The Principles of Sharia Policy - Al-Madinah University
السياسة الشرعية - جامعة المدينة
Yayıncı
جامعة المدينة العالمية
Türler
-[السياسة الشرعية]-
كود المادة: GFIQ٥٢٠٣
المرحلة: ماجستير
المؤلف: مناهج جامعة المدينة العالمية
الناشر: جامعة المدينة العالمية
عدد الأجزاء: ١
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
Bilinmeyen sayfa
الدرس: ١ السياسة الشرعية: مفهومها، أحكامها، أدلة اعتبارها
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الأول
(السياسة الشرعية: مفهومها، أحكامها، أدلة اعتبارها)
١ - مفهوم السياسة الشرعية وشروط إعمال أحكامها
مفهوم السياسة الشرعية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمدٍ، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، أما بعد:
أبنائي وبناتي طلاب الدراسات العليا بجامعة المدينة العالمية، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فهذه محاضرات في مادة الساسة الشرعية، وسوف نبدأ بالحديث عن مفهومها، والموضوعات التي تشملها، وأدلة اعتبارها.
ونبدأ الآن في بيان مفهوم السياسة الشرعية، والتعريف بالسياسة الشرعية في اللغة: جاء في (المصباح المنير): ساس زيد الأمر يسوسه أي: دبره وقام بأمره. وجاء في (لسان العرب) لابن منظور الأفريقي: السَّوس: الرئاسة، يقال: ساسوهم سوسًا، وإذا رأسوا الشخص، قيل: سوسوه، وأساسوه. ونقول: ساس الأمر سياسة أي: قام به. ونقول: سوسه القوم أي: جعلوه يسوسهم. ويقال: سوس فلانٌ أمر بني فلانٍ أي: كلف سياستهم. والسياسة هي القيام على الشيء بما يصلحه.
ومن هذا يتضح أن كلمة السياسة تطلق في اللغة بإطلاقاتٍ كثيرة، ومعناها في جميع إطلاقاتها يدور على تدبير الشيء، والتصرف فيه بما يصلحه هذا هو تعريف السياسة الشرعية في اللغة.
أما تعريف السياسية الشرعية في اصطلاح الفقهاء، فللفقهاء فيه أقوال: قيل في تعريف السياسة الشرعية: هي فعل شيء من الحاكم لمصلحة يراها، وإن لم يرد بذلك الفعل دليل جزئ -أي: دليل تفصيلي من كتابٍ، أو سنة، أو إجماع، أو قياس.
1 / 9
وعرفها البعض أيضا بأنها: هي ما كان فعلًا يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه النبي ﷺ ولا نزل به وحي، وهذا التعريف إنما هو موجود في كتاب (السياسة الشرعية مصدر للتقنين) للدكتور عبد الله محمد محمد القاضي، طبعة ١٤١٠ - ١٩٨٩ دار الكتب الجامعية الحديثة بطنطا صـ٣٢.
وعرف البعض أيضًا السياسة الشرعية بأنها: هي ما يراه الإمام، أو يصدره من الأحكام، والقرارات زجرًا عن فسادٍ واقع، أو وقاية من فسادٍ متوقع، أو علاجًا لوضعٍ خاص. وهذا التعريف إنما هو للدكتور يوسف القرضاوي في كتابه (السياسة الشرعية) الطبعة الأولى ١٤١٩هـ - ١٩٨٩م مكتبة وهبة بمصر صـ١٥، وما بعدها.
وأيضًا عرف البعض السياسة الشرعية بأنها: تدبير شئون الدولة الإسلامية التي لم يرد بحكمها نص صريح، أو التي من شأنها أن تتغير، وتتبدل بما فيه مصلحة الأمة، ويتفق مع أحكام الشريعة، وأصولها العامة، وهذا التعريف إنما هو للدكتور محمود الصاوي في كتابه (نظام الدولة في الإسلام) الطبعة الأولى ١٤١٨ - ١٩٩٨ دار الهداية بمصر صـ٣٩.
شروط العمل بأحكام السياسة الشرعية
ونستخلص من هذه التعريفات المختلفة للسياسة الشرعية أن هذا معناه: أن عدم دلالة شيء من النصوص الواردة في الكتاب والسنة على أحكام السياسة الشرعية تفصيلًا لا يضر، ولا يمنع من أن نصفها من بوصف السياسة الشرعية، أما الذي يضر، ويمنع من ذلك أن تكون تلك الأحكام مخالفة مخالفة حقيقيةً لنص من النصوص التفصيلية، وهي: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، هذه النصوص التفصيلية التي أريد بها تشريع عام للناس في كل زمان، وفي كل مكان.
1 / 10
فمتى سلمت السياسة الشرعية، أو أحكام السياسة الشرعية من هذه المخالفة للنصوص التفصيلية، وكانت متمشية مع روح الشريعة، ومبادئها العامة؛ كانت نظامًا إسلاميًّا، وسياسة شرعية نأخذ بها، وبأحكامها، ولذلك يقول ابن عقيل الحنبلي، يقول: السياسية ما كان فعلًا يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه الرسول ﷺ ولا نزل به وحي -كما قلنا قبل ذلك.
ومن أجل ذلك كان من المغالطة، أو الغلط ما يزعم بعض المخالفين من أنه لا سياسة إلا ما وافق الشرع، فهذا القول فيه غلط وتغليط، وهو: لا سياسة إلا ما وافق الشرع فيه غلط وتغليط إن أريد به أنه لا يعتبر من الشريعة الإسلامية شيء من الأحكام الجزئية التي يتحقق بها مصلحة، أو تندفع بها مفسدة، إلا إذا نطق به الشرع، ودلت عليه -على اليقين- نصوص من الكتاب، أو السنة، هذا يكون مرفوضًا.
