدمة / 15
ووعورة مسالكه. والجمعية ترجو منك أيها الأستاذ أن تتقى الله فيها وفى نفسك وفى المسلمين. فانك قد أصبحت أمينا على دين الله، مالكا زمام من ترشدهم تقودهم إلى حيث تريد. فجنتهم ونارهم بين لحييك (١). فيجب إذا أن تجعل مركزك فوق مركز ذلك الطبيب الحاذق الذى يعطى من الأدوية لكل مريض ما يناسبه بمقادير خاصة لا ينقص ولا يزيد عليها شيئا. يعرف أن التباب فى طرفى الإفراط والتفريط. وان الجمعية تبيح لك أن تغدو وتروح فى تعليمك، واضعا نصب عينيك إفادة المسلمين، متدليا فى ذلك من أهم إلى مهم فتبتدئ بغرس العقائد فى نفوس من تباشر تعليمهم، مراعيا مذهب أهل السنة والجماعة، بعيدا عن المشاغبات الكلامية والبراهين المنطقية لصعوبتها على أفكار العامة من الناس. وتردف ذلك بتعليم ما لابد منه أحكام الصلاة والصيام والزكاة والحج، وتتبع هذا نهيهم عما هو فاش فى البلاد من المنكرات كترك أركان الإسلام وكالربا والزنا وشرب الخمر والقتل وتعاطى كل مسكر من الأنبذة والحشيش والمنازيل. وتنهاهم أيضا عن السرقة والغش والإيمان الفاجرة والنميمة والغيبة وسم البهائم وشق بطونها وحرق المزروعات وتقليعها، والحسد والحقد والكبر والعجب والرياء والمراء.
وتنهاهم أيضا عن لعب الكاب المعروف والسيجة والطاولة والكتشينة وغير ذلك من كل فعلى باطنى أو ظاهرى قبيح. ثم تعرج بهم إلى رياض الآداب النبوية والأخلاق المحمدية كالحلم والصبر والتوضع والكرم والرغبة عن الدنيا وفى الآخرة وحب الخير للمسلمين والسعى فيما يزيل الأحقاد من نفوسهم، والتزاور فى الله، وإفشاء السلام، والتعاون على البر والتقوى، وتعلمهم لباس النبى صلى الله وعلى آله وسلم وآكله وشر به وغير ذلك من كل خلق نبوى يتعلق بعادة أو عبادة تمنحهم منه ما يطيقون. ثم تنحدر إلى ما يخالف ذلك من البدع فتنبه عليه حاثا على اجتنابهم إياها، اقتداء بنبيهم صلى الله عليه وعلى آله وسلم
_________
(١) (اللحى) عظم الحنك وهو الذى عليه الاسنان. وهو من الانسان حيث ينبت الشعر. وهو أعلى وأسفل. ويجمع على الح ولحى مثل فلس وأفلس وفلوس.
المقدمة / 16
وحبا فى أدب المصطفي ﷺ، وبغضا لما سواه بعبارة يفهمها العام والخاص يصحبها التأنى، فان فى الناس الغبى والذكى.
كل ذلك وأنت رحب الصدر، حلو اللسان، طلق الوجه، أزهد الناس وأبعدهم عن الفحش فى القول، تسع السفيه والجاهل والمتعنت جاعلا محورك الذى يدور حوله الكلام، قوله تعالى على لسان سيدنا لقمان رضى الله عنه إذ يقول لابنه ﴿وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ المُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ﴾ وقوله تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾.
وإياك ثم إياك أن يخطر ببالك أن تتكلم فى موضوع سياسى، فان ذلك ليس من شأنك. وحسبنا فى ذلك حكومتنا السنية (حفظها الله وقواها). ومعلوم أن الدين دين الله، والهداية لدينه بيده لا يملكها سواه. وليس علينا سوى أن نعرف، والحمل على الأمور والتعب لتنفيذها خارج عن الواجب علينا، فلا تتعرض له فمن سمع وعمل فالخير أراد لنفسه. ومن أعرض عنا وتركنا وما نأمر به، فالخير أردنا، وما علينا إلا البلاغ اتباعا لسيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ووقوفنا على ما حده الله له إذ يقول: ﴿إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ البَلاغُ﴾.