أما إذا كان معنى لا سياسة إلا ما وافق الشرع إذا كان معناها: أنه لا سياسة: أنه الموافقة للشرع أن تكون تلك الأحكام الجزئية متفقة مع روح الشريعة، ومبادئها الكلية، وأن تكون مع ذلك غير مناقضة لنصٍ من نصوصها التفصيلية، التي يراد بها التشريع العام؛ فالقول بأنه لا سياسة إلا ما وافق الشرع قول صحيح ومستقيم، تؤيده الشريعة نفسها، ويشهد له عمل الصحابة، والخلفاء الراشدين، والأئمة المجتهدين، وهذه الأشياء موجودة، أو الكلام الذي تحدثت عنه موجود في كتاب (السياسة الشرعية والفقه الإسلامي) للشيخ عبد الرحمن تاج، الطبعة الأولى ١٣٧٣هـ - ١٩٥٣م دار التأليف مصر صـ١١.
إن خلاصة القول في هذا الشأن أن الحكم الذي تقتضيه حاجة الأمة يكون سياسة شرعية معتبرة إذا توافر فيه أمران:
1 / 11
الأمر الأول: أن يكون متفقًا مع روح الشريعة، معتمدًا على قواعدها الكلية، ومبادئها الأساسية.
الأمر الثاني: ألا يناقض مناقضة حقيقية دليلًا من أدلة الشريعة التفصيلية التي نقصد بها الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، وهذه الأدلة التفصيلية هي التي ثبتت شريعة عامة للناس في جميع الأزمان، وفي جميع الأحوال.
وعلى ذلك إذا لم يكن هناك دليل تفصيلي من كتابٍ، أو سنة، أو إجماعٍ، أو قياس قد دل على خلاف حكم السياسة، أو كان هناك مخالفة، ولكن تلك المخالفة ظاهرية، وليست حقيقية، أو علم أن ما دل عليه الدليل التفصيلي لم يقصد ليكون شريعة عامة، وإنما كان لحكمة خاصة، وسبب لا وجود له في غير واقعة الحكم؛ عندئذ لا تكون مخالفة حكم السياسة مخالفة لأدلة الشرع وأحكام الإسلام.
وبالتطبيق على ما ذكرناه فإنه لا يعد مخالفةً شرعية، وإنما يعتبر من أحكام السياسة الشرعية الأمور التالية:
الأمر الأول: ما فعله سيدنا أبو بكرٍ الصديق رضوان الله ﵎ عليه من جمع القرآن في مصحفٍ واحد؛ فسيدنا أبو بكر -رضوان الله ﵎ عليه رأى أن المصلحة تكمن في أن يجمع القرآن في مصحفٍ واحد، وفعل ذلك لأن مصلحة الناس، ومصلحة المسلمين تقتضي ذلك، والمصلحة إنما تدخل في باب السياسة الشرعية.
وأيضًا الأمر الثاني: ما أنشأه عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- من الدواوين، والدواوين: تشبه الآن المكاتب الحكومية التي تدون فيها أسماء الموظفين،
1 / 12
ورواتبهم، وغير ذلك من الأمور التي تتصل بالجهاز الإداري، أنشأه سيدنا عمر بن الخطاب، ولم يكون موجودًا أيام النبي ﷺ ولا أيام سيدنا أبو بكرٍ الصديق ﵁ وأرضاه- ومع ذلك أنشأه؛ لأن مصلحة المسلمين تقتضي ذلك، وهذا يعتبر حكمًا من أحكام السياسة الشرعية، وكذلك ما فرضه من وظيفة الخراج -وهي الضريبة على رقاب الأرض- هذا أيضًا فرضه سيدنا عمر بن الخطاب، ولم يكن ذلك موجودًا أيام النبي ﷺ ولا أيام سيدنا أبي بكر، وإنما أنشأه سيدنا عمر؛ لأن مصلحة المسلمين تقتضي ذلك، ولم ينكر عليه أحد؛ ولذلك كان ذلك من باب السياسة الشرعية.
الأمر الثالث: كان تعدد المصاحف في صدر الإسلام أمرًا عاديًّا، إذ كان من الجائز أن يكتب كل صحابيٍ مصحفًا بالحرف الذي سمعه به من النبي ﷺ فلما انتفت المصلحة؛ بسبب الاختلاف في القراءة؛ أمر سيدنا عثمان بن عفان بإبقاء مصحفٍ واحد، وحرق باقي المصاحف. لماذا فعل ذلك سيدنا عثمان بن عفان؟ فعل ذلك من أجل مصلحة المسلمين عندما وجد أن هناك بعض الخلافات سوف تنشأ بين المسلمين بسبب هذه القراءات المتعددة؛ ولذلك أراد أن يقضي على هذه الفتنة في مهدها؛ ولذلك أبقى مصحفًا واحدا، وحرق ما عداه.
الذي جعله يفعل ذلك إنما هو نوع من السياسة الشرعية -أي: من أجل المحافظة على مصلحة المسلمين.
الأمر الآخر: الذي يعتبر نوعًا من السياسة الشرعية -ولا يعد مخالفة لنصوص الكتاب والسنة- ما فعله عمر بن الخطاب ﵁ من حرمان المؤلفة قلوبهم من سهم الصدقات -وإن كان هذا السهم قد قرر لهم في القرآن الكريم صراحة بقول الله -تبارك تعالى-: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ﴾ (التوبة: الآية: ٦٠).
نقول: على الرغم من وجود هذا النص الصريح بأنه هناك سهم للمؤلفة قلوبهم؛ فإن سيدنا عمر بن الخطاب لم يأخذ بظاهر اللفظ، ولم يقف عند حرفية النص، بل
1 / 13
راعى سر النص، وحكم روح النص، وقرر أن الآية التي فرضت نصيبًا لهؤلاء المؤلفة لم تفعل ذلك؛ ليتخذ شريعة عامة يعمل بها في كل حالٍ، وزمان، بل إنما كان لحكمة خاصة، وسبب لم يعد قائمًا بعد، وأرشد إلى هذا بقوله: إن الله قد أعز الإسلام وأغنى عنهم - يعني: أغنى الإسلام عن هؤلاء المؤلفة قلوبهم- فعمر ﵁ رأى أن سهم المؤلفة قلوبهم قد أوجبه الله تعالى لحاجة المسلمين إلى من يعضدهم، وينصرهم، أو لا يؤلب عليهم القبائل؛ فإذا صار المسلمون في قوة، وعزة، وزال المعنى الذي من أجله وجب ذلك السهم؛ كان للإمام أن يصرفه عن أولئك المؤلفة إلى ما هو أجدى على المسلمين وأنفع.
وهذا الكلام موجود في كتاب الشيخ عبد الرحمن تاج في السياسية الشرعية، وليس معنى هذا إبطال سهم المؤلفة رأسًا، بل إن أمره يدور مع ذلك السبب وجودًا وعدمًا. بمعنى: أن سهم المؤلفة قلوبهم لم يرفع على الإطلاق، ولكن ذلك يتوقف على السبب الذي شرع من أجله؛ لقد شرع من أجل أنه كان بالمسلمين ضعف، وكانوا في حاجة إلى من يتألفونهم؛ حتى يقفوا بجانبهم، ولا يؤلبون القبائل عليهم.
لكن إذا أصبح هذا السبب غير موجودٍ، عندما أصبح بالمسلمين قوة؛ ففي هذه الحالة لم يعد السبب موجودا، وبالتالي فلا ينطبق الحكم فالحكم يدور مع علته، وجودًا وعدمًا، حتى إذا تجددت للمسلمين حاجة إلى التأليف -كما كانت الحاجة إلى ذلك أول الأمر- صح للإمام أن يصرف للمؤلفة على حسب ما يرى من المصلحة العامة.
جاء في (أحكام القرآن) لابن العربي في تفسير آية الصدقات يقول: اختلف في بقاء المؤلفة قلوبهم، فمنهم من قال: هم زائلون -يعني: لم يعد يأخذون من
1 / 14
الصدقات، وليس لهم سهم- قاله جماعة، وأخذ به مالك ﵁ ومنهم من قال: هم باقون لأن الإمام ربما احتاج أن يستألف على الإسلام، وقد قطعهم عمر لما رأي إعزاز الدين، والذي عندي -وهذا الكلام لابن العربي- يقول: والذي عندي أنه إن قوي الإسلام زالوا - يعني: لا يعطون سهمًا من الزكاة- وإن احتيج إليهم أعطوا سهم المؤلفة قلوبهم، كما كان يفعله النبي ﷺ.
وهذا الكلام منقول من ابن العربي (أحكام القرآن) لأبي بكر محمد بن عبد الله المعروف بابن العربي الطبعة الأولى دار الكتب العلمية بيروت الجزء الثاني صـ٥٣٠.
بل قال البعض: إن إعطاء المؤلفة قلوبهم له موضعه الآن؛ فإن بعض الناس يدخل الإسلام؛ فينقطع عن أهله، وعن قومه، وقد يكون ذا عملٍ؛ فيفصل من عمله؛ فمن حق هؤلاء أن يصرف لهم من الزكاة من سهم المؤلفة قلوبهم؛ تثبيتًا لإيمانهم، ومنعًا لهم من أن يفتنوا في دينهم تلك الفتنة المادية، وهذا الرأي قاله الدكتور عبد الخالق النواوي في كتابه (النظام المالي في الإسلام) الطبعة الأولى ١٩٧١م مكتبة الأنجلو المصرية صـ١٨٠.
أيضًا من الأمور التي لا تعارض فيها بين النصوص الشرعية -وأخذ فيها بأحكام السياسة الشرعية- أقول: ليس من المخالفة لنصوص الشريعة ما فعله سيدنا عثمان بن عفان ﵁ ما فعله بضالة الإبل إذ أمر بتعريفها؛ فإن أدركها صاحبها أخذها، وإن لم يدركها؛ بيعت، وحفظ ثمنها. فهو ﵁ لم يسر على ما كان عليه العمل من قبل أيام النبي ﷺ وأيام أبي بكرٍ، وأيام عثمان، كانت الإبل الضالة تترك مرسلة لا يمسها أحد؛ حتى يعثر عليها صاحبها، وسيدنا عثمان لم يقف عند حرفية النص الذي روي عن زيد بن خالد الجهني قال: جاء رجل إلى رسول الله ﷺ فسأله عن اللقطة فقال ﷺ «اعرف عفاصهًا ووكاءها ثم عرفها سنة؛ فإن جاء صاحبها؛ وإلا فشأنك بها» قال
1 / 15
الرجل: فضالة الغنم يا رسول الله قال ﷺ: «هي لك، أو لأخيك، أو للذئب» يعني: إن لم تأخذها أنت؛ كاد أن يأخذها الذئب، معنى ذلك: أن النبي ﷺ أمره بأن يأخذها ويعرفها سنة، قال الرجل: فضالة الإبل يا رسول الله، قال ﷺ: «ما لك ولها، معها سقاؤها وحذاؤها، ترد الماء، وتأكل الشجر؛ حتى يلقاها ربها».