إنشاء المساجد
ومن آثار الجمعية التى تغتبط عليها، إنشاؤها المساجد العديدة فى مدن الجمهورية وقراها. وفى مقدمتها المسجد الكبير بالقاهرة (فى عطفة الشيخ السبكى بشارع الخيمية على مقربة من باب زويلة " بوابة المتولى " وجامع الوزير طلائع بن رزيك الأثرى) وكان الفراغ من بنائه وتنسيقه سنة ١٣٤٢ هـ. هذا المسجد الكبير أنشأته الجمعية فى حياة المؤلف " أمام داره الفسيحة التى يؤمها القاصى والدانى " على قطعة أرض تبلغ مساحتها ثلاثة أمتار ومائتين (٢٠٣ من الأمتار المربعة) وفيه تصلى الجمعة، والصلوات الخمس كصلاة الرسول وخلفائه ومن استقوا من شرعة الرسول صلى الله
المقدمة / 17
عليه وعلى آله وسلم، وكم كنت تسر وينشرح صدرك حينما ترى الأستاذ المؤلف المرحوم بعد صلاة الجمعة من كل أسبوع متربعا على كرسيه فى تلك الرقعة البسيطة من الأرض يحتف به حزب الله وجنود الله، كأنما على رءوسهم الطير. والشيخ ينثر بينهم الدرر والجواهر من عظاته البالغة، ونصائحه الحكيمة بأسلوب واضح جلى تصل آثاره إلى النفوس قبل الرءوس، فيهذبها ويحييها. وفى المجلس الحاشد العالم وغيره، فيأخذ كل بغيته وفوق ما يتمنى. وما اقتصر المؤلف (تغمده الله برحماته) على موعظة هذا اليوم الأسبوعي. بل كان يلقى درسين فى هذا المسجد بعينه ليلة الجمعة وليلة السبت من كل أسبوع فى الحديث النبوى. فدرس سنن الإمام النسائى كلها. وجزءا غير قليل من سنن الإمام أبى داود. وما عاقه عن إتمامه إلا المنية أسبغ الله عليه الرحمة وعمه بالإحسان والرضوان.
وانك لتعجب العجب كله وأنت متعلم مثقف حينما ترى الأمى الساذج يجلس بجوارك جنبا إلى جنب يتفهم أحكام الدين بسهولة من غير تكلف ومن غير ما حرج! .
ألا أن هذا المسجد المؤسس على تقوى من الله ورضوان، ينادى المسلمين أن يفدو إليه ليروا صورة مكبرة لعهد أول الإسلام غير مشوبة بما يبرأ منه الإسلام!
والله تعالى يعلم أن الجمعية ما أرادت بإنشاء مساجدها المتعددة فى القاهرة وسواها من بلدان القطر ضرارا ولا تفريقا بين المؤمنين، بل ما قصدت إلا إرشاد المسلم إلى عبادة نقية نائية عن الجلبة والضوضاء والتهويش، عبادة ملؤها الخشوع والخضوع لله الملك الدوس، الذى يعلم خائنه الأعين وما تخفى الصدور.
هذا، وان مساجدها مفتحة الأبواب من مطلع الفجر إلى ساعة متأخرة من الليل، يتردد إليها المسلمون على اختلاف طبقاتهم فيجدون إخوانا لهم رحماء فرحين مستبشرين!
المنسوجات الشرعية
ومن آثار الجمعية الميمونة تلك المنسوجات الشرعية الوطنية. التى كانت تصنع
المقدمة / 18
بمصنع الجمعية، وتباع فى مركزها الرئيسى وفى الفروع التابعة لها. وهذه المنسوجات حسنة من حسنات المرحوم الإمام، ورمز منه للنهوض بالمسلم الوطنى فى مصاف أبناء الغرب، من يأخذون نبات التربة المصرية من قطن وكتان وغيرهما بأبخس ثمن ويردونه إلينا منسوجا، الدرهم منه بعشرات الدنانير! .