ففي ضالة الإبل بين النبي ﷺ لهذا الرجل أن الإبل لا تؤخذ، ولا تلتقط، بل ينبغي أن تترك في مكانها؛ حتى يأتي إليها صاحبها؛ لأنه لا خوف على الإبل؛ معها الماء، وأيضا الغذاء؛ ولذلك لا نخاف عليها، ومنعه النبي ﷺ من التقاط الإبل -كما قلنا- سار الأمر على ذلك في عهد النبي ﷺ وفي عهد أبي بكرٍ، وفي عهد عمر -رضوان الله على الجميع- لكن سيدنا عثمان بن عفان لم يقف على حرفية هذا النص، بل خالفه مخالفة ظاهرية؛ لأنه رأي أن الحال قد تبدل، وأن الحديث ورد في عهدٍ ما كان يخشى فيه على ضالة الإبل أن تضيع، وتمتد إليه الأيدي؛ فلما رأى هذه الأيدي قد امتدت إليها؛ نظرًا لضعف الوازع الديني عند الناس؛ أمر ﵁ بجمعها والتقاطها، وبيعها؛ ليحفظ ثمنها لأصحابها، أو ينتفع بهذا الثمن في المصالح العامة للمسلمين -إن لم يظهر لها صاحب.
فعثمان ﵁ إذا كان قد خالف في الظاهر هذا الحديث؛ فهو في الواقع، وباطن الأمر عامل بهذا الحديث، ومتمسك بروحه من حيث إن ذلك العارض الذي خاف معه على الإبل الضالة قد اختلف به الأمر، ولم تعد الحالة الثانية من جنس الحالة التي ورد فيها الحديث - بمعنى: أنه كانت الإبل لا يخاف عليها في عهد النبي ﷺ وفي عهد سيدنا عمر؛ لأن الناس كانوا يخافون الله ﵎ وكان الوازع الديني متوفرًا. أما وقد بعد الناس عن الدين، وأصبح هناك ضعف في الوازع الديني؛ فرأى سيدنا عثمان بن عفان أن يخالف الحكم الذي كان معمولًا به، والذي، ورد به الحديث، وهذه المخالفة لا تتصادم مع المبادئ العامة في الشريعة
1 / 16
التي جاءت من أجل المحافظة على أموال الناس إذ إن حفظ المال إنما هو من الضروريات الخمس التي جاءت الشرائع جميعها من أجل المحافظة عليها وهي حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ المال، وحفظ العرض.
فسيدنا عثمان بن عفان عندما خرج على أحكام هذا النص، أو على هذا الحكم الذي ورد في الحديث، إنما راعى ذلك مصلحة المسلمين، وهذا ما تقضي به السياسة الشرعية.
والخلاصة: أنه لا يصح في تصرفٍ من التصرفات، أو حكمٍ من الأحكام التي تسن لتحقيق مصلحةٍ عامة أنه يقال: أنه مناقض للشريعة؛ بناءً على ما يُرى فيه من مخالفة ظاهرية لدليلٍ من الأدلة، بل يجب تفهم هذه الأدلة، وتعرف روحها، والكشف عن مقاصدها، وأسرار التشريع فيها، والتفرقة بين ما ورد على سببٍ خاص، وما هو من التشريع العام الذي لا يختلف، ولا يتبدل؛ فإن مخالفة النوع الثاني هي الضارة المانعة من دخول أحكام السياسة في محيط شريعة الإسلام.
وهكذا تبين لنا من فعل سيدنا عمر، وفعل سيدنا عثمان أنهم خرجوا عن الأحكام المنصوص عليها، لكن هذا خروج ناتج عن فهمهم للنصوص، وناتج عن فهمهم لروح هذه النصوص، وسر التشريع في هذه النصوص؛ ولذلك جاء في باب السياسة الشرعية التي يقصد بها تحقيق مصلحة المسلمين في كل زمان، وفي كل مكان؛ ولذلك لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان.
ومما تجب ملاحظته هنا أنه إنما وصفت هذه السياسية بالشرعية؛ لأن اجتهاد الحاكم فيما جد من وقائع، وأحداثٍ، وما يدخل في مجال علم السياسة الشرعية لم يبنى على الهوى والتشهي، وإنما على مبادئ وقواعد معتبرة شرعًا، وهذه الأشياء ينظر إليها في (السياسة الشرعية للدكتور عبد الله محمد محمد القاضي صـ٣٦، والشيخ عبد الرحمن تاج صـ١٨، وما بعدها).
1 / 17
يقول الدكتور يوسف القرضاوي في هذا الشأن: إن السياسة الشرعية هي السياسة القائمة على سياسة الشرع، وأحكامه، وتوجيهاته، فليس كل سياسة نحكم عليها بأنها شرعية، فكثيرٌ من السياسات تعادي الشرع، وتمضي في طريقها وفقًا لتصورات أصحابها وأهوائهم، وهذا و(السياسة الشرعية للدكتور يوسف القرضاوي صـ٢٧) فيه مزيد من التفصيل.
موضوعات علم السياسة الشرعية
وبعد أن بينا المقصود بالسياسة الشرعية، أو مفهوم السياسة الشرعية نتحدث الآن عن موضوعات علم السياسة الشرعية: إن الموضوعات التي تدخل ضمن السياسة الشرعية تكمن في عدة أمور، أولًا الوقائع المتعلقة بعلاقة الحاكم بالمحكومين من تحديد سلطة الحاكم، وبيان حقوقه، وواجباته، وحقوق الرعية، وواجباتها، والسلطات المختلفة في الدولة من تشريعية، وتنفيذية، وقضائية.
هذه الموضوعات التي تتصل بالنظام السياسي في الإسلام هو الذي ينظمها، أو الذي ينظمها هو علم السياسة الشرعية؛ ولذلك نصوص الكتاب، والسنة لم تأتي كثيرة في موضوع التنظيم السياسي للدولة الإسلامية، وإنما وضعت قواعد عامة، ونصوصًا عامة، وتركت بعد ذلك للأمة أن يختاروا القالب الذي يتمشى مع مصالحهم؛ ولذلك بيان علاقة الحاكم بالمحكومين ينبغي أن تخضع للمصالح العامة للدولة الإسلامية، وهذه المصالح العامة إنما ينظمها علم السياسة الشرعية، وكذلك سلطات الحاكم، وحدود هذه السلطات، وحقوق الحاكم على المحكومين، وكذلك حقوق الرعية على الحاكم، والواجبات الملقاة على عاتقه، كل هذه الأمور إنما نظمها علم السياسة الشرعية، وعندما تركها الإسلام لعلم السياسة الشرعية إنما أراد أن يثبت للناس أن الشريعة الإسلامية مرنة، ومتطورة، وهي صالحة للتطبيق لكل زمان،
1 / 18
ومكان؛ فلنا أن نقيم الحكم في الإسلام، لكن الصفة التي يتم بها ذلك، كل ذلك تركه الإسلام.
الحقوق والواجبات ينبغي أن تتم وفق مصالح المسلمين، وواقع المسلمين؛ ولذلك كان من فضل الله علينا أن تركت هذه الأمور، وفيها مجال للاجتهاد من أجل تحقق المصلحة العامة، هذه الأمور المتعلقة بعلاقة الحاكم بالمحكومين، وبتحديد سلطة الحاكم، وبيان حقوقه، وواجباته، وحقوق الرعية، وواجباتها، وبيان السلطات المختلفة، ووظيفة كل سلطة من هذه السلطات هو ما تشمله مادة تسمى -في الفقه الإسلامي- نظام الحكم في الإسلام؛ ولذلك مادة نظام الحكم في الإسلام تبحث في هذه الأمور بالتفصيل، ونظام الحكم في الإسلام هي مادة تقابل في النظم الوضعية مادة تسمى: القانون الدستوري، مادة: القانون الدستوري في النظم الوضعية يقابلها في الإسلام مادة: نظام الحكم في الإسلام.
أيضًا من الموضوعات التي تدخل ضمن علم السياسة الشرعية: الوقائع المتعلقة بعلاقة الدولة الإسلامية بغيرها من الدولة الأخرى في حالة السلم، وفي حالة الحرب هذا ما يطلق عليه: النظام الدولي في الإسلام، والنظام الدولي في الإٍسلام المبني على علاقة المسلمين بغيرهم، والتي تبين على أن أساس هذه العلاقة إنما هو يقوم على مبدأ المعاملة بالمثل، وأن الأساس في معاملة الدولة الإسلامية لغيرها من الدول الأخرى إنما هو السلام، وليس الحرب، وأن الدولة الإٍسلامية لا تلجأ إلى الحرب إلا في حالات الضرورة، كما في حالات الدفاع عن نفسها، وغير ذلك، كل ذلك وضح تمامًا في مادة تدرس، تسمى النظام الدولي في الإسلام، بينت الأساس: أساس علاقة الدولة الإسلامية بغيرها من الدول الأخرى، وهي أن هذه العلاقة قائمة على السلام، وأيضًا بينت إذا حدث حرب، وكانت هناك ضرورة في دخول المسلمين في حرب؛ فتدخلت السياسية الشرعية في بيان كيف يعامل المسلمين غيرهم في حالة الحرب، كيفية معاملة الأسرى، إلى غير ذلك من الأمور التي تتصل بالأمور الحربية، وكل هذا تنظمه
1 / 19
قواعد السياسة الشرعية، وإنما تنظمه، أو ينظمه علم السياسة الشرعية -كما قلنا- لأن علم السياسة الشرعية قائم على تحقيق المصلحة العامة للأمة الإسلامية.
وما دام المراد من ذلك تحقيق المصلحة العامة؛ فينبغي علينا أن ننظر إلى الواقع، وكيف يعاملنا الأعداء، وينبغي علينا أن نعاملهم بمثل ما يعاملوننا به، وهذا تطبيقًا لمبدأ المساواة في العلاقات الدولية، هذا القانون يقابله في وهو النظام الدولي في الإسلام يقابله في القانون الوضعي قانون يسمى: القانون الدولي.
فإذن القانون الدولي الموجود في النظم الوضعية يقابله عندنا النظام الدولي في الإسلام، بل إن فقهاء الشريعة أفاضوا كثيرًا في علاقة الدولة الإسلامية بغيرها من الدول الأخرى، سواء في حالة السلم، أو في حالة الحرب، بل ربما كانت النظم الغربي قد استفادت من هذه الأحكام، وأخذتها في قانونها الدولي.
أيضًا من الموضوعات التي تدخل ضمن علم السياسة الشرعية هو الوقائع المتعلقة بالضرائب وجباية الأموال، بالضرائب من زكاة، ومن خراج، ومن عشورٍ -كما سنرى إن شاء الله- كل ذلك -يعني: نظمته، أو نظمه علم السياسة الشرعية، وأيضًا كذلك موارد الدولة، ومصارفها العامة، ونظام بيت المال- هذا هو الذي يختص به علم السياسة الشرعية، وهذا ما يشمله قانون يدرس يسمى: النظام المالي في الإسلام، فالنظام المالي في الإسلام، أو الموضوعات التي يتناولها قانون، أو النظام المالي في الإسلام، إنما يعتمد في أساسه على السياسة الشرعية لأنه -كما قلنا-: النظام المالي، وكل نظام ينبغي أن يراد منه، أو يكون الهدف منه إنما هو تحقيق مصلحة المسلمين؛ ولذلك يترك لعلم السياسة الشرعية.
النظام المالي في الإسلام يقابله بالنظم الوضعية علم المالية العامة، معنى ذلك أن الفقهاء سبقوا -فقهاء المسلمين القدامى- سبقوا فقهاء القانون الدولي في تنظيم هذه الأمور، فإذا كان عندهم علم المالية العامة، نقول لهم: في الشريعة الإسلامية -ومنذ ما يزيد على أربعة عشر قرنا من الزمان- بين الفقهاء النظامَ المالي في الإسلام بكل دقة.