ومنسوجات الجمعية الشرعية من قطنك وكتانك أيها المسلم الوطنى. فلا ترى فيها حريرا فى حين أنها أجود من الثياب الحريرية، ولا تقل عنها نعومة. وهى تنأى بلابسها عن الحرام والمكروه وما فيه ريبة واشتباه فالبس منها يا ذا العقل الراجح، وترحم على الإمام المؤلف الراحل. ومن خرج فى المدرسة الشرعية المحمدية مسلمين عمليين. عبادتهم ومساجدهم وملابسهم يضارع ما كان عليه سلف الأمة "رضى الله عنهم ورضوا عنه". ظلت هذه المنسوجات سنوات طوالا، وما استغنت عنها الجمعية وعن مصنعها إلا بمزاحمة المنسوجات الأخرى الوطنية الكثيرة.
المؤلف يودع الأزهر
لبث الشيخ يدرس بالأزهر بعد نيله العالمية سبعا وثلاثين سنة من (١٣١٣ إلى ١٣٥٠ هـ) وما ترك الأزهر زهادة فيه، بل حال بينه وبين مواصلة جهاده فيه، إحالة مجلس الأزهر الأعلى له على التعاقد بجلسة يوم الخميس الخامس من جمادى الأولى سنة ١٣٥٠ هـ الموافق ١٧ من سبتمبر سنة ١٩٣١ م وإنها لجلسة صارخة روعت فداحتها العالم الإسلامي أجمع، إذ بلغ فيها عدد المحالين إلى المعاش والمفصولين من الأزهر والمعاهد الدينية سبعين عالما. كثير منهم فى مقتبل العمر، ونضرة الشباب، وبذا نكل المجلس بسبعين أسرة، وسامها سوء العذاب! ! وكان ذلك فى عهد حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد الأحمدى الظواهرى شيخ الأزهر ورئيس مجلسه الأعلى. وفى عهد رئيس الوزراء حضرة صاحب الدولة إسماعيل صدقى باشا.
ولا تحدثك نفسك أن الشيخ مال إلى الراحة بعد نصب وطول سهاد (١)
_________
(١) (السهاد) بضم السين الارق. وبابه طرب.
المقدمة / 19
كما مال غيره من المعمرين. بل ما زال عاكفا على العمل، فى داره بين مسجده الزاهر، ومكتبته العامرة، ومؤلفاته القيمة، وجمعيته الشرعية الميمونة، وتلامذته العديدين الوافدين إليه يغترفون من منهله العذاب، ويحيطون به إحاطة الهالة بالقمر فى مجلسه الخاص بعد عصر كل يوم، ويعلوهم جميعا حياء وأدب جم من هيبة الشيخ وجلاله. وما يمنعهم حياؤهم السؤال عن مهمة دينية أو دنيوية. ومن جلس منهم لا يفك حبوته إلا مؤذن المغرب، يدعوه إلى الوقوف بين يدى الحى القيوم! !
المؤلف يودع الحياة
وما طالت حياة الشيخ بعد وداعه الأزهر، إنها لمدة قصيرة: سنتان إلا نحو شهرين. فى نهايتها يزوره الموت الزوام. وما اشتكى ألما، وما انقطع عن عمله الموصول، ولا عن مجلسه الخاص إلا بعد عصر الخميس الثالث عشر من شهر ربيع الأول عام اثنين وخمسين وثلاثمائة وألف (١٣ من ربيع الأول سنة ١٣٥ هـ)
وفى صبيحة يوم الجمعة الرابع عشر منه، أطل على بعض تلامذته من نافذة حجرته، فناوله آخر ملزمة من الجزء السادس من شرحه لسنن الإمام أبى داود (المنهل العذب المورود) كان يصححها لترسل إلى مطبعة الاستقامة. ولما حان وقت صلاة الجمعة، أخذ القوم يلتفتون يمنه ويسرة، علهم يحظون بطلوع الشيخ عليهم متقدما إلى الصف الأول، يستمع إلى الخطيب، ويؤدى صلاة الجمعة ويعظهم بعدها كعادته. فما حظوا، وارتد البصر منهم وهو كليل! ! وما حسبوا أن فقدانهم الشيخ هذه الساعات، يكون فقدانا لا رجعة بعده، ولا لقاء إلا يوم اللقاء! !
ساعة الوداع:
وفى منتصف الساعة الثانية بعد الظهر (الجمعة ١٤ من ربيع الأول سنة ١٣٥٢ هـ)، (٧ من يوليه سنة ١٩٣٣) لفظ الشيخ آخر نفس من أنفاسه الطاهرة، وجاد بروحه العظيمة
المقدمة / 20