1 / 20
كذلك من الموضوعات التي تدخل ضمن علم السياسة الشرعية الوقائع المتعلقة بتداول المال، وكيفية تنظيم استثمار هذا المال، وهذا ما يشمله مادة النظام الاقتصادي في الإسلام، بين ذلك الفقهاء، وتحدثوا عن النظام الاقتصاد في الإسلام، وكيفية استثمار هذا المال عن طريق المضاربة الإسلامية، وغير ذلك من الوسائل المختلفة من طريق المزارعة المساقاه، إلى غير ذلك مما هو موجود بكثرة في كتب الفقهاء، والذي يتحدث عن النظام الاقتصادي في الإسلام، هذا النظام الاقتصادي في الإسلام هو ما يقابل مادة تسمى: علم الاقتصاد في النظم الوضعية، فعلم الاقتصاد الموجود في النظم الوضعية سبقه علم النظام الاقتصادي في الإسلام؛ لأن المسلمين أو فقهاء المسلمين أفاضوا في هذا الموضوع -موضوع كيفية استثمار المال- تحدثوا عن المضاربة الإسلامية، وشروط هذه المضاربة، وكيفية الاستثمار الذي يعود على الفرد، وعلى المجتمع بالخير العميم -إن شاء الله.
أيضًا من الموضوعات التي تدخل ضمن علم السياسة الشرعية الوقائع المتعلقة بالنظم القضائية، وطرق القضاء، وبيان، وسائل الإثبات كل ذلك يضمنه، أو يحتويه علم السياسة الشرعية -وكما قلنا- لأن هذه الأمور إنما تخضع لحال المجتمع، وتطور المجتمع، وواقع المجتمع؛ ولذلك دخل في علم السياسة الشرعية نظم القضاء، وطرق القضاء، والقضاء المخصص، وغير المخصص، وأنواع القضاء، وبيان وسائل الإثبات بيان وسائل الإثبات من الإقرار، ومن الشهادة، ومن القسامة في باب القتل، إلى غير ذلك من الوسائل المختلفة التي تضمن حقوق الناس، وليس فيها إضرار بأحدٍ من الناس، هذا النظام القضائي بينه فقهاء المسلمين بيانًا شافيًا، وكان قائمًا في تنظيمه على علم السياسة الشرعية، هذا النظام القضائي في الإسلام يقابله في النظم الوضعية قانون يسمى قانون المرافعات المدنية والتجارية في النظم الوضعية، هذا -كما قلنا- إذا كان قانون المرافعات المدنية
1 / 21
والتجارية موجود في القوانين الوضعية؛ فقد سبقه فقهاء المسلمين بأزمانٍ كثيرة، وبفترةٍ كثيرة، ونظم في الإسلام تنظيمًا دقيقًا، بل إن القانون الوضعي الذي ينظم هذه المرافعات المدنية والتجارية قد تأثر بتنظيم المسلمين بهذه الوسائل، وهذه الموضوعات الخاصة بموضوع القضاء قد تناولها فقهائنا القدامى على اختلاف مذاهبهم واتجاهاتهم ضمن أبواب الفقه العام.
لكن وجدنا بعض الفقهاء يتناولونها باستقلال، يعني: الفقهاء في هذه الأمور بينوها في خلال كتب الفقه العام التي تتحدث عن العبادات، وتتحدث عن غيرها، تناولوا القضاء فيها، وطرق الحكم، ووسائل الإثبات، لكن -مع ذلك- وجدنا تخصصًا أكثر في هذا الأمر، ووجدنا من الفقهاء القدامى من اختص، أو من ركز على هذا الموضوع، وألف فيه كتبًا كثيرة؛ ولذلك وجدنا من الكتب المتخصصة في موضوع القضاء، وتنظيم القضاء، ووسائل الإثبات، منها مثلًا: كتاب (الأحكام السلطانية) للماوردي الشافعي، هذا الكتاب بين فيه الكثير من الأحكام التي تخص، أو تبين التنظيم القضائي في الدولة الإسلامية، بل بين فيه السلطات الثلاث في الدولة الإسلامية: السلطة التشريعية، السلطة التنفيذية، السلطة القضائية، وكذلك أيضًا تناول فيه الإدارة في الإسلام، ونظام الإدارة في الإٍسلام بينه بيانًا شافيًا، وتحدث فيه عن الوزارة؛ وزارة التفويض، ووزارة التنفيذ -كما سنرى- ذلك فيه -إن شاء الله.
وكذلك هناك كتاب يسمى (الأحكام السلطانية) لأبي يعلى الحنبلي، أيضًا تحدث فيه عن القضاء، وتحدث فيه عن السلطة التشريعية، والسلطة التنفيذية باستفاضة، وكذلك كتاب (السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية) لابن تيمية الحنبلي المعروف، تحدث في هذه السياسة الشرعية عن القواعد العامة التي ينبغي أن تسير عليه أو يسير عليها حكام المسلمين، سواء في حكمهم للناس، أو في توظيفهم للعمال، وبين أن السياسة الشرعية الحكيمة هي التي تراعي مصالح الناس في كل جوانب حياتهم.
1 / 22
وهناك أيضًا من الكتب التي خصصت في موضوع السياسة الشرعية كتاب (السياسة الشرعية والفقه الإسلامي) للشيخ عبد الرحمن تاج، أفاض فيه أيضًا في هذا الأمر، وتحدث كثيرًا عن كيفية إدارة الحكومة للسلطات الممنوحة لها في الدولة الإسلامية.
وهناك أيضًا كتاب (الحسبة) لابن تيمية الحنبلي، وهناك أيضًا كتب تحدثت في الطرق الحكمية، وهو كتاب لابن قيم الجوزية تحدث فيه عن هذه الطرق، وتحدث فيه عن نظام القضاء، وتحدث فيه عن وسائل الإثبات في الفقه الإسلامي، بينه بيانًا شافيًا، وهناك أيضًا كتب تخصصت في النواحي المالية مثل كتاب (الخراج) لأبي يوسف، وهو الضرائب التي توضع على رقاب الأرض، وكذلك أيضًا كتاب يسمى كتاب (الخراج) ليحيى بن آدم القرشي، وكذلك كتاب يسمى (الأموال) لأبي عبيد بن سلام.
كل هذه أمور تتحدث في السياسة الشرعية على وجه العموم، وتتحدث في الموضوعات التي يشملها علم السياسة الشرعية.
ونستخلص مما سبق أن السياسة الشرعية غايتها الوصول إلى تدبير شئون الدولة الإسلامية بتنظيمٍ من دينها، والإبانة عن كفاية الإسلام بالسياسة العادلة، وتقبله رعاية مصالح الناس في مختلف العصور والبلدان، ومسايرة التطورات الاجتماعية في كل حالٍ، وزمان على وجهٍ يتفق مع المبادئ العامة الإسلامية، وهذا معنى أننا لا يمكن أن نستغني عن السياسة الشرعية، فالسياسة الشرعية إنما تمثل التطور في حياة الأمة الإسلامية، وهي التي تبين بوضوح، وتؤكد بالدليل أن الشريعة الإسلامية صالحة للتطور، وهي صالحة للتطبيق في كل زمانٍ، وفي كل مكان، إلى أن يرث الله الأرض، ومن عليها.
هذه هي أهم الموضوعات التي تدخل ضمن علم السياسة الشرعية.
هذا وبالله التوفيق.
1 / 23
٢ - أدلة اعتبار السياسة الشرعية
مراعاة الشريعة أحوال الناس فيما شرعته من أحكام
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمدٍ، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، أما بعد:
ننتقل إلى موضوع آخر، وهو: أدلة اعتبار السياسة الشرعية - يعني: الأدلة التي تدل على أنه ينبغي أن نأخذ بالسياسة الشرعية، هناك وجوه كثيرة تشهد باعتبار السياسة الشرعية، أو تدل على أنه ينبغي على المسلمين ألا يهملوا السياسة الشرعية، وأنه يجب عليهم أن يأخذوا بأحكامها، وفي مواطنها المختلفة، وهذا الموضوع مشروح بالتفصيل في كتاب (السياسة الشرعية للشيخ عبد الرحمن تاج صـ٦٥)، ومن أولى هذه الوجوه التي تدل على اعتبار السياسة الشرعية، أولًا: إنا عهدنا مع الشرائع السماوية السابقة- أنها كانت تراعي مصالح الأمم، وحاجات كل زمن؛ فكانت تغير في شريعة أحكامًا من شريعة سابقة من أجل تغير الظروف والأحوال، ومن الأمثلة على ذلك: فقد كان محرمًا على بني إسرائيل العمل يوم السبت، وكان محرمًا عليهم بعض شحوم الحيوان بعد أن كان ذلك حلالًا لمن قبلهم، ثم عاد إلى الحل لمن بعدهم، ومعنى ذلك أن هذه الأشياء؛ تحريم العمل يوم السبت، وتحريم بعض شحوم الحيوان، إنما فرضت على أناسٍ بعينهم، ولم تفرض على غيرهم، وربما كان ذلك سببه تغير الظروف، وتغير الأحوال، وهذا إن دل فإنما يدل على الأخذ بالسياسة الشرعية.
فكأن الشرائع في حد ذاتها تراعي الأخذ بمبدأ السياسية الشرعية، وهو أن الأحكام تتغير بتغير الزمان تغير الأحكام بتغير الأزمان، كان موجودًا، أو كان مراعى في الشرائع السابقة، وأيضًا من الأمثلة على ذلك: كان حلالًا -أول عهد الإنسان- أن يتزوج الرجل بأخته، أو عمته، ثم حرم ذلك لما تعدد النسل، وتكاثرت أفراد النوع - يعني: معنى ذلك كان يباح، أولًا للرجل أن يتزوج بأخته، أو عمته، لكن كان ذلك لسبب معين، لم
1 / 24
تكن هناك ذرية لم يكن هناك كثرة من النوع، لكن عندما كثر النوع، وكثر الناس؛ لم يعد هناك حاجة إلى أن يباح للرجل أن يتزوج بأخته، أو عمته.
إذن تغير الحكم؛ نظرًا لتغير الظروف، وتغير العصور والأزمان، وإذا كان الأمر كذلك، وجب أن تكون الشريعة الإسلامية التي هي ختام الشرائع مسايرة لأحوال الناس - يعني: إذا كان هناك بعض التبدل ببعض الأحكام في الشرائع السابقة؛ فأولى بذلك الشريعة الإسلامية؛ لأن الشريعة الإسلامية إنما هي خاتمة الشرائع، وأراد الله لها أن تكون خاتمة الشرائع؛ ولذلك ينبغي أن تكون متطورة مع الحوادث، والمستجدات، أقول: إذا كان الأمر كذلك بالنسبة للشرائع السابقة؛ وجب أن تكون الشريعة الإسلامية التي هي ختام الشرائع مسايرة لأحوال الناس، محققة لمطالب الحاجات المتجددة، وإنما يفي بذلك قسم السياسية الشرعية، أو علم السياسة الشرعية.
إذن نخرج من هذا، أو نخلص من هذا أن علم السياسة الشرعية إنما يعمل، أو يؤكد على أن شريعة الإسلام صالحة للتطبيق في كل زمان، ومكان؛ لأنه ما من واقعة، أو حادثة إلا ويجد لها علم السياسة الشرعية حكمًا مناسبًا له أيضًا من أدلة اعتبار السياسية الشرعية أنه قد عهد في الشريعة الإسلامية نفسها أنها راعت اختلاف الأحوال فيما شرعته ابتداءً من الأحكام؛ ولذلك شدد في الشهادة ما لم يشدد في الرواية، يعني: في الشهادة تشدد الفقهاء، واشترطوا شروطًا معينة، واشترطوا العدالة في الشاهد إلى غير ذلك، لكنهم لم يشترطوا ذلك في حالة الرواية، أي: في حالة الإخبار.
إذن هي راعت الظروف فاشترط في الأولى -وهي الشهادة- ما لم يشترط في الثانية -التي هي الرواية- لماذا؟ نظرًا إلى ما يكون بين الناس عادة من التنافس - يعني: لماذا اشترط في الأولى، واشترط في الشهادة شروط دقيقة للغاية، وشروط صعبة للغاية، حتى نقبل شهادة الشاهد؟ قلنا:- نظرًا إلى ما يكون بين الناس عادة من التنافس، والعداوة التي قد تدفع
1 / 25
صاحبها إلى الشهادة، ولو بغير الحق، ولهذا اشترط على الشهادة على الزنا ما لم يشترط على القتل.
في الشهادة على الزنا لا بد من أربعة شهود -كما قرر الفقهاء- بناءً على تعاليم القرآن الكريم، أما بالنسبة للشهادة على القتل؛ فيكتفى فيها بشاهدين فقط، سبب ذلك أن الشريعة إنما تراعي ظروف الناس، وتراعي ظروف الناس، وتراعي الأحوال التي فيها الناس، وهذا يشهد باعتبار السياسة الشرعية.
أيضًا من أدلة اعتبار الشريعة، أو اعتبار الأحكام الشرعية، أو السياسة الشرعية أن الشريعة أيضًا راعت اختلاف الأحوال بما أنشأته من الرخص -يعني: هناك عندنا أحكام رخصة، وأحكام عزيمة- فالشريعة الإسلامية أباحت لبعض الناس رخصة، هذه الرخص في الحقيقة إنما تتعارض مع العزيمة -يعني: مع الحكم الأصلي، الشريعة الإسلامية خففت عن الناس، وأباحت لهم رخصًا من أجل حاجة الناس، ومن أجل التخفيف عن الناس؛ ولذلك نجد الله ﵎ يقول: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ (البقرة من الآية: ١٨٥) لكن نجد أن الإنسان إذا كان مسافرًا، ففي هذه الحالة نجد أن الشريعة الإسلامية أباحت للمسافر الإفطار في نهار رمضان، فإذا كان الصيام واجبًا عليه إلا أن الشريعة رخصت عنه، وأباحت له أن يفطر، وهو مسافر. p>
فالشريعة الإسلامية عندما خففت، وعندما رخصت له في ذلك لماذا؟ فعلت ذلك من أجل المحافظة على هذا المسافر؛ لأن السفر فيه مشقة، والرسول ﷺ يقول: «السفر قطعة من العذاب».
فإذن الشريعة الإسلامية بشرعيتها للرخص؛ هذا يدل على أنها راعت مصالح الناس، وراعت التخفيف عليهم، والتخفيف عن الناس، والتيسير عليهم، ورفع الحرج عنهم إنما يدخل ضمن علم السياسة الشرعية.
1 / 26
ومن الأدلة أيضًا التي تدل على اعتبار السياسة الشرعية، وأنه يجب أن نأخذ بها أن حالة الناس في هذه العصور المتأخرة قد تغيرت عما كانت عليه في صدر الإسلام، فقد كثر الفساد، وانتشرت في الأمم أمراض اجتماعية تتطلب من أنواع العلاج ما يصلح لهذه الأمم، ويتناسب مع حالها، واستعدادها؛ ليكون أنجع في إزالة تلك العلل، والأمراض على شريطةِ أن ألا يخالف ذلك أصلًا من أصول الإسلام.
ولذلك يقول العلماء -في باب الشهادة-: أنه إذا لم يوجد في بلدٍ إلا غير العدول؛ فإنه يقام أصلحهم، وأقلهم فجورًا للشهادة، ومثل هذا يقال في القضاة وغيرهم؛ حتى لا تضيع المصالح، وتتعطل الحقوق، والأحكام.
وهذا معناه: أنه إذا كان الفقهاء قد اشترطوا في الشهادة أن يكون الشهود عدولًا، بل إن بعض الفقهاء لم يكتف بتحقق هذه العدالة الظاهرية، أو الظاهرة، وإنما قال: لا بد من البحث في بواطن الأمور؛ ولذلك وجد نظام يسمى: نظام المزكين عند القاضي، ومهمة هؤلاء المزكين أن يسألهم القاضي عن أحوال هذا الشاهد؛ فهم يبحثون عن البواطن الخاصة بهذا الشاهد؛ فإذا قال المزكون: إنه لا ينفع للشهادة، على الرغم من العدالة الظاهرة؛ ففي هذه الحالة لا تقبل شهادتهم.
خلاصة القول: أن الفقهاء كانوا يتشددون في موضوع الشهادة، ويشترطون -وكلهم يشترطون ذلك- أن يكون الشاهد عادلا، وهذا مأخوذ من كتاب الله ﵎ فالله ﵎ يقول: ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ﴾ (البقرة: من الآية: ٢٨٢).
ولذلك قال الفقهاء: لا بد من العدالة في هذا الأمر، لكن مع تطور الأزمان، وبعد الناس عن الوازع الديني، وقلة الوازع الديني عندهم، وهو أننا قد لا نجد
1 / 27